شيكابالا

شيكابالا: اللعب على المسامير

وائل عبد الفتاح

 يُبعث من الرماد كلما أيقن الجميع نهايته، هذا هو شيكابالا ، المنتصر بعد هزائم ، العائد بعد غياب.

 يكتب شيكابالا على حسابه في “ تويتر” بعد إحراز أول أهدافه مع المنتخب في مرمى غانا :”..الرفاعي الدسوقي مماتش” متوحداً مع الشخصية التي لعبها محمد رمضان في مسلسل “الأسطورة”؛ يشترك شيكابالا معهما (رمضان ورفاعي) في اللون والعنف والنظرة الشعبية المربكة للأخلاق و القيم الكبرى، إضافة إلى الشهرة وسط حشود عاجزة، تهيم حباً في القوة الخارجة من جحورها، وتحتفي بالموهبة حينما تصيبها الشهرة، وتقدس المجرم الذي ينتصر على الوحوش المعادية.

هذه الحشود تطمئن نفسها بمسافة تتخلص فيها من بطلها الشعبي حين تغضب عليه الآلهة الكبار في العالم الأوسع، أو عندما يحول البطل قوته ضدها، ساعتها تمنحه اللعنات بنفس حماس إغراقه فى نعيم الهوى.

 شيكابالا كانت تقهره كل لحظة هتافات عدائية بسبب لونه/ومن جمهور يستورد حتى الإستعلاء الأشقر بدون ملامح شقراء.

شيكابالا كان يرد بالإستعلاء المضاد، والعدوانية في مواجهة العنصرية.

شيكابالا في صورة تقترب فيها ملامحه من الرفاعي الدسوق و محمد عباس معاً، الصورة من موقع سوبر كورة

يفلت “شيكابالا” بأعجوبة من مصيدة تجعله الضحية/المضطهد، لا يغرق للنهاية في النصف المأساوي من القصة كما حدث مع “محمد عباس” النجم الذى لمع كالفراشة واحترق مثلها، قبل أن تكتمل قصته في منتصف الثمانينات.

 شيكابالا ومحمد عباس ينتميان إلى حكايات “العدل المستحيل” الذي تواجهه الموهبة الاستثنائية، في بلد يمثل جنة المتوسطين، تربكه المواهب، ولايعبر ثقوب مصفاته الوسطية “الجميلة “ إلا المقاتلين من طراز وحشي.  عباس استسلم مبكرا، وشيكابالا مازال ينتقل في القتال إلى مراحل من التحدي كما في العاب الفيديو والبلاي ستيشن.

شيكابالا الآن في إعارة  من الزمالك إلى نادي سعودي بعد محاولة عاشرة للانضواء في مرحلة “مرتضى منصور“، التجسيد الحي لعصر الركاكة الحاكمة الممتد منذ ٤٠ سنة وربما أكثر.

عندما سافر شيكابالا إلى سبورتنج لشبونة قبل الرائد السعودي، لم تكن تذكرة الطائرة هي العلامة الوحيدة علئ رغبة الهجرة إلى عالم آخر ،لكنها كانت مؤشراً لوصول النجومية إلى حافة الخطر.

ورغم أن كل الإجراءات في كل مرة سفر كانت تؤكد: شيكابالا عبرالنهر.

إلا ان شيكابالا لم يسافر، في اي مرة، بالمعنى المنتظر، يعود سريعاً إلى مربعه الآمن، بكل عذاباته، ذلك المربع الذى أعاده سريعاً قبل أن تكتمل تجربةالسفر الأولى إلى اليونان، في بداياته وحين كان السفر واللعب في أوروبا حلم كل مّن يلمس كرة القدم.

هنا مفارقة يمكن استهلاكها كأكليشيه عاطفي، عن سفر شيكابالا الدائم الي الجنوب أي الدول الأكثر معاناة في الإقتصاد (اليونان والبرتغال)وليس إلي الشمال الأكثر ثراءً و اضواءً.

محمد عباس الثالث في الواقفين ، مع فريق الأهلي ١٩٨٥ بين نجوم وأساطير هذا الزمن وعلى رأسهم محمود الخطيب

،شيكابالا وعلى صدره صورة قرين آخر هو نجم الملاكمةمايك تايسون،الصورة من البحث الحر على موقع جوجل

لكن مالا يمكن القياس عليه هو نوع الإفتتان الذي يجعل “شيكا…” جامع تناقضات/وليس سلعة جاهزة تعبر عن إطمئنان المجتمع علي أخلاقه و قيمه.

يعود شيكابالا بعد كل سفر محملآً بالخيبات، والطاقات المتجددة معاً. السفر الأخير إلى لشبونه ومن بعده الإبعاد إلى السعودية هو سفر اللحظة الصعبة. الزمن يلاحقه. يطارد ذلك الشغف المعذب.يهدد الطاقة العصية على الترويض. رمى فانلته/كاسراً سقف الجمهور. لكنه يذوب في الجمهور. يحمل الكأس ويذهب إليه. يفرح وسط جمهور كان بالنسبة له سر السعادة و الشقاء.

 لاعب على مسامير وليس عشباًً اخضر، يعيش غربة كاشفة في الملاعب. غربة المواهب الاستثنائية، في لحظة تعبد الميديوكر، وتحوله إلى نجم نجوم، مادام قابلاً للتنميط، والدخول في علب جاهزة، للتوزيع كسلعة مأمونة.

اسمه الرسمي محمود عبد الرازق، من قرية بالقرب من اسوان، مدينة السحر والغربة، الاندماج والقطيعة، المدينة التي تبدأ ولا تنتهي عندها تراجيديا النوبة بتاريخها مع المعاناة وأهلها الذين يعيشون بهدؤ لا يليق بالمآسي.

شيكابالا إسم شهرته، إنتقل إليه من الأخ الأكبر (عبد الباسط) لاعب فريق أسوان، عندما كان مدربه يأمل أن يكون مفارقاً عن مستوى لاعبي الفريق البعيد عن الأضواء، فمنحه اسم نجم زامبيا الشهير.

 لكن المفارقة جاءت مع الأصغر “محمود” فانتقل اليه الإسم وجنونه، الذي لا يشير مثل اسمه الأصلي إلى شيء تقليدي، أو خاضع لمسطرة يمكن القياس عليها، هوشيطان وملاك جمهور كرة القدم، منقذ نادي الزمالك ولعنته..لا يصلح قدوة مثل أبو تريكة، أو نموذج للمشاغبة المرفهة الحادة مثل أحمد حسام ( ميدو).

يغضب، يفور، يخرج عن حدود الإنفعالات المعروفة في الملاعب، يخترق حاجز الأدب واللياقة المعتادة، ويطير كطائر النار، يحرق مابينه و بين جمهور يحفظ نجومه في ثلاجة الملائكة، و يقدر نفاقهم الاجتماعي أكثر من موهبتهم.

نفس الجمهور يطير سعادة، عندما يحول شيكابالا المستحيل إلى شيء عادي، تتحول المدرجات الي تراتيل فتنة، ويبدو الفتى الأسمر -بالقوة الساحرة المنطلقة من قدمه اليسري -رسول متعة لا يمكن تفاديها.

هو موهبة تعيش الجحيم في “جنة المتوسطين” ، حيث للوسط قيمة وتقدير، والنجاح للمتوسط والأقل كفاءة، لا إبداعات خارقة، ولا خروج عن حدود يرسمها متوسط الموهبة، أنبياء عصور الإستبداد الداعم للرداءة، و القادرين على صنع سبيكة تجعل الطيران تحت الرادار ممكناً كل هذه السنوات الطويلة التي نعيشها تحت حكم  وسيطرة “حراس الرداءة”.

يقف شيكابالا غريباً في الملعب، غربته مع الجميع، فريقه: الزمالك، والمنتخب: في لحظات الرضا القليل عنه. شيكابالا غريب عن المزاج العام.

مصر ليست الارجنتين التي جعلت من مارادونا أيقونتها، المنفلتة، المجنونة، الخارقة للعادة، البرازيل رغم فتنتها الكروية، إرتضت بالساحر”الطيب” بيليه، المتوافق، الصاعد علي مسطرة الاخلاق العامة.

هذه لحظة لا تستوعب شيكابالا، ترضي فقط بمن يقصون الأجنحة، ويدورون برؤوسهم في حلقات ذكر، ودروشة تكرر المألوف، وتخاف من التجربة و الإبداع، بإسم الإستقرار . تغرق مصر في صورتها عن نفسها كبلد الإعتدال و الوسط، ورموزها “ الخلوقة”، هكذا تتوه الموهبة الكبيرة، يحاصرها السياق الضيق، الذي يستوعب جيوشاً من المنافقين و لا يقدر على تحمل موهبةً واحدةً خارج النمط، تفتح مسارات أخرى.

ولد شيكابالا في الملاعب غريبا، وسيرحل غريباً، بعد أن يترك سحره علامات على لحظة لا تستوعب موهوبيها، و تمنح نفسها كاملة للأنصاف و المتوسطين.

* الصياغة الأولى 2010