لماذا قررنا أن نبقى هنا؟

شهادة كاتبة من أوكرانيا

أسماء يس ترجمة

يقول دوستويسفسكي “إن البقاء في الوطن أفضل.. هنا على الأقل يستطيع المرء أن يتهم الآخرين بكل شيء، وأن يبرئ نفسه”.. لكن البقاء في الوطن أحيانًا يتجاوز هذه الرغبة في إثبات البراءة أو الولاء، أو حتى ممارسة تلك المتعة الخفية باتهام الآخرين بأشياء.. 

حتى هذه الفكرة الكلاسيكية عن الانتماء شابها الكثير من التغيرات، فاصبح أمام المرء المجال لاختيار مكانه.. لاختراع وطنه، بكامل تفاصيله، دون الحاجة إلى تاريخ ما ممتد طويل قديم.. إلى آخر كل أوجه الصورة النمطية للمكان الأم.. والالتزام تجاهه كما لو كان وطنًا حقيقيًّا.. خصوصًا وقد اختلفت صورة “الوطن الحقيقي” بشكل كبير هي الأخرى..

في عالم لا صوت يعلو فيه فوق صوت الحرب والسلاح، يوجد صوت آخر، وكأنه آخر ما يمكن لإنسان الألفية ذي الثقافة التي تنتمي إلى القرن العشرين عمله، صوت الخطوات المتجهة إلى مكان ما.. صوت التشبث بالمكان الجديد.. حتى تهدأ المدافع!

كيت تسوركان: لماذا اخترت البقاء في أوكرانيا

في 27 فبراير انطلقت صافرة الإنذار الأولى للغارات الجوية في تشيرنيفتسي؛ أي بعد أربعة أيام  فقط من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا. وكنا قد شاهدنا ساعات من اللقطات المرعبة من كييف وماريوبول وخاركييف، ومع ذلك، ظلت تشيرنيفتسي، التي تقع في جنوب غرب أوكرانيا، على حالها. وكان الفارق الوحيد الملحوظ أنه بعد وقت قصير من بدء القتال، بدأ عشرات الألوف من اللاجئين في شق طريقهم إلى المدينة. كان من اليسير تمييزهم عن سكان تشيرنيفتسي، ليس فقط بسبب الاختلاف الطفيف في لهجتهم، بل لأن بعض ملابسهم بدت أغلى من العلامات التجارية المقلدة التي يجدها معظم الناس هنا في بازار كالينكا، وكذلك بسبب سياراتهم، التي تسببت في زحام حركة المرور المزدحمة أصلاً في شوارعنا المرصوفة بالحصى المكسور.

من الصعب وصف كيف يبدو سماع صفارات الإنذار من الغارات الجوية للمرة الأولى؛ ولا يمكن لأي تسجيل سابق أن يُعدك لتجربتها شخصيًّا. كنت أنا وزوجي، ديما، نستعد للنوم عندما حدث ذلك. اقتحم صوت صفارات الإنذار آذاننا ودفعنا إلى الأرض. انخرطت في مباراة مصارعة يائسة مع قطتنا لوضعها في صندوقها، بينما كنت أحاول أيضًا العثور على حذائي، ثم ركضت إلى الطابق السفلي من منزلنا. وخلفنا والدا ديما، وكلبهم، وشقيقه الأصغر، بالإضافة إلى خالته وابنة خالته مارتا البالغة من العمر سبع سنوات، وكانوا قد جاءوا للعيش معنا لأنهم كانوا خائفين من البقاء في بيتهم، الذي كان قريبًا من مركز نقل رئيسي. اجتمعنا معًا وظللنا نرتجف لأكثر من ساعة، حتى تلقينا إشعارات على هواتفنا تفيد بأن التهديدات قد انتهت.

أثارت صفارات الإنذار اللاحقة للغارات الجوية معها تهديدًا بحالة من العنف لم تشهدها تشيرنيفتسي منذ الحرب العالمية الثانية. حتى ذلك الحين كنا محظوظين، لكن العديد من العائلات هنا لا تريد المخاطرة، انتظارًا لتغير الوضع. بعد أقل من أسبوع من الانضمام إلينا، قررت عمة وابن عم ديما التوجه إلى بولندا. مثل العديد من الأوكرانيين الأصحاء، فإن عم ديما عامل مهاجر وكان يعمل هناك قبل بدء الحرب، لذلك كان لديهم بالفعل مكان للإقامة. قبل أيام قليلة من مغادرتهم احتفلنا بعيد ميلاد مارتا السابع، في محاولة لجعل الأمر طبيعيًّا قدر الإمكان. لكن اليوم بدأ بصفارة الإنذار من الغارات الجوية، وجعلها تستشيط غضبًا عندما عادت والدتها- التي وعدتها بالعودة إلى المنزل وجلب أحد فساتينها- بسبب الخوف. وقد حاولنا أن نشرح لمارتا أن الأمر خطير، فصرخت “أعرف! أنا لست غبية!”، قبل أن تدفن وجهها الذي تغطيه الدموع في يديها. وأخيرًا تمكنا من العثور على تورتة، وملأنا المطبخ بالبالونات، وتمنينا لها ليس فقط عيد ميلاد سعيد، بل سماءً هادئة فوق رأسها. ثم جاء دورنا لإخفاء وجوهنا التي تغطيها الدموع.

معظم الرجال الأوكرانيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و60 عامًا ممنوعون من مغادرة البلاد، إذ أنه من الوارد استدعاؤهم للقتال في أي وقت. وهكذا، عندما غادرت عمة وابن عم ديما، حاول هو وزوج والدته إقناعي أنا وحماتي بالاستفادة من هذه الفرصة والذهاب معهما إلى بولندا، لكن كلتانا رفضت. لم ترغب حماتي في ترك ولديها وراءها، وشعرت بالمثل، لم أرغب في التخلى عن زوجي. وبدت فكرة المغادرة والانخراط في مظاهر الحياة اليومية في بولندا في أثناء استمرار جهود الإغاثة التطوعية في تشيرنيفتسي والرجال ينتظرون الاستدعاء للتجنيد خاطئة، بل منحطة.

تجادلنا أنا وديما بأصوات خافتة بشأن تلك الفكرة حتى حلَّ الليل. وذكَّرته أنه مع أنني أحمل جواز سفر أمريكيًّا، فإن أوكرانيا كانت وطني طوال السنوات الأربع الماضية.  لقد افترض العديد من الأوكرانيين الذين قابلتهم (افتراض صحيح، في معظم الأحيان) أن الأمور كان سهلة في تشيرنيفتسي، لذلك أمضيت تلك السنوات أحاول إثبات نفسي؛ درست الأوكرانية، وبذلت قصارى جهدي لاستيعابها، ومع مرور الوقت أصبح من المستحيل تخيل نفسي أعيش في مكان آخر. استمرت علاقتي أنا وديما لثلاث سنوات، وتزوجنا منذ عام واحد. وقد تشكلت ديناميكية علاقتنا في أثناء جائحة كورونا ، ومخاوف السرطان (فيما يخصني)، والآن غزو روسيا لأوكرانيا!

تبدو هذه السنوات الثلاث وكأنها عمر كامل – بأفضل معانيه – كما أنها منحتني الثقة في أننا نستطيع تجاوز أي شيء معًا. عندما أدرك ديما أخيرًا أنه لا يستطيع تغيير رأيي بشأن المغادرة، تنهد وقال “إذن ستبقين.. لطالما كنت متطرفة التوجهات”. وفي اليوم التالي التقينا بأحد معارفنا؛ وهي امرأة أخرى رفضت المغادرة. وأخبرها ديما بفخر أن زوجته الأمريكية الشجاعة ليس لديها نية للمغادرة، وأدركت أنه مع قلقه عليّ، يشعر بالارتياح إلى حد ما.

قبل الغزو، كانت تشيرنيفتسي موطنًا لما يقدر بنحو 260 ألف شخص. وهي على بعد 25 ميلاً من رومانيا، وتمتاز بالروح المضطربة المعتادة لمدينة حدودية – مدينة تشعر فيها عميقًا بهزات التاريخ. وفي حين أن مدينة لفيف المجاورة غالبًا ما يشير إليها السُيَّاح والسكان المحليون باعتبارها بقعة  أوروبية ساخنة وأنيقة، فإن الانطباع الذي تتركه تشيرنيفتسي أكثر كيتشية وشيوعًا.
ينظر العديد من سكان تشيرنيفتسي إلى سنوات المدينة كجزء من الإمبراطورية النمساوية المجرية، باعتبارها وريثة عصرها الذهبي، وتحاول الشركات، المطاعم والمقاهي خصوصًا، الاستفادة من هذا الحنين إلى الماضي.

كانت منطقة بوكوفينا التاريخية، والتي تضم تشيرنيفتسي، واحدة من أكثر مقاطعات الإمبراطورية النمساوية المجرية تنوعًا عرقيًّا. وفي أجزاء كثيرة من بوكوفينا، يقال إن الألمان واليهود والرومانيين والأوكرانيين والمجريين والبولنديين والأرمن وغيرهم من الجماعات العرقية عاشوا معًا في وئام نسبي حتى انهيار الإمبراطورية وحدوث الأهوال التي خلفتها اندلاع الحرب العالمية الثانية. أما اليوم فتشيرنيفتسي اليوم تعتبر واحدة من أكثر المدن تسامحًا في البلاد. (عائلة زوجي شاهدة على هذا التاريخ. فتراثه ليس فقط أوكرانيًّا بل أيضًا روماني ومجري وبولندي. وفي أوقات الصفاء، كنت أمزح معه بأنه الابن الحقيقي لفرانز جوزيف [إمبراطور المجروالنمسا]). عندما ضم السوفييت تشيرنيفتسي إلى “أوكرانيا الكبرى” (بعد الاستيلاء عليها من رومانيا)، خلال الحرب العالمية الثانية، حاولوا محو هذا التنوع من خلال إجبار السكان على الهجرة. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، نظمت المدينة العديد من الأحداث الأدبية من أجل إعادة نفسها إلى الخريطة الثقافية لأوروبا، لكن تشيرنيفتسي بعد الاستقلال كافحت الصراع السياسي، والفساد المستشري، والبنية التحتية العامة المتردية، وعدم القدرة على الحفاظ على العديد من العجائب المعمارية المهمة للعصر النمساوي المجري.

جئت إلى تشيرنيفتسي للمرة الأولى كمدرس متطوع للغة الإنجليزية في GoGlobal؛ وهي منظمة منبثقة عن دعوة الصحفي الأفغاني الأوكراني مصطفى نعيم لتعليم الشباب الأوكراني اللغات الأجنبية. وقبل زيارتي الأولى للبلاد، ربما بدت حياتي السابقة مثالية للبعض؛ فأنا حاصلة على درجة الدكتوراه، ودرست الأدب الفرنسي في جامعة نيويورك، وقد سافرت إلى باريس بانتظام، ودرَّست الفرنسية والإنجليزية للعارضات ومديري الأعمال وغيرهم من الشخصيات البارزة. لكن كل هذا لم يكن مهمًا بالنسبة لي، إذ كنت أريد تجربة طعم مختلف. وكما اتضح في النهاية، كانت أوكرانيا هي الحل.

 

في ذلك الصيف، التقيت بالعديد من الكتاب المحليين في تشيرنيفتسي، بمن في ذلك الشاعرة كريستيا فينجرينيوك، وانخرطت في المشهد الأدبي الأوكراني. كان هناك شيء مثير للغاية بشأن الأدب الأوكراني المعاصر، وشعرت كما لو كنت أشهد كتابة التاريخ وقتما يحدث. ففي عام 2017، شاركت في تأسيس Apofenie، وهي مجلة أدبية إلكترونية، نشرت أعمال مؤلفين أوكرانيين وأمريكيين ومن أوروبا الغربية، كما نشرت مقابلات معهم. ومع الغزو الروسي، التحق العديد من هؤلاء الكتاب الأوكرانيين بالجيش، أو انضموا إلى قوات الدفاع الإقليمية، أو كرسوا أنفسهم بدوام كامل للتطوع لصالح جهود الإغاثة.

وفقًا للمسؤولين المحليين، هاجر نحو 50 ألف لاجئ من جميع أنحاء أوكرانيا إلى هذه المدينة الهادئة سابقًا. وانتزع أولئك الذين وصلوا في الأيام الأولى من الحرب الكثير من المساكن الخاصة، كما قام بعض أصحاب العقارات، الذين رأوا في الأمر فرصة لا تعوض، بزيادة الإيجارات بشكل كبير. والأسوأ من ذلك، لقد سمعت عن حالة واحدة على الأقل استخدم فيها الناس موقع OLX الشهير عبر الإنترنت لتقديم وعود بتوفير أماكن للسكن، ثم ما يلبثوا أن يختفوا بعد تلقي الأموال من شخص يائس.

ومع ذلك، فإن المراكز المجتمعية والجامعة وغيرها من الأماكن الكبرى بذلت قصارى جهدها لإيواء اللاجئين، بل إن المالكين الجدد لفندق تشيرموش Cheremosh، وهو من بقايا الحقبة السوفيتية، ويزيد عدد غرفه عن 350 غرفة ظلت مهجورة لمدة 15 عشر عامًا،  أجروا تجديدات سريعة كي يتمكنوا من استقبال اللاجئين بأسرع ما يمكن. تضافرت الجهود التطوعية لجمع الملابس والأدوية والطعام بسرعة لا تصدق. واحتشدت ربات البيوت لطهو وجبات الطعام للمحتاجين، وتقدم عيادات خاصة واحدة على الأقل خدمات مجانية لأولئك الفارين من القتال. لم يرحب العديد من سكان تشيرنيفتسي بالأصدقاء والمعارف فحسب، بل رحبوا بالغرباء في منازلهم. إن هذا التضامن المذهل بين الأوكرانيين، ليس فقط في تشيرنيفتسي ولكن في جميع أنحاء البلاد، سيصبغ هذه الأزمة على المدى الطويل.

انتقلت أنا وزوجي للعيش مع أهل زوجي، وتركنا شقتنا الخاصة لـزينيا ولينا، وهما زوجان هربا من خاركييف مع ابنهما جليب ذي الست سنوات. زينيا ولينا في الثلاثينيات من العمر، ويعملان لصالح شركة موب ديف MobiDev، وهو مهندس تقنية أمريكي في الشركة التي لها مكاتب في جميع أنحاء أوكرانيا. وقد اتصلت إدارة مكتبها في خاركييف في الاتصال بموظفيها صباح الغزو، وطلبت منهم التوجه إلى مكتب تشيرنيفتسي إذا استطاعوا. وكما اتضح لاحقًا، كان ابن جار لجد ديما يعمل في الشركة نفسها، واستجاب لطلب فريق الموارد البشرية من الموظفين في تشيرنيفتسي المساعدة في العثور على أماكن لنحو أربعين من زملائهم. ومع أننا لم نكن نعرف زينيا ولينا شخصيًّا، لكننا وافقنا على استقبالهما.

عادة ما تستغرق الرحلة من خاركييف إلى تشيرنيفتسي أكثر من 13 ساعة بقليل، لكن رحلة زينيا ولينا استغرقت هذه المرة أكثر من ثلاثين ساعة. ومع أن أصوات القصف تلاشت عند مغادرتهم خاركيبف، فإن الطوابير الطويلة من السيارات الممتدة غربًا كانت بمثابة تذكير بالفظائع التي كانوا يحاولون الهروب منها، وكذلك فعلت المركبات العسكرية المسرعة في الاتجاه المعاكس. فقط بعد أن وصلوا إلى منتصف الطريق تقريبًا تجاه تشيرنيفتسي، سمح زينيا لنفسه بالوقوف في موقف سيارات بمحطة وقود للنوم لمدة ساعة فقط. يتذكر زينيا “عندما يكون لديك الدافع لحماية عائلتك وإبقائها على قيد الحياة، فإن جسمك يعمل بشكل مختلف.. وينسى كيفية حساب الوقت”. وقد أصبحت حركة المرور أكثر كثافة عندما وصلوا إلى كاميانيتس بوديلسكي ،Kamianets-Podilskyi، وهي مدينة من العصور الوسطى على بعد نحو 50 ميلاً من الطريق السريع من تشيرنيفتسي، حتى إن  الأمر استغرق ما يقرب من 8 ساعات للتحرك لأقل من عشرة أميال.

يقول زينيا إن طفلهما كان السبب الرئيسي لمغادرة خاركييف “لم أكن أريد أن يجلس ابني في قبو بارد ويسمع أصوات الحرب مباشرة.. كان ذلك سيحبطه مدى الحياة “. وأضاف “المهم حاليًا أن يفهم الحرب بالمعنى النظري لا بالمعنى الحرفي”.

كانت هذه أول زيارة يقوم بها زينيا ولينا إلى تشيرنيفتسي. كاناسابقًا  قد زارا فقط المناطق التي يقصدها السياح في غرب أوكرانيا، مثل لفيف وياريمتشي. لكنهما الآن يحاولان للتعرف على المدينة، وتذهب لينا وابنها في نزهات يومية لاستكشاف محيطهما الجديد. فر العديد من زملاء زينيا ولينا من أوكرانيا، لكن الزوجين قررا البقاء لأطول فترة ممكنة. يقول زينيا “من المهم جدًا بالنسبة لنا أن نعود إلى ديارنا في خاركييف.. حياتنا كلها لا تزال موجودة هناك”. إن روابطهما العميقة بأرضهما الأصلية مبنية على الحب والتحدي المرير، والبقاء في البلاد هو وسيلتهم لإخبار الروس “أنتم لا ترهبوننا.. لن تفوزوا”.

جاءت أنستازيا سافتشينكو أيضًا إلى تشيرنيفتسي حماية لطفلتها؛ صوفيا البالغة من العمر تسع سنوات. كانت أنستازيا تعيش سابقًا في ترويشينا، وهي منطقة سكنية كبيرة على مشارف الضفة الغربية لكييف. في الليلة الثانية من الغزو، قصفت روسيا محطة كهرباء قريبة من منزلهم، وأضاءت الانفجارات السماء. ثم أمضت أنستازيا وصوفيا لياليهما في ملجأ من القنابل في الحي. وبعد تسعة أيام من صفارات الإنذار والقصف المستمر، تمكنتا من المغادرة متجهتين إلى منزل أحد الأصدقاء في تشيرنيفتسي، بعد أن أصبحت صوفيا في حالة ذهول مستمر، وكانت تتوسل والدتها للعودة إلى الملجأ حتى في لحظات الهدوء النسبي.

استغرقت رحلة أنستازيا وصوفيا من كييف إلى تشيرنيفتسي بالسيارة، والتي تستغرق عادة سبع أو ثماني ساعات، ثلاثة أيام. وكانا نادرًا ما تتوقفان على مدى الطريق، إلا لملء خزان السيارة، والذهاب إلى الحمام، والنوم. وفي ذات مرة، كان عليهما الانتظار لست ساعات في طابور للحصول على ما يقرب من خمسة جالونات زيت. وفي خلال معظم الرحلة، كانت أنستازيا تخشى ألا تنجح في الإفلات من أصوات الانفجارات وصفارات الغارات الجوية. وهي الآن تقضي أيامها في رعاية صوفيا وطفل صديقتها الصغير، بينما تعمل عن بُعد لدى أحد شركات تكنولوجيا المعلومات. وفي وقت لاحق من اليوم، بعد انتهاء دروس صوفيا عبر الإنترنت، تأخذ أنستازيا الأطفال أحيانًا إلى الخارج، أو إلى عرض فيلم ينظمه متطوعون. على الرغم من امتنانها لمساعدة صديقتها، فإنها تريد العثور على سكن خاص بها في تشيرنيفتسي. وتعتذر عن ذلك بقولها “هذا مستحيل.. يوجد الكثير من اللاجئين هنا”.

بعض اللاجئين في تشيرنيفتسي ليس لديهم موطن يعودون إليه. كان المؤلف الأوكراني ألكسندر ميخد وزوجته أولينا يعيشان في هوستوميل، وهي بلدة تقع شمال غرب كييف، ثم جاءا إلى تشيرنيفتسي بعد أن هاجم الروس كييف، لأن والدة ألكسندر ولدت هنا، وبطبيعة الحال لديهم الكثير من المعارف. وبعد أسبوع من مغادرتهما هوستوميل، أرسل أحد الجيران لهما صورة لمنزلهما المدمر في المدينة. شعرا بالغضب الشديد، لكنهما رفضا البكاء؛ إذ كانا مثل العديد من اللاجئين في تشيرنيفتسي الذين تحدثت إليهم، يفضلون توجيه طاقتهم إلى الجهود التطوعية. ويوفرون سيلاً جارفًا من المشاعر لليوم الذي يعلن فيه الجيش الأوكراني النصر. وقد برر ألكسندر ذلك “إلى جانب ذلك، الوطن كله وطننا”.

إنه لأمر سوريالي أن نزور زينيا ولينا في ما كانت شقتنا ذات يوم. ويمر جيراننا السابقون بنا في أروقة المبنى دون أن ينطقوا بأي كلمة، كما لو أنهم نسوا وجوهنا بالفعل. فقط قطط الشوارع التي اعتدنا إطعامها تسارع في الترحيب بنا وهي سعيدة، لكنها غاضبة لأننا تأخرنا طويلاً حتى نعود. يدخلنا زينيا إلى غرفة المعيشة، وتحضر لنا لينا القهوة في أكواب اشتريتها عندما انتقلت أنا وديما معًا، وهو وقت يبدو الآن وكأنه حياة شخص آخر تمامًا. وبينما نستعد للمغادرة، يؤكد لنا أصدقاؤنا الجدد من خاركييف أن في استطاعتنا أن نمر على البيت في أي وقت نشاء – في الواقع، كانا يشجعاننا على القيام بذلك في كثير من الأحيان، فهما لا يعرفان أي شخص آخر في تشيرنيفتسي، وغني عن القول إن هذه المأساة قد جمعتنا معًا مدى الحياة.

لا يزال الكثير من متعلقاتنا في الشقة، بما في ذلك مكتبتي، التي كنت فخورة بها في يوم من الأيام. في كل مرة أعود فيها لأخذ شيئًا ما، لا يسعني إلا أن أتساءل: هل أحتاج إلى هذا حقًا؟ وإذا لم آخذه معي في المرة الأولى، فلماذا الآن؟ ماذا لو جاء الروس إلى تشيرنيفتسي غدًا واضطررت إلى الهروب والنجاة بحياتي؟ هل سينقذني هذا الكتاب من شعر بول سيلان سينقذني من الاغتصاب أو القتل؟ الإجابة على كل هذه الأسئلة واضحة بالطبع؛ ليس هناك عودة إلى ما كنا نعتقد أنه طبيعي، ولن ينظر أي منا إلى حياتنا بنفس الطريقة مرة أخرى.

* نُشر في النيويوركر، 30 مارس 2022.

كيت تسوركان