لماذا تعاطف الناس مع العصابة؟!

يوسف مسلم

مدخل:

في الحكاية الرابعة من حكايات الفيلم الأرجنتيني الذي ترشح لنيل السعفة الذهبية في عام 2014؛ Wild Tales، نرى سيمون، خبير المفرقعات الذي يعمل بإحدى شركات هدم الأبنية يتوجه إلى أحد محلات الحلويات ليشتري كعكة عيد ميلاد ابنته الصغيرة، وفور خروجه من المتجر يفاجأ بأن شرطة المرور قد سحبت سيارته وتركت مكانها ملصقًا يفيده بالمكان الذي سوف يسترد منه السيارة، بعد دفع الغرامة الموقعة لانتظاره في الممنوع، على الرغم من أنه ليس ثمة ما يشير إلى أن الانتظار ممنوع في هذا المكان.

Wild Tales بوستر الفيلم الأرجنتيني

بوستر الفيلم الأرجنتيني وايلد تايلز

وبالفعل يتوجه إلى مركز شرطة المرور ويشرح للموظف المختص أن الغرامة الموقعة عليه غير جائزة لأن المكان الذي ترك فيه سيارته لا يوجد به ما يفيد منع الانتظار، لكن الموظف لا يهتم لذلك ويخبره بضرورة سداد الغرامة، فيضطر على مضض إلى أن يدفع الغرامة على الرغم من يقينه بعدم مشروعيتها، ويذهب ليبحث عن سيارته بين السيارات المسحوبة، وهو ما يجعله يتأخر عن موعد عيد ميلاد ابنته، والطرق مزدحمة للغاية، وهو ما يتسبب في حدوث خلاف بينه وبين زوجته التي تتهمه بعدم اهتمامه بأسرته إلى درجة تأخره عن حفل عيد ميلاد البنت.

تتكرر هذه الواقعة عدة مرات خلال الأيام التالية؛ تسحب سيارته ويذهب ليدفع الغرامة غير المستحقة ليسترد سيارته، وهو ما يوقعه في كثير من المشكلات الاجتماعية والوظيفية، إلى درجة أن يفصل من الوظيفة بسبب تورطه في الاعتداء على شرطي المرور المكلف بتقاضي الغرامات، بما يسبب إحراجًا للشركة التي يعمل بها، ومن ثم تنهار حياته تدريجيًّا، وينفصل عن زوجته بشكل غير رسمي، وتصبح حياته غبارًا تبعثره الرياح، ولا تزال سيارته تسحب يوميًّا من قبل شرطة المرور للسبب ذاته، إلى أن يقرر أن يرد على الحكومة التي تسرقه يوميًّا برد غير متوقع، وهو الديناميت، فيفجر مركز المرور عقابًا للدولة وموظفيها على كل الغباء الذي يمارسونه ضده.

وفور مشهد التفجير يفاجئنا داميان زافرون مخرج الفيلم بمشهد لسيمون في السجن والسجناء يحتفلون بعيد ميلاده ويتعاملون معه باعتباره بطلاً شعبيًّا، وإذ ذاك تدخل إلى السجن زوجته وابنته ومعهما كعكة عيد ميلاده ليحتفل الجميع بعيد ميلاد المُفجِّر سيمون، الذي ثأر لنفسه وللناس من لصوصية الحكومة، وهكذا لم ينظر لسيمون باعتباره مخربًا أو إرهابيًّا بل باعتباره بطلاً شعبيًّا ذا سمات أناركية؛ يواجه حكومة من اللصوص، لتنتهي الحكاية بهذا المشهد الموغل في السخرية.

هذه حكاية واحدة من الحكايات الست التي يعرضها الفيلم دون رابط بينها إلا تيمة الانتقام، والانتقام هنا ليس انتقامًا تقليديًّا مثلما تعودنا في الأفلام الهوليوودية أو الهندية أو حتى أفلامنا المصرية، فالحكايات كلها حكايات عادية تحدث في الحياة اليومية؛ مشاجرة في طريق، خيانة عاطفية، شخص تعرض للكثير من التنمر في طفولته ومراهقته، وهكذا.. كلها أحداث تتسم بالعادية والهامشية لكنها تؤدي بأصحابها إلى انتقام عبثي مروع، لا يخلو من المسحة الكوميدية.

تشير ميزانية الفيلم التي بلغت أربعة ملايين دولار وإيراداته التي تجاوزت السبعة وعشرين مليون دولار، إلى مدى النجاح الفائق الذي حققه الفيلم على المستوى الجماهيري، كما أنه حاز إعجاب الكثير من النقاد داخل وخارج أمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى حصده لعدد من الجوائز، وترشحه لجائزتي السعفة الذهبية والأوسكار لأحسن فيلم أجنبي.

أسطرة المجرم

من جانب آخر وعلى صعيد تأثر الجمهور المصري بالمسلسل الإسباني Narcos، والفيلم الأمريكي Loving Pablo، اللذين يرويان سيرة امبراطور الكوكايين الكولومبي بابلو أسكوبار، ظهرت حالة من الاحتفاء الشعبي المعلن بشخصية أسكوبار، الذي أغرق الولايات المتحدة لسنوات طويلة بالكوكايين، إلى درجة رفعته إلى مصاف المقاومين الكبار من أمثال هوشي منه وجيفارا، فاعتبروا أنه يحارب أمريكا بالكوكايين، كما كان مصطفى سعيد بطل روايةموسم الهجرة إلى الشمالللطيب صالح يحرر أفريقيا بقضيبه.

Loving Pabloمن فيلم

من فيلم لوفينج بابلو

تقودنا هذه المؤشرات إلى سؤال مهم؛ لماذا يتعاطف المشاهد مع الجريمة؟! والأحرى أن يكون السؤال هكذا: لماذا يتعاطف المشاهد مع بعض أنماط الجريمة؟!

تبادر هذا السؤال إلى ذهني مع حكاية المُفجِّر التي سردتها في المقدمة السالفة، وكاريزما أسكوبار التي طغت على مواقع التواصل الاجتماعي منذ عدة سنوات، فور انتهائي من مشاهدة الحلقة العاشرة من مسلسلب 100 وش، فلعلنا جميعا شاهدنا ثورة افتراضية على مواقع الفيس بوك ليس فقط للتعاطف مع جريمة النصب التي يتناولها المسلسل، بل وصلت إلى تأييدها والتحمس لمرتكبيها خفاف الظل الذين قدموا لنا كوميديا رائقة نفتقدها منذ زمن طويل.

رهبة الانتظار

شاهدنا على موقع الفيس بوك عبارات تحمل تعاطف وفرحة المشاهدين بعد نجاح عصابة سكر وعمر في الاستيلاء على أموال عم غزال، فأعرب البعض عن القلق والتوتر الذي انتابه في أثناء وجود سباعي وسكر وعمر في مكتب مدير البنك انتظارًا لتجهيز العشرين مليون جنيه، بل إن البعض قال إنه كاد يقف قلبه خوفًا من افتضاح أمرهم، وفور انتهاء الحلقة انهالت عبارات التشجيع من قبل المشاهدين لأبطال المسلسل، ليس بأسمائهم الحقيقية بل بأسماء الشخصيات الدرامية، عمر وسكر ورضوى وعم سامح وحمادة وسباعي أو سبعبع كما تناديه ماجي ماكييرة العصابة إلى آخره من بقية أفراد العصابة.

كما لا ينبغي أن يفوتنا ما حدث بعد الحلقة السابقة على ذلك وهي الحلقة التاسعة حين وجه عمر كلامه لسامح؛ الموظف المرتشي، قائلاً: “أستاذ سامح هياخد 4 مليون جنيه علشان هو راجل مرتشي، ومن غير الطرق الشمال بتاعته ماكناش هنعرف نعمل أي حاجة، تحية للراجل الضلالي الكبيرفجاء الكادر على وجه سامح  وقد ارتسمت عليه إيماءة امتنان كادت توقف قلوبنا من كثرة الضحك، أردفها بقولهأنا عايش بالكلمتين الحلوين دول، كما لا ننسى حالة ترقبنا كمشاهدين لسبعبع أو سباعي الذي أفسد الخطة أكثر من مرة، وسخطنا عليه الذي لا يخلو من الحب، بل أكاد أجزم أن كثيرين كانوا يدعون من أجله كي لا يفسد الخطة في الفرصة الأخيرة، ولعل كثيرين صفقوا له بابتسام لحظة ثباته أمام مدير البنك وإتقانه دور المحامي عز الدين شكري، خصوصًا وأننا كرهنا أقارب عم غزال الاستغلاليين الحقراء.

مجرمون لكن أحببناهم

حقًّا، أقارب عم غزال استغلاليون وحقراء، لكن هذا لا يعني أن أفراد العصابة ملائكة، إنهم لصوص واستغلاليون كذلك، منذ الحلقة الأولى تم طرحهم باعتبارهم نصابين، ساقتهم الأقدار والأطماع ليعملوا معًا في عملية نصب لن يستطيع أحدهم أن يتولاها بمفرده، سكر (نيللي كريم) نصابة تزور المجوهرات وتحتال على الجواهرجية لتستبدل المجوهرات المزيفة بالأصلية، ويعاونها في ذلك حمادة (إسلام إبراهيم)، ورضوى (زينب غريب)، أما عمر (آسر ياسين) فلديه حسابات مزيفة على الفيس بوك بأسماء فتيات، يستخدمها في الإيقاع بالرجال الباحثين عن إشباع غرائزهم الجنسية، ويصورهم في أوضاع مخلة عبر الانترنت ويبتزهم بها، أما ماجي (علا رشدي) صديقة عمر التي تعمل مصورة وماكييرة وكذلك تعاونه في تحصيل الأموال التي يبتز بها ضحاياه عبر حسابها البنكي في الخارج، بالإضافة إلى كونها مدمنة مخدرات، وسباعي (شريف الدسوقي) الكومبارس السكير الفاشل الذي يسرق الهواتف المحمولة من بلاتوه التصوير، ليسد فجوة اقتصادية بينه وبين زوجته التي انتقلت من صفوف الكومبارس إلى صفوف ممثلي الأدوار الصغيرة بما كفل لها دخلاً ماديًّا معقولاً، وسامح عبد الشكور (محمد عبد العظيم) الموظف المرتشي الذي يفخر بكونه كذلك ويدعي أنه يساعد الناس في قضاء مصالحهم لكنه يدرك ادعاءه هذا إلى درجة أنه عندما يقال له إن شكلهشيخ منسريؤكد على المقولة ويقولعارف أنا شكلي شيخ منسر، ونجلاء (دنيا ماهر) ممرضة عم غزال التي تكشف مؤامرة العصابة للاحتيال على أموال مريضها والتي تطلب قسما من الغنيمة ثمنًا لسكوتها.

من مسلسل ب 100 وش

من مسلسل ب 100 وش

هم بالفعل أشخاص أدنياء، ومجرمون بالمعنى القانوني والأخلاقي، لكن لماذا اكتسبوا كل هذا التعاطف والتشجيع، بل حتى إنهم ليسوا كمثل روبن هود الذي تكرست شخصيته منذ مئات السنين كلص شريف يسرق الأغنياء ليطعم الفقراء، ولا حتى أدهم الشرقاوي، التجلي الشعبي المصري لروبن هود الذي فرضت جموع الشعب سرديته الخاصة باعتباره بطلاً شعبيًّا يحارب الإنجليز في مقابل الرواية الرسمية باعتباره قاطع طريق، وأحد أخطر الأشقياء، واستطاعت السردية الشعبية إجبار الثقافة الرسمية السلطوية على الاعتراف بها.

كما تتضاد نماذج عصابة سكر وعمر مع نموذج المجرم الضحية، كسعيد مهران رواية نجيب محفوظ اللص والكلاب، الذي كان ضحية خيانات عدة جعلته سفاحًّا سيء الحظ، كلما أراد قتل واحد من غرمائه، أوقع ضحية لا علاقة له بها، ولا حتى كمنتصر في فيلم الهروب لعاطف الطيب الذي اكتسب تعاطفنا لكونه ألعوبة في يد نظام سياسي فاسد يستغل قضيته ليواري عجزه وتقصيره أحيانًا وفساده في أحيان أخرى، فمن منا لم يتأس للنهاية المأسوية التي انتهى إليها منتصر قتيلاً برصاص الشرطة مع صديقه وبلدياته الضابط الشريف سالم الذي أبدى اعتراضه على كل المخالفات القانونية، وامتلأنا غلًّا حين انتهى الفيلم بنظرة الضابط الفاسد (العميد الشرنوبي) منتصرًا وهو يرمق القتيلين.

إن عصابة سكر وعمر ليسوا هذا ولا ذاك، إنهم لصوص عاديون جدًّا، يسرقون ويحتالون لمصلحتهم الشخصية، بل إنهم لصوص سيئوا حظ، ويمكن اعتبارهم حمقى أيضًا، أوقعت سذاجتهم في طريق أشخاص لا يقلون عنهم دناءة ولا حتى حماقة يفرضون عليهم أنفسهم كشركاء في العملية، فيزداد أفراد العصابة من خمسة أشخاص إلى عشرة، ومن ثم في الغنيمة التي كانت ستقسم على خمسة أصبحت تقسم على عشرة، بما يعني أن حصة كل واحد منهم من المال قد قلت عما كان مخططًا له، والسؤال يتكرر بإلحاح شديد؛ لماذا تعاطفنا معهم؟!

ليسوا أعداءنا

في ظني أنه من الصعب تفسير الأمر بأنه من تجليات متلازمة ستوكهولم (التعاطف مع العدو) فعصابة سكر وحمادة ليسوا أعداءً بالنسبة لنا، حقا إنهم لصوص لكنهم لا يسرقوننا نحن، أو على الأقل لا يسرقوننا بشكل مباشر، فما الذي يحملنا على اعتبارهم أعداء لنا؟ بل إن أغلب إن لم يكن كل ضحاياهم لا يستحقون السرقة فحسب، بل يستحقون السجن، فأغلبهم من البورجوازيين الكبار الذين كونوا ثرواتهم بامتصاص دماء أمثالنا، إنهم لصوص فاسدون كذلك، بل أكثر فسادًا من أفراد العصابة، فلماذا قد يؤذينا تعرضهم للسرقة.

سيقول قائلليس ثم ما يشير إلى أن عم غزال فاسدفأقول، نعم ربما يكون عم غزال غير فاسد، لكن ها قد رأينا ورثة عم غزال أشخاصا يتسمون بأقصى درجات الحقارة، فلماذا نتعاطف معهم ضد لصوصنا الظرفاء؟ وإذا افترضنا أن عم غزال لم يظهر له ورثة، فلمن ستؤول تركته؟ بالطبع ستؤول إلى الدولة، فهل أموال الدولة هي أموالنا حتى يؤذينا الاستيلاء بالباطل على تركة عم غزال؟! من المفترض أن تكون كذلك، لكن هل هي كذلك بالفعل؟!

إننا نمر بحقبة انسداد تاريخي في مختلف مسارات الحياة، من الحماقة نكرانها، لكنها تنكر على أية حال، لا ينكرها النظام الحالي في مصر فحسب، بل إن كثير من فئات الشعب ينكرونها كذلك، ولا أجد ذلك مجرد خوف من البطش، أو خشية على الأرزاق أو خلافه، لكني أجدها حالة نكران واعية، ربما يرجع مصدر إلى الخوف في انعدام الثقة في فكرة الوطن برمتها، وربما إلى الخوف من الجماعات الأصولية التي يصدرها لنا النظام بديلاً وحيدًا وحتميًّا.

إننا نقفز كقطة حوصرت بين حريقين، فإما أن نرضى بالقهر وانعدام العدالة الاجتماعية والحرية، أو نسقط في غياهب التشدد الديني الأعمى ونتحول إلى أفغانستان جديدة.

هل في ظل هذه الظروف يمكن الثقة في فكرة الوطن؟ أو لنطرح السؤال بصيغة أقل وطأة؛ هل في ظل هذه الظروف يمكن الثقة بأحقيتنا في مقدرات الدولة؟ في ظني أن الإجابة: لا.

إن العقل الواعي لنا لا يؤكد هذه الإجابة، بل ربما ينفيها، لكن العقل الباطن يطرحها بقوة وإلحاح، وهذا ما بدا من ردود أفعالنا تجاه العصابة خفيفة الظل، ولا أعتقد أن خفة ظلهم وكوميدية المسلسل هي التي حملتنا على ردود الأفعال هذه، بل في ظني أن لا وعينا هو الذي حركنا.

ليس ثمة فرصة للإصلاح السلمي كما أن الحل الثوري مستبعد جدا، خصوصًا وأن الأنظمة هذه تفلح غالبا في تفريغ الساحة السياسية من الكوادر التي يمكن التعويل عليها، وهذا ما حدث لدينا بالفعل، فبعد تسع سنوات من الثورة المصرية (25 يناير) لم تعد ثم نخبة يمكن الوثوق بها، وتجربة حكم الإخوان المريرة، أسفرت عن خواء المعارضة، وعلى جانب آخر يعتمد النظام سياسة التنكيل كسياسة وحيدة لإدارة البلاد، فضلاً عن تفوق غير مسبوق له في الفشل الإداري والاجتماعي، فلم يقدم طيلة هذه السنوات حلا حقيقيًّا لأي من مشكلات المجتمع، حتى المشروعات الإنشائية التي يصدرها دائمًا باعتبارها منجزات جرت في وقت قياسي، انهارت أكثرها أمام نوبة من السيول لم تكن بالمفزعة.

حين وقعت الشدة المستنصرية منذ ما يقرب من ألف عام، لم يثر الشعب على الدولة التي فشلت في توفير الغذاء له خلال القحط، لكن استعاض عن ذلك ببعض أشكال المقاومة الأناركية التي تفتقد إلى الرؤية والتنظيم، بل مجرد انتقام في المطلق، فبدأ الناس بأكل القطط والكلاب والحمير، وروى ابن إياس أنهم أكلوا بغلة وزير الخليفة ذات مرة، ثم تطور الأمر لأكل موتاهم حتى انتهى بخطف الأحياء لأكلهم.

بل لو عدنا بالتاريخ إلى ما قبل عصر الشدة بنحو ثلاثة آلاف سنة سنجد أول ثورة جياع في التاريخ، تسبب فيها مبالغة الملك بيبي الثاني في الإنفاق على فتوحاته العسكرية، بما أوقع الشعب في مجاعة كبيرة أدت إلى حالة من الفوضى والسلب والنهب استمرت لسنوات.

بالتأكيد لم تكن هذه الحلول حلولاً ثورية، بل مجرد تحايل على الأزمة بصيغة عنيفة لا أكثر، إذ يبدو أن الشعوب في فترات الانسداد التاريخي تلجأ إلى أساليب المقاومة الأناركية، وإن لم تدرك ذلك بوعيها فإنه يظل قابع في اللاوعي إلى أن يكشفه أمر ما، ولعل هذا ما حققته حكاية المفجر في الفيلم الأرجنتيني وتحققه الآن عصابة سكر وعمر.

سقوط مركزية الخطاب

على جانب آخر شهدت الثقافة الشعبية في مختلف بلدان العالم، ظواهر كثيرة من مقاومة السرديات التي تفرضها السلطة، بل سعت في كثير من الأحيان إلى تفكيك المنظومة القيمية الراسخة دينيًّا وسياسيًّا، ففي المسرح الديني في العصور الوسطى على سبيل المثال، كان القساوسة يكتبون فصولاً كوميدية يسخرون فيها من الشياطين والأرواح الشريرة، لتخفيف وطأة الوعظ الديني في المسرحيات الكنسية، لكن جموع الشعوب المسيحية اقتنصت هذه الفصول المضحكة وأنتجت كوميديتها الخاصة بمعزل عن الكنيسة والتي تجلت في الكوميديا ديلارتي الإيطالية، والفارس الفرنسي اللذان لا يزال أثرهما على فن الكوميديا قائمًا إلى يومنا هذا، بل وفي كثير من الأحيان انحرف المتلقي عن المسار الذي وضعه له صناع الدراما المتمثل في خطابات أخلاقية واضحة، لينشئ خطابًا مناقضًا له، ويتبناه ضمنيًّا، وهو ما أشرنا إليه سالفا فيما يخص الأعمال الدرامية التي تناولت سيرة إمبراطور الكوكايين بابلو أسكوبار.

يشير عالم الأنثروبولوجيا المقيم في مصر والتر أرمبروست في الفصل الأول من كتابهالثقافة الجماهيرية والحداثة في مصروالذي يتناول فيه مسلسلالراية البيضابالتحليل الأنثروبولوجي، إلى أنه على الرغم من إصرار كاتب العمل أسامة أنور عكاشة، ومخرجه محمد فاضل على إبراز التناقضات الجوهرية والمظهرية بين الفريقين المتصارعين، فريقفضة المعداويوفريقمفيد أبو الغاربما لا يدع مجال للشك انحياز صناع العمل إلى فريقمفيدلما يمثله من أصالة وحداثة يمتزجان في مبدئية أخلاقية واضحة، في مقابل فريقفضةالذي يتسم بالغوغائية وغشم الرأسمالية الجديدة، إلا أنه على مستوى التلقي الشعبي للدراما، لم تأت الرياح بما اشتهى الكاتب ومخرجه، وطاشت الرسالة الأخلاقية المراد توصيلها.

لقد انحاز الجمهور الشعبي إلى شخصيةفضةوفريقها، على الرغم من محاولة حشد الكاتب والمخرج أكبر قدر ممكن من أولاد البلد حول فريق مفيد، ولعل أبرزهم شخصيةالنونوالذي بدأ في صف فضة ثم تحول إلى مفيد بعد أدرك دناءة وخسة فضة ومعاونيها، ولكن أسامة أراد بهذا أن يكسب مساحات من تعاطف الفئات الشعبية إلى جانب بطلهمفيد أبو الغارلكن الوعي الشعبي كان له رأي آخر، إذ رفض استعلائية المثقف المنهجي المتمثل في مفيد الذي يفضل موسيقى تشايكوفسكي وخاتشاتوريان على بدارةالست اللي طلعت فوق السطوح تنده على طيرهاومن ثم تحولت فضة وبلدوزرها محاولة لدفاع الفئات الشعبية التي ينظر إلى ثقافتها كنفايات ينبغي إقصاؤها.

الجمهور ``مش`` عاوز كده

ربما لا يتقصد صناعب 100 وشتوصيل هذه الرسالة، فأغلب الظن أنهم أرادوا أن يقدموا كوميديا تحترم عقلية المتفرج ولا تنزلق إلى التهريج الممض الذي شهدناه في مسرح الفضائيات منذ انطلاق تجربة تياترو مصر لأشرف عبد الباقي، والتي انسحبت بدورها على صناعة الدراما التليفزيونية، فشهدنا على مدى السنوات الماضية مسلسلات أشبه بالسِت كوم، أو الاستاند أب كوميدي، لا يسعى فيها الممثل إلى أداء شخصيات كوميدية بقدر ما يسعي إلى التقفية والقفشات الساذجة التي لا تختلف عن جلسات المصاطب والمقاهي، بل إن جلسات المصاطب أخف ظلاً في معظم الأوقات من هذه الأشكال الدرامية الضحلة، إذ أن عفويتها تؤكد على صدق المحتوى الكوميدي بعكس ما تحمله هذه المسلسلات من استظراف وادعاء للمرح.

وبالفعل نجح صناعب 100 وشفي إضحاكنا من القلب، بسبب تحريهم الاتقان الفني والابتعاد عن ابتزاز ضحكات المتفرج، ورهانهم على زيف مقولةالجمهور عاوز كده“.

من مسلسل ب 100 وش

من مسلسل ب 100 وش

وفي ظني أن كاملة أبو ذكري مخرجة المسلسل كانت تسعي إلى صناعة مسلسل لايت كوميدي خفيف يلتزم المعايير الفنية والجماليات الدرامية، ولم تكن تتوقع ردة فعل الجمهور تجاه المسلسل اعتاد أشكال الكوميديا الصارخة القائمة على مفارقات البلاهة والسخف، لكن المفاجأة كانت احتفاء الجمهور بالمسلسل المتقن صنعه وإسقاط المسلسلات الكوميدية الأخرى التي اعتاد مشاهدتها وصنع من ممثليها ضعاف القدرة والموهبة نجومًا يطلون كل عام بسماجة أكثر مما كانت عليه في الأعوام السابقة.

من هنا تسقط المقولة الكلشيهية التي يرددها المستسهلون؛ فحين يتم اختبار الجمهور يم اختبار الجمهور بمحتوى جمالي متقن، يسقط المستسهلون، بينما ينجح الجمهور نجاحًا يفوق التوقعات، فها هو ذاب 100 وشالمسلسل الذي يخلو من أي لمحة سياسية ولو كانت بسيطة، يعيد الجمهور إنتاجه يوميًّا وفق قراءته الخاصة بما يحقق له ثأرًا معنويًّا من بنى اجتماعية وسياسية فرضت عليه فرضًا.