روزفلت مونتاس: ماذا يمكن أن تقدم الكتب العظيمة للمحرومين؟

أدوات تخريب الهرم الاجتماعي

سها السباعي ترجمة
كاتب المقال: روزفلت مونتاس؛محاضر أول في الدراسات الأمريكية واللغة الإنجليزية بجامعة كولومبيا، ومدير برنامج "الحرية والمواطنة" في مركز الدراسات الأمريكية. وهو مؤلف كتاب "إنقاذ سقراط: كيف غيرت الكتب العظيمة حياتي ولماذا هي مهمة لجيل جديد" (2021). والنص منشور في موقع إيُون aeon في عدد 21 يناير 2022؛ تحت عنوان: الكتب العظيمة مازالت عظيمة

كنت طالبًا في المدرسة الثانوية، وما يزال إتقاني للغة الإنجليزية متزعزعًا، حين وجدت مجموعة من حوارات أفلاطون في كومة قمامة بالقرب من منزلي في حي كورونا بمنطقة كوينز. نشأت في بلدة جبلية في جمهورية الدومينيكان وهاجرت إلى مدينة نيويورك قبل عيد ميلادي الثاني عشر بقليل. كانت والدتي قد غادرت جمهورية الدومينيكان قبل بضع سنوات، وأمَّنت الوظيفة الوحيدة التي تمكنت من الحصول عليها، لتكسب الحد الأدنى للأجور في مصنع ملابس، وقدمت التماسًا كي أنضم أنا وأخي إليها. في عام 1985، التحقنا بنظام المدارس العامة المكتظة بمدينة نيويورك، حيث وفرت وجبات الغداء المجانية جزءًا كبيرًا من قوتنا. كنا مثل كثير من المهاجرين، فقراء، ظهورنا مكشوفة، ومرتبكين جراء اقتلاعنا من جذورنا.
لم تكن بداية ميمونة للمسيرة المهنية التي كنت سأحظى بها كطالب ومسؤول أكاديمي وعضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات المرموقة. لكن الرحلة المتقلقلة أصبحت، في مرحلة ما، أقل إعاقة وأكثر فرادة من منظور واسع متميز يمكن من خلاله التفكير في العالم الفكري والاجتماعي الذي دخلته. تغذى تطوري بالتعليم بما يسميه بعض الناس “الكتب العظيمة”. لقد جعلني هذا التعليم حساسًا تجاه النقد المؤثر ثقافيًا لـ “القانون المقدس” الذي يصر على أن هوميروس، وسوفوكليس، وأفلاطون، ومونتين، وسيرفانتس، وجوته، وهيجل، ودوستويفسكي، وولف، وآخرون، ليسوا لأشخاص مثلي، بل للبيض، أو الأغنياء، أو الأشخاص الذين ولدوا بامتيازات طبقية افتقرت إليها.

في مجموعة محاورات أفلاطون التي أنقذتها من كومة القمامة في تلك الليلة الشتوية في كوينز، صادفتُ رجلاً مسنًا يُدعى سقراط في أيامه الأخيرة. كان يدافع عن نفسه ضد اتهامات إفساد الشباب وإدخال آلهة جديدة إلى المدينة. واحتج قائلاً “رجال أثينا، أنا ممتن وأنا صديقكم، لكن… ما دام بي نفس يتردد وما دمت قادرًا، فلن أتوقف عن ممارسة الفلسفة، وعن أن أهيب بكم… [يسأل] ألا تخجلون من لهفتكم على امتلاك “قدر ما تستطيعون من ثروة وسمعة وأوسمة، بينما لا تهتمون ولا تفكرون في الحكمة أو الحقيقة، أو أفضل حالة ممكنة لأرواحكم؟

بنهاية مجموعة المحاورات، نجده في السجن في اليوم المحدد لإعدامه، “بهدوء وسهولة” يشرب السم، يستلقي، ويموت: “كانت هذه نهاية رفيقنا”، كما يقول الراوي بضمير المتكلم، “رجل، يمكننا أن نقول، إنه كان الأفضل من بين كل من عرفناهم، وأيضًا الأكثر حكمة واستقامة”. لم أكن بحاجة إلى أن أكون غنيًّا، أو صاحب امتيازات، أو مثقفًا لأجد في تلك الكلمات شيئًا يخاطب أعمق معاني كياني. ولم أكن بحاجة إلى أن أكون أبيض أو أوروبيًّا حتى أذهل من الزعم بأن “حياة لم تُختبر لا تستحق أن تُعاش”.

في كل صيف منذ عام 2009، استخدمت هذه الحوارات الأفلاطونية نفسها لتعريف طلاب المدارس الثانوية من ذوي الدخل المنخفض، الذين يأملون في أن يكونوا أول من يلتحق بالجامعة في عائلاتهم، بالتقاليد الفلسفية والأخلاقية والسياسية التي ألهمها سقراط. في كل عام، أرى طلابي مهيئين لاختبار ذاتي جاد، وفي كثير من الحالات، لإعادة توجيه حياتهم بإخلاص  واستمرار. إنهم لا يرون ثيوسيديدس، وأرسطو، وهوبز، ولوك، والنصوص الأخرى التي ندرسها، كائنات غريبة تنتمي إلى آخرين، ولكن مفكرين يتحدثون بصوت حي عن قضايا ملحة وذات صلة بتجربتهم الخاصة. مرة بعد أخرى، أرى هؤلاء الشباب يفيقون على مصدر تقدير الذات ومعنى غير مكبل بالقيود المادية التي اكتنفت حياتهم بطريقة أخرى.
تضيع القوة التحررية لـ “القانون المقدس” بسهولة في الضباب النظري للعلوم الإنسانية الأكاديمية. في الوقت نفسه، كانت مؤسسات التعليم العالي على استعداد تام للتخلي عن فكرة التعليم الليبرالي -التعلم كهدف في حد ذاته- لصالح الدراسات المهنية والمتخصصة. لكن الكلاسيكيات القديمة لا تزال تتمتع بالقدرة على تحفيز الشباب وتغييرهم بطرق لا يستطيع أي تعليم تقني القيام بها. لا يتعين علينا تخفيف القيمة العملية للتعليم العالي أو تجاهل رؤى العلوم الإنسانية الأكاديمية لاستعادة حيوية التعليم المتحرر في كلياتنا وجامعاتنا.

في عامي الأخير بالكلية، حضرت حلقة دراسية عن الأدب المقارن مع أستاذة الأدب جاياتري سبيفاك. في ذلك الوقت، كنت منغمسًا فيما يُسمى على نطاق واسع “نظرية”، وملهمًا بالتفكيكية الفرنسية، كنت أكتب رسالة علمية عن أطروحة القديس أوغسطين حول التفسير الإنجيلي De doctrina christiana (c397-426 CE). كنت متحمسًا بسبب فرصة الدراسة مع الأستاذة سبيفاك، التي ترجمت عمل جاك دريدا المبتكر عن النقد التفكيكي: Of Grammatology (1967).

ونحن نقترب من منتصف الدورة الدراسية، بدأنا قراءة مسرحية الملك لير لشكسبير. في قاعة الدرس، طلبت الأستاذة سبيفاك منا أن نقرأ بعض المقاطع بصوت عال، مع إصرارها على أن نحترم المقياس خماسي التفاعيل الذي تتميز به المسرحية-ذي المقاطع الخمس المشددة والخمس غير المشددة في كل بيت. هكذا، في المشهد الافتتاحي الذي بلغ الذروة حين طلب الملك لير من كورديليا أن تتفوق على شقيقتيها في التصريح بحبها له، لفتت الأستاذة سبيفاك انتباهنا إلى السكتات المنذرة-النبضات الفارغة- في الخماسي:

لير: أنتِ التي تتنافس على وصالك

كروم فرنسا ومراعي برجنديا

ما الذي بوسعكِ أن تقوليه لتنالي

ثلثًا أغنى وأترف من أختيكِ؟ تكلمي.

كورديليا: لا شيء، يا سيدي.

لير: لا شيء؟

كورديليا: لا شيء.

لير: لا شيء يأتي من لا شيء، تكلمي مرة أخرى.

جعلتنا نقرأ المقطع عدة مرات، حتى تعلمنا التوقف وترك نبضات المقياس تقوم بعملها المدمر. “لا شيء يا مولاي.” وقفة. “لا شيء؟” وقفة أطول. “لا شيء” وقفة طويلة مرة أخرى.

كيف شعرت أن حبي لشكسبير كما لو أنه شيء قذر؟

‎⁨أول نسخة مطبوعة لمسرحيات شكسبير⁩

في مرحلة ما، عند القراءة من مشهد آخر، توقفت البروفيسور سبيفاك، ووضعت الكتاب، وقالت بنبرة تقع في مكان ما بين اعتراف وتنهد “أنا آسفة، أنا أحب شكسبير. أنا آسفة”، واستأنفت قراءتها. شعرت بالارتياح لأنها، وهي المنظرة النسوية الشهيرة لما بعد الكولونيالية، يمكن أن تقول هذا، وأن قراءتنا لشكسبير لن تكون مجرد استكشاف للطرق التي كان بها نتاجًا وناطقًا باسم الخطابات ذات التوجه الأبوي والأوروبي والإمبريالي. كنا نقرأ أيضًا شكسبير الذي كان محبوبًا، ونشهد دراما عائلية لمست إنسانيتنا المشتركة. أنا أيضًا أحببت شكسبير، وكانت البروفيسور سبيفاك تمنحني الإذن للاعتراف بذلك. عبر أربعة قرون وصدوع ثقافية متعددة، كانت الشرارات التي تتطاير من نص شكسبير هي التي أضاءت شعوري الكامل بالذات.

بعد الشعور بالارتياح، فاجأتني أيضًا ردود أفعالي المعقدة تجاه إفصاح البروفيسور سبيفاك نصف المحرج. كيف شعرت بتلك المحبة لشكسبير وكأنها شيء قذر؟ هل اتخذت منحى خاطئًا في مكان ما، مثل حاجّ دانتي، وأصبحت متورطًا في أجمة من الارتباك، بعد أن “فقدت الطريق الذي لا يضل”؟ كيف يمكنني التوفيق بين المواجهات التي غيرت حياتي و”الكتب العظيمة” التي كنت قد حصلت عليها في المناهج الأساسية لجامعة كولومبيا مع الإحساس السائد بين المفكرين الأدبيين الذين أعجبت بهم كثيرًا بأن هذه النصوص كانت ملوثة أخلاقيَّا وأن تقييمها على أنها “عظيمة” كان تواطؤًا على إثم؟
ساد اقتناع واسع الانتشار بين باحثي الأدب مفاده أنه لا يوجد شيء اسمه كتاب عظيم. لصياغة الأمر على نحو أفضل، سادت وجهة نظر في العلوم الإنسانية الأكاديمية أنه لا أساس يمكن للمرء أن يستند إليه لإصدار أحكام قابلة للتعميم حول عظمة كتاب ما. يمتد الادعاء إلى الأعمال الفنية بشكل عام. للوهلة الأولى، قد يبدو هذا غريبًا- ما الغرض من المتاحف، إن لم يكن تمييز وعرض الأعمال التي تحظى باهتمام خاص؟
لكن التحدي الذي تواجهه فكرة “العظمة”-التحدي المتمثل في منح قيمة هرمية لأشكال التعبير الثقافي-ليس مُحالاً كما قد يبدو للوهلة الأولى. إذا أشار المرء، على سبيل المثال، إلى الصفات الجمالية لعمل ما، فيجب على المرء أن يأخذ في الحسبان حقيقة أن الصفة الجمالية يصعب تحديد رأي دقيق بشأنها، وأن المحاولات التي تعود إلى العصور القديمة فشلت في إعطائنا معيارًا موضوعيًّا يمكن الحكم من خلاله. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُختزل الأحكام الجمالية بسهولة إلى التفضيلات الفردية، التي، مع أنها ربما تكون متناغمة بدقة مع الأعراف الاجتماعية السائدة، فإنها في الواقع نتيجة لأنواع معينة من التعليم. بعبارة أخرى، من الصعب انتشال القيمة الجمالية من التحيز الثقافي و”الأرستقراطي”.
قد يبرر المرء أيضًا الحكم بالعظمة على كتاب أو عمل فنيٍّ بالإشارة إلى تأثيره على تقليد فكري أو إلى تأثيره على كيفية رؤيتنا للعالم. في تلك الحالة، قد يجادل المتشكك المتكلف نظريًّا بأن مثل هذه الأحكام القيمية لا تشير إلى أي شيء جوهري في العمل، ولكن إلى تكوين تصادفي تاريخيًّا للنفوذ الاجتماعي، الذي، كما قد يضيف الناقد الضميري، لا يمكن فصله عن أشكال الاضطهاد والإقصاء والهيمنة الماثلة في عالمنا المعاصر. في هذه القراءة النقدية، تُساند معنويًّا أشكال نخبة القوة الثقافية المتجسدة في قيم “العظمة” باستغلال “الآخر” وتجريده من إنسانيته. وتحمل هذه الانتقادات المناهضة للتأسيس لـ”العظمة” إيحاء ضمنيًا قويًّا بأن أي تسلسل هرمي للقيمة الفنية ربما يكون متواطئًا في فساد أخلاقي. الباحثون الصاعدون الذين يؤيدون القيمة الخاصة لأعمال معينة، خاصة الأعمال التي تحظى بالاعتراف الأدبي، يفعلون ذلك معرضين نهاية حياتهم المهنية للخطر. في الدراسات الأدبية المعاصرة، من الأفضل التمسك بالنقد-لا سيما عندما يتعلق الأمر بالكتب القديمة.

الأعمال العظيمة عظيمة لأنها تتسم بقدرة واضحة لكنها مراوغة على إلقاء الضوء على إنسانيتنا المشتركة

لكن دون التقليل من رؤى نظرية نقدية، يمكننا احتواء قوتها المشلولة عن طريق تحاشي أي جهد لتعريف كتاب عظيم-أو كلاسيكي-بالإشارة إلى شيء من جوهر محدد، سواء كان جماليًّا أم إيديولوجيًّا أم تاريخيًّا. يمكننا ببساطة إجراء مسحٍ لمجموعات النصوص التي وصلت إلينا خلال بضعة آلاف من السنين من السجلات المكتوبة وملاحظة أن أعمالًا معينة، دون غيرها، أظهرت قدرة على إلقاء الضوء على حياة أنواع مختلفة من البشر في كثير من الملابسات التاريخية المختلفة. تجاوزت هذه الأعمال بطريقة ما ظروف إبداعها- تحدثت ضمن وقتها، ولكن أيضًا فيما وراءه. لستُ بحاجة إلى فهم الكثير-أو إلى أي شيء، حقًا- حول الصراعات السياسية في فلورنسا القرن الرابع عشر، الحاضرة في كل مكان كما هي في الكوميديا الإلهية لدانتي، لجعل هذا العمل يلهم تأملًا أعمق لإنسانيتي، بدءًا من استحضارها لشخص يصل إلى مرحلة حرجة في رحلة الحياة التي نسافرها جميعًا:

عندما قطعت نصف طريق حياتنا،

وجدت نفسي داخل غابة ظليلة،

لأني أضعت الطريق الذي لا يضل.

ما يجعل دانتي مرشحًا لـ “العظمة” الأدبية ليس انغماسه في لاهوت الكنيسة في العصور الوسطى، أو في الدسائس الفئوية لسياسات وسط إيطاليا، بل بالأحرى قدرته على الكشف، في خضم تلك المصائد، عن شيء له مغزى على نحو حيوي، على سبيل المثال، لشخص دومينيكانيّ غير مؤمن من القرن الحادي والعشرين يعيش في الولايات المتحدة. ومن المنطلق ذاته، ليس انغماس توني موريسون في تراث العبودية الأمريكية هو ما يجعل رواياتها آسرة-ونعم، رائعة- بل قدرتها على جعل هذه التجربة الإنسانية حية وفي متناول شخص ليس له أي صلة تاريخية بها. الأعمال العظيمة عظيمة بسبب القدرة الواضحة والمراوغة في الوقت نفسه على إلقاء الضوء على إنسانيتنا المشتركة. إنها الصفة الغامضة التي وجدها واعظ يبلغ من العمر 15 عامًا في هارلم يُدعى جيمس بُلدوين في سياق القراءة التي “بدأت، قدريًّا، مع دوستويفسكي” والتي أدت إلى “تقوُّض” إيمانه بالعقيدة الخمسينية البروتستانتية.
لا يحتاج المرء إلى افتراض جوهر ميتافيزيقي للطبيعة البشرية كي يدرك أن جميع الناس يشتركون في أوجه تشابه أساسية-من منظمة بيولوجية محددة، إلى بنية جينية محددة، إلى أشكال محددة من الإدراك، إلى الحالة الوجودية للعيش مع الوعي بالموت. يمكن الاحتفاظ برؤى نظريةٍ نقدية من دون التخلي، في الوقت نفسه، عن الأرضية التي تُشكل عليها أحكام حول كيف يمكن أن تلقي الأعمال الفنية الضوء على تجربتنا الإنسانية المشتركة. ويمكننا أن نُسَرَّ بالحقيقة المدهشة المتمثلة في أن الفن يصور هذه القواسم المشتركة على وجه التحديد من خلال إبراز أضدادها-الفردية والذاتية والخصوصية.
ينبع جانب واضح من قواسمنا المشتركة-وعدم تجانسها- من شعورنا بأنفسنا كأفراد مستقلين، كائنات قادرة على ترتيب حياتنا وفقًا لمفاهيم ذاتية لمصلحتنا. هذه القدرة على تقرير المصير تضع في مكان بارز، بالنسبة لنا جميعًا، السؤال في صميم جمهورية أفلاطون، الذي يمكن القول إنه النص التأسيسي في الفلسفة الغربية. ففي الصفحات الافتتاحية للجمهورية، يجد المرء سقراط يناقش السفسطائي ثراسيماتشوس حول طبيعة العدالة. يجادل ثراسيماتشوس بأن العدالة هي ببساطة دالَّة للقوة-“ميزة الأقوى”-وأن أصحاب سلطة هم من يضعون شروط ما يعتبر عادلاً وغير عادل. أفضل سبيل للعمل، كما يجادل ثراسيماتشوس، أن يتصرف المرء “بعدل” من أجل تجنب عواقب مخالفة سلطة متفوقة، لكن يتجاهل معايير “العدالة” ويسعى وراء منفعته كلما أمكن ذلك.  يحاول ثراسيماتشوس ترك المناقشة بعد ذلك، غير راغب في الخضوع لاستجواب سقراط، لكن سقراط يتوسل إليه أن يبقى، سائلاً “هل تعتقد أن تحديد طريقة كاملة للحياة التي ستجعل العيش أكثر فائدة لكل منا مسألة تافهة؟” هنا القلق المحفز للجمهورية، وفي الواقع، السؤال الأساسي لكل من الفلسفة والدين.
في قصة من “شريعة بالي”، المجموعة القديمة من التعاليم البوذية، يصوغ بوذا السؤال نفسه بطريقة لا تُنسى. أثناء زيارة الملك باسنادي ملك كوسالا له، يسأله بوذا عن مكان وجوده فيجيبه الملك-أنا أعيد الصياغة- “كنت أفعل أشياء ملكية نموذجية، شؤون الدولة وما شابه ذلك”. ثم يطرح بوذا السيناريو التالي: ما رأيك أيها الملك العظيم؟ لنفترض أن رجلاً سيأتي إليك من الشرق، شخص جدير بالثقة ويمكن الاعتماد عليه، وسيخبرك: “بالتأكيد، أيها الملك العظيم، يجب أن تعرف هذا: أنا قادم من الشرق، وهناك رأيت جبلاً عظيمًا مرتفعًا كالغيوم قادم من هذا الطريق، ساحقًا كل الكائنات الحية [في طريقه]. افعل ما تعتقد أنه يجب فعله.

يتبع هذا الرسول ثلاثة آخرون، من الغرب والشمال والجنوب، يحمل كل منهم الأخبار المروعة نفسها عن اقتراب وقوع كارثة. في مواجهة مثل هذه البلوى، يسأل بوذا، “ماذا يجب أن نفعل؟” أجاب الملك باسينادي بعبارات مبتذلة “ما الذي يجب فعله غير العيش وفق الدارما [تعاليم بوذا]، العيش باستقامة، وفعل أعمال نافعة وتستحق الثناء؟”. عند ذلك يقدم بوذا تعاليمه المذهلة والبديهية في آنٍ واحد: أنبئك، أيها الملك العظيم، أصرح لك أيها الملك العظيم: الشيخوخة والموت يدنوان منك. عندما يدنو منك الموت والشيخوخة، أيها الملك العظيم، ما الذي يجب فعله؟

عندما أدرِّس “كتبًا عظيمة” لطلاب جامعة كولومبيا الذين يكملون المنهج الأساسي المطلوب نفسه الذي أخذته قبل 30 سنة والذي يتكون، تقريبًا، من الأعمال المعترف بها في التقاليد الغربية، غالبًا ما أطلب منهم طرح هذا السؤال-“عندما يدنو منك الشيخوخة والموت، ما الذي يجب فعله؟- في اللقاءات الفكرية التي ستجرى في الدورة الدراسية. يتردد صدى السؤال دائمًا لدى الطلاب. صحيح أنهم يأتون إلى الكلية لتحسين فرص عملهم واكتساب مهارات قابلة للتسويق، لكنهم يواجهون أيضًا معضلات وجودية ويبحثون عن طريقة لا لتوجيه مسيرتهم المهنية وحسب لكن حياتهم أيضًا.

لا يُسعى للتعليم الليبرالي لخدمة الأهداف التأديبية أو المهنية أو الوظيفية

التعليم الليبرالي هو نهج للتعلم يلفت الانتباه لحالتنا الوجودية. يأخذ على محمل الجد فكرة أن البحث العقلاني في الأسئلة الأساسية للحياة هو سعى جدير بالاهتمام لكل واحد منا. ربما لا توجد أداة أقوى لمثل هذا البحث من المناقشة المفتوحة، في مجموعات صغيرة من القراء المتفانين، للأعمال المؤثرة من ماضينا الأدبي والفلسفي.
في الولايات المتحدة ، تتضمن معظم درجات البكالوريوس إشارة إلى التعليم الليبرالي في شكل متطلبات التعليم العام-مجموعة من الدورات الدراسية خارج تخصص الطالب أو مجال تركيزه وتهدف إلى توفير أساس مشترك للمعرفة والمهارات للجميع. التعليم العام ليبرالي من حيث أنه لا يخضع لأي هدف مهني أو وظيفي محدد، لكنه يركز على الكفاءات العامة المطلوبة في جميع المجالات. لكن بعد التطورات النظرية في العلوم الإنسانية التي وصفتها أعلاه، تحولت برامج التعليم العام في معظم الكليات الأمريكية إلى خليط من متطلبات التوزيع، وتهدف غالبًا إلى ما هو أكثر قليلًا من تعريف الطلاب بمجموعة متنوعة من المعارف الأكاديمية خارج التخصص. ومع ذلك ، فإن التعليم الليبرالي هو على وجه التحديد تعليم يُسعى إليه لخدمة الأهداف المعرفية أو المهنية أو الوظيفية. يقترب النهج النظامي للتعليم الليبرالي من تناقض لفظي، لا سيما عندما تخلت التخصصات الإنسانية إلى حد كبير عن فكرة البحث العقلاني في الصالح الإنساني كشكل من أشكال التعليم.
إذا كان نهج التعليم الليبرالي الذي أصفه يبدو مثل التعليم التقليدي للنخب الاجتماعية، فذلك لأن التعليم الليبرالي يشبه ذلك إلى حد كبير. وهذا، بحد ذاته، ليس سببًا لرفضه. في الحقيقة، تصوير التعليم الليبرالي باعتباره مجرد تأثير على الامتياز هو على وجه التحديد إدامةٌ لهياكل السلطة الاجتماعية التي أصاب وباؤها مجتمعنا غير المتكافئ لفترة طويلة، ووضع أدوات حاسمة للفاعلية الاجتماعية والسياسية والشخصية بعيدًا عن متناول أولئك الذين يحتاجونها أكثر من غيرهم.

وجهة نظري بسيطة: امنح “المحرومين” إمكانية الوصول إلى الثروة الثقافية التي كانت لفترة طويلة في نطاق حصري للنخبة، وستكون قد أعطيتهم الأدوات التي تمكنهم من تخريب التدرجات الهرمية الاجتماعية التي أبقتهم في أسفل. يلي ذلك تزويدهم بالمهارات القابلة للتسويق ووسائل التقدم الذاتي الاقتصادي  هذا العمل التعليمي الأعمق هو أعظم هدية يمكن للكليات والجامعات أن تقدمها للشباب. إنها أيضًا أهم مساهمة يمكن أن تقدمها لمجتمع ديمقراطي.

..

‎⁨لوحة الغاف: لجوناثان ولستنهولم⁩