قنبلة في الرأس

ثورة الشباب

وائل عبد الفتاح

التاريخ كتلة مصمتة؛ اعتدنا أن نستقبلها كما لو كانت رسالة من قمة جبل يسكنه آلهة مجهولون، نشعر بها ونحن نتجول في الجسم المصمت. تجول الزائرين الغرباء في معابد حكاية مقدسة. وهذا سر إرتباط التاريخ بمشاعر الثقل والغفلة و”عدم الاقتراب واللمس”،
عادة تدوِّن سلالات القوة الحاكمة التاريخ. وسواء كانت مهزومة أو منتصرة، فالمنهج المختار لكتابة التاريخ هو الحذف؛ وتحديدًا حذف التفاصيل المقلقة لانسجام الرواية.

..وهنا تسعى “مدينة” لتعريض التاريخ للمس..
وفي بابها الجديد “تواريخ شخصية” تحفر وراء المحذوف، والمنسي، أو كل ما هو مرتبط بالشخصي. وتنتظر “مدينة” منكم المشاركة في كتاب التاريخ، بحكاياتكم، بمساراتكم، التي لا تعنيها القداسة، في بطون جبال تسكن الآلهة قممها، فلربما ينتج عن هذا تفكيك للكتلة المصمتة، أو على الأقل توسيعها!

محاولتنا الأولى مع “ثورة الشباب” التي تناثرت أحداثها بين براغ وفرنسا وإيطاليا وألمانيا والقاهرة بداية من 1968، وكان لكل حدث طابعه الخاص، لكنها تشترك جميعًا في الاحتجاج على استمرار “جيل صناع الكوارث”  في التحكم بالسلطة.ومن ربيع براغ (1968) الذي كان هدفه تخفيف قبضة السلطة السوفيتية، وحتى الحركة الطلابية في مصر (1968 و1972) مرورًا بحركة الطلاب من باريس إلي روما و برلين في مايو 1968، كان هناك هذا الملمح؛ الاحتجاج على “قدر الشيخوخة”.

نقرأ كثيرًا عن كل حدث، لكننا، في مدينة، ننشغل بالحكايات الشخصية المتنوعة، ونفتح المجال أمام مشاركاتكم؛ بالكتابة أو بالصور أو بالصوت…

شاركونا تواريخكم الشخصية…

ونبدأ بحكاية عادل السيوي عن المسافة بين حركة مايو ١٩٦٨ في أوربا و الحركة الطلابية في مصر ١٩٧٢

عادل السيوي كتب على هذه الصورة:
صيف سنة 1971. عملت جرسوناً في مطعم جاليوس اليوناني على شاطىء لوتراكى، 30 كم من أثينا.
كانت أول تجربة فى الإبتعاد عن الأسرة والحي والأصدقاء ..والتي اتاحت لي اللقاء بمن شاركو وتأثروا وصنعوا أحداث ربيع 68
بدأت الإقتراب من عبد الواحد عسكر و تفهم أفكاره وإختياراته …

1

الشَعْر المجنون

لم تكن قصَّات الشَعْر في السبعينيات مجرد موضة عابرة، بل كانت إعلان تمرد على كل شيء. كل شيء فعلاً. 

عادل السيوي أهم فناني التصوير Painting الآن ، ولادته كانت مع وصول “الضباط الأحرار “ للسلطة في 1952، وكان أحد الذين أطلقواالشَعْر المجنون ..الهائج الممتد كأنه غطاء ضد تعليمات هابطة من السماء..أو شجرة تنمو بلا كوابح.. كأنها قنبلة انفجرت من الرأس.

هذه صور الجامعة التي اقترب من أبوابها في لحظة نادرة؛ تقريبًا في 1970، حين وصلت إلى مصر أصداء ثورة 1968 في أوروبا، وتزامنت معها حركة طلابية رافضة لهزيمة يونيو 1967. لحظات غيرت نظرة الإنسان لنفسه ولمكانه ولعلاقته بكل شيء، من السياسة إلى العائلة وحتى الحب واللذة المحرمة. لحظات للأسئلة حول معنى الأخلاق والهوية والتحقق.

وقتها كان التفاؤل سائدًا إلى حد كبير بأن العلم سيقود الإنسانية إلى حالة من الرفاهية والتقدم لا حدود لهما. وكان الهواء مشبعًا برغبة البحث عن متع خارج الأطر، وتحرير أفق الحياة من سلطان التقاليد القديمة. هكذا كان حب الحياة و الإيمان بأنه لا حرية سياسية دون حرية شخصية تحرك الجيل المتمرد إلى تكسير كل التابوهات وخلق عالم جديد .

في الوقت نفسه انتشر الرعب من مغامرات أمريكا في فيتنام، وتداعيات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي. شبح الموت وانتهاء البشرية بمجرد الضغط على زر بالمصادفة ( كما كان يمكن أن يحدث في أزمة خليج الخنازير ).  ولم يكن مقبولاً أن يحكم العالم الحكام أنفسهم، ولا عقليات السلطة نفسها التي أدت إلى مأساة الحرب العالمية؛ وراح ضحيتها 80 مليون وتشرد 20 مليون غيرهم.

كانت “ثورة الشباب” مندفعة إلى تحرير الحواس لتحرر العقل من حمولاته الثقيلة.

لحظة انفجار يحكي عنها “كان عندنا طاقة كبيرة جدًا..لم يكن عندنا الحكمة أو القدرة على تنظيم أنفسنا.. فقط طاقة.. العالم كله كان في حالة غريبة..أفكار كثيرة تتخلق وتتكون.. هذه هي اللحظة التي تكون فيها أول جيل عالمي.. أول مرة يتكون جيل له ملامح محددة ومختلفة في كل أنحاء العالم في الوقت نفسه.. عندما أقابل أحدًا من أبناء جيلي هزته هذه اللحظة الخاصة، وفي أي مكان من العالم نتكلم تقريبًا عن الأشياء نفسها، والمراجع نفسها، والأحداث نفسها، والموسيقى والكتَّاب والتعليقات. كنت محظوظًا بأنني من هذا الجيل.. جيل حساسيته ليست قومية فقط، حساسيته واسعة، عالمية.. جيل مشغول بأشياء أبعد من حدوده الضيقة…”

هذه نظرة مختلفة للحدث الذي يختصر في مصر على أنه: تظاهرات طلبة (1972)ضد رئيس الجمهورية (السادات)..لكنها كانت لحظة من لحظات الاكتشاف ومقاومة خطوط السير الطبيعية في اختيارات السيوي؛ طالب متفوق في كلية الطب، مشروع مكتمل له جاذبية اجتماعية ومن المفترض أن تكون شخصية. لكن 1972 أبعدته أكثر عن “الأحلام الأليفة”.
لم يكن انتقالاً سهلاً ..أو تمردًا عجولاً مبنيًّا على فورة حماس مؤقت، إنها مقاومة هادئة انحاز فيها أولاً للخط العميق من 1972.  لكن كيف؟

يحكي “كانت لحظة احتجاج شاملة؛ هتافات في الشوارع؛ وتغيير في الشكل؛ شعرك كبير، طريقتك في ارتداء الملابس مختلفة، وغناؤك مختلف، وعيناك على نماذج أخرى من البشر. بالنسبة لي هذه اللحظة أعطتني انفصالاً أكبر عن زملاء الطب، لأن الحركة كانت في جامعة القاهرة، وكنا وقتها في المستشفى (مبنى قصر العيني الشهير) بعيدًا عن مقر الجامعة، وكنت أشعر بزمالة أكبر مع طلاب “أسرة مصر” (أحد عناصر أساسية في تظاهرات الطلاب سنة 1972) ومجموعة كبيرة نسمع و نشارك في معها في حوارات كبيرة، تذهب للجامعة فتسلم نفسك لحلقات النقاش..كل منها تتكلم عن موضوع؛ سارتر..الدين..ماركسية..وحلقة أخرى تدين السادات وسيد مرعي (أحد الوزراء المقربين من السادات، كان مسئولاً عن ملفات الزراعة والتموين قبل أن يصبح رئيسًا لمجلس الشعب). تخيَّل أن تسير في الجامعة فتسمع مناقشات في الفلسفة والفن والأدب وتناقش كتب، وتقابلك أفكار، وفهم للدنيا. كانت دائمًا ندوات يحضرها نجوم تمثيل في المسرح والسينما مثل كرم مطاوع وسهير المرشدي ومحمود مرسي، وشعراء و فنانين. كانت حالة غريبة جدًا؛ حفلة غناء للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم. أمسية أخرى عن شعر المقاومة، وأتذكر الآن حلمي سالم (شاعر من جيل السبعينيات) وهو يقرأ بانفعال (كما يقرأ إيفتشنكو ) قصائد مترجمة من شعر المقاومة في فيتنام. فترة يكبر فيها الحس السياسي جدًا. تحب مصر وتبدأ في اكتشافها، وتكتشف أن مصر شيء كبير. وترى نماذج أخرى من الطلبة والشباب..أعتقد أن هذه الفترة أخذتني أكثر ناحية اختياراتي…”

أتوقف عند كلمة “الحس السياسي” وأتذكر كلامًا طويلاً دار بيننا عن كراهيته للسياسة: تناقض؟ ازدواجية؟ أم الانتقال بين الضروري والمرغوب؟

وبينما كانوا في أوربا يهتفون الحب لا الحرب، كان طلاب القاهرة يهتفون” الحرب ..الحرب”..الصورة من رحلة جامعية للإسكندرية وفيها عادل السيوي مع زميلات وزميل الجامعة

2

عادل السيوي كما أعتقد هو من فنانين تجذبهم السياسة بشكل ما، لأسباب كثيرة بينها مزاج مرحلة الستينيات بأكملها. وهو ابن طبقة اجتماعية تصعد إلى صدارة المجتمع، بينما تخوض البلد حروبًا على الجبهة العسكرية وتحولات سياسية واقتصادية. هناك أيضًا عامل شخصي وهو ميل الأشقاء الكبار في عائلة السيوي إلى السياسة، هذه عناصر الانجذاب، لكن عادل كان سرعان ما تنتابه رغبة الهرب من صندوقها المغلق .

كان ينجح غالبًا.

ويراوح مكانه عند باب الصندوق أحيانًا.

هو يرى أن “الانجذاب للسياسي هو انجذاب للفعل الجماعي، وللدور المؤثر، أو لفكرة المساهمة في تحقيق العدالة، بينما هناك انجذاب أطول وأقرب هو الانجذاب للفلسفة، حيث تريد أن تدق على أبواب الفهم العميق، وكيف تتحرك الأفكار نفسها..”

لا يجيد عادل التعامل مع الخطابات المغلقة (السياسي أو الديني) وفي 1972 انحاز بشكل كبير إلى “الوجه الثقافي” لحركة الطلاب. كما يبدو من حكايته “كان اهتمامي أكبر بالشعر والكتابة والمسرح. كان في كل كلية نادي سينما، يعرض أفلامًا لا نراها في الدور العادية. كان جوًّا مثل حلة البخار…طاقة تصل إليك من كل جانب؛ أفكار ومناقشات، وأساتذة يحاورون الطلاب. تسمع أشياء من كل مجال. أتذكر جيدًا الناقد الكبير عبد المحسن طه بدر وهو يقرأ شعرًا شعبيًّا عن ليلة شنق زهران.. أتذكره جيدًا وهو يقول “يوم شنق زهران..كانت صعبة وقفاته..أمه تلالي فوق السطح وإخواته”. ويقارنها بقصيدة صلاح عبد الصبور عن شنق زهران، تحدث عن اهتمام عبد الصبور بالشكل وبالفرد، بينما خلق الشاعر الشعبي صورة مرعبة؛ الرجال لا يقدرون على الوقوف، والعائلة فوق سطح، المقارنة ما تزال في رأسي، بصورها ومشاهدها….أحكي لك هذا من ندوة لعبد المحسن طه بدر في أوائل السبعينيات؛ كنت وقتها سعيدًا جدًا باكتشافاتي.. هذه اللحظات جعلتني أكبر بسرعة، نموًا سريعًا…وحساسيات واندهاشات موزعة على مجالات متنوعة”.

هناك أيضا اكتشاف مهم وهو الخروج من” الإطار الطبقي للصداقة” أصبحت لعادل صداقات من طبقة غير الطبقة التي عرفها في المنيل “تجمعنا أفكار واحدة”، كذلك عرفنا التعامل المختلف مع المرأة؛ كنا نتعامل بندية كاملة مع زميلاتنا، لا وجود لفكرة السيطرة أو الكلام المتخلف عن البنت”.

وقبل أن أقول له: هذا هو الوجه الجميل للحركة، فأين وجهها القبيح.. وماذا تعلمت منه؟

بادرني هو بتحليله للصورة “هذه الحركة تنازعها اتجاهان كبيران…اتجاه بأن نكون جزءًا من حركة شباب في العالم ..جيل يرفض أن يقرر المستقبل، وهو الجيل نفسه المسؤول عن الحرب العالمية الثانية، صوت جيل الرفض ظل يصعد حتى انفجر في السبعينيات..

وعندما قابلت طارق علي في أسطنبول كأني قابلت نفسي؛ هو باكستاني وقاد الحركة الطلابية في إنجلترا. من اللحظة الأولى اكتشفنا فورًا الجزء المشترك بيننا”.

يتحدث عادل عن نزعة مفتوحة على الأفكار والحساسيات الجديدة. وفي المقابل نزعة أخرى “محلية.. صراعية.. قومجية” انتهت الحركة بالنسبة للبعض في هذا الجزء الضيق بـ”الخناقة مع السلطة وتحالفاتها ومشاريعها” والبعض الآخر انفتحت أمامه الدنيا.

مظاهرات حركة الطلاب في مصر سنة ١٩٧٢

3

تحرير الحواس هو المغامرة المنسية في حركة الطلاب المصرية.

اختارها السيوي وكانت تعني بالنسبة له، وبشكل غامض “الاستجابة للصوت الداخلي”
كانت الحركة شرارة توديع المراهقة (بمعناها الواسع؛ تلك المراهقة التي قد تصحب الشخص طول عمره وتحكم نظرته للعالم) وبدأت مرحلة “الفهم الأكثر نضجًا”، اتسعت الرؤية لتجاوز “دائرة الصراع مع سلطة مهزومة.. المعركة أراها اليوم صغيرة جدًا على الرغم  من أنها كانت تشغل مساحة ضخمة من مشاعرنا ووعينا وقتها”.

كانت الحركة في العالم تهتف “نمارس الحب لا الحرب”، ونحن هنا مضطرون، بالنظر إلى حجم الهزيمة الكارثية، أن نهتف “الحرب..الحرب”.

“أرأيت الفرق بين الروحين”؟

يقول عادل السيوي الذي اختار روح (الفنان) ولم يغوه دور (الزعيم) “في الحقيقة أيضا لم أكن مؤهلاً له” يقول مشيرًا إلى أنه انحاز (بشكل لا واع) للجانب المشغول بتفجير الطاقات، الذي كان يرى أن الأنظمة الموجودة في العالم كله تكبت هذه الطاقات وتحاربها.. أين الفن والجمال في حركة التاريخ.. تاريخ عنيف.. تاريخ تعارض مصالح؟

كان السؤال الذي جعل جزءًا من هذا الجيل شاعري وفوضوي وفنان. الجزء الآخر كان مؤدلجًا بدرجة مضحكة.الرغبة الكبرى كانت توسيع العالم “هذا هو الجزء المفتوح الذي شغلني بأسئلته” يحكي عادل “طبعًا كنت ضمن الجزء الأيديولوجي بالمعني السطحي، لكنني ملت بعد ذلك إلى الجزء الآخر..عيني كانت عليه”.

تهرب الحواس من قيد المنطق و الواقعية.

هكذا تمرد جيل 68 عن طريق الثقافات الشرقية؛ كان الرجوع للبدائية والمخدرات رسالة رفض تريد أن تقول إن المنطق الغربي؛ منطق الآلة، ليس المنطق الصحيح الوحيد في الدنيا. وأن العقل ليس دائمًا الصحيح، وعلى الرغم من أن شكل الاحتجاج بدا فجًّا في بعض الأحيان،إلا أنها كانت الرغبة في إحداث هزة حقيقية، تضع الجسد في المقدمة، وتغيِّب العقل، وتختار ديانات جديدة، وتفرح بإعلان شكل علاقات جديدة.

كانت لحظة هزات عنيفة استوعبتها المجتمعات الأوربية لأنها ديناميكية، أما هنا، فلم يبق إلا الصوت العالي والزعماء المهزومون .

منهما معًا: هزات الحواس وهزيمة الزعماء، بدأ الصوت الداخلي في الإعلان عن نفسه، وولدت مشاعر ترفض الانضواء الكامل.

  • *مقاطع من نص طويل عن لوحات عادل السيوي صدر بالإنجليزية تحت عنوان” الفيل و الفراشة”، ويصدر بالعربية بعد التطوير قريباً.