الوباء الذي أشعل ثورة

الإنفلونزا الأسبانية في مصر

مدينة

الكورونا ستغير العالم.. رددنا هذا الكلام كأنه حقيقة في بداية هجوم الوباء. ربما كان ذلك من أجل المواساة أو تخيل ثمن للمعاناة، يصبح بعدها العالم أكثر عدلاً أو… الخيال لم يكمل بصورة واضحة ما هو التغيير الذي سيأتي به الوباء.. هل هو تسارع تجاه سيطرة أوسع وأعمق للتكنولوجيا وحياة بديلة أمام الشاشات؟ أم اهتمام أكبر بتغيير المنظومة الصحية، بداية من مفهومها الذي تحول مع النيوليبرالية إلى سلعة لا تصل إلا لمن يملك ثروات تحوزها شريحة ضئيلة من سكان الكوكب؟ الخيال لم ينجح مع الخوف وهستيريا الرغبة في عودة”الحياة الطبيعية”.

قبل سيطرة الموجة الثانية للكورونا، خفتت الأصوات المنتظرة للتغيير، وبدلاً منها ظهر الواقعيون محبي التقارير الذين أكدوا أن لا شيء تغير سوى زيادة ثروات من يملكون الثروة ومحاصرة الفقر لفئات جديدة، واتساع اليقين بأن فاتورة النجاة لن يقدر على دفعها كل الناس.. كذلك فإن الأنظمة الديكتاتورية بداية من الصين وحتى آخر أشكال الديكتاتوريات المنقرضة في العالم العربي وأفريقيا، وجدوا في الكورونا أداة جديدة لتعزيز الاستبداد والتحكم في حياة القطاعات الواسعة من السكان، والعثور على مبرر منطقى لتوسيع أدوات الرقابة على الحركة والحريات الشخصية، دون حتى إطلاق الوعود بالحماية من الفيروس.
الوباء كاشف، فاضح للمنظومات المستقرة، وهذا ما يجعلنا ننظر إلي الخلف بمزيد من التأمل، ماذا فعلت الأوبئة في المجتمعات وتنظيمها السياسي، وكيف تحركت المدن حين هاجمتها فيروسات قاتلة، حصدت آلاف وملايين.. التأملات الأولى تشير إلى أن أوبئة العصور الأقدم تكون سرعتها أقوى في التأثير، وهي ملحوظة تناقض التصور الشائع الذي انتظر أن يكون أثر الكورونا سريع ومدمر للمنظومات التي لا يحتاج اكتشاف تهالكها تأملاً كبيرًا.

هل أثر الكورونا قادم؟ أم أن التغيير الوحيد هو إعادة بناء مراكز القوة والضعف ليبقى العالم كما هو عليه؟ لا داعي للعجلة؛ فالموجة الثانية تجتاح بهدوء وعنف.. الناس خوفها يقل، والعالم يتسارع تجاه مجهول كبير.. ومقارنة بتأثير الإنفلونزا السياسية اقتصاديًّا واجتماعيًّا فإن معنى التغيير نفسه لم يعد كما هو الآن.

لكن كيف تغافل المؤرخون المصريون عن رصد حدث مهم ومؤذ كتفشي الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت العالم بأسره قبل نحو مئة عام من الآن؛ 1918، وحصدت أرواح الآلاف من البشر.. فحتى كتب الحوليات التي كانت تدوِّن ما يحدث يوميًّا، والتي لم تغفل ذكر بعض الحوادث الشخصية عديمة الأهمية عن زعماء وأبطال وفتوات ومجرمين لم تذكر الإنفلونزا الإسبانية بشيء قط! ليس غريبًا أن التاريخ انتقائي، لكن هذه بالذات مسألة محيِّرة؛ فالمسكوت عنه مرض راح ضحيته نحو آلاف المصريين، إذن لمصلحة مّن؟ولماذا؟ يقع هذا المرض الفتَّاك من المدونة التاريخية..
أقواس مدينة هذه المرة؛ مدعومة بالوثائق، وهي من كتاب “الوباء الذي قتل 180 ألف مصري..”الكتاب الجديد للدكتور محمد أبو الغار..  والدكتور أبو الغار ليس مجرد طبيب شهير صاحب مبادرات أسرع من زمنه، لكنه مغامر تخطفه الأفكار في رحلات بحث، وبعد بحثه عن تاريخ اليهود في مصر، عندما كان الموضوع مسكوتًا عنه، ها هو ذا يبحث عن تأثير الإنفلونزا الإسبانية على مصر، ويكتشف أنها أسهمت في إشعال ثورة 1919.
بوثائق ومستندات من عامي 1918-1919″، حاول فيه الدكتور محمد أبو الغار، التنقيب عن رحلة الإنفلونزا الإسبانية في مصر، بعد بحث مضنٍ في وثائق وأوراق كتبها مؤرخون أجانب، باستثناء سطر أو سطرين في كتاب لمؤرخ مصري، لكن المفاجأة كانت أن الصحف المصرية آنذاك، كالمقطم والأهرام وغيرها، غطت بشكل كبير تداعيات الوباء، وكتبت عنه بشكل مكثَّف، على الرغم من أن المخابرات البريطانية والألمانية كانتا قد منعتا نشر أي شيء يتعلق بالإنفلونزا الإسبانية خوفًا على معنويات جنودها في أثناء المعارك الأخيرة في الحرب العالمية الأولى..

الفيلق المصري في الجيش البريطاني أثناءالحرب العظمى الأولى؛الصورةفي فلسطين أثناء فترة الراحة وشرب الماء،من الأرشيف العسكري الاسترالي ؛كتاب فوتوغرافيا مصر -دار الهلال

الأقواس  من كتاب “الوباء لذي قتل 180 ألف مصري”، وعنوانه الفرعي:بوثائق و مستندات من عامي 1918-1919 ..وفيه بحث الطبيب المعروف محمد أبو الغار في الوثائق الصحية الخاصة بالوباء التي حصل عليها من جامعة تكساس ،وكذلك الصحف المصرية في تلك الفترة ،والتي كانت تغطي الموضوع بكثافة لافتة،حسب الغلاف الأخير للكتاب،الذي “يكشف بدقة تاريخ الوباء في مصر ودوره فى إشعال جذوة ثورة 1919”.الكتاب صادر في أغسطس 2020 عن دار الشروق.

القوس الأول: فيلق العمال

ما هو فيلق العمال؛ الذي جنَّد الفلاحين المصريين في صفوفه؛ وسافر بهم للحرب في معارك الحرب الكبرى، وكان سببًا في غضب الناس في الريف المصري، وسببًا من أسباب ثورتهم، ومع ذلك لا تذكره كتب التاريخ إلا لماما؟

يقول الكتاب

“.. منذ بداية الحرب العالمية الأولى في عام 1914، وإعلان الحماية البريطانية على مصر، حدثت تغيرات كبيرة في الاقتصاد المصري، وأدى ارتفاع الأسعار ونقص المحصول الزراعي للحبوب والخضروات والفواكه إلى مشكلات كبيرة في غذاء الفلاح؛ لعدم قدرته على دفع ثمن الطعام المرتفع، وأدى ذلك إلى ضعف بنيان الفلاحين وقدرتهم على مقاومة الأمراض، وصاحب ذلك ثراء عدد من المصريين من كبار المزارعين والتجار والمستوردين. وفي الوقت نفسه انخرط عدد ضخم من الفلاحين المصريين في فيلق العمال المصري المرافق للجيش البريطاني، وقد بدأ تجنيد هؤلاء العمال بالتراضي، ولكن سرعان ما انقلب إلى تجنيد بالقهر والقوة، وتحول إلى نوع من السخرة، وهو ما أدى إلى ارتفاع حدة الغضب عند الفلاحين. وقرب نهاية الحرب في عام 1918 حلت كارثة الإنفلونزا الإسبانية التي قتلت عشرات الآلاف من المصريين، واندمجت العوامل الثلاثة من سوء التغذية والفقر الشديد مع القهر بالسخرة، وأضيف إليها الإنفلونزا، فتضافرت العوامل الثلاثة لتحفيز غضب الفلاحين للاحتجاج الذي بدأ في عام 1918 وتصاعد تدريجيًّا حتى تحول إلى غضب شامل، انتهى بثورة شاملة في عام 1919، اندمجت مع ثورة المدن التي قادها سعد زغلول مع الوطنيين المصريين من كبار الملاك وأفراد الطبقة الوسطى والطلبة والعمال والموظفين في المدن؛ الذين ثاروا مطالبين بالاستقلال وبالدستور والحياة النيابية والحرية والديموقراطية. وأدى التحام هاتين الثورتين اللتين قامتا لأسباب مختلفة وبـناس مختلفين إلى ثورة عظمى وهي ثورة 1919 الكبرى. وواضح أن الإنفلونزا الإسبانية لعبت دورًا كما سوف نرى في اشتعال شرارة الثورة واستمرارها.
كتب كريستوفر روز: لقد وصلت الإنفلونزا الإسبانية إلى مصر بعد توقيع معاهدة مودروس التي أنهت الحرب العالمية الأولى. وكان انتشارها عاملاً في إظهار الغضب المصري من الطريقة التي تعاملت بها بريطانيا مع المصريين في الأمور الصحية والغذائية، خصوصًا بعد المساعدات الكبيرة التي قدمتها مصر للجيش البريطاني. وقد اعترفت لجنة ملنر وزير المستعمرات التي شكلها البرلمان الإنجليزي للتحقيق في أسباب ثورة المصريين بأن هناك أسبابًا عديدة لغضب المصريين. وعلى الرغم من تركيز اللجنة على عدة أسباب  للثورة في الريف وفي المدن، فإن تقرير الملك فؤاد الصادر في أوائل الثلاثينيات ركز فقط على أن الثورة والغضب سببه غضب الوطنيين في المدن طلبًا لإلغاء الحماية والمناداة بالاستقلال. لكن عددًا من المؤرخين لم يوافقوا على هذا التفسير الذي قدمه الملك فؤاد؛ إذ يعتقد الكثير من المؤرخين، أنه يلزم تفسير آخر للغضب العارم الذي انتاب الفلاحين والعمال الزراعيين، فكيف يقومون بهذا الدور الكبير في تأييد ثورة المدن دون أن يكونوا مسيسين وغاضبين؟”.

ليس هذا فحسب…

“وُظِّف الفلاحون في فيلق العمال الملحق بالجيش نظير 4 قروش يوميًّا، ولكن بعد فترة رفض الفلاحون التجنيد في الفيلق، ولجأ  الإنجليز إلى استخدام القوة والقهر لأخذهم، وكانت النتيجة هروبهم من الحقول، مما أدى إلى انخفاض عدد العمال الزراعيين، وارتفاع أجورهم، وسبَّب ذلك مشكلات في الزراعة، وانخفاض الإنتاج وارتفاع اسعار المحصولات الزراعية، وكان أن شكا كبار الملاك إلى الملك فؤاد، وعلى رأسهم شركة كوم أمبو الزراعية، وارتفعت أسعار السماد ونقصه مما أضاف إلى سعر المنتج الزراعي، وفي الوقت نفسه استولى الجيش البريطاني على الدواب، وخصوصًا الجمال بأسعار أقل من السعر الحقيقي مما أثر على النقل والإنتاج الحيواني للبروتين”..

القوس الثاني: الإنفلونزا الإسبانية في الآراضي المصرية

الأمير أحمد عبدالقادر ابن الخديوي عباس حلمي الثاني الجالس على أريكة بجوار أخته،توفى عام 1919 في برلين بعد أن أصيب بالإنفلونزا الأسبانية؛وكان عمره 16 عاماً-من صور الكتاب

الوباء المسكوت عنه وكأنه سر الأسرار..

ويقول الكتاب

“بدأت أقرأ عن تاريخ هذا الوباء الذي اجتاح العالم قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، واكتشفت أنه كان شيئًا مريعًا ومدمرًا، قصف أرواح أعداد هائلة من البشر، وأصاب شخصيات عالمية مهمة مات بعضهم بسبب الوباء. فبدأت أبحث عن تأثير هذا الوباء على مصر، ولم أجد شيئًا، فلجأت إلى كتب مؤرخينا الكبار؛ وعلى رأسهم شيخنا عبد الرحمن الرافعي، فلم أجد شيئًا عن الوباء في مصر في فترة حرجة وصفها وأرَّخ لها الرافعي بدقة، وكانت ذروة الوباء في أثناء زيارة سعد زغلول وصحبه في 3 نوفمبر 1918 إلى المندوب السامي مطالبين بإلغاء الحماية وطلب الاستقلال، وعلى الرغم من ذلك فلم يكتب الرافعي سطرًا واحدًا عنها!
رجعت إلى حوليات شفيق باشا المؤرخ المدقق والمحقق، فلم أجد شيئًا، ثم رجعت إلى عدد من كتب التاريخ المهمة عن هذه الفترة ومنها مصر في الحرب العالمية الأولى للمؤرخة المتميزة لطيفة محمد سليم، وكذلك كتاب عفاف لطفي السيد عن تاريخ هذه الفترة وأيضًا لم يرد ذكر الإنفلونزا الإسبانية، حتى إن بعض كتابنا المحدثين بدأوا يعتقدون أنه ربما لم تصل الإنفلونزا الإسبانية إلى مصر.

وأخيرًا قرأت بحثًا صغيرًا كتبه الدكتور كريستوفر روز عن تأثير الإنفلونزا على مصر في نهاية الحرب العالمية الأولى، وكيف أنها قتلت آلاف المصريين، وكان لها تأثير اقتصادي وسياسي. أثار هذا البحث اهتمامي، فاتصلت بأساتذة التاريخ المصريين، ولم أجد إجابة؛ لعدم وجود معلومات في الأبحاث التاريخية عن هذه الفترة تشير إلى حتى وجود المرض أصلاً. وبالبحث والتدقيق وبمساعدة د. إيمان يحيى وجدت سطرين عن الإنفلونزا الإسبانية في كتاب الأيام الحمراء، مذكرات الشيخ عبد الوهاب النجار عن ثورة 1919، ووجدت سطرًا واحدًا في حوليات شفيق باشا، جاء فيه “وقد ساءت الأحوال الصحية في البلاد بانتشار حمى غريبة قاسية أشبه بالوباء الفتاك سميت بالحمى الإسبانية، فتكت هذه الحمى بالعدد العديد من الناس”.

وبدأت في البحث وراء الخيوط الموجودة في بحث الدكتور كريستوفر روز الصغير، ووجدت أنه يرصد عددًا ضخمًا من القتلى في مصر بسبب الإنفلونزا، ويربط بين انتشار الإنفلونزا وضعف مناعة المصريين بسبب الفقر وسوء التغذية وسخرة عدد من الفلاحين المصريين في فيلق العمال المصريين، وبدأ يظهر ارتباط بين ذلك وبين ثورة 1919 التي بدأت في الريف المصري عام 1918. وهنا تذكرت محاضرة د. خالد فهمي المهمة التي ألقاها في جامعة سواس اللندنية في أثناء احتفاليات مئوية ثورة 1919، قادني ذلك إلى دراسة عاليا مُسلَّم عن الفلاحين الذين جنِّدوا عنوة في فيلق العمال، وقادني أيضًا إلى الدراسة القديمة للصديق الراحل د. إيليس جولدبرج عن أحوال الفلاحين المصريين في هذه الفترة.

وهنا اكتمل مشروع الكتاب في ذهني؛ بأن أربط الإنفلونزا الإسبانية التي حدثت عام 1918 بإنفلونزا كوفيد 19 في عام 2020، وأبين أوجه الشبه بينهما، وتأثير كليهما على البشر والصحة والاقتصاد. ثم أدرس بدقة ما حدث في مصر بسبب الإنفلونزا، من الناحية الصحية والاقتصادية وعلاقتها بغضب الفلاحين المصريين، ثم تأثيرها على أسباب قيام ثورة 1919.

كان غياب المعلومات في كتب المؤرخين المصريين المدققين مثل الرافعي وشفيق باشا محبطًا ومحيرًا، كيف لهؤلاء المؤرخين المدققين ألا يرصدوا ذلك! وكان لغياب الوثائق عن الحالة الصحية في مصر وحجم تأثير الإنفلونزا الإسبانية مشكلة تعوق إتمام البحث، ولكنني اتصلت بالدكتور روز في قسم التاريخ بجامعة تكساس، وعلمت أن الجامعة عندها وثائق الصحة العمومية للسنوات من 1914 حتى 1927 كاملة مفصلة بدقة شديدة ومكتوبة باللغة الإنجليزية، لأن الأطباء والمسؤولين في ذلك الوقت كانوا كلهم من الإنجليز، ووجدت عندهم أيضًا نسخة من التقرير العام للدكتور ويلسون الذي قدمه إلى لورد ملنر وزير المستعمرات البريطاني؛ الذي حضر لمصر وأقام عدة شهور للتحقيق في أسباب ثورة 1919 ومعرفة الأخطاء التي وقع فيها نظام الحكم البريطاني، وهي اللجنة التي طالب سعد زغلول المصريين بمقاطعتها، واستجاب المصريون إلى حد كبير. والنسخة الأصلية من التقرير محفوظة في دار الوثائق البريطانية، ومعظم الباحثين رجعوا إلى أجزاء منها. وقد تفضل د. روز مشكورًا بإرسال كل هذه الوثائق من مئات الصفحات إلي عن طريق البريد الإلكتروني، واتفقنا على تبادل المعلومات للبحث عن الموضوع نفسه. ويوم 6 مايو 2020 ألقى د. روز محاضرة عن الإنفلونزا الإسبانية في برنامج علمي تنظمه جامعة هارفارد يمكن الاستماع له عن طريق برنامج زوم.

شكلت هذه المجموعة من الوثائق الصحية حجر الزاوية في البحث، ولكن ظلت وجهة نظر المؤرخين غائبة، وبعد مجهود استطعت الحصول على جميع صفحات صحيفتي الأهرام والمقطم الصادرتين خلال فترة ستة أشهر التي اشتدت فيها حدة المرض واستخلصت كل ما كتب عن الإنفلونزا الإسبانية في الصحف المصرية، والملاحظة الأولى أن الصحف غطت بكثافة موضوع الإنفلونزا وخطورتها، وكان عندي تصور بأن الموضوع لم يكتب عنه شيئًا في الصحف لأن المخابرات البريطانية والألمانية منعتا النشر عن الإنفلونزا الإسبانية ومخاطرها خوفًا من التأثير على معنويات الجنود في أثناء الحرب، ولكن لا يبدو أن ذلك انطبق على الصحف المصرية. والملاحظة الثانية أنه على الرغم من المادة المتوفرة بكثرة في الصحف إلا أن المؤرخين المصريين المتميزين لم يسجلوا ذلك ولم يربطوا بين انتشار الإنفلونزا وبين فيلق الفلاحين ولا غضبهم ولا تأثير الأحوال الاقتصادية على مناعتهم. واستطعت توثيق أشياء هائلة عن الإنفلونزا من الصحف.

وبعد دراسة الوثائق الصحية التفصيلية والمعلومات المتوفرة في الصحف عدت إلى الدراسات الاقتصادية عن أحوال المصريين في هذه الفترة وعلاقتها بالحرب العالمية الأولى وتجنيد الفلاحين في الفيلق العمالي وارتفاع الأسعار وتدهور الصحة العامة للمصريين وعلاقة الأمر بثورة 1919. ثم قمت بدراسة ما حدث بعد انتهاء الوباء وكيف ظلت ذكراه المؤلمة محفورة في ذهن البشر سنوات طويلة. وظل العلماء يفكرون في الوباء ويحاولون معرفة سببه وطرق محاصرته في المستقبل، ووجدت المصادر التي أوضحت كيف اكتشف العلماء بعد عشرات السنوات نوع الفيروس وتركيبه ودراسته. وحاولت معرفة أسباب عودة الوباء بشدة مرة أخرى في عام 2020″.

القوس الثالث: 
التقرير السنوي لعام 1918

مقطع من غلاف الكتاب؛تصميم :هاني صالح


كيف كانت أحوال الصحة العامة في مصر أيام الحرب العالمية الثانية، في هذا التقرير تفصيلات بشأن صحة المصريين..

في الكتاب ستجد وصفاً تفصيلياً…

“من تحرير الكولونيل كاتشارت جارنر، المدير العام بسبب ضغوط كثيرة (الحرب العالمية الأولى) خلال الأربعة أعوام السابقة، فإن التقرير السنوي للإدارة يحتوي أساسًا على إحصاءات عن الصحة العامة قد تهم المختصين بالصحة فقط، ولكن الآن أمور الصحة العامة أصبحت تهم الرأي العام، ولذلك فإن تقرير عام 1919 سيكون أكبر وأكثر تفصيلاً.

تراكمت ضغوط الحرب في عام 1918، وترك السير دافيد سمبل الخدمة في 7 أبريل 1918، وكذلك ترك الخدمة دكتور جومان مساعد المدير العام في 1 مايو 1918، ولذا أصبحت الإدارة دون مدير عام أو حتى نائب له، وحتى العاملون بالإدارة لم تزد أعدادهم عن الأعوام السابقة، وبالتأكيد لم يكن من الممكن أن تستمر الأمور بهذه الصورة، وقد كتب نائب المدير العام بذلك إلى وزارة الداخلية (مصلحة الصحة العمومية كانت تابعة لوزارة الداخلية في ذلك الوقت) وكذلك إلى المندوب السامي (الموظفون الآن يقضون ساعات طويلة في العمل حتى المساء وهناك أربعة من رؤساء الأقسام إذا مرض أحدهم سوف يتوقف العمل تمامًا، لقد ظهر وباء الإنفلونزا بصورة بسيطة في شهر أغسطس، ثم زادت شدة الوباء في شهر أكتوبر، ولذا طلب المندوب السامي من القائد العام للقوات المسلحة إعادة المدير السابق للخدمات الطبية في الجيش إلى العمل بالصفة المدنية اعتبارًا من 21 نوفمبر 1918 في مصلحة الصحة العمومية).

وقد اجتمعت اللجنة في 29 مايو 1918 واستمرت الاجتماعات لمدة شهرين، والتقت وناقشت مجموعة من الفنيين وغير الفنيين من كافة فروع المصلحة أو من له علاقة بالصحة العامة، وكافة المصالح الحكومية الأخرى، واطلعت على مجموعة كبيرة من الإحصاءات والتقارير، وفي النهاية كتبت تقريرًا وافيًا ومهمًا عن مستقبل وتطور مصلحة الصحة العامة في مصر، وكان على رأس الاقتراحات إنشاء وزارة الصحة المصرية، وقد أثار التقرير اهتمامًا واسعًا في مصر وأوروبا والهند وحتى أمريكا، وتأمل اللجنة في تطبيق المقترحات الموجودة في التقرير، إن لم يكن كلها فعلى الأقل تطبيق أجزاء مهمة منها.

الإحصاءات الحيوية:

في الجزء الأول من التقرير هناك تفسير لنسبة الوفيات المرتفعة بالإسماعيلية وسيناء؛ وكلاهما بها عدد كبيرة من المراكز الحربية وأعداد ضخمة من الجنود.

والملاحظة الثانية هي انخفاض نسبة المواليد في هذا العام مع ارتفاع نسبة الوفيات، وهي ظاهرة موجودة في بلاد أخرى في أثناء الحرب.

المستشفيات العامة:

فتحت 21 مستشفى عامًا أبوابها للعسكريين، وخلال سنوات الحرب دخل المستشفيات المدنية المصرية 41364 عسكري مريض بما فيهم أسرى الحرب، وخرج منهم 20106 عسكريًا عادوا إلى وحداتهم العسكرية، و11429 عادوا إلى دور النقاهة، و1583 رحِّلوا إلى إنجلترا. ومجموع عدد أيام الإقامة في المستشفيات المصرية كان 716500 يومًا، بالإضافة إلى علاج 5965 من العسكريين في مستشفيات الرمد.

مدارس المولدات (الدايات)
استمرت خمس مدارس في العمل في أثناء الحرب في الزقازيق والمنصورة والمنيا وسوهاج والفيوم. ولم يمكن الحصول على مشرفة تمريض لمدرسة شبين الكوم ودمنهور فأُغلقت المدرستان مؤقتًا. وترغب اللجنة في فتح مدارس المولدات في كل مصر لأهميتها، ولأنها سوف تقلل من نسبة وفيات الأطفال حديثي الولادة.

الإنفلونزا:

التقرير يعطي معلومات عن تاريخ وباء الإنفلونزا الرهيب، والذي بدأ بصورة طفيفة في الصيف ثم اتخذ طابعًا شديدًا في الخريف، ومات بسبب الإنفلونزا 138000 مواطن حتى نهاية العام 1918.

وقد اتخذت إجراءات دقيقة بواسطة اللجنة لمحاربة هذا الوباء، وطلبت اللجنة تكوين لجنة استشارية طبية دائمة في القريب العاجل لتختص بهذا الأمر. واتخذت نفس الإجراءات التي اتبعت من قبل في محاربة الأوبئة. وتم توعية الناس بطريقة العدوى وطريقة انتشار المرض وكيف يمكن تجنبه وكيفية التعامل مع الإنفلونزا في حالة حدوث العدوى وكذلك نصح العائلة والمرافقين للمريض بلغة بسيطة مفهومة،  ووزعت ملصقات وأوراق وخطابات وما شابه ذلك لتوعية الناس، ونوقش ما يسمى بالتطعيم ضد الإنفلونزا والذي يستعمل في أوروبا وأمريكا وقايةً من الإنفلونزا أو علاجًا لها، واتفقت اللجنة أن التطعيم للوقاية من الإنفلونزا على نطاق واسع غير عملي في مصر، ولكن وفِّرت كميات من التطعيم لفقراء المرضى في المستشفيات الحكومية والمستشفيات المجانية الأخرى، وكذلك لاستخدام الأطقم الطبية إذا رغبوا في تجربته. ووفرَّت كميات من التطعيم في الصيدليات الخاصة لمن يرغب في شرائه، وكذلك للأطباء في عياداتهم الخاصة لتطعيم مرضاهم. ولكن على العموم يوجد توصية بعدم استخدام هذا التطعيم.

تفتيش الصيدليات:

ما يزال عدد الصيادلة ومساعديهم قليل جدًا، ويجب زيادة أعداد الطلبة المنضمين لمدرسة الصيدلة، وتتداول المواد الطبية المخدرة مثل المورفين والكوكايين بطرق غير شرعية ومن الصعب ضبطها.

المخازن: الحاجة إلى مخازن للمستلزمات الطبية التي يحتاج إليها في الطوارئ غير كافية ونحتاج إلى توسع.

الإحصاءات: قررت وزارة المالية في هذا العام التوقف عن كتابة الإحصاءات للمواليد من المصريين والأجانب منفصلين، والسبب هو أن كثير من الأجانب يفضلون الولادة في الخارج، ومن ثَم لا تكون الإحصاءات سليمة. النسبة العالية للمواليد والوفيات في الإسماعيلية وسيناء يرجع إلى وجود قوات الجيش ومعهم أعداد ضخمة من المصريين الملحقين بالجيش، وقد قيدت الوفيات في الإسماعيلية والعريش وليس في بلادهم الأصلية، وكانت معظم الوفيات من فيلق العمال الملحق بالجيش البريطاني عند عودتهم في نهاية الحرب.

كان عدد السيدات اللاتي يعملن بالدعارة ومسجلين رسميًّا 6523 امرأة، وعدد المرات التي تم الكشف عليهم فيها 185140، ووجد في أثناء الكشف إصابة بالسيلان في 5599 كشفًا. وعولج منهم في المستشفيات الحكومية 5425 حالة.

المستشفيات العامة:

في عام 1918 تحول مستشفى السويس العام إلى مستشفى حربي، وبقيت المستشفى القديمة، وفي بورسعيد استمرت المستشفى تدار بالبحرية الفرنسية، وفي مارس 1918 طلب إقامة مستشفى على هيئة معسكر من الخيام به 200 سرير ارتفع عددها إلى 350 سرير في شهر نوفمبر. وكان هذا المعسكر يعالج الفيلق المصري للعمال الذين تم تسريحهم من الخدمة مع الجيش البريطاني.

وفي هذه الفترة دخل مستشفى المخيم 2464 حالة وتوفي منهم 408 وهذه النسبة العالية من الوفيات سببها الضعف الشديد والهزال من الرحلة الطويلة وقلة الغذاء والبعض مات في الطريق والبعض مات فور دخول المستشفى. 

وقد عولج 8532 من العسكريين من الحلفاء في المستشفيات المصرية عام 1918 و41364 عسكري منذ بدء الحرب العالمية الأولى، ورُفع أجر علاج العسكريين من الجيش البريطاني في المستشفيات المصرية إلى 25 قرشًا يوميًّا بسبب ارتفاع ثمن الطعام والدواء.

ارتفع عدد الأسرة المتاحة للعلاج إلى 4543 سريرًا بزيادة 6715 سريرًا عن العام السابق وذلك بسبب السرائر الإضافية في الزقازيق وكذلك مستشفى الخيام الذي أعد لاستقبال فيلق العمال المصريين. وكان عدد أيام العلاج في عام 1918 1,117,791 يومًا بزيادة ربع مليون يوم عن العام السابق، وزاد عدد مرضى العيادة الخارجية ب 5508 مريضًا. وكانت نسبة الوفيات بالنسبة لمرضى الأقسام الداخلية 6.9%، سبب هذه النسبة العالية للوفيات هو العدد الكبير من المرضى من فيلق العمال الذين ماتوا فور الوصول إلى مستشفى الخيام بالإضافة إلى الإنفلونزا الإسبانية في هذا العام. 

وتبرع أهالي بنها بمولد كهربائي للمستشفى وكذلك جهاز أشعة كما تبرع أهل المنيا بمبلغ 400 جنيهًا لشراء جهاز أشعة، وكذلك إضاءة للمستشفى بمولد كهربائي ودينامو، وتبرع أهل المنوفية لتزويد مستشفى شبين الكوم بجهاز أشعة وعيادة للأمراض التناسلية.

وعُيِّن طبيب ثانٍ للصحة العامة في المنيا وشبين الكوم وبني سويف والفيوم وعدد من الممرضات ورؤساء التمريض في بعض المستشفيات. وأنشئت أقسام جديدة للأمراض التناسلية مع عزل العاهرات وعزل حاملي الأمراض المعدية.

الحوامل والولادات:

الاعتماد الأساسي على الدايات، ويتم مساعدة وتدريب الدايات بنجاح بواسطة الممرضات المدربات. وهناك مدارس تمريض، ولكن هناك صعوبة في إيجاد تلاميذ وتقوم المصلحة بتشجيع الدايات على إرسال بناتهم لمدرسة التمريض.

مستشفيات العيون:

أنشئت وشُغلت عشرة مستشفيات لأمراض العيون في 14 محافظة، وذلك خلال عشر سنوات، وكانت المستشفيات مجهزة، وميزانية كل مستشفى 1500 جنيهًا. كما أنشئت مستشفيات متنقلة في أسيوط والدقهلية وأسوان والجيزة، وقد عولج 82316 مريضًا بهذه المستشفيات، وتم الكشف بالعيادات الخارجية على 1013282 مريضًا.

الأمراض المعدية:

1. ظهور الإنفلونزا في النصف الثاني من العام 1918 وهو جزء من الوباء العالمي الموجود في كل مكان في العالم.

2. استمرار الكوليرا القادمة من فلسطين.

3. استمرار التيفوس والحمى الراجعة

4. انخفاض شديد في مرض الطاعون.

ويتضح من هذا التقرير أن تركيز السلطة البريطانية في مصر كان على المحافظة على صحة وسلامة الجنود، واستلزم ذلك تحويل كل الخبراء من الصحة العامة والوقاية من الأوبئة من عملهم في مصلحة الصحة العمومية وإلحاقهم بالجيش البريطاني، مما أثر بشدة على صحة المواطنين المدنيين، وأدى إلى انتشار الأمراض وزيادة الوفيات. وصاحب ذلك أيضًا انخفاض كبير في ميزانية مصلحة الصحة في مصر، وارتفاع في أسعار الطعام، والنتيجة كانت المحافظة على الجيش البريطاني وإهمال الشعب المصري، وكانت نسبة الإصابات الشديدة والوفيات من وباء الإنفلونزا في الريف أكبر منها في المدن لضعف الصحة العامة وعدم اتباع تعليمات الوقاية. وكان هناك غضب من المصريين على السياسة الصحية البريطانية، وظهر ذلك في اجتماع مجلس بلدية الإسكندرية في الأسبوع الأول من نوفمبر 1918، حين هاجموا رئيس البلدية بشدة على ضعف أداء الحكومة تجاه مكافحة الوباء”.

يظل الغلاء على طول الخط واحدًا من أسباب انتفاضات الشعوب وثورتها، وهو ما كان فعلاً قبل أن تندلع ثورة ١٩١٩ الكبرى، في الريف والمدن، وإن اختلفت الأسباب..

تكلفة المعيشة للفقراء من المصريين
من المعروف أنه حدث ارتفاع عام في الأسعار خلال العام الماضي وخصوصًا في أسعار الطعام، والتي اختلفت عن الأسعار التي تعلنها الدولة على فترات محددة. من الواضح أن الحرب العالمية قد أدت إلى ثراء كبير بين تجار المواد الأساسية والضرورية؛ وشمل ذلك ملاك الأراضي وأصحاب المحلات، وأدت في الوقت نفسه إلى مجاعة جزئية بين قطاع كبير من الشعب.

الغرض الأول أن أشرح بوضوح أن عائلة مكونة من 4 أفراد؛ زوج وزوجة وطفلين، لا تستطيع الحصول على الغذاء الكافي إلا بسعر أكبر بكثير من الأجر الذين يحصلون عليه. لذا أقترح عرض بعض الجداول التي تبين التكوين الأساسي للغذاء وأسعار مكوناته المختلفة والتي جمعتها وحسبتها بناءً على دراسة عن طبيعة الوجبات التي يتناولها الفقراء من المصريين. وسأعرض تفاصيل الأسعار من فبراير 1914 قبل قيام الحرب وفي أعلى سعر وصلت إليه الحبوب في ديسمبر 1917، ثم التسعيرة الإجبارية التي حددتها الحكومة من أول مايو 1918، وعلى سعر متوسط سوف أتحدث عنه لاحقًا، لقد تم حساب الوحدة بأن عائلة مكونة من أربع أفراد، وهذه العائلة تعتمد على عمل فرد واحد فيها وهو الرجل، أما الموظفون، وخصوصًا موظفي الحكومة، فأعتقد أن أجورهم لا تستطيع أن توفر غذاءً أحسن من الغذاء البسيط الذي نتكلم عنه.

إن أجور موظفي الحكومة وهي أكبر مستخدم للعمالة في مصر تتراوح بين خمسة وثمانية قروش يوميًّا؛ أي بين 150 و240 قرشًا في الشهر. وهذا الأجر مماثلاً للأجور التي تدفع خارج الحكومة، وأنا أعلم جيدًا أن معظم العمال ليس عندهم إيراد آخر غير هذا الأجر بل وبعضهم يتقاضى 120 قرشًا في الشهر. 

أحكي لكم ما حدث حين أحضر عامل بناء يتقاضى 6 قروش يوميًّا ابنه إلى قصر العيني وكان يعاني من البلاجرا وعمره 13 عامًا، وكان يعمل ويتقاضى قرشين في اليوم، ويكون الأب محظوظًا لو عمل 25 يومًا في كل شهر، ومعظمهم يعملون 20 يومًا فقط في الشهر. [البلاجرا هي مرض سببه نقص الغذاء، وبالذات فيتامين ب3 ] وكان الرجل صادقًا حين قال إن غذاءه يتكون من 5 إلى 6 كيلة (معيار ذلك الوقت = 75 كيلوجرام) من الذرة في الشهر مع بعض الخضروات.

الجدول الأول (غذاء أ) نموذج عائلة من أربع أفراد، الأب يعمل في محل أخشاب إيراده الشهري 240 وقرشًا ويأخذ 30 قرش بقشيشًا، والمجموع 270 قرش شهريًّا. في عام 1914 كان هذا العامل يعيش حياة معقولة، يوفر قليلاً ويساعد أباه. الجدول يبين الموقف المالي لهذا العامل بين عامي 1914 و1918.

جدول 1: تكلفة الحياة للعمال والفلاحين في مصر

فبراير 1914

ديسمبر 1917

مايو 1918*

تكلفة الغذاء

138

373

283

مصاريف الحياة الكلية

198

447

358

ثمن الخبز

66.5

242

152

* بعد تطبيق التسعيرة الجبرية

يبين هذا الجدول كيف تدهورت أحوال هذا العامل بين 1914 و1917، إذ أصبح دخله لا يكفي احتياجاته، وأصبحت مصاريفه الشهرية 447 قرشًا، بينما إيراده 270 قرشًا، فاضطر إلى خفض مصاريف الأكل ونقصت تغذيته هو وعائلته. وفي مايو 1918 طبقت التسعيرة الجبرية لمحاولة الحد من الغلاء.

والجدول الثاني لحالة عامل آخر إيراده الكلي 260 قرشًا شهريًّا، وعنده زوجة وثلاثة أطفال، ويبين كيف أن مصاريفه الشهرية أصبحت 484 في 1917 بينما إيراده 260 قرشًا، وهذا كان يكفيه في عام 1914. وحاولت التسعيرة الجبرية إصلاح الوضع في مايو 1918 ولكنها فشلت في معادلة ميزانية عائلة العامل والفلاح.

فبراير 1914

ديسمبر 1917

مايو 1918

تكلفة الغذاء

142

377

285

مصاريف الحياة الكلية

235

484

391

ثمن الخبز

63

243.5

152

القيمة الغذائية للغذاء الذي يتناوله العاملان في محل الأخشاب مع عائلتيهما يوضح أن الخبز يكون 82% من السعرات الحرارية وهذا هو المعدل الطبيعي للنباتيين الذين لا يكون الأرز مكون أساسي في الغذاء. في إنجلترا الخبز لا يكون أكثر من 50% من السعرات الحرارية، ويقول البروفيسور ويلسون أن الخبز يُكوِّن أقل من 20% من السعرات الحرارية في غذائه هو وعائلته ومقارنة إنجلترا فإن الخبز يٌكون 40% من الغذاء. الأهمية الكبرى للخبز في الغذاء تعني أن رفع أسعار الحبوب يكون له وقع خطير على أسعار الغذاء للفقراء. والخبز في مصر أمر يثير الاهتمام لأنه يوجد ثمانية أو تسعة أنواع منه، وكلها تخبز بطرق مختلفة ويطلق عليهم أسماء مختلفة. 

الذرة هي الحبوب الأكثر استخدامًا في صناعة الخبز، وقد أصبح أكثر استخدامًا بعد أن ارتفع سعر القمح ويتم خلط الذرة بالقمح لصناعة الخبز وأحيانًا يضاف قليل من الحلبة ويفقد نحو 35% في أثناء عملية الطحن.

جدول 3 يبين قيمة الغذاء وتكلفته والمقابل لما يعطى للمساجين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وهناك تقديرات لوجبات أخرى دون لحوم أو شحوم ودون أي تكاليف إضافية نظير الطبيخ

جدول 3: تكلفة الغذاء شهريًّا بالقرش للمساجين

1914

1918 بعد التسعيرة

أكل مساجين الأشغال الشاقة F

98

208

أكل متوسط الجودةG 

72

172

أكل ضعيفH 

64

147

مثل G ولكن ذرة فقط. جيد الكمية وضعيف التغذيةI 

72

142

خبز ذرة وفول وخضار به سعرات جيدة ولكنه ضعيف القيمة الغذائيةJ 

78

139

 

وواضح أن سعر جميع الوجبات قد تضاعف بين عامي 1914 و1918 وحتى بعد التسعيرة والتخفيض الجبري لها. وأن جميع هذه الوجبات تفتقد إلى البروتينات المسؤولة عن بناء العضلات والأنسجة، ويعتقد د. ويلسون أنه ينبغي أن يحتوي الأكل على 40 جرامًا من البروتينات يوميًّا، وهو ما لم يحدث في وجبات أغلبية المصريين.

ويكتب د. ويلسون في تقريره أنه يجب أن يأكل الإنسان 30 جرام من اللحوم أو 34 جرام من الأرز، أو 76 جرام من القمح، وعلى الأقل 102 جم من الذرة ليغطي احتياجاته من البروتينات. ولذا ليأخذ الإنسان كفايته من البروتين عليه أن يأكل 3 أرطال من الذرة يوميًّا، وإذا كان ذلك غذاءه فقط فسوف يتوقف عن النمو وفي النهاية يموت. بالطبع فإن المناعة ضد الأمراض المعدية ستكون ضعيفة للغاية وكذلك العديد من أمراض سوء التغذية كالبلاجرا وهو للأسف مرض منتشر بكثرة في مصر”.

القوس الرابع: تكلفة المعيشة في مصر 1918

الفيلق المصري الذي بلغ تعداده 340 ألف عامل وفلاح؛كان يقوم بمهمات الخدمة في الجيش البريطاني خلال الحرب العظمى الأولي-الصورة في فرنسا

كيف التقت ثورة المدن مع ثورة الفلاحين و ماذا فعلت الإنفلونزا الإسبانية …؟ لابد أن تطلع على أحوال الغلاء في مصر خلال تلك اللحظات التاريخية الكبرى…

وستجد تفاصيل في الكتاب:

“من المعروف أنه حدث ارتفاع عام في الأسعار خلال العام الماضي وخصوصًا في أسعار الطعام، والتي اختلفت عن الأسعار التي تعلنها الدولة على فترات محددة. من الواضح أن الحرب العالمية قد أدت إلى

ثراء كبير بين تجار المواد الأساسية والضرورية؛ وشمل ذلك ملاك الأراضي وأصحاب المحلات، وأدت في الوقت نفسه إلى مجاعة جزئية بين قطاع كبير من الشعب.

الغرض الأول أن أشرح بوضوح أن عائلة مكونة من 4 أفراد؛ زوج وزوجة وطفلين، لا تستطيع الحصول على الغذاء الكافي إلا بسعر أكبر بكثير من الأجر الذين يحصلون عليه. لذا أقترح عرض بعض الجداول التي تبين التكوين الأساسي للغذاء وأسعار مكوناته المختلفة والتي جمعتها وحسبتها بناءً على دراسة عن طبيعة الوجبات التي يتناولها الفقراء من المصريين. وسأعرض تفاصيل الأسعار من فبراير 1914 قبل قيام الحرب وفي أعلى سعر وصلت إليه الحبوب في ديسمبر 1917، ثم التسعيرة الإجبارية التي حددتها الحكومة من أول مايو 1918، وعلى سعر متوسط سوف أتحدث عنه لاحقًا، لقد تم حساب الوحدة بأن عائلة مكونة من أربع أفراد، وهذه العائلة تعتمد على عمل فرد واحد فيها وهو الرجل، أما الموظفون، وخصوصًا موظفي الحكومة، فأعتقد أن أجورهم لا تستطيع أن توفر غذاءً أحسن من الغذاء البسيط الذي نتكلم عنه.

إن أجور موظفي الحكومة وهي أكبر مستخدم للعمالة في مصر تتراوح بين خمسة وثمانية قروش يوميًّا؛ أي بين 150 و240 قرشًا في الشهر. وهذا الأجر مماثلاً للأجور التي تدفع خارج الحكومة، وأنا أعلم جيدًا أن معظم العمال ليس عندهم إيراد آخر غير هذا الأجر بل وبعضهم يتقاضى 120 قرشًا في الشهر. 

أحكي لكم ما حدث حين أحضر عامل بناء يتقاضى 6 قروش يوميًّا ابنه إلى قصر العيني وكان يعاني من البلاجرا وعمره 13 عامًا، وكان يعمل ويتقاضى قرشين في اليوم، ويكون الأب محظوظًا لو عمل 25 يومًا في كل شهر، ومعظمهم يعملون 20 يومًا فقط في الشهر. [البلاجرا هي مرض سببه نقص الغذاء، وبالذات فيتامين ب3 ] وكان الرجل صادقًا حين قال إن غذاءه يتكون من 5 إلى 6 كيلة (معيار ذلك الوقت = 75 كيلوجرام) من الذرة في الشهر مع بعض الخضروات.

الجدول الأول (غذاء أ) نموذج عائلة من أربع أفراد، الأب يعمل في محل أخشاب إيراده الشهري 240 وقرشًا ويأخذ 30 قرش بقشيشًا، والمجموع 270 قرش شهريًّا. في عام 1914 كان هذا العامل يعيش حياة معقولة، يوفر قليلاً ويساعد أباه. الجدول يبين الموقف المالي لهذا العامل بين عامي 1914 و1918.

جدول 1: تكلفة الحياة للعمال والفلاحين في مصر

فبراير 1914

ديسمبر 1917

مايو 1918*

تكلفة الغذاء

138

373

283

مصاريف الحياة الكلية

198

447

358

ثمن الخبز

66.5

242

152

* بعد تطبيق التسعيرة الجبرية

يبين هذا الجدول كيف تدهورت أحوال هذا العامل بين 1914 و1917، إذ أصبح دخله لا يكفي احتياجاته، وأصبحت مصاريفه الشهرية 447 قرشًا، بينما إيراده 270 قرشًا، فاضطر إلى خفض مصاريف الأكل ونقصت تغذيته هو وعائلته. وفي مايو 1918 طبقت التسعيرة الجبرية لمحاولة الحد من الغلاء.

والجدول الثاني لحالة عامل آخر إيراده الكلي 260 قرشًا شهريًّا، وعنده زوجة وثلاثة أطفال، ويبين كيف أن مصاريفه الشهرية أصبحت 484 في 1917 بينما إيراده 260 قرشًا، وهذا كان يكفيه في عام 1914. وحاولت التسعيرة الجبرية إصلاح الوضع في مايو 1918 ولكنها فشلت في معادلة ميزانية عائلة العامل والفلاح.

فبراير 1914

ديسمبر 1917

مايو 1918

تكلفة الغذاء

142

377

285

مصاريف الحياة الكلية

235

484

391

ثمن الخبز

63

243.5

152

القيمة الغذائية للغذاء الذي يتناوله العاملان في محل الأخشاب مع عائلتيهما يوضح أن الخبز يكون 82% من السعرات الحرارية وهذا هو المعدل الطبيعي للنباتيين الذين لا يكون الأرز مكون أساسي في الغذاء. في إنجلترا الخبز لا يكون أكثر من 50% من السعرات الحرارية، ويقول البروفيسور ويلسون أن الخبز يُكوِّن أقل من 20% من السعرات الحرارية في غذائه هو وعائلته ومقارنة إنجلترا فإن الخبز يٌكون 40% من الغذاء. الأهمية الكبرى للخبز في الغذاء تعني أن رفع أسعار الحبوب يكون له وقع خطير على أسعار الغذاء للفقراء. والخبز في مصر أمر يثير الاهتمام لأنه يوجد ثمانية أو تسعة أنواع منه، وكلها تخبز بطرق مختلفة ويطلق عليهم أسماء مختلفة. 

الذرة هي الحبوب الأكثر استخدامًا في صناعة الخبز، وقد أصبح أكثر استخدامًا بعد أن ارتفع سعر القمح ويتم خلط الذرة بالقمح لصناعة الخبز وأحيانًا يضاف قليل من الحلبة ويفقد نحو 35% في أثناء عملية الطحن.

جدول 3 يبين قيمة الغذاء وتكلفته والمقابل لما يعطى للمساجين المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وهناك تقديرات لوجبات أخرى دون لحوم أو شحوم ودون أي تكاليف إضافية نظير الطبيخ

جدول 3: تكلفة الغذاء شهريًّا بالقرش للمساجين

1914

1918 بعد التسعيرة

أكل مساجين الأشغال الشاقة F

98

208

أكل متوسط الجودةG 

72

172

أكل ضعيفH 

64

147

مثل G ولكن ذرة فقط. جيد الكمية وضعيف التغذيةI 

72

142

خبز ذرة وفول وخضار به سعرات جيدة ولكنه ضعيف القيمة الغذائيةJ 

78

139

 

وواضح أن سعر جميع الوجبات قد تضاعف بين عامي 1914 و1918 وحتى بعد التسعيرة والتخفيض الجبري لها. وأن جميع هذه الوجبات تفتقد إلى البروتينات المسؤولة عن بناء العضلات والأنسجة، ويعتقد د. ويلسون أنه ينبغي أن يحتوي الأكل على 40 جرامًا من البروتينات يوميًّا، وهو ما لم يحدث في وجبات أغلبية المصريين.

ويكتب د. ويلسون في تقريره أنه يجب أن يأكل الإنسان 30 جرام من اللحوم أو 34 جرام من الأرز، أو 76 جرام من القمح، وعلى الأقل 102 جم من الذرة ليغطي احتياجاته من البروتينات. ولذا ليأخذ الإنسان كفايته من البروتين عليه أن يأكل 3 أرطال من الذرة يوميًّا، وإذا كان ذلك غذاءه فقط فسوف يتوقف عن النمو وفي النهاية يموت. بالطبع فإن المناعة ضد الأمراض المعدية ستكون ضعيفة للغاية وكذلك العديد من أمراض سوء التغذية كالبلاجرا وهو للأسف مرض منتشر بكثرة في مصر”.