طرق تريزا

وائل عشري

اختار وائل عشري صورة من مجموعة فرانشيسكا وودمان لتكون غلافًا لهذا المقتطف الذي تنشره “مدينة” من مسودة روايته “حلم برونو”. قضت فرانشيسكا وودمان على هذه الأرض 22 عاماً فقط. ولدت في نيويورك في 3 أبريل 1958. وخلالها جعلت نفسها وأهداف كاميرتها بقعًا من الضباب.
أجسادًا عارية، مهزوزة، ترشق الحياة سهامها فيها، وتخفي وجوهها، وتلقيها على بطونها. كانت وودمان ترميهم في البيوت المهجورة، في مواجهة المرايا والوهم والاختفاء ولعبة
الضوء، ضوء باهر يغشي، وضوء مخفف لا يكشف إلا ما تراه هي. وهكذا.. وبعد أن أنهت مهمتها سريعًا غادرت بإرادتها في 19 يناير 1981.
باقي الصور المنشورة مع النص من تصوير وائل عشري؛ الذي اختار أن يعرِّف نفسه تعريفًا مقتضبًا، لم يذكر فيه أن له مجموعتان قصصيتان: “سأم نيويورك” و”الإغراء الأخير للسيد أندرسن”، وترجم رسائل ونصوص للشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا. وفي كلا الاختيارين: الصورة والاقتضاب… مفتاحان للنص
قراءة ممتعة

 

دعوني أصف المكان لكم. دعوني أصف طرق تريزا، مساراتها، حين لم تكن ميتة، لم تكن مخمورة، في السادسة والنصف صباحًا، من محطة المترو، تلك المسماة ثكنات المعادي، إلى شقتها الصغيرة، في شارع 260، أو، من شقتها الصغيرة إلى المقهى، ذلك المسمى قمر الزمان، في الرابعة والنصف صباحًا، حين تستيقظ أبكر مما يلزم، حين لا تنام، أنسومنيا ما يدعونها، الأرق هذا هو، على ما أفترض. لنقل إنها عائدة من تلك الحفلة التي قرأنا عنها منذ صفحات كثيرة. سقطت في النوم فوق السطح أمام شقة نورا، سطح العالم هكذا تسميه، هكذا نورا تسميه، واستيقظت لتجد نفسها بمفردها، إن تجاهلنا الأشياء التي كانت هناك أيضاً، موجودة، هي، الأشياء، أيضاً.شعرت تريزا بالقليل من  الرعب.بالكثير.لم أذكرهذا حينها، لكنه ما حدث فعلاً. الفكرة الأولى التي خطرت لها ما إن فتحت عينيها كانت أن العالم انتهى في أثناء نومها، في أثناء سكرها. لم تكن قد فاقت تمامًا بعد، حين استيقظت. الفكرة، تلك التي لم تستطع أن تتخلص منها، تهاجمها دائمًا ما إن تفتح عينيها، عائدة من نوم، أو قيلولة، وهي نوم أيضًا، لكنهما ليسا الشيء نفسه. تشعر، تخشى، حينها، أن العالم انتهت صلاحيته في أثناء غيابها، في أرض الأحلام، حيث دائمًا ما تقابل ابن العاهرة روميو فياسنيور. لحظتها، حين تفتح عينيها، قبل أن يستيقظ عقلها، قبل القهوة، تشعر أن العالم انتهت صلاحيته، نفد، ونجت هي، عقابًا على أمر رهيب لا بد أنها اقترفته دون أن تلاحظ، دون أن تقصد. هي الناجية الوحيدة إذًا، والعالم سيكون لها وحدها، لها في العزلة، مع نفسها، النفس التي لا تحبها. تتخيل حتى كيف ستكون حياتها، كيف ستجد طعامًا. نعم، كل طعام العالم سيكون هناك، من أجلها هي، وسيكون كثيرًا جدًا، في البداية فقط، – ماذا ستفعل إذن حين تنتهي صلاحية الطعام في السوبرماركتس؟ لا بد أن يحدث هذا في وقت ما! وماذا ستفعل، وهذا أهم من الطعام، حين تنتهي صلاحية كل القهوة في العالم، في العالم الذي في متناولها، لنقل في سوبرماركتس القاهرة، حين تستهلكها هي تمامًا، أو حين تفسد؟ لا تعرف كم سيستغرق هذا. تقدر أن الأمر سيستغرق عامين، كي تفسد القهوة. ماذا بعدها؟ كيف ستصحو دون قهوة؟ ماذا ستفعل؟ هي الطبيعة ما سينقذ مؤخرتها. تفكِّر. الطبيعة بالتأكيد. الطبيعة؟ دورات الزرع والحصاد، البذر والجني؟ لكن هل ستتحدث السيدة الطبيعة معها؟ ستكون صديقتها؟ ستغازلها؟ ستضاجعها؟ لا يُعرَف عن الطبيعة أنها فعلت أيًا من هذا لأي أحد. تفترض تريزا دائمًا أن الطبيعة لن تصبح فجأة ودودة على نحو خاص، غير طبيعي، معها هي، من أجلها هي فقط. الطبيعة لا يمكن الوثوق بها. تعرف تريزا. ثم ماذا عن ماء الشرب؟ الكهرباء؟ الإنترنت؟ الإنترنت! كله إلا الإنترنت! تخرج تريزا إذن، في السادسة والنصف، لا، في الرابعة والنصف، صباحًا، لا، لا، في السابعة، – على رواية واقعية كهذه أن تراعي مواعيد المترو، أليس كذلك؟ – تخرج إذن من محطة المترو المسماة ثكنات المعادي، الثكنات اختصارًا. شارع 9، حيث هي الآن، هادئ تمامًا. ليست فائقة تمامًا بعد، تريزا. دعونا لا ننسى أنها كانت في تلك الحفلة، في شارع باحثة البادية، مع ثلاث نساء أخريات، صديقاتها، صديقاتها المقربات، نورا، وغالية، وامرأة أخرى بقت دون اسم، دون سبب وجيه. لهذا، دعوني أصحح هذا الخطأ، هذا الخطأ الخيالي، كي لا يقول أي أحد “نفس القديم! نفس القديم! كاتب رجل يُبقي شخصية نسائية دون اسم! ما الجديد؟” دعوني أقول إن اسمها كان سارة. اسمها ما يزال سارة. لكن، لندعوها سميرة هنا. سميرة هذا أفضل جدًا. سميرة هذه لا تتوقف عن الحديث عن النادي الأهلي. متأكد أنكم ستوافقون معي أن هذا لا يدخل في إطار اهتماماتنا هنا، أو هناك، الآن، أو حينها، ولا من بعيد حتى. الآن، إن قلت لكم إن الأهلي كان كل ما تحدثت عنه حين علت في الحفلة، فمن المؤكد أنكم أنتم أيضًا سترون لأي سبب كان عليها أن تبقى دون اسم. لأي سبب كان عليها أن تبقى صامتة، ليس في الحفلة، فلم تكن صامتة في الحفلة، صائب أن نفترض أنها لم تكن، لكن في هذه الرواية، حيث هي، صامتة، كانت، في ذلك المشهد الذي، إن تغاضينا عن صمت سارة، صمت سميرة، كان محاكاة صادقة للواقع، أكثر من صادقة، للواقع أيضًا. كانت غالية من أخبرتها بالحقيقة الحزينة التي سيكون عليها أن تتعامل معها ذات يوم. “سميرة،” قالت غالية، “لدي أخبار سيئة لكِ، يا بيب. الأهلي لن يضاجعكِ، مثل، أبدًا! لهذا، من الأفضل أن تستجمعي خراءكِ معًا، وتتوقفي عن تصديعنا بالأهلي وماذا لا.” مرة أخرى، أعتقد أنكم جميعًا ستتفقون مع غالية. غالية، قاطنة الحي البرجوازي التي تتحرك في أرجاء القاهرة على فيزبا، لا تكره الأهلي على نحو خاص. لا. أبعد ما يكون عن هذا. هي فقط تتحدث بالحقيقة إلى أصدقائها. غالية صديقة حقيقية، وليست زجاجة ويسكي، ليست جاك دانيلز لم لا. – لكننا في المعادي الآن. لنركز قليلاً. دعونا لا نتشتت أكثر من تشتتنا. القليل من التشتت، أوكيه يعني، أظن، ربما لا يمكن تجنبه، ولا ضرر منه على أي حال، لكن ليس إلى هذا الحد. أعرف. أعرف. أوافق. أنا المشكلة. لست الحل. لم أدعِ قط أني حل لأي شيء. هي، تريزا، تغادر المترو، تغادر محطة المترو، ثكنات المعادي كما نعرف. تمشي لأقل من خمس دقائق، وبدلاً من أن تأخذ شمالها، داخلة في شارع 86 كي تذهب إلى البيت، تجلس في القهوة المسماة قمر الزمان. أنا هناك، في القهوة. أنا النادل هناك. على وشك أن أغادر رغم هذا. ورديتي تكاد تنتهي. أستطيع أن أراها تتوقف عند مطعم الفول كي تحصل على بعض الساندوتشات. أو. لا. لا. لنقل إنها الرابعة والنصف صباحًا الآن، وتريزا تمر، في شقتها، بنوبة ذعر صغيرة.لم تعد تخشى مصيرها حين ينتهي العالم في أثناء نومها. لم تعد تهتم بالعالم في ذاته. العالم-في-ذاته هكذا يكتبونها. هي الآن مرعوبة من الحياة وحدها في عالم دون إنترنت. نعم، تؤلف قصة، وتصدقها أيضًا. نعم، تصدقها وتُصاب بنوبة ذعر بسببها. تنهض من فراشها. تغسل وجهها. ترتدي أي شيء كيفما اتفق، وتخرج. تحتاج إلى أن تخرج، إلى أن تكون في الخارج. تحتاج إلى أن تتأكد من أن العالم ما يزال هناك، في الخارج اللعين. لا تستطيع أن تترك نفسها لنفسها. ليس هذا جيدًا من أجل نفسها. تقتات على نفسها مثل حيوان ضاري في غياب الآخرين. لا تحب الآخرين، لكنهم يبقون عقلها مشغولاً. ينقذونها من نفسها. هي في الخارج الآن، والعالم ما يزال مظلمًا. سوف ترى الليل يصبح نهارًا، ينهر نهارًا، يصبح صباحًا، بينما تجلس في القهوة. سوف تسمع الطيور. الطيور. الطيور. طاعون على الطيور. نعمة حقيقية أن يكون بالقرب منكِ قهوة تفتح 24 ساعة. غير إن الطيور تصبح صاخبة، مفرطة في صخبها. أحيانًا. هي، الطيور. تلك القهاوي، تنقذها من نفسها. الطيور رغم هذا! لم الصخب هكذا! تمشي في شارع 260، وبعد قليل، تبلغ ميدانًا. لا تعرف اسمه. تجد المعادي غريبة على هذا النحو. في منتهى الغرابة. تمتلئ بكل تلك الميادين الصغيرة التي لا يعرف أي أحد لها اسمًا. والشوارع التي أطلقوا عليها ببساطة أرقام! لا أسماء! لا تواريخ حتى! لا ترى أي ترتيب أو نظام في تتابع الأرقام. لا تلتزم، الشوارع، بشبكة متتابعة الأرقام. أين صرامة التتابع؟ صرامة الشبكة؟ أين؟ البعض تتبع. بعضها. مثل. لكنها فجأة لا تتبع. على سبيل المثال. لا. لا أمثلة هنا. لا حاجة إلى أمثلة. كل هذا في عقلها على أي حال. لا حاجة إلى أمثلة إن كانت هكذا. بعيدة عن الواقع هكذا. مذعورة هكذا. من العالم هكذا. في ذاته على أي حال. العالم الذي انتهى بالفعل. هذا ما خشيت منذ البداية. الطيور الآن. الطيور. على عكس نيو يورك. حيث الشوارع دائمًا. أوه، نيو يورك! الشوارع! هي، شوارع مدينة نيو يورك! والأكشاك أيضًا! في هذا الحي. ما حكاية الأكشاك هذه؟ المراهقون والشبان المتجمعون في مجموعات صغيرة بالقرب منها؟ شيء يخص المعادي؟ تختص به؟ هكذا يبدو الأمر. لها. حي مثل الماء. حي أجنبي. لها. ربما لهذا السبب انتقلت إليه في المقام الأول. تدعوه الضاحية. تشير إليه بالضاحية. صديقاتها يدعونها تريزا الضواحي، لأنها نادرًا ما تغادرها الآن، وحين تفعل، تقول، أنا ذاهبة إلى القاهرة، إلى مدينتكم. في الميدان، يوجد اثنان منها، الأكشاك. تعبره. ربما تعبره. في الخيال، تعبره. إنه خالٍ الآن. سوف تجتاز بعد هذا قضيبي القطار اللذين لم تر أي قطار يمر عليهما. لا تعرف أن هذا الخط يسمى سكة حديد المحاجر. نحن نعرف أكثر منها. أنا أكثر منها. في الجهل إذن. هي إذن. دائمًا ما تفكر أنها تحتاج إلى أن تمشي فوق القضيبين، بينهما، في الدرب الضيق الذي تواريه، تحميه، أشجارٌ صغيرة. إنه رحم بالنسبة لها. إنه رحم بالنسبة لها بعد أن تجاهلت الكلمة قضيب. النباتات شَعرٌ بالنسبة لها. حماية طبيعية ضد عناصر الطبيعة. التي لم تستأنس بعد. بعد إذن! من العين الغريبة إذن. من النظرة في المقام الأول. النظرة. الطيور. شيء ما فيه، الدرب، أعني خط السكة الحديد، يقترح عليها رحمًا. لكنها لا تفعل. لا تمشي فيه. لا تدخله. تخشى أن تفعل. تخشى الموت المرغوب جدًا، فيه. لأن الحياة، مرغوب جدًا فيها. هذا أو ذاك. حقيقة أنها لم تر قط قطارًا هناك، لا تعني أن قطارًا لن يمر فجأة ويسحقها. ليست جادة حتى بخصوص أي من هذا. لا تأخذ أفكارها بجدية. أفكارها تحدث. تتداعى وحدها. في انفصال عن. أفكارها مستقلة عنها هي، عن عقلها، هي. فقط تمر بعقلها، الأفكار. لا تريد أن تموت بهذه الطريقة. ليست هذه طريقتها المفضلة في الموت. ليس أسلوبها. تهتم تريزا كثيرًا بالأسلوب. ليست شاعرة رغم إني قلت هذا من قبل. كنت فقط أقول. لا أكثر من أني كنت فقط أقول. ليست شاعرة، لكنها تهتم كثيرًا بالأسلوب. هي امرأة من الأدب. من أجل الأدب. لا توجد خارج الـ – معها نسخة من رواية مولوي. سوف تقرأها على القهوة، حين تصلها، إن وصلتها. تخيلوا هذا! معها نسخة من رواية. أنا فقط أخمِّن أنها رواية بيكيت التي دعاها مولوي. تعبر بالفعل خط السكة الحديد.عليها الآن أن تواجه الكلاب. الكلاب شرسة هنا. تقترب منك أكثر مما يجب، منها، من المرأة التي تحمل رواية لبيكيت في حقيبتها، ولا تهدد أحدًا. تنبح، الكلاب. إنها غاضبة، الكلاب. إنهم غاضبون، الكلاب لم لا. تتفهم أن لدى الكلاب أسبابًا وجيهة للشعور بالغضب، من البشر، من عالم يسيطر عليه البشر، لكن عليهم أن يختاروا معاركهم أفضل من هذا. تفهم أيضًا أنهم يعتبرون العالم لهم، أجزاءً من العالم لهم، ما إن يتوغل الليل. هذا عادل. تجده عادلاً، خاصة أن الليل توغل بالفعل. خاصة أنه، خلاص يعني، أرخى سدو… ما الكلمة؟ لم تكن لتشكك في هذا قط، في انتماء أجزاء من العالم لهم بعد أن أرخى الليل تلك الكلمة، لكن لم يكن الأمر أنها هناك كي تبقى، كي تدعي المكان لنفسها، كي تنتزعه من الكلاب. لهذا السبب تفكر أن عليهم ألّا يضيعوا جهدهم هكذا، على واحدة فقط تمر، واحدة مثلها، بوضوح فقط تمر. إن أتت إلى بقعتهم، وقل، بالت هناك، محددة منطقة نفوذها هكذا، علمت عليهم وحددت منطقة نفوذها ببولها هكذا، وقالت، “استمعوا، أنتم أيها الكلاب وأبناء وبنات الكلاب، هذا المكان مكاني، لي، الآن، مكاني الآن في أثناء الليل” – حينها، إن فعلت هذا، إن قالت ذلك، سيكون لهم كل حق في أن يغضبوا منها، أن يقاتلوها حتى النهاية المريرة، كي يحصلوا على استقلالهم، كي يحرروا وطنهم. ستكون حربهم هذه عادلة جدًا، أخلاقية جدًا أيضًا، حرب تستحق أن يخوضوها ويقتلوا من أجلها، ويُقتلوا أيضًا، إن استلزم الأمر. لكنهم ينبحون عليها دون سبب وجيه. هي من ليست تهديدًا. هي الخائفة. إنها خائفة الآن. هي خائفة لأنها تعرف أنهم يعرفون أنها خائفة. يمكنهم أن يشموه، الخوف، خوفها، منهم، من العالم، من حياتها في الخوف. تبتسم لهم. تحاول جاهدة، وتبتسم. تعتقد أنها تبتسم. هي متأكدة أنهم يعرفون معنى الابتسام، معنى أن تحاول أن تبتسم، في الخوف. أحد الكلاب يتبعها الآن. يتبعها، في الطيبة، في الرقة. هذه مرة أولى! هذا الكلب يبدو أنه يفهم وضعها في العالم. اسمه برونو، لكنها بالطبع لا تعرف هذا. يتبعها عن قرب، رغم أنه يحتفظ بمسافة عنها، منها. تلتفت، وتنظر إليه، وتفكر، “حسنًا حسنًا حسنًا، لدي صديق جديد الآن.” تدعوه روميو. تناديه روميو فياسنيور. بعد خط السكة الحديد، ميدان صغير آخر. كشك آخر إلى يمينها. إنه مغلق. كل شيء مغلق الآن. هذا طبيعي. هذا الإغلاق يراعي بصرامة قوانين الطبيعة، النهار والليل، الضوء والظلام. على أي حال، هذا الوقت يفترض له، يجب، أن يكون حين ينام أبناء وبنات الإنسان، لكن ليست هي، ليست تريزا. سأسمي هذه الرواية “ليست تريزا” خلاص: ليست تريزا. يفترض أن يكون، هذا الوقت، حين تشعر الكلاب، عن حق، بأن العالم لهم. إلى يسارها، شارع. دعوني استشير خريطة، لأني لا أتذكر اسمه. لا، لأني لا أعرف الاسم. أو ربما لا. لن أفعل. لن أستشير. توجد عربة فول هناك، فيه، الشارع الذي لا أعرف اسمه. أعرف بها، بوجودها، دون خريطة. ليست هناك الآن في الحقيقة. كي أكون دقيقًا، هي هناك، لكن من يعملون عليها ليسوا هناك، والفول نفسه ليس هناك. ما هي عربة فول دون فول؟ لا شيء. ليست هناك إذن. ستكون موجودة في طريق عودتها، عودة تريزا، إن عادت، إن ذهبت بدايةً. أعني ستكون عربة الفول موجودة، وكذلك سيكون الفول. ستمر بها كي تحصل على بعض الساندوتشات. في طريق عودتها. إن، لا مؤاخذة، عادت. إن، لا مؤاخذة، ذهبت. مشيتها في شارع 86 تخلو من أي حدث، من أي أمر يثير الاهتمام. يوجد المزيد من الكلاب رغم هذا، بالقرب من نهايته، الشارع. يوجدون عادة على تقاطع 86 وشارع الكنال. الكنال شارع لطيف جدًا. تحبه تريزا. تعتقد أنه الشارع المثالي من أجل العشاق الصغار، من لا تخصهم غرفة. تعرفون التعبير الأجنبي، أليس كذلك؟ احصلا على غرفة، يقولون. لكن العشاق الصغار ليس لديهم غرفة، تخصهم، من أجل حبهم، ولهذا السبب، احصلا على غرفة، يقولون، أو، اذهبا إلى شارع الكنال. الجزيرة الوسطى العريضة تشبه حديقة. متنزه بالأحرى. تخمِّن أنها لا بد شهدت أيامًا أفضل. الآن، مهملة. أشجارها الطويلة المصطفة على الجانبين غير معتنى بها. المساحة بين صفي الأشجار تشبه صحراء صغيرة. قاحلة كلمة قاسية، لهذا لن نستخدمها هنا. صحراء فقط هنا. لا بد كانت توجد نباتات هناك، في أيام ما مضت. ما زالت مثالية من أجل العشاق الصغار رغم هذا، هذه الصحراء غير القاحلة، من أجل طلاب وطالبات المدارس الثانوية، ممن ليس لديهم غرفة، ممن لا يأتون هنا من أجل الاستمتاع باللون الأخضر أو الطبيعة، بل من أجل الحب، من أجل التجربة أيها الرب الطيب. إن ذهبوا إلى هناك ليلاً، يمكنهم وضع شفاههم وألسنتهم موضع استخدام، بعض استخدام، إن هكذا رغبوا، وأحدٌ لن يراهم، سوى طلاب وطالبات المدارس الثانوية الآخرون، الأخريات، من سيكونون هناك للسبب نفسه، إن ذهبوا هم أيضًا في أثناء الليل، وليس من أجل الطبيعة هم الآخرون. الكلاب على التقاطع لا تنبح عليها هذه الليلة. الليلة تمثل علامة فاصلة في علاقتها المضطربة مع العالم العدواني لكلاب هذا الجزء من المعادي. هي الآن تحت الحماية، داخل صداقة روميو فياسنيور. يبدو أنه كلب مهم في هذا المجتمع. هذه الليلة، الكلاب، الذين يدعون شارع الكنال وطنهم، ينبحون ما يزالون، لكن ليس داخل العدوان. لا يحاولون أن يستفزوها، أن يضطروها إلى إعطائهم رد، إلى توضيح نواياها. نباحهم أكثر رقة بكثير من المعتاد. يبدو أنهم فقط يرحبون بروميو فياسنيور الذي يرد نباحهم بنباح “هلا، أنتم أيها الرفاق” ينبح. تصل إلى نهاية شارع 86، وتجد نفسها في شارع 9 الشهير. هناك، في مواجهة 86، توجد القهوة. مرة أخرى، يمكنني أن أراها. أرى تريزا آتية في اتجاه القهوة. تبدو متعبة، كعادتها. تبدو نعسانة وجميلة ومتعبة، كعادتها. من أنا؟ مرة أخرى، أنا النادل الذي يعمل ليلًا في القهوة. أحب الليل. أكره النهار حين يوجد الكثير من الناس في كل مكان، أكثر مما يجب منهم. تستطيع أن تقول إني أنفر من الناس، لكن هذا لا أهمية له. أرتب مكانًا لطيفًا من أجلها، وأُحضر لها الشيشىة والشاي. تفضل الشاي في كيس، لا كشري، والسكر في الخارج. لم تقل قط شاي فتلة مثلما يفعل كثيرون. شاي باكيت، تقول دائمًا. لديها طبقة، هذه التريزا. لا أحب الطبقة على نحو خاص، لكن لديها هي طبقة. تتحدث مثل امرأة أجنبية. كنت في الحقيقة أنتظرها لأن معي شيئًا من أجلها. أحضرت لها حشيش وسوف أعطيه لها. لا، لست ديلر. الحقيقة لم أكن لأبالي إن كنت ديلر. ربما أود أن أكون ديلر. فقط ليس لدي ما يستلزمه الأمر. لا أهتم بما يكفي. ليس لدي صبر. ليس لدي ما يكفي من الحب الذي عليه أن يوجد بين الديلر وزبون الديلر. هذه مجرد خدمة من أجلها إذن. لا أكثر. على الأرجح سيفصلونني إن عرفوا أني أفعل هذا من أجلها، لكنها مجرد خدمة كما قلت. نعم، أنا طيب القلب هكذا. بالإضافة إلى إنني لا أبالي إن فصلوني. في الحقيقة، لا يروق لي أن أُفصل. لا أبالي إن حدث، لكن فقط لا يعجبني أن أُفصل. أفضِّل أن أترك العمل بنفسي. تأتي هنا منذ فترة طويلة الآن. إلى حد ما. سألتني منذ شهر أو نحو هذا إن كنت أعرف كيف أحصل على حشيش جيد. جلبته لها أربع مرات بالفعل، أفضل حشيش في هذه المدينة. ذهبت إلى الديلر المسمى البروفسير، وحصلت عليه من أجلها. تدخن كثيرًا، هذه المرأة الشابة. أظن أنها تدخن عدة مرات في اليوم. قالت لي إنها اعتادت أن تدخن الوييد. كانت تعيش في أمريكا حيث الحشيش غير شائع، وغالي جدًا إن وجدته. يدخنون الوييد هناك، قالت لي. الوييد مثل البانجو، أضافت. أنا شخصيًّا أدخن البانجو على ما يرام، لكني أحب الحشيش أكثر. أخبرتها أني لم أدخن الوييد من قبل، لكني أعرفه، أعرف به. يدخنونه كثيرًا في الأفلام. نعم، أشاهد الأفلام الأجنبية، ويحدث أن أرى الناس في الأفلام الأجنبية يدخنون تلك الجوينتات الرفيعة. أنا في الحقيقة خريج جامعة، وحين يأتي الأجانب إلى القهوة، أتحدث معهم بالإنجليزية. أقول، “هاي، هاو كان آي هيلب يو؟” إن كنت تتساءل لم أعمل في قهوة، وليس في مكتب ما أو في شركة – حسنًا، من الواضح أنك لا تعرف الحال هذه الأيام. لا يبدو أنك على صلة بالمجتمع. اعتدت أن أعمل في القهاوي في أثناء الصيف. الآن أفعل هذا طيلة الوقت. الأمر على ما يرام. أكره الوظائف على أي حال. أكره العمل. لا يوجد أكثر من القهاوي في هذه المدينة. لهذا، يمكنني أن أترك العمل، وأجد قهوة أخرى كي أعمل فيها. ليس الأمر كما لو كانوا يطلبون منك سيرتك الذاتية وخطابات توصية. فقط عليك أن تُظهر لهم أنك تعرف ما تفعل، وأنا أعرف ما أفعل. نعم، أنا شخص يمكن أن تدعوه جيد من أجل لا شيء، وإن دعوتني هذا، لن أبالي. قد تقصد أن تهينني، لكن من يهتم! العديد من الفتيات قلن لي هذا بالفعل، لأنني لا أريد أن أتزوج. أقول، “دعينا نُبقي الأمر بسيطًا ولذيذًا.” لا يهم. لا شيء يهم. أردت فقط أن أساعدها، بالحشيش هذا ما أعني. حين أتت إلى هنا في البداية، بدت مثل شابة تعيسة في فيلم أمريكي. فكرت أنها لا بد تمر ببريك أب أو بشي كهذا لأنها بدت مثل الشابات في الأفلام الأمريكية حين يكن شابات تعيسات بعد انفصال. رأيتها حتى في خيالي تأكل آيس كريم وتبكي، ثم تتصل بإحدى صديقاتها كي تقول “أنا آكل آيس كريم وأبكي، يا نورا! العالم مجرد دمعة تسقط من عيني، يا نورا!” إنها جميلة حقًا، هذه التريزا. أعني، لم يترك أي رجل امرأة مثلها؟ بعض الرجال لا يقدرون ما لديهم. كنت لأسألها أن نخرج معًا إن كانت الأمور مختلفة. حسنًا، يمكنكم أن تقولوا إني لا أواعد النساء من خارج طبقتي. يمكنكم القول إن لدي جرعة عالية جدًا من الوعي الطبقي داخلي. لهذا، لم أكن لأخرج مع امرأة تعيش في هذا الحي البرجوازي. هكذا، على أي حال، سألت إن كنت أستطيع أن أحصل على حشيش جيد، وقلت “نعم، أستطيع” سألت إن كنت أستطيع أن أحصل لها على البعض منه. هل كسبت مالاً من هذا؟ ماذا تعتقدون، فعلًا يعني؟ هذا أمر يجب توقعه، لا؟ حصلت لها على الأشياء، وسألتني كم كسبت من هذا، وأخبرتها “هذا في حدود المعقول” أخبرتني. “فرانكي” قالت “تعرف أن لا شيء يأتي من لا شيء” إنها امرأة عاقلة، وتفهم العالم. إلى حد ما تفهم طرق العالم، مساراته، حين لا يكون ميتًا، أو مخمورًا، أو عاليًا، في فردوس اصطناعي، العالم. هذا ما اعتقدت. لكن لنقل إني لست النادل، بطبيعة الحال، لست، وإن تريزا حصلت على حشيشها، بشكل ما، يخصها هي، بطريقة ما، تخصها، وهذا هو المهم على أي حال. هي الآن فقط تدخن الشيشة، تأخذ رشفات صغيرة من شايها، وتنتظر أن يأتي النهار. أوه! تقرأ أيضًا الكتاب الذي أحضرته معها. عادتها أن تجلس هناك، مع الشيشة والشاي، وتقرأ. لا أعرف أي كتاب تقرأ اليوم. كيف لي أن أعرف؟ لا نعرف المجهول أليس كذلك؟ إنه بالإنجليزية رغم هذا، كالعادة. الكتب التي تقرأها دائمًا أجنبية، بالإنجليزية. القهوة هادئة. شارع 9 هادئ. السماء تبدأ في إلقاء بعض الضوء الغامض ما يزال على عالم جديد. الأرض فردوس مفقود. أغلب ناس هذه المدينة لم يعودوا بعد من أرض الأحلام. أنا نادل، نعم أنا كذلك، لكن ما زال بمقدوري أن أصف الأشياء. ما يزال بمقدوري حكي القصص. لهذا، ها أنا أحكي لكم، أقول لكم، إن، تريزا هادئة الآن. نوبة ذعرها، بسلام مرت. يوجد ما يكفي من الحياة من حولها كي تهدأ مخاوفها، عن العالم، عن مستقبل القهوة، عن الإنترنت. بعد هذه الرحلة الملحمية من شارع 260 إلى شارع 9، تعرف أن الأرض ما تزال سارية الصلاحية، لم تفسد، لم تتعفن، بعد. لهذا، هي أكثر هدوئًا الآن. ربما الكتاب ساعد أيضًا. ربما تقرأ رواية واقعية تطمئنها على أن العالم يوجد ومن الممكن إعادة إنتاجه في أرض الفيكشن. الروايات الواقعية جيدة من أجل هذا. تطمئن. تقول، هيا، هيا، العالم موجود، وها هو، هيا، هيا يا شراميط، العالم جدًا موجود. الواقعية – مُدِحت. نوبة الذعر – بُدِدت. السعادة – على طريقها. طرق تريزا، مساراتها، من شقتها الصغيرة إلى القهوة – حصلتم عليها. تدفع وتغادر. مهمتي – تمت. اسمي؟ وراء العقل أن أقول. فرانكي؟ أوه، نعم، دعتني هذا. اسم مستعار لطيف. تذهب إلى بائع الفاكهة في شارع 9، بالقرب من القهوة، إلى يمينها، إلى يسارها، القهوة، يعتمد هذا على منظورك، على أين تضع نفسك بالنسبة إلى العالم. الرجل هناك نصف نائم. نصف توقظه لأنه نصف مستيقظ بالفعل. تشتري الكثير من الفاكهة. “ثانك يو، فرانكي،” تقول لبائع الفاكهة، وتغادر. تعرف أنها تجوع جدًا حين تدخن الحشيش. سوف تلف سيجارة بمجرد أن تعود إلى البيت. تحب اللف، تعريض جزء من الحشيش إلى الشعلة، تفتيته، نثر الفتات اللينة ما زالت فوق التبغ، خلط العنصرين، عنصري الجوينت، جيدًا في النهاية. لا، النهاية هي اللف ذاته. لسانها يبلل الشريط اللاصق من الورقة. يدها تضغط كي يلتصق. عيناها تنظران إلى الجوينت المكتمل الآن. بالحب. أحيانًا تجد الجوينت هذا المكتمل ممتعًا بصريًّا، أحيانًا أكثر في متعته البصرية من أن تدخنه. ما الذي يحدث لجوينت ممتع بصريًا حين يُدخَّن في مدينة غير ممتعة بصريًّا؟ أحيانًا تسأل نفسها. تحتاج إلى أن تأكل حين تعلو. سوف تعلو ثم تأكل بعض الفاكهة. أوه، نسيت. سيكون لديها أيضًا سندوتشات الفول التي ستشتريها في طريق عودتها. ستستمني بينما تدخن أيضًا. ربما تفعل. لا، لا ربما هنا. دائمًا تفعل. الأكثر خصوصية من بين أجزائها الخاصة تصبح حساسة جدًا حين تعلو، تعلو استجابتها حين تعلو، ولن تريد أن تبدد هذه الحساسية العالية، هذه الاستجابة العالية. أوه، الطيور الآن، الطيور، ماذا تريد الطيور من العالم الآن؟ أو لن تفعل. أو، ستبددها، الحساسية، الاستجابة اللعينة. سوف تفكر في روميو فياسنيور. لنقل إن أيًا ما ستفعل ليس من شأننا.