هل الانتحار حل؟ اقتل نفسك لكن لا تلوث سجادتي

ما يقوله السورياليون

محسن البلاسي

 هل الانتحار حل؟ سؤال طرحه رواد السوريالية قبل نحو مئة عام، ويعاد طرحه اليوم، في استبيان يجيب عليه كتاب وفنانون سورياليون معاصرون، يشهدون، ونشهد معهم جميعًا، ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد البشر الذين يتخذون قرارهم النهائي بمغادرة الحياة إلى الضفة الأخرى..

بعد مرور ما يقارب المائة عام على طرح السؤال نفسه في مجلة الثورة السوريالية 1924، نسكب نفس الكلمات في الأذن الحديدية لعصرنا الصريع: نحن نعيش، نموت، لكن ما دور الإرادة في كل هذا؟ يبدو أننا نقتل أنفسنا بالطريقة التي نحلم بها، وهذا ليس سؤالًا أخلاقيًا: هل الانتحار حل؟

إذا كنت تقرأ هذا الاستبيان بينما تجلس على مقاعد الدجاج الاجتماعي فخذ ورقة وقلمًا الآن، وحاول أن تكتب تصورك الخاص عما يسمى بالجنون والاضطرابات النفسية والعقلية. اكتب هذا التصور بعيدًا عن أي ملوثات قد سمعتها من قبل.. اكتب ما تشعر به عن مفهومك عن الجنون، ثم انظر إلى المرآة بعد ذلك واضحك بصوت عال، فربما تحطم موجاتك الصوتية هذه المرآة الكاذبة.

أختلف مع الصيغة الافتتاحية للاستبيان السوريالي الأول عام 1925؛ نحن لا نقتل أنفسنا بالطريقة التي نحلم بها، لكننا ننتحر لأننا نعجز عن تحرير أحلامنا الباطنية،  وإنجاب أنفسنا من جديد كل لحظة حتى لو كان هذا الإنجاب، باطنيًّا أو خياليًّا. مائة عام تغير خلالها شكل الاغتراب الإنساني كليًّا ومر بمراحل متنوعة ومختلفة. الانتحار خلل معرفي وفعل استعبادي ميتافيزيقي، ديني حتى لو تغلف بقشرة عدمية تماثل في رجعيتها قبح العقل الديني نفسه. عطب معرفي في وقت نكاد نقترب فيه من المشاع المعرفي. تشوه آيديولوچي، وقصور فهم غير مبرر لرغباتنا، وآمالنا، وأحلامنا وعالمنا الباطني، وكل ما يشكل أساس ممارساتنا وأفعالنا. استسلام صامت وعاجز وخبيث أمام سطوة الشر الاجتماعي، وضيق أفق الغباء اليومي في مجتمعات تقمع كل رغباتها لعجزها عن قمع رغبة الخنوع الميتافيزيقي المازوخي لكل ما يمثل الأنا العليا وسلطاتها النفسية. لا أتجاهل الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاتلة التي يتعرض لها إنسان هذا اليوم، لكن على نفس الخط، ومن المثير للاشمئزاز أن كل الخطابات التي تتبنى تعزيز فكرة الانتحار تتغلف بعبارات عن النبل والنقاء الإنساني، بينما تخفي تحتها قيحًا من العدائية تجاه خصوبة العقل والخيال البشري وقدرته اللا نهائية.

الحياة ينتزعها من يعيها ويستحقها، بعيدًا عن شعوذات الفلسفات المثالية والعدمية والغبار الميتافيزيقي سواء كان عدميًّا أو دينيًّا. الحياة يخلقها ويتنفسها الخالقون والمستيقظون ويمسخها الدجاج المخدر. والطب النفسي في المستنقعات الاجتماعية الموبوءة والمجذومة بالميتافيزيقا هو إرهاب ممنهج وفخ ملوث بأقذر أنواع المخدرات الميتافيزيقية والعدمية مكتوب على بابه هنا البيئة المثالية لتدجينك. اليوم تمثل مافيا الطب النفسي وتجارة الأدوية النفسية الراعي الخفي للتعذيب والاحتجاز النفسي الجماعي.

هل هناك إثباتات صلبة وواضحة المعالم وملموسة بين علوم الأمراض العضوية وأمراض الطب النفسي المفترضة؟ مافيا الأدوية النفسية تقول نعم. من أجل أن يتسع استثمارها في الحديقة الخلفية للسجن الجماعي لقاطني هذا الكوكب المختطف من تجاره.

الدجاجة v بصوت منخفض تطوف عيناها في الغرفة خافتة الإضاءة، وتسأل الدكتور x 

-أشعر بالاكتئاب الشديد.. لا أنام.. لا أريد أن أفعل شيئًا.. أريد أن أهرب من هذا العالم.. أريد لهذا العالم أن يزول ويبقى فقط الفراغ حينها سأشعر بارتياح.

-الدكتور x: لو أنك تعاني من الاكتئاب الشديد يجب أن تبتلع هذه العقاقير على الفور.

-الدجاجة V : واااو.. كيف عرفت ذلك يا دكتور! نعم أنا بالفعل كذلك.. أنا مريض اكتئاب مزمن من الآن فصاعدًا.. أنا عبدك يا دكتور x أنا خادمك المطيع، دجاجتك المسكينة لأنك في لمح البصر قتلت ألمي، وما يلتهمني من الداخل.

-الدكتور x : دجاجة جيدة ومطيعة عرفت ذلك ببساطة لأنني طبيب نفسي خذ هذه العقاقير الإضافية ستساعد على إبعاد فكرة الانتحار عن عقلك.

(الدكتور x يتلقى رسالة هاتفية من مندوب لإحدى شركات الأدوية، بينما يتغلف وجهه بابتسامة الجزار ويرد على رسالة المندوب: كم وصل حسابنا حتى الآن؟ ومتى ستكون الرحلة السياحية القادمة من أجل مؤتمرنا الطبي القادم).

ما تعريفك أيها الطبيب عن الاضطراب الاكتئابي وكيف تتعامل مع هذا التعريف؟ ما مسبباته وكيف تعالج؟

سترد: لأن هذه الأعراض تتماثل مع المعايير المعتمدة طبيًّا لتشخيص الاكتئاب. أغلب هذه المعايير يتعرض لها شتى البشر يوميًّا بشكل لحظي أو طويل الأمد لمسببات مادية ومعيشية مختلفة.. المضحك في الأمر أن تعريف الطب النفسي للاضطراب/ المرض العقلي يشمل كل خروج عن الخط الاجتماعي اليومي المقرر مسبقًا فيما يخص التفكير والشعور والسلوك. لكن ما تعريف الطب النفسي لهذا الصراط الخفي الذي لا يجب الخروج عنه؟ ما الدليل الكيميائي والبيولوچي للدكتور x سوى التخمينات التي يستخدمها العرافون والدجالون بنفس التقنية والأدوات (الأفكار غير التقليدية الظاهرة على لغة الجسد). بعد ذلك تبدأ العملية التجارية وتنتهي بآلية تعذيب نفسي وجسدي يماثل الانتحار في بشاعته. في المجمل تستخدم بورصة الطب النفسي الكثير من التعريفات والتنظيرات لإضفاء الطابع البيولوچي الزائف على المشكلات غير البيولوچية بطبيعتها. هذه التشخيصات مجرد لافتات دعائية حيث من المستحيل بيولوچيًّا وكيميائيًّا إثبات هذه الأمراض بشكل قاطع ونهائي مما يتسبب في حالة من الإبادة النفسية الجماعية.. نعم أوافق على وجود رد فعل فصامي، رد فعل اكتئابي، لكن من وراء كل هذا؟ تجار الطب النفسي يعانون من دونية لصوصية أمام شتى العلوم البيولوچية الأخرى لأنهم يعرفون جيدًا أن المشكلات التي يدعون معالجتها ليست في الغالب أمراضًا ناجمة عن خلل جسدي في أغلبها بالطبع، أنا بعيد في مقصدي عن التعميم الشامل لكنني أتحدث عن السواد الأعظم في هذه الصناعة (صناعة الطب النفسي). إنهم يعون جيدًا أن أغلب الأنشطة العلاجية التي يمارسونها ليس لها في الواقع طبيعة طبية. يعرفون ذلك جيدًا لكن الخضوع لآليات السوق هو ما يسير الأمر في النهاية.

الاكتئاب أصلاً تشوش فلسفي، وهذا لا ينفي وصول مراحل الاكتئاب المتقدمة لمرحلة الخلل الكيميائي البيولوجي لكن المنشأ في الأساس هو الخلل في الوعي.. ستكون في أمان نفسي دائمًا إذا طرقت بعشوائية على مسامير البارانويا النقدية في رأسك، اجعل مطرقة البارانويا النقدية خالقة لشبكات عصبية واجتماعية وتخيلية متشعبة بشكل لا نهائي. قم بتحويل العالم الخارجي إلى خادم مطيع لذهنك الباطني، الذي يحتضنك فقط قبل أن يمتصك النوم بلحظات، كل ليلة، أنحت كهوفًا جديدة لصدمات الاعتراف في سلوكك اليومي، داخل العلبة التي لا يراها أحد سوى العين المعلقة خلف عينك، المحملقة داخل العلبة العظمية التي تحملها على كتفيك، الواقع ناقص، لن يكتمل سوى بتدنيس الظلال الخفية التي تنظر لك بدونية الفئران المصابة بتخمة التهام البراز العقائدي.

عندما ينفد معنى الحياة؟

جون ريتشاردسون
باحث وشاعر وفنان تشكيلي من ويلز

 هل الانتحار حل؟ وجهت المجموعة السوريالية في باريس هذا السؤال في عام 1925 في مجلة الثورة السوريالية العدد الثاني. وبعد ما يقرب من مائة عام نعيد توجيه هذا السؤال مرة أخرى بعد وفاة الكثير من صفوفنا – جاك فاشيه (جرعة زائدة، 1919)، جاك ريجو (طلقة رصاص، 1929)، رينيه كريفل (بالغاز، 1935)، أرشيل جوركي (شنق، 1948)، أوسكار دومينجيز (معصمين مشقوقين، 1957)، فولفجانج بالين (طلقة رصاص، 1959)، كاي سيج (طلقة، 1963) وبيير مولينير (شنق، 1976) على سبيل المثال لا الحصر.. وبالطبع من مكان آخر نفكر في آخرين مثل ڤالتر بنيامين (1940) وجاي ديبورد (1994) اللذين، ربما خلقا الوضع النهائي برصاصة في القلب، ، واقترحوا أن الانتحار هو أنقى نقد للمشهد. ويتذكر المرء أيضًا رسالة انتحار المعارض اليساري، أدولف أبراموفيتش جوفي، التي تركها في 16 نوفمبر 1927 لليون تروتسكي، قبل أن يطلق النار على رأسه وإنهاء حياته. تاركًا ملاحظة تفيض بالإنسانية وتعكس “معنى الحياة”، في مواجهة القمع الستاليني “أعتقد أن لي الحق في أن أقول إنه لم يكن هناك يومًا من حياتي بلا معنى. ولكن الآن، على ما يبدو، يأتي الوقت الذي تفقد فيه حياتي معناها، ونتيجة لذلك أشعر أنني مضطر إلى التخلي عنها، لإنهائها”. بدوره، يذكّر جوفي بمذكرة تروتسكي الإضافية فيما يخص شهادته الشهيرة المكتوبة في 27 فبراير 1940. وكُتبت المذكرة الإضافية بعد بضعة أيام؛ في 3 مارس.

هنا، حالة الرجل المسن (لكنه كان يبلغ من العمر 60 عامًا فقط!) تنعكس على صحته “إذا كان يجب أن أتعرض للتهديد بالاعتلال طويل الأمد، فأنا أحتفظ بالحق في تحديد وقت موتي بنفسي و”الانتحار”- إذا كان هذا المصطلح مناسبًا في هذا الصدد- لن يكون بأي حال من الأحوال تعبيرًا عن انفجار اليأس أو انعدام الأمل لقد قلنا أكثر من مرة أنا وناتاشا أنه قد يصل المرء إلى مثل هذه الحالة الجسدية التي من الأفضل فيها إنهاء حياته، أو بشكل أكثر دقة، التقدم نحو الموت ببطء.. ولكن مهما كانت ظروف موتي فسوف أموت مع إيمان راسخ بالمستقبل الشيوعي. أنا أتفق مع المواقف بشأن مسألة چوفي وتروتسكي هذه”.

يبدو لي أنه يجب أن يكون لدينا “الحق” في تقرير كيف ومتى ننهي حياتنا، ومن المؤكد أن الحياة دون معنى، وهدف وصحة جيدة ستكون حتمًا عاملاً رئيسيًّا في الإجابة على ذلك- لذا فإن هذا السؤال يطرح نقطة فارغة!

اقتل نفسك لكن لا تلوث سجادتي!

روب مارسدن
كاتب سوريالي، إنجلترا

لو كان الأمر بهذه البساطة! أنا شخصيًّا مصاب بحالة غريبة أو رهاب/ فوبيا – خوف مطلق من رؤية الدم، أو لنكون أكثر دقة، دمي أنا، أما دم الآخرين.. دمك، فلا يزعجني على الإطلاق.. يمكنك قطع رأسك في غرفة معيشتي، وساعتها سأحزن على سجادتي التي فسدت، ستقع متدحرجًا على الأرض، لذلك فالنقاط القذرة والحواف الحادة مرفوضة بالنسبة لي.. الحبوب الوحيدة التي عليَّ تناولها هي الإيبوبروفين ونصف حبة فياجرا ممضوغة وهي غير كافية لهذا الغرض، على ما أعتقد. وقد قيل عدة مرات أن الشنق جيد جدًا بالنسبة لي. لذلك، أنا حقًا لست متأكدًا مما هو أفضل ما يمكن القيام به.. سأحضر لنفسي كوبًا لطيفًا من شاي الشوكران وأشربه.

 

ليس حلاً، فلا توجد مشكلة!

پيير باتيو
المحرر العام لـ  La Belle Inutile Editions؛باحث  وكاتب سريالي عضو سابق في مجموعة باريس التاريخية ومن مؤسسي مجموعةLA BELLE INUTILE EDITIONS

الغرض من هذا النص أن يكون إجابة على واحد من أوائل الاستفسارات السوريالية: هل الانتحار حل؟
ربما يكون الانتحار حلاً، لكن كما لاحظ مارسيل دوشامب بحق “لا يوجد حل لأنه لا توجد مشكلة”.. قد نفكر أيضًا في الأمور من الزاوية التي اقترحها بول فاليري “الطبيعة تحدث ولن يضيف إليها أحد”. لكن ما يهم حقًا هو الخروج من الدائرة الملعونة للبحث عن المعنى. أدى تراجع الفلاسفة اللاهوتيون – بوصفهم ورثة جديرون بالدين في معظمهم – إلى معارضة المعنى والسخافة. ومع ذلك، فإن السؤال لا يطرح عبر هذه المصطلحات المزدوجة التي بموجبها يكون المعنى هو عكس السخافة. اكتشاف أن العالم ليس له معنى هو أمر واحد. وللاستفادة من هذا الاستنتاج القائل بأن العالم عبثي هو شيء مختلف تمامًا وهو في الأساس دليل على عدم وجود حتى أقل قدرة على الملاحظة، ناهيك بالتخيل. السخيف ليس العالم، بل إثارة السؤال عن معنى العالم.

حقيقة أن العالم ليس سخيفًا بأي حال من الأحوال أمر واضح. وبقليل من الانتباه يظهر العالم أنه منظم بذكاء. النقطة التي يكون فيها “التصميم الذكي” خاطئًا بالتأكيد ليست ذكاءً. ويشير التصميم إلى الفصل بين إعداد خطة من ناحية والعمل الملموس المطلوب لتحقيق مثل هذا المخطط مسبقًا. من ناحية أخرى حين يتم نقل هذا التصميم إلى العالم الاجتماعي، يُترجم هذا الفصل بمصطلحات مثل: “المفكرين” و”العمال”، وبعبارة أخرى عبر هذا الغطاء الجنسي التقليدي والأنيق – إن تحدثنا بشفافية – للتمييز القديم بين “السيد” و”العبد”. في الواقع، العالم ليس منظمًا – من أي فاعل خارجي أي كان – ولكنه عملية منظمة بشكل دائم، وهو أمر مختلف تمامًا. والكون يفعل كل ما يفعله دون أي تصميم مسبق ودون مساعدة خارجية.

هذه بالتأكيد فضيحة مطلقة لمالك العبيد! حقيقة أن أي شيء – الكون في هذه الحالة – قد ينظم نفسه بشكل ملموس وذكي، دون أي تصميم مسبق، أي دون أي سيد، هذا هو أبشع رجاسات عقل العبيد. هذا هو السبب في أنه في عالم فكري يبقى هذا الأساس مبنيًا على فكر تجار العبيد، يجب أن يكون للعالم معنى، بعبارات أخرى، سيد ما. وأولئك الذين يبحثون عن معنى فيه، يبحثون عن سيد على نحو أسوأ، ومن ثم كشف النقاب عن الظل الخفي للسيد، الذي نراه يطارد العالم الخلفي لجميع الفلسفات تقريبًا تحت راية المعنى، فلننتهز الفرصة لتعرية الكاهن والسخرية من قضيبه الصغير.. العالم لا يخبئ ولا يظهر أي شيء. العالم ليس مقصورًا على فئة معينة. إنه عارٍ، وأكثر عريًا مما قد يكون عليه أي رجل أو امرأة. فهو لا ينظم نفسه في الخفاء، كما يفعل أي متدين شائع، بل على العكس، بلا خجل ودون أدنى خجل، إنه ينظم نفسه بشكل دائم وعنيد في الأماكن العامة، على مرأى ومسمع من الجميع وفي جميع الأوقات. لنذكر ذلك ونكرره؛ العالم ليس لغزًا، إنه رائع.. يا أصحاب الفلسفات الباطنية المبتدئون، أنتم المبادرون العميان لكل عمى بشري، ألم أصمم هنا ما هو أمامك طول الوقت؟

هذا هو الثدي الذي لا تجرؤ على رؤيته”.

كتب فاليري “الطبيعة تحدث ولن يضيف إليها أحد”.. لا يوجد شيء خارج العالم وكل ما يُزعم أنه يضيف إليه لا يعني أبدًا أي شيء آخر غير تحصيل رسوم الدخول إلى أعمق! دعونا نصل إلى الجذور! بمجرد أن يغادر المرء العالم البشري، فإن مسألة المعنى تبدو على الفور تقريبًا جنونية إلى حد ما. ما معنى الجبال؟ ما معنى السهول، السماء الزرقاء؟ ما معنى الأنهار والبحار والبحيرات؟ ما معنى الزرافات؟ وهل هذا حيوات الأصلوت أم مجموعة من الأسود أم شجر الكستناء أم شجر زان؟ ما معنى فراغ الكم؟ ما معنى الكوكب الخامس، ولا حتى نجم زيتا في كوكبة سنتوروس؟ أم ما معنى الكوكب السابع رقم ١٢٠٠٠٠ من الشمس في أسفل اليمين بعد 150 سنة ضوئية من الثقب الأسود رقم 13635؟

إن مسألة معنى الكون والحياة سخيفة لأن مثل هذا السؤال حول المعنى لا معنى له إلا في السياق الضيق للعالم البشري. بمعنى آخر، أن يكون موجودًا أو يكون له أي نوع من القيمة يعتمد فقط على هدف آخر غير الذات، يشير مصطلح “الحصول على معنى” دائمًا خلسة إلى عقلانية خارجية عن الذات، أي أنه يشير إلى الانصياع إلى أمر ما. لكن الكون والطبيعة لا ينصاعان إلى شيئًا. إنهما يحدثان فقط، إنهما يتدفقان فقط، يتبعان مسارها الخاص، أي أنهما مستقلين بشكل أساسي.. لن يخطر ببال أي شخص أن يصرح بأن المعنى العميق للكون ليس سوى الكون نفسه، ولن يقول أي شخص أن المعنى النهائي للحياة هو الحياة نفسها.

هذا معنى آخر لعبارة فاليري “الطبيعة تحدث، ولن يضيف إليها أحد” من المستحيل إضافة أي نوع من القانون إلى الطريقة التي تحدث بها الطبيعة. الطبيعة لا تتبع أي قانون. ما نسميه “قوانين الطبيعة” هي في الواقع مجرد قوانين الفيزياء. ولكن بما أن الكون والحياة لا يقدمان لنا سوى أمثلة على الاستقلالية، فمن أين يأتي مفهوم الخضوع؟

الجواب الوحيد المعقول هو أن الخضوع ينشأ عبر هذا الاختلاف الذي من خلاله يتجاوز العالم البشري بشكل كبير العالم الطبيعي، وبعبارة أخرى، فإن الخضوع متجذر في التكنولوجيا. تتكون التكنولوجيا بشكل أساسي من بناء أشياء ليس لها سبب آخر لوجودها باستثناء سبب وجود الإنسان. أي الأشياء التي يكون الغرض منها خارجيًا عن هذه الأشياء نفسها. ما يميز الكائن التقني هو أنه مبني لهدف استخدام واحد مخصص. وفي الواقع، لم يدرك الناس سوى الأشياء التقنية وفقًا للاستخدام المقصود منها. عندما تقوم ببناء أو شراء أو استخدام سيارة، فإنك لا تدرك التغير المناخي الذي تساهم فيه، بقدر ما تسمح لك تلك الوسيلة بالتنقل.

إن النظر إلى شيء تقني فقط من وجهة نظر الفائدة هو أن تعمى طواعية عن كل شيء يمكن أن يكونه هذا الشيء التقني بخلاف الاستخدام الذي صُمم من أجله.. ومن ثَم، فالعبد هو الإنسان الذي اختزل إلى حالة الشيء، أي اختزل إلى موضوع تقني، بينما أُنكرت طبيعته البشرية، ونسيت طواعية.

العبد هو حقًّا الرجل الخفي.. أيضًا يختزل الموظف والعامل والخادم إلى أشياء تقنية، وهذا، حتى بشكل أعمق وأكثر جوهرية من العبد، لأن صاحب العمل أو السيد لا يضطر حتى إلى القلق بشأن ما يحدث لهم بعد أن ينتهي من استخدامهم.

كل الأشياء التقنية من حولنا – وحتى اللغة في النهاية واحدة – تعني لنا شيئًا، لكنها لا تعني شيئًا لنفسها. من المفترض أن “تخدم تلك الأشياء غرضًا ما”، أي أن يخدموا شيئًا آخر غير أنفسهم. ومن ثم حين نبحث عن معنى لحياتنا، فإننا لا نفعل شيئًا سوى أن نسأل أنفسنا عن الغرض الذي تخدمه حياتنا.

وبما أن الأشياء الوحيدة التي يمكننا تحديد الغرض الذي تخدمه هي الأشياء التقنية، عندما نطلق السؤال عن معنى حياتنا، هذا يعني أننا نفكر في أنفسنا كأشياء تقنية، وبعبارة أخرى، أشياء “مفيدة”. ومع ذلك، نحن لسنا أشياء مفيدة، بل كائنات حية. كائنات حية غير مجدية تمامًا، تمامًا مثل الحيوانات البرية الحرة.. هل من المفاجئ أن يفكر البشر في أنفسهم كأشياء؟ في الواقع لا. سيكون العكس مفاجئًا. منذ العصر الحجري الحديث على الأقل، كنا كبشر نعيش محاطين بأشياء تقنية نستخدمها كل ثانية، لتناول الطعام (الأطباق والملاعق)، لإعداد وجباتنا (الأواني والسكاكين)، ولارتداء الملابس (الثياب) للنوم (الأسرة)، العيش (المنازل)، التحرك (الدراجات والدراجات النارية والسيارات والطائرات والقطارات) للتحدث (اللغات) وبالطبع للعمل.

في مثل هذه الظروف، كيف لا يمكن أن نكون مسكونين – بغير وعي – بما نتصل معه في أغلب الأحيان؟ نحن قرود ونقرد كل شيء، إلى ما لا نهاية، دون أن ندرك ذلك. كان الناس في مجتمعات الصيد الجماعي قريبين من الحيوانات وبالتالي كانت تطاردهم وتصطادهم الحيوانات. نحن أقرب إلى أغراضنا، ومن ثَم تطاردنا وتصطادنا أدواتنا. البشر يفعلون ما يفعله البشر دائمًا، إنهم يقردون الأشياء، لكن بيئتهم قد تغيرت.. فقط شاهد الأطفال يلعبون؛ يلعبون دور الأب أو الأم، لكن في كثير من الأحيان يلعبون كأنهم أصبحوا آلات وطائرات وسيارات، بل والآن يلعبون دور أجهزة الكمبيوتر. في حين أن الأطفال يجسدونها، فإننا نفعل هذا أيضًا على الرغم من صمتنا الذهني. يجب أن نفهم أنه في كل مرة نريد استخدام شيء أو أداة، علينا أن نتوقع نتيجة أفعالنا. والطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي أن تقلد عقليًا ما سيفعله هذا الشيء أو تلك الأداة.

ومع ذلك، مع نمو استخدام التكنولوجيا أكثر فأكثر، كان علينا محاكاة سلوك اشيائنا بشكل دائم، بحيث يحدث، إلى حد ما، أن نفكر في أنفسنا كأشياء، كأشياء تقنية، وهذا كله وصل إلى النقطة حيث يطاردنا دون وعي على مدى قرون، كان يطاردنا بقوة وعمق لدرجة أنه قادنا إلى اختراع العبد؛ أي الرجل الذي هو مجرد شيء. حتى إننا اخترعنا إلهًا على صورتنا، إلهًا فنيًّا، إلهًا تصنعه بنفسك، ليخلقنا كأشياء، إلهًا وجد كسيدنا كي نطيعه ونخدمه. إله انتهى أخيرًا ليحكم حياتنا بالكامل.

 

لماذا أفكر في الانتحار بينما سأموت قريبًا؟!

آلان جروبارد
كاتب وباحث وشاعر سريالي أمريكي

السؤال غير مكتمل. السؤال ليس “هل الانتحار حل؟”، فهو سؤال بلا حدود. السؤال هو: هل الانتحار هو الحل بالنسبة لي؟ في ضوء هذا فقط يمكنني الرد. وإجابتي هي: لماذا أفكر في الانتحار بينما سأموت قريبًا بما يكفي في نهاية حياتي؟ إن فعل الانتحار، مهما كان يجتذب الآخرين ويجبرهم، ليس له أي جاذبية بالنسبة لي. أنا منجذب إلى الحياة، من خلال العيش. وفي المقابل الموت، فالموت، وإبطال الحياة، هو الذي يعطي الحيوية للحياة والجوع لمزيد من الحياة. ونعم، لقد عرفت حالتين من حالات الانتحار: صديقة حميمية وأخت زوجتي. انتحرت كلتاهما تعبيرًا أخيرًا عن القوة والفاعلية، القوة ضد تقدم المرض والنبذ الاجتماعي الذي تحملتاه بسبب مرضهما: الإيدز والفِصام، وكان لديهما أسبابهما. لقد أنهى انتحارهما معاناتهما، كما أنهاههما هما شخصيًّا.. أنا على قيد الحياة، والعيش هو حياتي.

 

مسار مليء بالألغاز والمعاناة

ويل ألكسندر
شاعر وفنان تشكيلي سوريالي أمريكي

 

لكي نمضي عبر باب الانتحار يجب أن نصدر أحكامًا داخلية. أولاً، علينا أن ننظر نظرة قاسية إلى الظروف المعاصرة التي يعيشها المرء، ثم وضعها في جدلية محتقنة كما هي، بلا تغيير، عبر نوع من الإرهاب الديني الذي يستمر في تصدير اللغز الذي يبقى مجهولاً. وهكذا لا يبحث المرء عن شكل من الكوابح الدينية التي تحول نفسها إلى شكل خاص من الإلحاد. إن الفعل في حد ذاته لا يتجاوز الإرشاد الكهنوتي أو إدانة الجسد وفقًا للتعليمات ووفقًا لضغوط المعاملات الناشئة عن كارثة عرضية وظرفية بلا هدف.

اسمحوا لي أن أقول إنني لا أستفز نطاقًا غذته ظروف سابقة أثارها هذا النطاق في القرن الماضي. لا يمكن أن يظل المرء متغاضيًا عن ملل الماضي، بمحو الجثث ذات الصلة بالأمر. اسمحوا لي أن أقول إن العقل يحترق وهو قادر بهذا الاحتراق على الارتقاء إلى مستوى آخر يتأجج بالشفافية العاجزة عن الحلول السابقة.

لا يمكن للظرف الذي بلغته الطليعة الفكرية نحو عام 1925 أن يخبرنا عن ذلك وجوديًا وفقًا لمبادئ التمرد السابق. لا يمكنني الانخراط في الحوار الحي الذي صدره أندريه ماسون أو بيير ريفيردي. اسمحوا لي أن أقول إن الخيمياء البشرية لا تزال تمثل علامات استفهام قلقة، وهذه الأسئلة التي تطرحها علامات الاستفهام توفر بحد ذاتها ممرًا خيميائيًّا يمر من خلاله المرء.

أنا أتحدث عن المعاناة باعتبارها ممرًا للشفافية، لجمع الألغاز بطريقة شعرية ودفعها إلى الأمام حتى يظهر انبعاث مجهول ويتجمع على مستوى بلا خصائص يومية وحياتية مسبقة، ليس حلًا أو محوًا، بل تأجيجًا نفسيًا للشاعرية. يبدو أنه يجب على المرء أن يكشف عن كل الاعتبارات السابقة لتتكشف ملحمة الوجود.. دعونا نقدم تذبذبًا جديدًا عاصفًا، لا كإبهار أدبي ولكنه تشاحن ذاتي يشبه السمو حتى تبدأ الإدراكات المجهولة في الظهور بشكل عضوي ليس كطقوس أو عقيدة مسبقة، بل كمشاركة من السماء التي كانت متقدمة قبل احتراق شمسنا. وبالطبع هذا المسار مليء بالألغاز والمعاناة. ولأن هذه الألغاز والمعاناة تتضح، فأنا لا أتحدث عن الوعي من خلال التقدم العقلاني بل عن الأنين الشعري الذي لا يمكن تقديمه من خلال الموعظة كإجابة. في مواجهة ارتفاع مستوى سطح البحر والعدد الهائل من الكواكب خارج المجموعة الشمسية، تطورت المفاهيم القديمة عن الخلود. اللغز الذي أصبح لغزًا شعريًّا كما يبتلعنا الانفجار والحلم حاليًا ويجعلانا نترنح شعريًّا بالمسميات التطورية الخاطئة.

 

كيف تصوغ رسالة انتحار مؤثرة؟

چورچيا باڤليدو
شاعرة وفنان تشكيلية أمريكية

 يجب بيع الانتحار كسلعة بأسعار متغيرة على موقع أمازون. بمجرد وصولك إلى عربة التسوق الخاصة بك وطلبها، في الوقت المحدد، سيصل فريق القتل الرحيم المدربين جيدًا الذين يرتدون ملابس منسقة والمجهزين جيدًا في الوقت المحدد إلى باب منزلك لمساعدتك على الخروج من حياتك بأي طريقة تفضلها. بالطبع، لا يتم تسعير جميع رحلات المغادرة بنفس الطريقة. على سبيل المثال، سيتم تسعير الخدمات الجنسية في اللحظة الأخيرة وفقًا لقائمة معدة بعناية من الخيارات المثيرة. على سبيل المثال، يمكن أن تتضمن ميزة إضافية مقترحة لشرائك عبر أمازون، ويوجد أستاذ في “إيفي ليج” للكتابة الإبداعية يساعدك في صياغة رسالة انتحار مؤثرة بشكل مذهل. إذن كن مطمئنًا: سيبكي أحباؤك (إذا كان لديك أي منهم) بعد القراءة، وذلك في مقابل 5 دولارات إضافية، وستضمن أمازون نشر كلماتك الأخيرة في مجلة أمازون ذات الشهرة العالمية المتخصصة في شعر الحياة الآخرة.

هل ستترك وراءك رسالة؟

چ. كارل. بوجارت
شاعر وفنان تشكيلي سوريالي  أمريكي

هل الانتحار حل؟ يمكن أن يكون حلاً بطوليًّا إذا لزم الأمر، إذا فشل كل شيء آخر. إذا كانت الحياة لا تطاق بلا أي راحة، إذن بالتأكيد سيكون انتصارًا أخلاقيًا أن تلقي بنفسك من ارتفاع كبير، بدلاً من الخضوع لأي كائن خارق وهمي للحصول على المساعدة. إذا كنت مصابًا بمرض عضال ومميت، فمن المؤكد أن الانتحار هو الحل الأفضل بالطبع.. ولكن، على أي حال، فإن اختيار ترك خطاب غامض وطويل وجميل وراءك، أو عدمه، متروك لك.

 

واحة تنمو في رأسي كشجرة نحو السماء

 فيرونيكا كابانيلاس سامانييجو
فنانة تشكيلية وشاعرة من بيرو

 

 قررت ألا يكون لدي أب، ولا أي شيء، ولا شخص ما، لأفكر فيه، عصا تساندني في تلك الهاوية، ذلك الضمير الواضح، أكثر فأكثر، هذا التعطش الذي لا يقهر للمعرفة التي طالما شكلتني وقادتني. هذا الدوار من المرتفعات. ليس إلهًا، ولا بطاقة خلاص تحد من ضخامة تدفق الفكر وإمكانات تدفقه، وكذلك الأماكن التي يتدفق فيها؛ اللوحة هي الشاهد. ببساطة لم أكن لأصبح بهذا الوضوح أبدًا لو كان لديَّ الإصبع الذي يوجه أفعالي، التي هي أيضًا أفكاري ومشاعري، وحياتي بشكل عام، لقد قررت النضال من أجل هذه الحرية.

عندما أفكر في الانتحار كاحتمال، أفكر في الهزيمة المطلقة لهذا العالم التي يعطي هذا الاحتمال بسبب عدم صلاحيته للعيش. أتذكر حينها، منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، في جلسات المحلل النفسي الذي حضرتها، حيث كان هناك وقت كنت أتجادل فيه مع الحياة والموت، بعد أن اكتشفت روحي الألم اللامتناهي والعميق الذي يسقط فيه المرء بسبب هذه الحياة الجافة التي نعيشها، تلك الموجة الحارقة العظيمة التي ألقيت فيها، وحيث ينتهي بنا المطاف عالقين على الشاطئ الآخر، شيء مثل مشاهدة ولادة وعينا والألم الذي ينطوي عليه هذا الميلاد، لا أعرف ما إذا كان دليلاً على شيء ما أو لا، ولكن نعم، وفي تلك اللحظة بالذات عندما أوشكت أن أقرر نهاية هذا الجسد أو لا، عرفته؛ لتصور ما حدث لي على أنه هبة إلهية للصعود نحو الوعي وتدفقه الرائع؛ رحلة بوهيمية قليلاً. هناك عرفت، على الرغم من الألم الشديد، الثقل الهائل لهذه الآلة الهائلة والمروعة، آلة الحرية المضطهدة، هذه الآلة العنيفة التي تضطهد كل البشر، يجب تدميرها ومهاجمتها، وأنني سأستخدم كل قوتي وبشكل واضح لبناء وتدمير ما هو مستحق لعيش حياة أخرى، الحياة الحقيقية لأوكتافيو باث، الحياة الأخرى لرامبو. كان السورياليون في ذلك الوقت أصدقائي الوحيدين، وكتبهم، وقصائدهم، وقصصهم، وحكاياتهم، وكتاباتهم التي حملتها معي، وأنقذني السورياليون، والآن يستمر السورياليون في إنقاذي. لقد قادني رجال حرب العصابات الباطنيين إلى الوقوع فريسة لتلك الحرب التي في داخلي، والآن تجرأت على أن أرى بوضوح، ويمكنني أن أرى بوضوح.

اقتربت مني الوحشية وراء غرف خلع الملابس الفاسدة، صارخة وشنيعة، مليئة بالرهبة الداخلية، كنت قادرة وتمكنت من رؤية، جوهر رعب كل فرد. بما في ذلك، ذلك التشويه الأساسي للحياة الذي نتوافق معه جميعًا، وهو أمر مخيف لأن الكائنات البشرية تفعل ذلك، هذه المرة. هناك، كان الانتحار يغريني باعتباره الأمل الأخير ليأسي وإنهاء الجرح الخبيث الذي ألقي في الهواء، وللمصير الذي ألحقته بي تلك الحياة.

وبعد عقدين من الزمن، عندما تنفجر رأسي في الفراغ، لدي ذكرى ما قمت بها كدعم، لأنني أعتقد أنني قمت بالأشياء بأفضل ما يمكنني تقريبًا، وإذا كان الأمر خاطئًا، فإن الأوقات لم تتغير للأفضل، لكن الأسوأ من ذلك، الانطباع الذي يعبر عن روحي بالرسم والإبداع، ولأنني عرفته، أشعر به في العمق، لقد استمتعت بفعل الحرية. بدأت الواحة تنمو في رأسي كشجرة نحو السماء وتغوص الجذور في كائنات بشرية رائعة داخلي وفي لحظات رائعة أكتشفها.

الانتحار ليس حلاً لأي شيء، الانتحار فعل هزيمة المجتمع نفسه، فهو يظهر مدى تعفن هذا المجتمع، ويكشف عن الألم البشري الكبير، إنه الخيار الأخير الذي كنت سأفعله، إذا رأيت نفسي محاصرة من المزيد من المعاناة. ربما يكون حلاً لألمي لكنه ليس حلاً للمشكلات التي تسببه. لذلك، قررت أن أستمر في هذا الجحيم، وأن أحيا عدة مرات. وأن أحارب نفسي، في داخلي، في العالم، في الحياة وفي المجتمع لبناء المدينة الفاضلة أكثر وأكثر. كل نضال شخصي من أجل الحرية هو نضال المجتمع بشكل كلي. هذه الرغبة القوية في الحرية هي الرغبة والاندفاع الطبيعي للإنسان من أجل تحرره، وهي الآن مفككة، ولكنها، على الرغم من ذلك، تشكلنا كجزء لا ينفصم. إن مرض عصرنا يرجع جزئيًّا إلى عدم القدرة على إعادة التأكيد، والبناء، والعيش أخيرًا للحرية، للحرية فقط. لقد وجدت الأب في داخلي، الحرية تكمن في العثور على والدك داخل نفسك، وإعادة تأكيد نفسك في بحثك والعثور على نفسك، والحرية تكمن في إعادة تملك نفسك. اتحدوا بجوهرها من خلال فك الخيوط التي تحركنا مثل الشريعة والقانون، مما يجعل من المستحيل على الجميع طرق الوجود الأخرى، الوجود، والإبداع. أطلق العنان لما يربطك بالواجب الاجتماعي، ستكون قادرًا على رؤية النور اللامتناهي، الظلام هو الوقت في الطوافة المفقودة، عندما تسترشد بالنجوم نحو ولادتك، الفجر، الغسق، كن على حال الشمس، نفس الوالد للنفس.

بصراحة، هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكنني قوله فيما يتعلق بما إذا كان الانتحار حلاً أم لا، بالنسبة للبعض، قد يكون كذلك، بالنسبة للآخرين، شخصيًّا، هذه هي قصتي وشهادتي واكتشافاتي. أعتنق الحياة وسأحتضنها حتى ينتزعها الحظ مني، لأننا جميعًا مدانون؛ للموت الذي سيأتي حتمًا. الحياة التي سأعيشها حتى الموت هي مجرد خطوة أخرى، الحلقة الأخيرة من هذا الكتاب المفتوح. حياة كاملة، حياة مليئة بذاتها، حيث الموت هو اللمسة الأخيرة لإغلاق قصة عظيمة، والحياة كلها كفعل عظيم، والموت كمعضلة دون خيار يستمر من خلالها، في الجسد أو دونه، في الروح، أو دونهما.

 لا للمعاناة.. لا للوجود بأكمله

كينيث كوكس
فنانة وكاتبة من مجموعة ليدز السوريالية

 

نحن نعيش، نموت. ما جزء الإرادة في كل هذا؟ يبدو أننا نقتل أنفسنا بنفس الطريقة التي نحلم بها. إنه ليس سؤالًا أخلاقيًا نطرحه: هل الانتحار حل؟

لا يزال هذا السؤال صعبًا ومقلقًا، وهو سؤال ربما لا يمكن تناوله بنفس الطريقة اليوم كما كان عند طرحه في عام 1924؛ ليس منذ ذلك الحين، أي بعد واحد وعشرين عامًا فقط، في عام 1945، أُلقيت القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما، ومنذ تلك اللحظة وضعنا أمامنا انتحار الجنس البشري كاحتمال حقيقي.

بالنسبة لي، هذا سؤال يجب معالجته في المقام الأول دون إلقاء نظرة خاطفة على الماضي. سيكون هناك ما يكفي من أصداء فارغة، لا سيما من أولئك الذين قد يبحثون عن إجابة “سوريالية” جوهرية، يطلبون الإرشاد والموافقة من أسلاف لامعين. إن كيفية استجابتنا للردود المنشورة في عام 1925 هي مسألة مختلفة تمامًا، وهي مسألة مهمة أنا شخصيًّا سعيدة جدًا بتركها لمؤرخي السوريالية الأكثر تعقلاً. لذلك، من أجل تجنب هذا الإغراء، لم أعد قراءة الردود (لم أقرأها لسنوات عديدة) وسعيت لتلقي السؤال بشروطه الخاصة.

أنا أعتبر الفعل نفسه غير مقبول، لا أوافق عليه. كيف يمكننا المطالبة بالحق في الحياة إذا لم نطالب في نفس الوقت بالحق في الموت، لنكون قادرين على اتخاذ القرار بأنفسنا، إذا اخترنا القيام بذلك، عندما تحين تلك اللحظة العظيمة؛ إذا أنكرنا حق الموت، فلا يمكننا المطالبة بالحق في الحياة. إذا نحينا جانبًا حلًا معينًا، مدروسًا ومخططًا له بوضوح، يتمثل في إنهاء المعاناة الجسدية – سواء كانت فورية أو وشيكة، أو بمساعدة أم لا – بالنسبة لبعض الذين ينهون حياتهم، إن لم يكن الأغلبية، هناك القليل من الخيارات المعنية والقرار ليس مسألة “عقلانية”، وبالتالي لا تتحدث بشكل صحيح عن مسألة “إرادة”. قد يتصرف البعض كقضاة وهيئة محلفين، ومحكوم عليه وجلاد، وينفذون عقوبة على ذنب لا يطاق، وهو شكل آخر من أشكال المعاناة التي تم إصدار الحكم بناءً عليها. ولا يتعلق هذا أيضًا بحوادث اليأس المشحون عاطفيًا، سواء كان ناتجًا عن كراهية الذات أو الشفقة على الذات، والتي غالبًا ما تكون متشابكة، في محاولة لوضع حد للمعاناة العقلية أو لفت الانتباه إليها. بالنسبة للآخرين، يكون الفعل ضرورة، سواء كان نابعًا من توجيه صوت باطني أو عدة أصوات، حيث تكون “الإرادة” قد أجازتها بشكل قاتل.

مع السؤال المطروح في العدد الأول من مجلة الثورة السوريالية، نحن نعتبر الانتحار فعلًا من أعمال الرفض والانسلاخ المطلقين، وهو الإنكار الأكبر. وهنا، نواجه هذا التصميم الذي لا يمكن تجاوزه نحو “وضع حد لكل شيء”، لا للمعاناة فقط، بل للوجود في مجمله؛ لتسوية حساب مع فكرة الذات ذاتها، “الحل” هو الذوبان في الأبدية، وربما حتى القيام بذلك من خلال المصادفة. هل هناك شعور بأننا، في مواجهة ما لا مفر منها، نحاول إقناع أنفسنا بقدرة خارقة للطبيعة بطريقة ما لخداع القدر.

وفوق هذه الاعتبارات، فإن مسألة ما إذا كان الانتحار حلاً تحتوي على سؤال آخر وتثيره، ألا وهو كيف نعيش في عالم يجعل حالة الإنسان غير مقبولة، وإذا ما وقع المرء في جانب الحياة، فما المعنى الذي نتخيله؟ لذلك. الموت موجود في الحياة، واحدًا إلى الآخر، والعكس صحيح. السؤال الذي يواجهنا بالموت هو في حد ذاته سؤال حول الحياة وكيف يجب أن نعيشها.

لا، الانتحار ليس “حلاً” إلا بالمعنى الاشتقاقي البحت لـ “الانحلال”. لكن في الضوء الأسود لوعينا الحقيقي، فإن فكرة الانتحار هي أكثر من ذلك بكثير، يمكن أن تكون طلسمًا حقيقيًّا، للاحتفاظ بها سرًّا. هذا ما يسمح للرغبة بمداعبة اليأس وممارسة الحب معه ومواجهة ما يمكن أن يحدث في الأيام – وكل مفاجآتها، المبهجة أو الرهيبة – مع اليقين بحرية أزلية.

حتى الحيوانات تطفئ نفسها

 أنتونيلا جانديني
فنانة تشكيلية إيطالية

 

أسير إلى الوراء في الغابة العميقة، أسافر مرارًا وتكرارًا، خطواتي تعوقها الأغصان الجافة التي تغلق طريقي، أستمع حالمة إلى حفيف تحت قدمي. لا أعرف إلى أين سيقودني المسار الذي رسمته للتو في الأوراق الجافة، دون خوف من الخطر، يمكن أن أقع في الفراغ. يساعدني على الاستمرار التفكير في الموت السريع والمفاجئ. فكرة القفز في الظلام لا تزعجني، إنها في الواقع مريحة فيما يخص جدواها. كأنني تجمدت في الوقت المناسب، لا أرى أي مستقبل، أعتمد فقط على الضرورة الطائشة لجسدي، التي تطلب مني الوجود. سأحتاج إلى محاور جيد؛ ليس الإله بالطبع؛ لا أحب إخباره بأسراري، فقد خانهم مرارًا وتكرارًا ووجدته غائبًا في لحظات الحاجة. يمكن أن يكون الروبوت الذي يشبهني هو الرفيق المثالي. خاليًا من استبداد الجسد، يمكنه جمع أدلة لا حصر لها عن حياتي دون التورط كثيرًا ويمكنه تحريري من المعاناة إذا كنت أرغب في ذلك. لن يأخذ الروبوت في الاعتبار المشكلات الأخلاقية المتعلقة بنهاية الحياة.

العالم الافتراضي الذي ينتظرني محكوم بحالة غير عادية. مثل لعبة وحيدة مثيرة للاهتمام تحاكي حياة غير موجودة. تدفعني بعيدًا عن التعاطف البشري، وتولد انزعاجًا جماعيًا يسمونه الانتحار الجماعي. الحيوانات التي أنكرنا أن لها حياة داخلية، كثيرًا ما تختار إطفاء نفسها. لا يمكنني إلا أن أفترض الأسباب التي تدفعهم مقتنعين للقيام بذلك، لكنني متأكدة من أن هذه الأسباب لا تختلف عن تلك الخاصة بي. وعلى عكس البشر، تعرف الحيوانات والحشرات كيف تتحكم ببراعة في جسدها، إنهم قادرون بوعي على التضحية بأنفسهم، والسماح لأطفالهم بأكلهم أحياء لإدامة النوع.لا زلت أسير إلى الوراء، اصطدمت بقطعة من الصخر. يصبح المقطع ضيقًا ويتمثل الانتقال إلى بُعد آخر. أتعرف على غابة أوكيجاهارا الصامتة، التي تستقبلني كأم وتستقبل أنفاسي الأخيرة. قبل أن أبدأ الرحلة، قمت بإحصاء تجاعيدي بعناية، وقمت بضربها بصبر، معتقدة أن اللغز المزعج المتمثل في التحول كان قريبًا. والآن، أود أن أكون فراشة، غير مدركة لقصر العمر وجاهزة للتغيير في أي لحظة. في خيالي تقوي المتعة الداخلية نفسها كما في الحلم. أشتعل، مثل القليل من النار، بالرغبة التي ترافق الجمال الناقص في حياتي. تتبعني صورة فراشة تأكل دموع الطيور النائمة في مدغشقر.

  • الرسوم: أعمال مشتركة لمحسن البلاسي وغادة كمال