عندما تشاهد مدينتك تغرق

هل يأكلنا البحر؟!

أسماء يس

أعرف مدينة

تمتلئ كل يوم

بالشمس

ساعتها

ينهب كل ما فيها

ذات مساء تركتها

وفي قلبي

يقيم

صوت صراصير الحقل

ولا يزال

ومن السفينة البيضاء

رأيت مدينتي تختفي

تاركة

لبرهة

عناقًا بين أضواء

معلقًا

في الهواء المضطرب

أونجاريتي

أنا أيضًا أرى مدينتي تختفي..

ماذا يعني أن تختفي مدينتي! قرأت خبرًا، يتكرر من حين إلى آخر، يؤكد أن الوقت اقترب، وأن البحر سيجتاح الشواطئ ويبتلع مدينتي، بالإضافة إلى مدن أخرى بالطبع (نصف شواطئ العالم الرملية في طريقها إلى الاختفاء بحلول نهاية القرن الحالي)، لكن أمر المدن الأخرى لا يعنيني كثيرًا، ربما أتعاطف مع هؤلاء الذين يتألمون مثلما أتألم الآن، الذين تحاصرهم المخاوف والهواجس، مثلما تحاصرني، لكن ليس بالقدر الذي يلهيني عما أتوقعه وأخشاه، عما ينتظر مدينتي ويتربص بها، ولا ينتظرني، ولا أنتظره..
وفقًا لسيناريوهات الاندثار المحتملة؛ إذا لم تلتزم الدول ببنود اتفاقية باريس للمناخ، سيرتفع متوسط مستوى سطح البحر في كل أنحاء العالم بين واحد وستين سنتيمترًا إلى متر واحد.. ومن المتوقع أن يزيد الأمر سوءًا في النصف الثاني من القرن الحالي..

 لن أكون هناك، سأشاهدها من بعيد وهي تندثر، أراها منذ الآن وهي تغوص في أعماق البحر، الذي لن يكون بحرًا ساعتها، سيكون قبرًا، رطبًا، يحتوي جثة، تحتوي هي الأخرى في داخلها جثثًا بلا عدد، تحتوي أصواتًا وذكريات.. هل تتعلم الأصوات مسارات جديدة استعدادًا للمستقبل العائم.. كيف يكون شكل الذكريات وهي تعوم في الماء.. هل تتحول الذكريات إلى أسماك ملونة.. هل تأكل الذكريات المؤلمة الذكريات المرحة!

مدينة رأس البر – تصوير أسماء يس

الذكريات آنية الزهور الفارغة..

كل هذه المراكب الأنيقة التي كانت تجلس فوق الماء، ستنزل إلى الأعماق في جلال، ببحارتها، بأخشابها، بألوانها، بالعيون المرسومة على جانبيها، بشباكها التي كانت تطعمني، لتستقر. لكنها كانت مستقرة بالفعل، وربما لم تكن مستقرة قط، كانت تتمايل، وكان البحارة الواقفون عليها يتمايلون، حتى إنهم يستمرون في التمايل حين يهبطون إلى الأرض، والأرض تصبح أحيانًا بحرًا، ساحة بديلة للرقص، فوقها يرقص البحارة رقصتهم القديمة، يمينًا وشمالاً، يحركون أياديهم، ورؤوسهم، وأكتافهم.. وموسيقاهم في عقولهم، موسيقاه منهم وإليهم، لا يسمعها غيرهم، تمامًا مثلما في الماء، الماء أقدم ساحة للرقص في التاريخ..
لو كنا محظوظين ستفقد مصر فقط بين 35.1 و50.5٪ من شواطئها الرملية بسبب عوامل النحر (هل توجد كلمة أقسى من هذه؛ النحر!)، وهو ما يعني تآكل نحو 1000 كم من الشواطئ المصرية، ومن المحتمل أن ترتفع النسبة إلى أعلى من ذلك في دول مجاورة مثل السعودية وليبيا..
في مدينتي، التي ستختفي قريبًا، أستطيع أن أعبر الماء، إلى الجهة الأخرى من الشاطئ، لأرى كيف يصنعون المراكب، ماذا يحدث لكي تصبح هذه الألواح الخشبية بيتًا.. كي يصبح لها هذا الجسد المغوي، والاسم الفريد، تصبح مثل الإنسان، قادرة على أن تركب البحر.. كم دقة قوية تلزم كي ينبني البيت ويتهادى، ويسافر إلى بلاد بعيدة، ثم يعود، وربما لا يعود. حتى في اللغة، المركب تبنى، لا تصنع. وحتى إن كانت تصنع، فهي تبنى، لتحتوي حياة كاملة، لكن بعيدًا، لذلك أسرارها بعيدة، وغامضة، وحادة، ومليئة بالخوف والمتعة..

هل يأكلنا البحر؟
ربما..
هل نعود في سلام؟
ربما..
هل نصل إلى آخر المدى؟
لا.. لم يحدث أن استطاع أحد أن يصل إلى آخر المدى. كما أن آخر المدى للواقف على الشاطئ ليس كآخره لمن في الماء، في الماء ليس للمدى آخر.. لذلك يتشابه الصيادون في كل مكان، يلقون بأجسادهم في المغامرة، لا يكترثون لصدأ المسامير، لا يكترثون للبلل، الغضب عدوهم الأول، وستجد على أغلب المراكب هذه الجملة “لا تغضب ولك الجنة”، أو “لا تغضب وعُد سالمًَا” وأحيانًا تجدها هكذا “لا تغضب” فقط. البحارة لا يتكلمون مثل بقية الناس، عندهم لغة خاصة كاملة، غامضة مثل البحر في الليل، وبالتأكيد فالغرق آخر همومهم.

من مجموعة صور عن المدينة الغارقة في الإسكندرية-موقع انستجرام

عال عال عال !..

 لمدينتي التي ستختفي قريبًا، إيقاع خاص.. بعد عمر طويل من الإبحار، ولم الحبال القوية، وفرد الشباك المترامية، وملمس الملح، والانتباه البالغ، والملح المتكرر، تصبح يدا الصياد كبيرتين، خشنتين، أكثر خشونة من الخيش.. وفي أوقات فراغه يمسك الصياد بسكين ويتسلى، يبرد الجلد الميت في يديه، يبرد يديه فعلاً، فقد صار الجلد وكأنه أظافر، لا روح فيها، تفنيها السكاكين الحادة.. هكذا يتسلى البحارة، ومدينتي مدينة البحارة.. لذلك ينظر البحار في وجهك طويلاً قبل أن يجيبك عن أي سؤال.. ينظر فيما وراء عينيك، فلم يجرب أن يكون لأي شيء نهاية قريبة مرئية، وأنت أيضًا، لا بد وأن وراءك شيء ما.. ماذا تخفي؟ مصيرك أن تصبح مكشوفًا، لن تكون أصعب من تحديد توقيت فرد الشبكة وتوقيت جمعها بدقة.. وبالتأكيد ليس في داخلك أسماك وقواقع وكائنات ملونة ومتوحشة ولذيذة، ولا على شاطئك طحالب زلقة وصخور رمادية ضخمة.
إزي الصحة؟
عال.. عال!
بعد عمر من الانتباه البالغ، تقوى حواس البحارة، ليست كمثل حواس أي إنسان آخر. البحار يسمع دبيب قلبك، ويترجمه على الفور.. هذا الإيقاع المنتظم ارتطام الماء بجسم المركب، أما هذه الدقات المتسارعة فهي صوت القفزة الأولى للمركب الجديد في المغامرة.. والمشية الرتيبة ضربات المجدافين المتكررة الرتيبة الخافتة بيدي مراكبي خبير، الإيقاع المنتظم في أول المضاجعة.. لم أتكلم بعد عن العاصفة المفاجئة، ولا عن صوت الرياح الهادر، ولا عن البرد اللعين، ولا عن البرق اللامع في مساحة لا نهائية من الخوف، لم أتكلم بعدُ عن الغرق.

المركب تحمل البحار، والبحر، نعني هنا المتوسط، أقدم البحار ومركز العالم القديم، يحمل المركب، والبحار يحمل قلبه، يشرب ويسكر، حتى لكأنها الليلة الأخيرة، تعتاد عيناه الألوان التي تتكرر؛ الأزرق، الأبيض، الرمادي.. البحار يأكل بيديه، يأكل أكلاً ساخنًا جدًا، وباردًا جدًا، ونيئًا، يأكل السمكة وتحتها النار، وبالملح، البحار يأكل كل شيء.. سطح المركب مائدته، مثلما البحر بأكمله، فراشه المهتز.

وفي مدينتي أيضًا نوعان من الماء؛ عذب ومالح، يمتزجان ببعضهما، مدينتي تفهم طبعًا كيف تمتزج المتضادات، كيف يهتاج الموج فلا تظن أنه يهدأ أبدًا، ثم يروق، فلا تظن أن في إمكانه إلا الاستلقاء هكذا إلى الأبد.. تحدث الأشياء فجأةً، تهبُّ الرياح فجأة، تهدأ العاصفة فجأة، تأتي النوَّة مبكرًا عن موعدها، تهدأ النوَّة بعد موعدها، ولا يهدأ البحار.. وعندما تتعقد الأمور ويتمكن النحس من أحد المراكب، ببساطة يغير البحار اسمها، ليزول النحس.

سبع نوَّات وأكثر

في مدينتي استأذننا سائق التاكسي أن يتوقف لشراء القهوة، لأنه يحب أن يبدأ يوم عمله بالقهوة، عزم علينا وأصر أن يشتري لنا القهوة، شكرناه بلطف، كنا في الثامنة مساءً، وهو بالتأكيد ليس موعدًا مناسبًا للقهوة بالنسبة لشخص يصحو في السابعة صباحًا.. كان السائق رائقًا، ضحك حين انهمرت الأمطار فجأة وأبطأ سرعة التاكسي، وتأمل السماء كأنه يراها على هذه الحال للمرة الأولى، وحكى لنا عن النوَّة “دي مش أول نوَّة في الموسم.. وقاعدة ليوم الخميس”، في ديسمبر نوَّتان، وقد أخذنا الحديث، واختلفنا مع السائق إن كانت هذ نوَّة المكنسة أم نوَّة الفيضة الصغرى، لكنه قال بثقة “المكنسة جت وخلصت.. بتيجي في شهر حداشر.. عارفين سموها المكنسة ليه؟ عشان بتكنس البحر.. تيارات رهيبة!”.. وحين عبرنا على قسم الشرطة غمز بعينه “وآدي نوَّة كمان”، ثم ضحك.. نحن الآن إذن في الفيضة الصغرى، وسيتلوها سبع نوات أو أكثر؛ نوَّة رأس السنة والفيضة الكبيرة والغطاس والكرم والشمس الصغيرة والسلوم والحسوم والشمس الكبيرة، وغيرها، وحين وصلنا عند البيت رفض السائق أن يأخذ أجرته، كانت تلك اللحظات الحميمية اللطيفة دافعه للرفض، صار بيننا حديث ومطر، لكننا صممنا ونزلنا مبتسمين… كل هذا سيطويه النسيان عندما تغرق المدينة.

لوحة للرسام الإنجليزي سيري ريتشاردز ؛ من مجموعة الكاتدرائية الغارقة

ليست أسطورتي فقط

أنا أيضًا أستطيع أن أصنع أسطورتي، كما اعتاد الإنسان أن يفعل دائمًا؛ الأسطورة تحمي الخيال، والإنسان يحب خياله ويقدره، ولو كان الخيال مرفأ مؤقتًا، والإنسان قد يفعل أي شيء غريب ليسعد خياله، وتهويماته، يغذيه سعيًا للقبض على الاطمئنان، وربما المرح..
حتى هذه اللحظة لا يزال بعض البشر في أماكن كثيرة من العالم يعتقدون أنهم يومًا سيجدون قارة أطلانتس؛ القارة الأسطورية الكاملة التي سادت العالم في العصر الحديدي، وربما البرونزي، ثم انتهى بها الأمر غارقة في المحيط، حتى وهم غير موقنين من وجودها.. ربما تكون حقيقة، وربما خيالاً، ربما تكون مجرد كلمة تعني الشاطئ باللغة المصرية القديمة، حتى وإن ذكرها أفلاطون في محاوراته مرتين.. أفلاطون المولود ربما في القرن الخامس قبل الميلاد، ذكر في محاورتي تيماوس وكريتياس “أنه حدث منذ قرن ونصف من الزمان أن زار المشرِّع الأثيني الشهير صولون مصر، وفي أثناء وجوده في (سايس) وهي مدينة مصرية في شمال الدلتا كانت لها علاقات وثيقة بأثينا، أخبره بعض الكهنة المصريين بقصة أطلانتس.. وقد وصف صولون القصة التي استمع إليها بأنها حقيقة بالتأكيد “على الرغم من غرابتها الشديدة”.. وكان صولون ينوي أن يسجلها في كتابه ليعرفها العالم من بعده، ولكنه لم يفعل، واكتفى بأن رواها لأحد أقربائه ويدعى دروبيدس الذي حكاها بدوره لابنه كريتياس الأكبر، وعن طريقه وصلت إلى حفيده كريتياس الذي يشارك في هذه المحاورة مع سقراط وآخرين من تلاميذ أفلاطون.. ويحكي كريتياس في محاورة تيماوس أن الكهنة المصريين أبلغوا صولون أنه وفقًا للسجلات القديمة التي لديهم، كانت توجد إمبراطورية أثينية عظيمة منذ ٩٠٠٠ سنة -أي نحو ٩٦٠٠ق. م- وكانت تُعاصرها في الوقت نفسه إمبراطورية عظمى أخرى تسمى أطلانتس، تقع في جزيرة كبيرة بحجم قارة، وراء أعمدة هرقل -مضيق جبل طارق حاليًّا. وكانت هذه القارة أكبر من شمال أفريقيا وآسيا الصغرى مجتمعتين، وإلى الوراء تمتد سلسلة من الجزر عبر المحيط تصل إلى قارة ضخمة أخرى”..
ثم يعود أفلاطون ويحكي كيف اختفت أطلانتس تمامًا،  فيذكر أنه بعد أن ظل سكان أطلانتس يحكمون جزيرتهم المركزية بالإضافة إلى عدة جزر أخرى، وأيضًا أجزاء من القارة الكبيرة على الجانب الآخر للمحيط، لكنهم لم يكتفوا بما لديهم من أراضٍ وخيرات، فقرروا ذات يوم أن يتوسَّعوا خارج حدودهم التي عاشوا فيها جيلاً بعد جيل، فيذكر أفلاطون على لسان الكهنة المصريين “تجمعت هذه القوة الهائلة كلها وعزمت أمرها على أن تخضع بضربة واحدة بلادنا وبلادكم وكل المنطقة التي تلي المضيق فتقدمت جيوشهم شرقًا إلى منطقة البحر المتوسط، واستولت على شمال أفريقيا حتى حدود مصر، وجنوب أوروبا حتى اليونان، ولكن أثينا التي كانت تقف وحدها تمكَّنت من هزيمة الأطلنطيين، ولكن العوامل الطبيعية دمرت كلا الجانبين؛ إذ حدثت بعد ذلك زلازل وفيضانات عنيفة، وفي يومٍ واحدٍ وليلة واحدة من الدمار دفن محاربوكم تحت الأرض.. وكذلك جزيرة أطلانتس اختفت بنفس الطريقة في أعماق البحر؛ ولهذا السبب فإن البحر في تلك الأجزاء غير قابل للملاحة والعبور لأن هناك طينًا ضحلًا كثيرًا في الطريق لوجود الجزيرة تحت سطحه”!
ربما خُسف بها الأرض، وربما غمرتها المياه وأغرقتها، وربما انحرفت النجوم عن مسارها، ربما اصطدم بها نيزك.. إلخ.
هل لاحظت كم مرة وردت كلمة ربما في هذه الفقرة!

Little Fish

 يبدأ فيلم “سمكة صغيرة”، 2021، بمشهد لفتاة يبدو عليها الحزن الشديد تجلس على شاطئ ما، يقترب منها كلب ويتمسح بها كأنه يعرفها، يلحق به شاب ينظر إلى الفتاة باستغراب وكأنه لا يعرفها، يتعرفان بعد أن يندهش من لكنتها الغريبة.. ومثل كل الأفلام الرومانسية وقعا في الحب، ومثل بعض الأفلام الرومانسية تزوجا، لكن هذا ليس فيلمًا رومانسيًّا، إذ نعرف بعد ذلك أن المدينة، التي ليست محددة، في زمن غير محدد هو الآخر، قد ضربها وباء يصيب الناس فيفقدهم ذاكرتهم تمامًا. وأن الحكومة تحاول جاهدة أن تجد علاجًا لهذا الوباء العجيب، لكن بلا جدوى، فنجد سيارات تمشي بميكرفون في أنحاء المدينة تعلن عن أرقام يمكن الاتصال بها للإبلاغ عن المفقودين الذين يتوهون يوميًّا لأنهم فقدوا للقدرة على تذكر من هم ولم يعودوا إلى بيوتهم.. يصل الوباء إلى الشاب، فيشعر بأنه يفقد ذاكرته تدريجيًّا، وعبر محاولات لا تحصى للتشبث بالذاكرة يستمر الفيلم..
يظن الإنسان أحيانًا، ويرغب بشدة في أن يصدق ظنه، أن الحب قادر على حمايته من الخطر، أيًّا كان مقدار هذا الخطر، حتى وإن كان الخطر هو فقدانه الكامل لهويته، تمامًا مثلما تظن بعض المدن التي لن تتعرض للغرق أن في إمكان التاريخ أن يثبتها، وأن يحميها من الاختفاء.. في الفيلم صدقت الفتاة أن في إمكانها أن تبقي حبيبها هنا، معها، في حيز الذاكرة الحالية، في دائرة الأمان، حيث كل الأشياء في مكانها، وكل الوجوه مألوفة، وكل الأماكن لها مرجعيات ثابتة في الذاكرة؛ حيث يشبه كل شيء ما اعتدنا عليه وألفناه.. لذلك بذلت جهدًا في تذكيره بكل الأشياء، كانت تحكي له باستمرار عن ذكرياتهما معًا، وتصحبه لزيارة الأماكن التي سبق وأن زاراها. وتسأله أسئلة أولية: ما اسمي؟ ما لوني المفضل؟ ما الفصل الذي أفضله؟ وكانت تلصق صور الأقارب والمعارف على الجدران وتكتب أسماء أصحابها عليها، وحتى صوره الكلب.. الصور الفوتوغرافية في الفيلم، مثلما عند سوزان سونتاج إحدى وسائل الإنسان الحديث في الإقرار بالحقائق، والتصديق على التجارب التي تمنح الأحداث العادية نوعًا من الخلود.
لكن المرض كان أشبه بدوامة عنيفة وقاسية تسحب ضحيتها إلى الأعماق، وشيئًا فشيئًا فقدَ الحبيب ذاكرته تمامًا، نسى حتى لماذا يضع كل منهما وشم سمكة صغيرة على أخمص قدمه.. وبينما يتمشيان معًا على شاطئ البحر ويلتقطان الصور لكل ما يمر بهما، توقف فجأة وسألها بحدة من تكون، ولماذا تتبعه، وبعد محاولات يائسة منها لتذكيره بنفسها وبنفسه، طلب منها أن تبتعد عنه، لأنه لا يعرفها نهائيًّا ولأن ما تفعله يزعجه.. لينتهي الفيلم بالفتاة جالسة ويبدو عليها الحزن الشديد على شاطئ ما، ويقترب منها كلب يتمسح بها وكأنه يعرفها ويلحق به شاب ينظر إلى الفتاة باستغراب كأنه لا يعرفها.. إلخ، نعم المشهد الأول هو المشهد الأخير، جلست الفتاة على الشاطئ بعد أن تركها حبيبها لا لشيء، لأنه لم يعد يعرفها، لم يعد يعرف نفسه.
سعيًّا للتمسك بالفرصة الأخيرة، وقبل أن نصل إلى هذا المشهد جربت الفتاة، التي تعمل طبيبة بيطرية، وتحت ضغط إلحاح حبيبها أن تحقنه في عصب معين في المخ، كانت دائرة الصحة اقترحت هذه التجربة العلاجية المشكوك في جدواها، ومع احتمالات الإصابة بالشلل الجزئي أو الكلي أو العمى أصر على أن تفعل ذلك.. أرعبتها فكرة أن تتسبب له في عجز كلي أو جزئي لبقية حياته، لكنه قرر المخاطرة، لكن التجربة لم تنجح..
ربما الذاكرة هي الأنا، يهون أي ألم بجانب فقدانها.. ربما الألم الحقيقي هو ما يحدث عندما تختفي الذاكرة، عندما يخسر الإنسان الجولة الأخيرة في معركة المحو، يطفو، يتخفف، لكن أكثر مما ينبغي، حتى يصير ورقة شجر لا وزن لها، أو سمكة لفظها البحر.