زكريا الزبيدي ورفاقه: من أطفال مبتسمين إلى محاربين للحرية

نائل الطوخي

لعب على صورة زكريا الزبيدي عقب القبض عليه؛بعد رحلة هروبه من سجن جلبوع _تصميمات مدينة

عُرض فيلم “أولاد أرنا للمرة الأولى عام 2003، وفيه يسافر المخرج، جوليانومير خميس، إلى مدينة جنين بالضفة الغربية، بعد الاجتياح الإسرائيلي لها عام 2002، ليرى مصائر الأطفال الذين سبق وأن دربتهم أمه، أرنا مير خميس، على المسرح من خلال “مسرح الحرية” الذي أقامته هناك في أثناء الانتفاضة الأولى.

لن يحتمل الواقع التركيبة المعقدة لمخرج الفيلم، والمولود لأب فلسطيني وأم يهودية، والذي يصف نفسه كـ “فلسطيني مئة في المئة ويهودي مئة في المئة”، فسرعان ما سيُستشهد في 2011 على أيدي فلسطينيين متطرفين، ولكن القصة لن تنتهي هنا، فأحد الأطفال الذي سيظهرون في الفيلم، بوصفه واحدًا من “أبناء مسرح الحرية”، لن يكون إلا زكريا الزبيدي نفسه، الأسير الفلسطيني الذي هرب منذ أيام من سجن جلبوع الإسرائيلي عبر حفر نفق من هناك إلى الخارج، قبل أن تتمكّن إسرائيل من القبض عليه مجددًا.

تلتفت إلى هذا أورلي نوي، الصحفية والناشطة الإسرائيلية اليسارية من أصول إيرانية، فتكتب منشورًا، سيحذفه موقع “فيسبوك” بعد ساعات مانعًا إياها من التعليق على الموقع لمدة ثلاثة أيام، عن زكريا الزبيدي، تتتبع فيه الظهور الأول له في فيلم “أولاد أرنا“، بوصفه طفلاً يتعلم المسرح، كما تتتبع مصائر أصدقائه الأطفال الفلسطينيين، طالبة من جميع أبناء جلدتها من الإسرائيليين الركوع أمامهم، وطلب السماح منهم على تدمير حياتهم.

 

ماذا كتبت أورلي نوي؟

لعب على صورة زكريا الزبيدي في فيلم “أولاد أرنا” -تصميمات مدينة

في تعريف ويكيبيديا لفيلم “أطفال أرنا ويحكي قصة أطفال “مسرح الحرية” الذي أدارته أرنا مير خميس في مخيم اللاجئين جنين في التسعينيات مكتوب أن “الفيلم يسرد بطولة أبناء المجموعة وتحول الكثيرين منهم من أطفال مبتسمين لصبية غاضبين ثم في النهاية لمحاربين صلبين قُتل الكثير منهم”. وكان واحد منهم هو زكريا الزبيدي.

أما الجملة الأولى في التعريف بزكريا الزبيدي نفسه بويكيبيديا فهي “زكريا محمد عبد الرحمن الزبيدي، ولد عام 1976، مخرّب فلسطيني”.

ثمة ما هو غير محتمل في الفجوة بين الوصفين، بين الولد المبتسم الذي تحولإلى صبي غاضب، ثم إلى محارب صلب من ناحية، وبين كلمة السر الأخرى “مخرّب”، التي لن يطالَب بعدها أي إسرائيلي بتشغيل عقله، ناهيك بأن يقول ما في قلبه أو في ضميره. ربما لأنه طالما الفلسطينيون شخصيات في عمل فني، فيلم على سبيل المثال، فالإسرائيليون مستعدون لأن ينسبوا إليهم صفات إنسانية، حتى لو تعلّقت بالبطولة، ولكن في حالة إذا ما عملوا في الواقع وتحوّلوا إلى شخصيات من لحم ودم، تتحوَّل بطولتهم سريعًا إلى إرهاب في أعين الإسرائيليين، يتحوّلون هم أنفسهم إلى إرهابيين.

زكريا الزبيدي بطل. ليس فقط لأنه يحارب من أجل

زكريا الزبيدي كما ظهر في الفيلم مع أبناء مسرح الحرية

تحرير شعبه، بل لأن أي فلسطيني ينجو من حياة الاحتلال ليصر على الحياة هو بطل، حتى دون أن يرفع حجرًا واحدًا. ينبغي علينا نحن الإسرائيليين محاسبة أنفسنا على كيفية وصول هذا الطفل المبتسم الذي يظهر في الفيلم، هذا الطفل الذي تبرعت عائلته بالطابق الثاني من بيتها من أجل إقامة بروفات مسرح الحرية، قبل أن يُقتل أخوه وأمه بواسطة الجيش، إلى طريق البطولة التراجيدي المستحيل الذيوجد نفسه يصل إليه. بعد أيام [في يوم الكيپور] سيطلب أحدنا الغفران من الآخر على أي أذى حقيقي أو متخيل قد تسبّب فيه، وسنصلي لكي تُكتب أسماؤنا في كتاب الحياة، ولكن لا يخطر على بالنا الركوع لطلب السماح من ملايين الفلسطينيين الذين ندهس حياتهم، ولا التوبة عن هذا ولا التوقف عن كتابة أسمائهم في كتاب الموتى.

بدلًا من مشاهدة الظمأى للدم في الأخبار، فيستحسن أن نشاهد مجددًا هذا الفيلم ومصائر جميع أبطاله، وليس فقط زكريا الزبيدي.

يوجد يوسف على سبيل المثال، وقد اخترقت قذيفة دبابة إسرائيلية جدار مدرسة، في الانتفاضة الثانية، لتحط في قلب فصل الأطفال، ليجد نفسه يجر بذراعيه طفلة صغيرة ماتت خلال دقائق، ووفق شهادات أقربائه، فقد تغيّر تمامًا منذ هذا الحادث، توقف عن الابتسام والضحك وبدا كمن فقد الاهتمام بالحياة، قبل أن ينضم، ورغم كونه علمانيًّا مطلقًا، للجهاد الإسلامي، يستلم سلاحًا من الحركة ويسافر مع صديقه لمدينة الخضيرة، وهناك يفتحان النيران حيث يُقتل أربعة أشخاص ويُصاب نحو ثلاثين شخصًا، قبل أن يصل رجال الشرطة للمكان ويطلقون النار قاتلين كليهما.

أو يوجد أشرف، الولد الجميل في الفيلم، الذي كان ممثلاً أساسيًا في مجموعة المسرح، ويهدم الجيش في الفيلم بيت علاء جاره فيحاول أشرف النبش في الأنقاض لتخليص أغراض صديقه. يحكي صديقه هذا في الفيلم عن موته وهويقاوم الجيش في المعركة على جنين في 2002 ويُقتل. المبنى الذي استخدمه أبناء المجموعة سابقًا كمسرح، استخدمه المسلحون في جنين كموقع قتالي قُتل فيه أشرف.

أو علاء نفسه، الذي هدم الجيش بيته عندما كان طفلاً. يوجد مشهد في الفيلم يقول فيه علاء إنه لن يُقبض عليه، بل “سيكون إما حرًا أو في القبر”. في المشهد التالي نرى جثته المحترقة في المستشفى، محاطة بأصدقاء وأقرباء ثكالى، بعد أن أطلقت قوات الجيش النار عليه النار في نوفمبر 2002، بعد أسبوعين من ولادة ابنه الأول.

ويوجد بالطبع الزبيدي نفسه. ونراه في أحد المشاهد في الفيلم يزعق في أصدقائه قائلًا “أنا لن أسلّم نفسي أبدًا! أبدًا”. وفي الحقيقة فهو لم يسلّم نفسه، وإنما قبضت عليه شرطة نظام بائس وجبان، وإن كان مسلحًا حتى العظام، نظام يسمّي التعذيب السادي المتواصل “احتياجًا أمنيًا”، ويسمى مطاردة محاربي الحرية “بطولة”.