محمد شطا… الشاعر أم الفلاح الأجير

قصة

ياسر عبداللطيف

1

سبعة عشر عاما قضاها محمد شطا في القاهرة كُللت بفشل ذريع من المنظور المديني البرجوازي. لكن ذلك الانهيار الذي أصاب حياته الزوجية والمهنية أحدثه هو بيده، وكأنه بالحماقات الكبرى التي ارتكبها كان يريد أن يبصق على تلك المؤسسة الصغيرة التي حازها في المدينة، فطوّقته بقيود لم يتخيل حجمها. جَسَده نفسه صار مُكبلاً بخيوط حريرية لا تُرى. كأن الطبقة المتوسطة القاهرية قد أعادت هندسة أعضائه وحركتها في الفضاء، حتى داخل البيت. تلك الحماقات كانت طريقته في الانفجار. طلبت زوجته الطلاق فورًا، فطلّقها؛ ولم يُفصل من عمله، إذ أنه كان يعمل دون تعاقد؛ لكنه فهم أنّ من المستحيل أن يعود إلى ذلك المكتب ثانيةً بعد ما حدث.

2

رجع شطا إلى قريتهم في أقصى شمال الدلتا، فلاحًا كآبائه. تزوج من ابنة خالته ذات السبعة والعشرين عاما، العانس في عُرف القرية. ابنة خالته تماثل خالته في الملامح بل تماثل أمه أيضًا، لكنها لا تزال شابة ممتلئة الجسد موفورة الصحة. أشعلت فيه تلك الزيجة رغبةً عارمة أججتها بدائية تلك العلاقة العشائرية، كأنه يتجاوز نحو المحارم، ينتهك جسدًا مقدسًا. غاص شطا في طمي الدلتا الداكن وغرق في لُجَّة الطبيعة الأم والمتعة الحرِّيفة.

3

بتهوّر غير محسوب، أو هو محسوب بشكل غير واعٍ، قام محمد شطا بسلسلة من الأفعال الفاضحة كان يمكن أن تقوده إلى السجن، لولا تدخُّل بعض الأصدقاء لاحتواء الأمر. الأدهى أن تلك الفضائح حدثت في محيط أسرته وعمله، ما ترتب عليه بالطبع طلاقه وفقدانه للوظيفة. فعاد إلى بلدتهم ذات ظهيرة شديدة الحرارة من أغسطس، وجلس إلى جوار أمه على سريرها الواطئ. سألته عن حاله وعن زوجته وابنه. قال لها “طلّقت كل حاجة في مصر يامّا وعايز أتجوز أمل بنت خالتي”.

4

كان شطا قد حصل على الثانوية العامة بمجموعٍ عال في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، ما أهَّله للالتحاق بكلية الإعلام الوحيدة المتاحة في مصر وقتها، في جامعة القاهرة. اختار كلية الإعلام لشغفه بالكتابة والأدب، مُعتبرًا إياها الطريق المباشر للعمل في الصحافة. وفي ذاك الزمن كانت كلية الإعلام تتشارك المبنى نفسه مع كلية فريدة أخرى في القُطر، هي كلّية الاقتصاد والعلوم السياسية، وما أدريك (بالإمالة) ما كلية الاقتصاد والعلوم السياسية. تمر بها فلا تحسب طلبتها من طلبة جامعة القاهرة البؤساء. فتيات أشبه بممثلات السينما وشباب متوّرد في أناقة لا يعرفها طلاب إمبابة والسيدة زينب وهم الجسد الأكبر بين طلاب الجامعة العريقة. لم يكن طلبة الإعلام على نفس الدرجة من البرجوازية، لكن كان عليهم أن يجاروا جيرانهم في المبنى بما استطاعوا. ولعجز شطا عن المجاراة في الإنفاق والأزياء، كانت ثقافته الواسعة بالنسبة لأقرانه وتفوُّقه الدراسي وخفة ظله مع السلاح الناجع في مواجهة كل هذا الاستعلاء. كان يحلو له أن يقول لأقرانه مُتهكمًا على نفسه: “أنا طالع الأول على كفر البطيخ في الثانوية العامة أدبي يا بشر!”. وكانت تلك الدعابة تثير ضحكًا غزيرًا بين زملائه، وهم يظنون أن “كفر البطيخ” مجرد اسم ساخر يختصر الريف المصري كله بفلاحيه لدى القاهريين. لكن شطا لم يكن يكذب، فهو ينتمي لعزبة كُحيل بمحافظة دمياط، وهي من القرى التابعة لكفر البطيخ الذي لم يعد مجرد قرية أو كفر، بل مدينة ومركز تتبع له عزبة كحيل. وقد تخرج شطا بالفعل في”كفر البطيخ الثانوية المشتركة” وبالفعل جاء أولاً على القسم الأدبي في المركز كله.

5

يجدر أن نقول إن أمل عروسه الجديدة ليست ابنة خالته فقط، فهي ابنة عمه فوق ذلك. فأبوه وعمه كانا قد تزوجا من شقيقتين، وهما في الأصل ابنتي عمَّهما أيضًا. من هنا كانت القرابة متشابكة. وإذا عرفنا أن بيتي الأسرتين متلاصقان في الحارة نفسها، لتوقعنا أن العريس وعروسه قد نشآ في تداخل أخوي حتى ولو كان محمد يكبُر أمل بعشر سنوات كاملة. فعندما كان شطا فتىً يتأهل للسفر إلى القاهرة بعد الثانوية، كانت أمل بعدها طفلةً تلهو بين الدارين المتداخلين في عزبة كُحيل.

6

قبل التخرج بقليل ارتبط “شطا بتاع كفر البطيخ” بروزا زميلته في الكلية. وقعت في غرامه؛ كان حضوره لا يقاوم: يُلقي شعرًا غامضًا، يتأبط دائمًا كُتبًا ذات عناوين ملهمة “مالك الحزين، رشق السكين، وجع البعاد…”، ويطلق الدعابات على نفسه وعلى الجميع. روزا أو فيروز عبد الرحيم، ابنة مصر الجديدة ونتاج زيجة بين اثنين من مناضلي يسار جيل السبعينيات، وجدت فيه مثال الفنان المثقف الذي تربَّت على احترامه. وفور تخرجهما، تقلّب شطا وروزا معًا بين مكاتب الصحف العربية في القاهرة، تلك التي كان يُطلق عليها “الدكاكين الصحفية”، واستطاع شطا أن يصنع اسمًا كمُراسل ثقافي لجريدة كويتية عروبية بارزة.يكتب عروض الكتب، ويحاور كبار الكتاب والمفكرين، فتُرسل له الصحيفة أجره بالدولار على عدد الموضوعات التي يكتبها شهريًا، فيحوِّل مدير المكتب النقد الأجنبي إلى مصري، ويدفع لشطا ثُلثَ قيمة ما كسب ويحتفظ لنفسه بالثلثين. وكان ذلك الثلث كافيًا لإعاشة محمد في قاهرة منتصف التسعينيات. أما روزا فلم تتحمل ذلك طويلًا وسرعان ما وجدت وظيفة في شركة إعلانات كبيرة رحمتها من الاستغلال الصحفي، وكفلت لها مرتبًّا فوق الجيد.

7

رجع شطا إلى كفر البطيخ، وعاد مُزارعًا كآبائه، ولكن بالأجرة هذه المرة وفي أراضي الآخرين؛ فالقراريط القليلة التي ورثها عن أبيه باعها كلّها ليرمم جزءًا من صورته لحظة زواجه من روزا، فيُسهم بالقليل في النفقات التي تكفّلت بمعظمها عائلة العروس. ذابت احتجاجات الأبوين على ذاك الشاب الذي لا يملك شيئًا ولا وظيفة ثابتة عندما واجهتهما روزا بأفكارهما الاشتراكية القديمة، وراهنت أمامهما على موهبة شطا التي ستضمن له مُستقبلاً مُختلِفًا، وحتمًا سيُعيَّن في إحدى الجرائد الكبيرة فيحصُل على عضوية نقابة الصحفيين. ولعبت روزا مرةً أخرى دور الضمير الفكري لأبويها عندما اعترضت الأم على تسميتها لمولودهما الوحيد بـ”مينا”. قالت الأم” ده اسم مسيحي!” نظرت لها روزا نظرة مُحقِّق عقائدي وقالت “ده اسم مصري قديم يا ماما، وانتي عارفة طبعًا!”.

8

حصلت أمل على دبلوم التجارة الثانوي منذ سنوات طوال. عملت قليلاً كموظفة بعقد مؤقت في مدرسة القرية الابتدائية، ثم تركتها عندما وجدت ألا مال ولا فائدة تُرجى من تلك الوظيفة، وبقيت ترعى أمها وخالتها في البيتين المتجاورين. في زيارته المتقطعة للقرية، راقب شطا نموّها عبر السنين بعينه الفاحصة؛ كانت تبدو نحيفةً خلف ملابسها الفضفاضة، ولكن الكنوز المُكتنِزة والاستدارات الخلابة تتراكم خلف تلك النحافة الكاذبة. خلال عذريتها الطويلة، نمت فكرة أمل عن الجنس بتصوارت تقليدية كاستلقاء ووطء ورهز؛ ومع زواجها من شطا دخلت عالمًا وحشيًا ما كانت تتخيل وجوده.

9

بينما يهمُّ بتناول الأرز بالملعقة ذات غداء عائلي لدى والدي روزا في مصر الجديدة، قالت له وهي تشير إلى الشوكة الراقدة نظيفة جوار الطبق “الرز بيتاكل بدي! لكن هاتروح فين الشمس من على قفا الفلاح؟!”. ردت أمها تزجرها بنعومة “سيبيه ياكل براحته يا روزا!”، يتذكّر والشمس تصلي قفاه بالفعل في أحد الحقول الآن وقد ارتد مواطنًا بدائيًا يأكل القثاء طازجة ويقضِمُ ثمار الباذنجان نيئة مُسكَّرة مباشرة من تربة دمياط السبخة. ويتذكر إهانة أخرى وجهتها له بعنف صريح تلك المرة خلال إحدى الشجارات المنزلية “إرجع للجاموسة اللي جيت من وراها يا روح أمك!”؛ تردح ابنة سلطح بابا ومدارس اللغات كأيّ مرأةٍ قارحة من حواري ناهيا. يتذكر والشمس تصلي قفاه، لكنه لم يعد يتعصَّب بالمنديل ويرتدي الصديري الفلاحي والسروال كآبائه، بل يعتمر كابًا أحمر ربما يقيه الشمس، ويرتدي بنطلون تريننج صيني الصنع وقميص رونالدينيو لاعب برشلونة البرازيلي في نسخة مقلدة مهترئة. تلك الملابس من اللدائن الصناعية كانت تترك بجسده حرارة مختزنة طوال النهار، كيف له أن يطفئ نيران تلك الأشواق الغامضة، والشمس لن تتزحزح من على قفا الفلاح!

10

بعد باريس سان چيرمان انتقل رونالدينيو القادم من حواري بورتو اليجري في البرازيل، إلى برشلونة المدينة الأكثر فخرًا بأوروبيتها في إسبانيا، وقد جرت معه النقود أنهارًا لا توقفها سدود نهر الأمازون العالية. رونالدينيو “الأشبه بقطعة طين ناتئة في وجه أوروبا” كما وصف روكي دالتون الشاعر السلفادوري نفسه، داهمه مصورو الباباراتزي غارقًا وسط بحر من الشمبانيا الفوارة والفتيات الشقراوات في أحد الملاهي الليلية، ونَشَرت الصحافة الرياضية الصفراء صوره تلك مع تعليقات أخلاقوية ساخرة لا تخلو من العنصرية. وعندما منحت جريدة “ماركا” النجم الأسمر حق الرد على تلك التعليقات، أجاب بجملة قاطعة: ” فليذهب الأخلاقويون إلى الجحيم!” شاهرًا إصبعه الوسطى في وجه اليمين الشعبوي الإسباني والكاتالوني. لو كانت لشطا أموال رونالدينيو (وموهبته؟) لشهر إصبعه الوسطى في وجه القاهرة وبرجوازيتها؛ لكن هذا كلام فات وقته. رونالدينيو لم يعد سوى اسم مطبوع على قميص رياضي رخيص صيني الصنع يرتديه عامل زراعي باليومية تحت شمس مصر الحنون.

11

لطالما ظنت أمل أن تلك الممارسات محرمة دينيًّا ينهى عنها الشرع؛ لكن زوجها حلالها، ابن عمها وابن خالتها، أقنعها بأن القرآن يقول “نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم…”؛ بمعنى أن كل الممارسات مسموحة بين الزوجين، طالما هي بعيدة عن الستة أيام الحُمر، وحتى لتلك الأيام فهناك مسارب أخرى غير الطرق التقليدية، وهما في النهاية من لحم ودم بعضهما البعض.

12

خلال سنوات إقامته في القاهرة أصدر شطا ديوانين شعريين. كان يكتب قصائد تحتفي بالمدينة. يرى القاهرة كعكةً تسيل بالملذات. يصوِّر في أبياته أجساد الفتيات المعذبات بين الحجاب والچينزات الضيقة على السلالم المتحركة بالمولات في انعكاساتها المتكسرة في المرايا الصغيرة. وتقاطعات الجُسور العلوية فوق الأحياء القديمة الغبراء، وهيام ذئب وحيد يجوب الشوارع بحثًا عن الفرائس متعطشًا للمتع السريعة والاقتناص. على المقاهي لم تقتنع حكومة الشعر المصرية ذات التكوين الريفي بقصائد شطا، ولم تُجِزه في كشوف شعرائها المُعتمدين. قالوا إنه يكتب شعرًا مترجمًا كشعراء القاهرة المدلّلين. والشعر ريفي بطبيعته، ولو أراد الريفي أن يكتب عن المدينة فليكتب عن اغترابه فيها وحنينه للانسجام وخبز أمه، وعن زيف العاصمة وأجنبيتها عن “المعنى الحقيقي للوطن”. لم يُصنَّف شطا في القائمة المعتمدة لشعراء جيله وفقًا لمراسيم حكومة الشعر المصرية.

13

في أيام العطلات والأعياد يمتلئ بيت الخالة بأخوات أمل وعيالهم. يجيئون من دمياط الجديدة والمنصورة، فتُذبح الطيور وتقام الولائم. شقيقة شطا الوحيدة تعيش مع زوجها في السعودية منذ عقود وقد كبر أبناؤها هناك وصاروا يرتدون الدشاديش ويعتمرون الغُتر والعقالات. أما الجدّان الشقيقان فقد رحلا واحدًا إثر الآخر فترمَّلت الشقيقتان أم شطا وأم أمل، في عز شبابهما.
في الأيام العادية، عادةً ما يسهر شطا مع زوجته وأمه وخالته في بيتهم يتفرّجون على التليفزيون وهو وسطهن كأسد وسط زمرته؛ ثلاث نساء شبه متماثلات إحداهن في نهاية عشريناتها والأخرى في أواخر أربعينياتها والأخيرة في منتصف خمسينياتها. يُدخن شطا معسل سلّوم الناعم على الشيشة، ويضبِّب مشاهد المسلسلات التركية والأفلام المصرية القديمة بدخانه. فإذا هيَّج فيه أحد المشاهد ذكرى من القاهرة، أو حرك قواه الطبيعية أشار إلى أمل أن يدخلا غرفتهما لتبدأ أوديسا الليل.
تنظر أم أمل إلى شقيقتها بنظرة ذات معنى وتقول:

– ياختي هو كل يوم؟
ترد أم شطا بابتسامة خبيثة:
– أنا عارفة؟! ثم تربِّع ذراعيها معتدلة فوق الكنبة وتصدر ذلك الصوت الشهير من بين شفتيها معبرةً عن التعجب “مِسم”!
تسأل الخالة ثانيةً وبحيرة حقيقية:
– هو الواد ده مش هايروح يشوف ابنه ولا يجيبه نشوفه، زمانه خلّص الابتدائية دلوقت.
تمدّ الأم ذراعها بالريموت ترفع صوت التليفزيون لتشوِّش على المشاعر التي ملأت الغرفة، وعلى الأصوات المترامية من غرفة الزوجين.

14

خرج شطا من المكتب كالذاهل وفي حلقه عطشٌ رهيب. عطش لا يُطفئه مجرد شرب الماء. ذهب إلى بار ستيلا على ناصية شارعي طلعت حرب وهدى شعراوي. جرع ثلاث زجاجات من البيرة في أقل من نصف ساعة، مع ذلك لم يبارحه الظمأ. خرج من البار، وعرَّج على عربة سندويتشات الكبدة الشهيرة القريبة، والتهم ستة أرغفة مع قرون الفلفل الأخضر. ثلاث زجاجات من البيرة لا تُسكِر شطا في الأحوال العادية، لكن تناولها في تلك الجرعات المتلاحقة السريعة ضاعف تأثيرها، وبتفاعل الكحول مع تأثير قرون الفلفل الحامي دخل شطا فيما يشبه الهذيان. تذكر بيت شعر قديم ركيك لكامل الشناوي “أحـبـبـتـهـا وإذا بـها قلب بلا نــبــض… ســراب خادع ظــمـأ وجـوع”. تتمدَّد المدينة أمامه كجسدٍ عار مُحرّم. قطوف دانية بلا طائل. عين بصيرة ويد قصيرة. سار كشبحٍ مشتعل الرأس في شارع طلعت حرب تجاه الميدان حتى تجاوزه وبلغ المول الجديد على اليسار، ركب السلالم المتحركة صعودًا وهبوطًا عدة مرات بلا هدف وزاغ بصره في شرائح المرايا الصغيرة الموزعة في أرجاء المكان. فتح فمه على اتساعه وابتلع تلك السلالم، بالفتيات الصاعدات والهابطات في جينزاتهم الضيقة، بالطوابق ومحلّاتها التجارية، بماركات الملابس المقلّدة والأحذية الرياضية. رفع رأسه أمام مرآة الحمام في أحد الطوابق ونظر في عيني نفسه، كان الحوض أمامه قد امتلأ بقيئه. غسل رأسه وغادر مبللا يقطر الماء من شعره الطويل.

15

“ارجع لامك في كفر البطيخ!” تصرخ روزا في أحد الشجارات المنزلية وينزوي مينا الصغير خوفًا ويتبوَّل في ملابس المدرسة التي لم يخلعها حتى الثامنة مساءً، وتتهشَّم عدة أكواب، وتنجرح قبضة شطا من لكمةٍ غاضبة ويائسة لحائط الغرفة. وها هو لم يعد فقط لأمه؛ بل عاد إلى الأمومة في صورتها الخام. يعيش في وسط حنون. يُهلك جسده طوال النهار ويُمتعه آخر اليوم بالأكل والجنس، وما يأتي على قدر ما يروح. تآلفت أمل مع نزواته وفانتازياته بل أحبتها وأضافت لها.. يتفهّم شطا لماذا يحظرون الزواج بين الأقارب من هذه الدرجة في أوروبا والدول المتقدمة، لكن ذلك لا يزيده إلا إيغالا في دروب اللذة اللانهائية بمنحى للتجريب لا يتوقف.

16

كان شطا قد ترقَّى في مكتب الجريدة وأوكلت له مهام إضافية فوق كتابة عروض الكُتُب وإجراء الحوارات، ما أكسبه عدة مئات إضافية من الجنيهات فوق دخله الشهري. صار عليه أن يمارس مهام التحرير للأخبار والموضوعات الصغيرة التي يأتي بها الصحفيون والمراسلون. كلّهم شباب وشابات حديثو التخرج كما كان شطا منذ سنوات، لكنهم لا يجيدون كتابة جملة صحيحة. يضبط هو تلك القطع الصحفية ليجعلها جاهزة للإرسال إلى المحرر النهائي في مقر الجريدة بالكويت. نظام العمل الجديد يتطلّب أن يبقى ثماني ساعات في غرفة التحرير مع زميلين آخرين، فيما يتوافد الصحفيون  الصغار طوال اليوم، يسلّمون موضوعات أو يفرغون تسجيلات. في منتصف النهار، تهمد غرفة التحرير ليتناول الصحفيون غداءهم الذي يدور عادة في فلك عُلَب الكشري وسندوتشات الفول، أو الشاورما في أيام تلقّي الأجور. وبعد الغداء تمر ساعة تسيطر فيها حالة من خدر ما بعد الطعام، ويسود الصمت على خلفية من أزيز أجهزة التكييف. يُسمّي شطا تلك المرحلة من الشيفت بـ “الساعة السليمانية” نقلاً عن صديقه عبد الودود الشاعر اليمني المُقيم في القاهرة، الذي حكى له عن انتهاء فترة الصهللة في جلسات القات الصنعاوية، حين يتوقف “المخزّنون” عن الغناء والمزاح، ليدخلوا في فترة الصمت والتأمل، في “الساعة السليمانية!” ثمة شيء يُشعر شطا بنقص فادح في كيانه، كأنّه جوع لطعام لم يُخترع بعد. لتوه انتهى من الغداء وشُرب الكولا وذلك الاحتياج يجتاحه كنداء غامض من الداخل. قصد شطا مطبخ الجريدة ليصنع قهوة، لا يوجد بالمكان عامل لتلك المهام، والمشروبات تُدار بطريقة “هيلب يور سيلف” بل عليهم أن يوفّروا، هم بأنفسهم، البنّ والشاي والسكر والحليب. وفي المطبخ كانت صحفية شابة منحنية تبحث عن شيء داخل الثلاجة عندما طوّقها شطا بذراعية يعتصر ثدييها والتصق محمومًا بمؤخرتها. صرخت الفتاة بصوت حاد “إنت بتعمل إيه يا حيوان؟!!” التم المكتب كلّه في المطبخ. خرج شطا للمرة الأخيرة من الجريدة بعد أن سلّكه عصام زميله من بين أيدي الصحفيين الآخرين، وأقنعهم أنّه يمرُّ بأزمة نفسية حادة وأنّه ليس في حالته الذهنية الطبيعية من شهور، وأكدَّ لهم أنه يعرف الطبيب النفسي الذي يعالجه والذي بإمكانه تأكيد ذلك كتابيًا للجريدة.

17

ظلّت القاهرة لشطا سرًا مُستغلقًا. نصيبه منها المناظر والروائح، ولكن هيهات الطعوم. ومن يعرف سرّها؟ أهؤلاء الموظفون والموّظفات في المواصلات العمومية بكروشهم المتهدلة وأثدائهن كبالونات الماء؟ أم هم الباعة السرّيحة الآتين من هوامشها العشوائية القبيحة. أم هم طلبة كلية الإقتصاد والعلوم السياسية الآتين من أحيائها الراقية بالمناصب اللامعة تنتظرهم عقب التخرج؟ كلهم عابرون كشطا، لكنه أدرك ذلك دونهم، ودون أن يعرف أنه أدرك.

18

كانت طواعية أمل نتيجة طبيعية لتنشئة تدفع تجاه الإذعان والخضوع دون هامش للاختيار. فبعد تيتمها في سن صغير فقدت أيضًا العم الأكبر ذا القلب الحنون، وسقطت تحت سيطرة شقيقيها الكبيرين، من ينفقان على البيت. أقنعاها بعد أن تخرّجت ألّا فائدة من وظيفتها في المدرسة الابتدائية، فالحكومة قد أوقفت التعيينات، وستظل تعمل بهذا العقد المؤقت إلى الأبد. وأن لا قيمة للأربعمائة وتسعة عشر جنيها التي تقبضها. والأفضل أن تبقى في البيت تؤنس وحدة أمها، وخالتها أيضًا في البيت المجاور. فبقيت في كنف الأرملتين الشقيقتين، وتشرَّبت أحزانهما وصبرهما على الحياة عند حدها الأدنى من المتع. ومن أين إذن سيأتي لها العرسان. وإن أتوا، بضع مرات، بتدابير الأقارب والمعارف، فألف حجّة ستقف لتخريب صفقة الخطوبة. كأن ثمة اتفاق ضمني أن تبقى أمل لتُعنِّس في مخزن الأرامل بعزبة كحيل. لذا كانت عودة شطا للاستقرار في البلد، وطلبها للزواج، حلًّا مثاليًا لجميع الأطراف. أمها وخالتها وشقيقيها وشقيقة شطا في السعودية، ولأمل نفسها بالطبع، فأخيرًا ستدخل دنيا، من نفسها.

وعندما طلب شطا يد أمل من خالته عارض شقيقاها في البداية معارضة واهية؛ تساءل الأخ المهندس بميناء دمياط:  ولماذا لم يطلبها وهو صحفي، أيطلبها الآن وهو عاملٌ زراعي؟ لا بد وأنه ارتكب جرمًا هرب إثره من القاهرة. وأيَّد الأخ السلفي الطبيب بمستشفى المنصورة ذلك الظن، وقال إن الأقاويل تُشيع عن شطا أنّه شيوعي وملحد من أيام كفر البطيخ الثانوية. لكن في النهاية لم يستطيعا رفض طلب ابن عمهما، وكسر خاطر شقيقتهما التي بدت سعيدةً بالأمر، و”ربنا يهديه ويصلح الأحوال”.

19

بالفعل لم يكن شطا مؤمنًا. أو بشكل أدق لم يكن مؤمنًا كأقاربه وأهالي بلدته، وإن ظلّ يعتقد أنّ الدين عمومًا، أي دين، هو كالشعر، مجالٌ مثقل بالرموز، وهو يدرك عمق تلك الرموز وفاعليتها، وإلا فيما يكون إيمانه بالشعر؟! منذ عودته إلى عزبة كحيل صار يتردد على المسجد كلّ جمعة للصلاة؛ في طقس رمزي آخر يكمل حياته الجديدة، ويُكسبها عمقًا بالاتصال بمجال رمزي يختصرونه في الطقوس. مجال يحلّق حولهم يحتويهم وهم يبخسونه المقام. يرتدي جلبابًا أبيض مكويّا وينتعل حذاءً أسود ملمّعًا كأبناء العُمَد ويقابل في الجامع أقارب وأصدقاء من مجايليه في البلدة. يذهبون للمقهى بعد الصلاة يشربون الشاي ويدخنون الشيشة ويتكلّمون في الأحوال ويتذكرون الأيام الخوالي ويضحكون. كان ذاك المقهى أيام كانوا صبيانًا، مجرد غرزة تقدم الشاي والمعسل على الجوزة فقط؛ من كان يقول إن النسكافيه سيعرف طريقه إلى عزبة كحيل مع نكهات دخان الفواكه على الشيشة الزجاجية. لا يُلمِح أحدٌ لغموض عودة شطا ومهنته الجديدة التي لا تليق بتعليمه العالي ووضع عائلته. تعاملوا مع الأمر على الأقل في حضرته، كما لو كان وضعًا طبيعيًّا. فقط يختمون الجلسات بجملة تتردد على مسامعه في كل مكان بالبلدة “ربنا يهديك يا محمد يابو شطا!”.

أما متابعو أخبار شطا من زملائه وأصدقائه القاهريين؛ من وصلتهم “طراطيش” كلام عن عودته إلى البلد وحياته الجديدة فيها، فهم يظنون أنّه بهذا الاختيار قد انتحر أدبيًّا! شطا أحد أوائل دفعة قسم صحافة، من حُرم من التعيين في السلك الأكاديمي لأسباب نعرفها جميعًا، تخص تردي المؤسسة ونظم الاصطفاء فيها. من ظفر بحب روزا، مزَّة الدفعة، الجريئة الفرنكفونية ابنة الأسرة المثقفة، يهجر الشعر والصحافة هربًا من الفضيحة ليشتغل عاملاً زراعيًّا باليومية، ويتزوج من ابنة عمه الفلاحة متوسطة الجمال والتعليم. لكن شطا لم يعتبر نفسه مستقيلًا من الشعر أو هاجرًا له. لقد توصل لتلك الصيغة ذات ظهيرة قاهرية في شقة صديقه الشاعر اليمني عبد الودود بباب اللوق. يوم فعلته الفضائحية في مكتب الجريدة وصل بيته في حدائق الأهرام آخر الليل منهكًا بعينين في لون الدم. كانت روزا بانتظاره عند الباب! لم تكن السوشيال ميديا وحملات فضح المتحرشين قد عُرفت بعد في عام ٢٠٠٧، لكن لا خبر يخفى في الوسط الصحفي، وروزا لا تزال على اتصال بزملائها القدامى. وافتُضِحَت وقائع أخرى من نفس النوعية اقترفها شطا في المجال القريب مع صديقات ومعارف؛ سقط الثور وتكاثرت عليه السكاكين. وللمرة الأولى خلال علاقتهما التي وصلت إلى النهاية، كان شطا حاسمًا مع روزا. رمى يمين الطلاق شفاهيًا، وقال لها إنه لن يذهب إلى مأذونٍ أو محاكم، ولتُنهي هي الإجراءات كيفما تشاء. كانت روزا أيضًا حاسمة: لن ترى مينا ثانيةً؛ لن يكبر الولد بجانب مجرم مجنون مثلك. خرج من الشقة بحقيبة صغيرة فيها أقل القليل من متعلقاته. وذهب إلى شقة صديقه عبد الودود في باب اللوق. ظل هناك أيام يستجمع نفسه ويفكر أين يذهب. وبعد أيام رأى القصيدة التي ستصير إليها حياته. لقد عاد إلى حيث خُلِقَ ليلتحم بقدر سلالة وُجِدَت بنفس الموضع منذ كان لدلتا النيل سبع أذرع لا اثنتين فقط. وعاد فلاحًا كأبيه وجدوده الذين لم يفلت أي منهم من هذا القدر. في الاستسلام لهذا القدر والانجراف الهادئ معه كورقة صفصاف تطفو على صفحة النهر يكمن الشعر. سيعيش الشعر لا يكتبه، مع الأرض وأمومتها السرمدية، وأمل ابنة عمه وخالته تجري بينهما دماء السلالة لتتزاوج الخلايا الأولى في حيد عن المُضي بعيدًا، عن السفر وأحلام الارتقاء وأبهة الأجواء الزائفة. يتذكر لا زال أبيات جُبران منذ قرأها في مكتبة المدرسة الثانوية: “السرُّ في العيشِ رغدُ العيشِ يحجبهُ… فإِن أُزيل توَّلى حجبهُ الكدرُ… فإن ترفعتَ عن رغدٍ وعن كدرِ… جاورتَ ظلَّ الذي حارت بهِ الفكرُ… ليس في الغابات حزنٌ… لا ولا فيها الهمومْ… فإذا هبّ نسيمٌ.. لم تجىءْ معه السمومْ… ليس حزن النفس إلا… ظلُّ وهمٍ لا يدومْ… وغيوم النفس تبدو.. من ثناياها النجومْ… أعطني الناي وغنِّ.. فالغنا يمحو المحنْ.. وأنين الناي يبقى.. بعد أن يفنى الزمنْ…”.

20

عبد الودود له نصيب من اسمه فهو ودود فعلاً. اختار شطا أن يلجأ إلى منزله دونًا عن أصدقائه الآخرين لأنّه يعرف أنه كمضيف لن يثقله بالأسئلة عمّا فعل أو ما سيفعل. وبالفعل طيلة أيام تعامل ودود مع الأمر كأنّه لم يكن؛ فيما كان شطا حديث المقاهي وقتها، وقد صُدم من فضيحته أصدقاء كثيرون وصديقات أكثر. وذات ليلة كانا جالسين في الشرفة المطلّة على إحدى حواري شارع هدى شعراوي، مستغرقين في تأملات حول قصيدة قرأها ودود على شطا، طرح عليه السؤال بهدوء ودون أي نبرة إدانة: “كيف عملت كذا؟” كأن السؤال لا يفارق سياق حديثهما المُتأمل حول الشعر. سؤال حول كنه الفعل نفسه لا عن دوافعه أو دلالته. يعرف ودود شطا جيدًا، ولا يظنّه متهورًا أو مجنونًا أو محرومًا من الجنس. بهدوء أعاد شطا سرد ما يتذكره “كنت حاسس بعطش رهيب ودماغي مش مظبوطة… شربت بيبسي وميا كتير وكان زوري لسه ناشف، قلت أعمل فنجان قهوة… دخلت المطبخ لقيت رُفيدة دي واقفة قدام التلاجة… لسة كنت باقول لنفسي إن جسمها حلو قوي لقيت تلات عيال من زمايلها بيضربوا فيا وعصام بيشدني من وسطهم”. وفي الصمت الطويل الذي أعقب الحكاية تذكّر شطا، وقت كان في الإعدادية، حين أدخل عمه أول مرحاض إفرنجي في القرية، في بيته المجاور لبيتهم. صار شطا يصطنع الأسباب، وهو ليس بحاجة إلى ذلك، ليمرق إلى بيت عمه، ثم، وكأنها مصادفة، يلّح عليه طلب قضاء الحاجة. فيدخل إلى المرحاض الجديد لينعم بالجلسة الملوكية على العرش الخزفي الأبيض عوضًا عن الكنيف البلدي ذي الحفرة الأرضية في بيتهم. يبقى دقائق طوال تفوق بكثير وقت قضاء الحاجة. كان ذات مرة يتأمل الغريفة المبلطة بالقيشاني الناصع في أثناء جلسته على المرحاض. تحت الدش كانت هناك ليفة ضخمة جديدة للاستحمام وحجر الخفاف في لونه الأحمر المحروق لزوم تنعيم كعوب النساء؛ على الحوض عدة حلاقة عمه: صابونة وفرشاة نائمة في كوز قديم وشفرة حلاقة تقليدية كالمطواة تنطوي داخل غمد، وحجر من البازلت كمسنٍ لشحذ الشفرة. أمسك شطا بالموسى ورجع إلى جلسته بالمؤخرة عارية فوق العرش. أخذ يجربها على وجهه ولحيته التي بدأت لتوها تنبت خضراء من أرض المراهقة.. علق بالشفرة بعضٌ من زغب لحيته الغضة، فرأى أن ينظفها قبل أن يعيدها إلى مكانها لئلا يكتشف عمُّه استخدامَه لها. على يمينه، في تلك الجلسة، تدلى من مسمار على الحائط جلبابٌ قشيب من القطيفة السوداء، كانت خالته ترتديه في سفراتها النادرة إلى دمياط أو المنصورة. صنع ثنية في قطيفة الجلباب بإصبعيه وضغط على نصل الشفرة يمسح أثر فعلته. كان جريان النصل في القطيفة ساحرًا. استغرق الملمس كل حواسه. نعومة المعدن الماضي تسري في نعومة القطيفة. وعندما ارتد إليه طرفه، وجد الجلباب في حجره وقد تحوّل إلى شرائط سوداء طويلة. لم ينتبه إلا وقد مزَّعه بالكامل، وبشكلٍ يبدو فنيًّا. بقى للحظات لا يعرف كيف يتصرَّف. ثم حمل بقايا الجلباب على ذراعيه كمن يحمل جثةً، وخرج به إلى خالته. قال إنه لم يعرف لماذا وكيف فعل هذا. وكان رد فعل خالته صادمًا. ولولت المرأة ولطمت خدّيها كأنّه خرج إليها فعلًا بجثّة عزيز، لا مجرد هلاهيل سوداء كانت جلبابًا من القطيفة. ربما أشعلت المرأة تلك المناحة لسبب آخر غير التدمير المجاني غير المبرر لجلبابها الأثير؛ ربما لأنها عاينت الجنون الخاطف لابن شقيقتها. لحظة فقد عقله فيها لتنفتح في وعيه هوّة أطلّت منها أكثر الغرائز بدائية. نسيَ شطا تلك الحادث طيلة ربع قرن، كما طمرها النسيان في ذاكرة العائلة كأنّها لم تكن. وتذكرها الآن مع سؤال ودود. كانت لحظة عمياء، عاد بعدها لمحمد شطا المراهق مجرى وعيه العادي، وعاد ولدًا صالحًا لا غبار على سلوكه في إطار العائلة، وطالبًا مشاغبًا ومتفوقًا محبًا للقراءة.

21

مضت أربع سنوات منذ تزوجا ولم تحبل أمل، على الرغم من فورة المضاجعات اليومية أو شبه اليومية دون استخدام أي وسائل للوقاية أو المنع. خلَّف ذلك بالطبع ترقبًا وحسرة لدى نساء آل شطا في العزبة. وفي كون مواز، في حدائق الأهرام كانت روزا قد تزوجت بعد طلاقها بنحو ثلاثة أعوام من رجل خمسيني موسر، لانت معه عريكتها. وفوجئت أمّ محمد شطا ذات صباح من يوم جمعة صيفي برجل أشيب أنيق يطرق عليها الباب في عزبة كحيل بصحبة مينا حفيدها الذي كان قد صار في الثالثة عشرة وأطول منها. قال الرجل إنه “زوج والدة مينا” هكذا بالفصحى، وإنه رأى أن تلك القطيعة المفروضة بين الولد وأبيه لا ترضي ربنا فقرر المجيء بمينا إلى عزبة كحيل ليرى أباه وعائلته. بكت المرأة لرؤية حفيدها بعد كل هذه الفترة وتأثرًا لموقف الرجل النبيل. وجاءت شقيقتها وأمل، وأغرق الجميع مينا بالأحضان والقبلات. ولمينا دلال لدى نساء آل شطا منذ زياراته القديمة مع أبيه وأمه إلى البلد. كانوا إذا أتوا عزبة كُحيل تجلس روزا بتنورتها القصيرة على الكنبة صامتةً، تبتسم بحساب وتأكل من طعامهم بحذر، وهم يلحظون هذا ولا يعلقون عليه. كان الولد مُشتاقًا لجدته، ولقريباته. يتذكّر أمل جيدًا لكنه لا يعرف أنّها صارت زوجةً لأبيه. في البلدة لا يألفون اسم مينا، ويسمّونه محمد الصُغَيَّر، وهو بالفعل نسخةٌ من أبيه في صغره. أصرّت الأم على استبقاء الرجل للغداء، لكنه تذرَّع بأنه يريد أن يلحق بصلاة الجمعة في دمياط الجديدة فله هناك أعمال لا بد أن ينجزها، وقال إنه سيترك مينا يقضي اليوم معهم وسيرجع ليأخذه آخر النهار فيعود به إلى والدته في القاهرة. عاد شطا من صلاة الجمعة ووجد ابنه في البيت. حكّت له أمه ما جرى. قضى ما تبقى من النهار مغتبطًا بحضور ابنه الذي قارب عمر الشباب، يسأله عن أحواله الدراسية والمنزلية، ويستقصي منه أخبار”مصر”. تناولوا جميعا الغداء وأعطى شطا الولد بعدها ما كان بوسعه أن يُعطيه من مال؛ وعندما عاد زوج الأمّ أول المساء ليأخذ محمد الصُغيَّر إلى القاهرة، وإذ همّا بالمغادرة، وبغض النظر عن الحرج الذكوري بين رجلين تعاقبا على الزواج من نفس المرأة، وتوجُّس الأب الذي يرى ابنه اليافع يغادر في صحبة رجل غريب، فقد بدا الرجل لشطا كما لباقي عائلته، مُحترمًا مُستأمنًا. شدَّ شطا على يده بعرفان وشكره، بعد أن احتضن مينا طويلاً. كان نهارًا مُشمِسًا مُفعمًا بالمشاعر في عزبة كُحيل، والريح اللطيفة تهبّ من ناحية البحر المتوسط غير البعيد.

22

لم يقدم الطب النفسي حتى الآن تعريفًا دقيقًا لتلك الحالات من الجنون اللحظي العابر كالتي تنتاب محمد شطا، وإن حفظ التاريخ الأدبي تسجيلاً لها من وجهة نظر أحد مرضاها المُعتبرين، دوّنه في كتابه “المستقبل يدوم طويلاً” الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير، الأستاذ في مدرسة المعلمين العليا أكبر معهد للإنسانيات في فرنسا، ومقترف جريمة القتل بحق زوجته هيلين ليجوسيان في أثناء نوبة من ذلك الغياب الذهني الغامض. ففي صباح السادس عشر من نوفمبر عام 1980، وجد ألتوسير نفسه، بحسب وصفه هو، واقفًا في غرفة النوم بالشقة التابعة للمعهد وأمامه زوجته نائمة في هدوء على السرير. عنَّ له أن يدللها ببعض الماساچ فيدلّك كتفيها وعنقها كما اعتاد أن يفعل بتقنيات تعلّمها من زميل رياضي كان معه في المعتقل. بينما هو يتأمل حركة يديه تنتقل من خلف أذنيها حتى الترقوة، شعُرَ بإرهاق في رسغيه وانتبه فجأة على وجه زوجته محملقًا في السقف بثبات بينما تدلى لسانها جزئيًا من بين أسنانها. أدرك على الفور أنه خنقها. أصيب بالهلع وصرخ. ثم هرع بملابس النوم متخبطًا حتى العيادة المُلحقة بالمعهد. كان ذلك يوم أحد وقد خلى حيّ البانثيون كله من الطلاب في ذاك الصباح. أيقظ الطبيب المقيم الذي ذهب معه على الفور إلى شقته، وبعد فحص هيلين سريعًا أدرك أنها ميتة وأخبره أن الوقت قد فات. تركه الطبيب في الغرفة لدقائق ثقيلة، وعاد بعد أن اتصل بمدير المدرسة وبالشرطة والمستشفى، وحقن التوسير بما يبدو أنه الڤاليوم أو مادة مماثلة. ويتذكر ألتوسير بدء سريان مفعول الحُقنة وامتلاء الشقة بالغرباء. كان أحدهم في غرفة مكتبه يجمع من فوق الطاولة كُتبًا استعارها ألتوسير من مكتبة الكلية! أُسقِطَت الدعوى القضائية عن التوسير كقاتل بعد تقارير طبية أثبتت أنّه يعاني من “اضطراب ذهني ناتج عن اكتئاب حاد” عاش ألتوسير بعدها عشر أعوام أخرى قضى ثلاثة منها محتجزًا في مصحة نفسية، ثم أطلق سراحه. ومات عام 1990 عن 72 عامًا. كتب ألتوسير كتابه الذي نُشِرَ بعد وفاته بعامين، كدفاع بعدي يقدمه للمجتمع تفسيرًا أو تبريرًا لجريمته في ضوء التحليل النفسي. مُستعيدًا سيرته الذاتية من البداية ليصل إلى لحظة الجريمة. وقد خصّص أجزاء يُفلسف فيها، على طريقة تلميذه الألمع ميشيل فوكو، حالة الاحتجاز التي يتعرَّض لها مريض نفسي ارتكب جريمة. وفي التحليل النهائي يبدو أن ألتوسير يرى قتله لهيلين ليجوسيان نوعًا من الانتحار المنعكس إلى الخارج. استمرارًا للعبة تبادل الأدوار التي اعتادها مع زوجته طوال علاقتهما المضطربة. وقد أثارت الجريمة، وروايتها من جانب مقترفها الناجي من المحاكمة ومن ثمَّ من العقاب القانوني، جدلًا كبيرًا كما تستحق. وقالت كاتبات نسويات في فرنسا وخارجها، إنها جريمة تندرج في إطار العنف اليومي ضد النساء، وإن المرض النفسي أو الجنون كانا دائمًا حجّة ناجحة للتعمية على جرائم الاغتصاب أو قتل المرأة، خاصة إذا كان الجاني يتمتع بشهرة أو برصيد معنوي في المجتمع، وأي شهرة أو رصيد معنوي في فرنسا إن لم تكن لفيلسوف وأستاذ في أعرق كلّيات البلاد. وقد أخذن عليه تفريغ اعترافه من أي تحليل سياسي، لا سيما نسوي، وهو الفيلسوف الماركسي القريب من مُجمل الصراعات الاجتماعية، وكان السؤال النسوي في القلب منها طوال فترة السبعينيات في فرنسا. كذا، بين الاضطراب النفسي والعنف ضد المرأة تأرجحت جريمة شطا، لكن الطب الشرعي أثبت أنه في كامل قواه العقلية واستحق المحاكمة. طوَّر شطا مع أمل لعبة ليلية تُكسب لحظة النشوة الأخيرة سُكرًا فوق سكر. يُطبق بكفيه على جانبي عنقها يعيق الدم الصاعد إلى الرأس، بينما يرهز بعنف، ثم يطلق كفيه في اللحظة الحاسمة ليندفع الدم إلى رأسها مع اندفاع كافة القوى الحيوية لديها ولديه. ليلتها التفت شطا ليجد نفسه خارج أمل مُرتخيًا، بينما هي تحملق في السقف وقد خار ذراعها مفتوحين على اتساعهما كجناحي طائر ميت. أمل ماتت! قتلتها! ارتدى شطا بنطلون الترينج ذاك على اللحم مع أي قميص، وخرج يطرق على أمه بابها وهو يخور ثم طرق باب خالته ورأى نفسه يحمل إليها ذاك الجلباب ممزقًا وهي تولول وتلطم خديها. أدرك شطا أنه وضع نقطة النهاية لقصيدته الحيّة. وكما رأى ألتوسير الأغراب يجمعون كتبه رآهم شطا يجمعون ألبسته الداخلية هو وأمل من أرضية الغرفة مع ملآت السرير والأغطية. لم يستطع شطا أن يفسّر اللعبة الجنسية للقضاء، ولا لمحاميه؛ وبينما أثبت الطب الشرعي سلامة قواه العقلية، شهد طبيبه القديم من القاهرة أنه كان يُعالج لديه منذ سنوات من درجة خفيفة من الاكتئاب، لم تُعقه حتى عن ممارسة الأنشطة العادية والاجتماعية. لا نعرف هل انحاز القضاء المصري للسؤال النسوي، أم الأمر كان سيختلف لو الجاني اسمًا أدبيًا كبيرًا من حجم يوسف إدريس مثلاً؟! تشرذم آل شطا كلهم بعد الجريمة، وانمحق أثرهم من عزبة كحيل، والأسوأ، أن أذهان سيئي الطوية من الأهالي استقرت على تفسير وحيد للجريمة، ظل يتردد بعد ذلك في العزبة، يطعن في سمعة الضحية، أمل.