عطش في موكب الإمام

حيدر صادق

قبل أشهر من الحادثة رأيت في منامي أني أسحب زجاجة العصير من جانب الفراش وأشرب منها ما يسد رمقي، وفجأةً يتبين لي أن في الزجاجة بول حار، شعرت بالجحيم في حلقي، وكدت أتقيأ، لكني استيقظت من الكابوس، صحوت من نومي فزعًا لأتحسس زجاجة العصير بجانبي وهي مليئة بسوائلي القذرة، وشعرت بالاطمئنان كونها مملوءة، وكون ما حصل في الكابوس لم يتجاوز حدوده إلى الواقع، فعدت إلى نومي عطشانًا، كان الأهم عندي أن مريئي كان خاليًا من اليوريا، وهذا أمر جيد من شأنه أن يعيدني إلى نومي مطمئنًا على الرغم من ظمأي، فالعطش شر أرتضيه لساعات محدودة ما دام الصباح يعد بماء وفير.

الحادثة

كان الكابوس نذير شؤم فهمته لاحقًا، لأني في صباح يوم آخر أحسست وكأن مخالب وحش مفترس تنغرس في رأسي، وبكل عزم تسحبني من فروة شعري، فتنفتح عيناي على فم يتطاير منه اللعاب نحوي مثل سهام جارحة، ويخرج من نفس الفم صوتٌ بدا متأخرًا عن حركة الفكين، ليخبرني بأنيّ سأقضي بقية هذا اليوم مع شياطين الشوارع الملتهبة في جحيم الظهيرة الحمراء. 

لم يكن الأمر مفاجئًا على الرغم من الطريقة المرعبة التي أيقظتني بها أمي، كان الأمر متوقعًا بالنسبة لواحد مثلي، وصل به كسله حد أن يرى نزوله إلى الحمام ليلاً أصعب من وضع أيره في زجاجة عصير دبقة ليفرع مثانته. 

جاءت عادتي السيئة بنتائجها الأسوأ ذلك الصباح، شربت أمي إحدى زجاجاتي الممتلئة، بعد أن وضع أبي الزجاجة في الثلاجة خلال جولته التفقدية كل ليلة، ولأن الزجاجة مملوءة بسائل يقول لمن يراه أنا عصير فقد وضعه أبي في الثلاجة ونام، وإذا بأمي صباحًا تبلُّ ريقها بزجاجتي فتحصل الكارثة.

وأنا أسمع وعيد أمي بالأذى فكرت وقتها أن أخبرها؛ وهي العابدة المتعبدة، بحقيقة السائل الذي شربَته لأخفف من هول الكارثة، لكن صوتًا داخلي أخبرني بأن المسألة ستزداد سوءًا، لو اخبرتها بأنه كان مجرد ويسكي رخيص، وليس بولي الذي كانت تجده دائمًا في زجاجات العصير التي ترميها، بعد أن تنظف غرفتي كل صباح. التزمت صمتي حتى تركتْ فروة شعري فاستطعت أن أهرب إلى جحيم الشارع راضيًا أن تجلدني سياط الصيف الحارقة، بينما أبحث عن مكان يأويني حتى مغيب الشمس وانطفاء شعلة الغضب المتقدة في صدر أمي. 

من حسن حظي أن وجدت حسينية تشهد تحضيرات لإقامة موكب عزاء وتشابيه، كانت ذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم، وصوت باسم الكربلائي يملأ الأرجاء حتى تكاد الحيطان الصماء تجيبه لكثرة تكرار لطميته بسؤالها الأبدي (هذا الغريب منين؟). انتهزت الفرصة ودخلت إلى الحسينية؛ مستعدًا لتمثيل أي دور احصل من خلاله على وجبة غداء، وبعدها أقدر أن أنام في قاعة الحسينية المكيفة. حصلت على دور أحد حراس هارون الرشيد، وكان الدور يتطلب مني أن ارتدي زيًّا مزركشًا وأضع عمة حمراء تزينها سلاسل فضية، وحول خصري حزام يحمل سيفًا، وعلى صدري درع مسلسل عليه أكسسوارات وريش ملون. بعد وجبة الغداء توجب عليَّ أن أتمرن على الوقوف بجانب كرسي الرشيد بلا أي حركة، بينما موسى الكاظم يناظره على بعد أمتار قليلة وهو مقيد بسلاسل وكرات حديدية ثقيلة. هكذا ضمنت سلامتي في يوم كان سيكون أكثر رعبًا لولا تزامن حادثتي الصعبة مع ذكرى وفاة الكاظم.

أتممت متطلبات الدور بسهولة، تغديت، وتمرنت ثم نمت حتى جاء موعد التشبيه، فارتديت زي الحارس، ووضعت سيفي في حزامي متأهبًا للدور، وبعدها وقفت قرب الكرسي الكبير الذي يجلس عليه هارون الرشيد، وعلى طاولة أمامه وضعوا مع صحن الفواكه زجاجة خمر وكؤوس كإشارة إلى فسقه وفجوره. 

طول فترة التشبيه كان الكاظم يبين للرشيد لمَ هو أولى بالخلافة، وكيف أن بني هاشم أقرب للنبي من بني العباس كل ذلك يحصل وسط بكاء الحاضرين، وهم يرون إمامهم المعصوم يقف مقيدًا أمام قاتله. وقتها لم أرغب بشيءٍ سوى أن تكون زجاجة الخمر هذه مليئة بما اشتهيه، وكان عطشي يحفز هذه الرغبة. عند نهاية التشبيه بدأ الناعي يصرخ بالحضور (غدا يُشيَّع إمامكم المسموم وحيدًا غريبًا) وراح في بكاء شديد ثم صاح “موسى ابن جعفر ع الجسر كَوموا ياشيعة انشيله”..

فلطم الحاضرون صدورهم وهم يرددون خلف الناعي أهزوجته. سحبت أنا زجاجة الخمر ورشفت منها بحركة سريعة، فتبين لي أن فيها بول حار، تقيأت خلف كرسي الرشيد، وشعرت بضيق كبير كأن أنفاسي لا تكفيني، ثم نزلت من القاعدة التي عليها الكرسي، ومشيت مجتازًا جمع اللاطمين. كنت مثل خرقة حمراء تصارع أمواجًا من السواد الذي يخنق قاعة الحسينية. خرجت أخيرًا بلا درع ولا عمامة، أحمل همَّ العودة إلى البيت دون أن تعرف أمي الغاضبة، ولكن عبثًا. انتظرت عند باب الحسينية وأنا أسمع نشيجًا وعويلًا يهز القاعة. أخذ النعاس مني مأخذًا حتى كدت أنام وقوفًا، لكن الناعي أعلن انتهاء المجلس في الوقت المناسب، وذكَّر الموجودين بموعد التشييع فجرًا. خرج المعزون واحدًا واحدًا وبعدهم الناعي، وأخيرا خرج الكاظم بصحبته هارون الرشيد بعد أن نزعوا ثياب التشبيه. 

استأذنت من حارس الحسينية قائلاً:

-مولاي.. أريد أبات هنا.. بيتنا بعيد.

فأجابني:

-إي عادي ابني، نام بالمطبخ.. فيه فراش وحتى أكل، وباب الحسينية يبقى مفتوح.. 

دخلت المطبخ، كان كبيرًا، وفيه قدور ماء كبيرة منقوع فيها الحمص، وبعض القدور خالية، وتوجد أيضا أكياس أرز، والكثير من صناديق الفواكه، أكلت من الفواكه حتى شبعت، وصار لا مناص من النوم. مشيت إلى القاعة المكيفة، ورميت نفسي في نعش بسيط من غير غطاء، عليه فراش ناعم، وفوق الفراش قماشة بيضاء شفافة، سلِّمت للنوم جسدي، وأغلقت عينيَّ حتى أن صوت الأذان لم يوقظني. 

أيقظني الحارس بنبرة آمرة، وكان يبدو منزعجًا لأني نمت في النعش “ابني شلون تنام هنا؟ هذا نعش الإمام.. وما يجوز تنام بيه، انهض الناس تنتظر التشييع، انهض.. انهض” فنهضت أتمطى، جاء الرجل الذي مثَّل دور هارون الرشيد ليلة أمس، لكنه اليوم شرع يرتدي زي الكاظم، جلس على النعش، وغطى وجهه بالقماشة البيضاء، فحملوه إلى سيارة نقل صغيرة، وذهبوا به إلى الجسر، هناك حيث سيتّجه موكب المشيعين، فيحملون النعش عائدين به إلى الحسينية ثانية. انطلقت السيارة تحمل نعش الكاظم وأنا في باب الحسينية أنتظر انطلاق المشيعين إلى الجسر، وبعد دقائق سار موكب المعزين وهم يرددون نفس أهزوجة الأمس، والنساء المتشحات بالسواد كن يبكين بحرقة، ويعلو نشيجهن مع صوت الناعي وانفعالاته، كانت أمي بينهن بلا شك. راقبت المسير كاملاً حتى اختفت عن نظري آخر قطعة سواد، ثم عدتُ بهدوء إلى بيتنا الفارغ.