الحلقة الثانية: كيف عاش اليهودي في القاهرة؟

“هل تعرفني؟!”..
سألني يوسف درويش فجأةً.. كنتُ أجلسُ بالقرب منه على كرسي بلاستيك أبيض، في صالة الشقة رقم 44 بالعمارة رقم 5 بشارع يوسف الجندي؛ في باب اللوق.. حيث كان يعيش لمدة خمسين سنة.. والكرسي الأبيض هو أحدث شيء أضيف إلى موديل الأثاث؛ الذي بدا لي أنه اختير منذ ثلاثين عامًا مثلاً ليناسب ذوق أصحاب البيت الأنيق والبسيط بلا فخامة مزعجة.. لم ينتظر إجابتي.. أكمل معي الحوار، وعندما تكلمت توقَّف عند إشارات ذكرتها له من معلومات سابقة عن حياته.. فقال بدهشة اجتهد في أن يخفيها “أنتَ تعرفني إذن”.
في المرات التالية، سألني السؤال نفسه، وأجاب على طريقته “أنا سألت نفسي لماذا فجأة صارت الناس تهتم بي، وعثرتُ على إجابة.. الحقيقة أنهم يقولون إن هذا رجل عمره ٩٥ سنة.. ولهذا تأتون وتستمعون إليَّ.. وتسألونني عن رأيي وملاحظاتي.. وتعرفوا حكايات عن تاريخي” وابتسم أكثر “وأنا فعلاً رجل مروَّح”.

يوم الأحد 5 أكتوبر 2005..الساعة السادسة احتفل يوسف درويش بعيد ميلاده.. وصلت متأخرًا كالعادة.. وبعد أقل من خمس دقائق التقطت صوت رنَّة موبايل، بحثت عن صاحبه.. لم يهتم أحد سوى يوسف درويش.. يده تحاول العثور على الشيء الصغير.. حاول أن يرد، ثم طلب مساعدة حفيدته بسمة.. وظل مرتبكًا حتى وصله صوت الطرف الثاني.. الموبايل هدية بسمة.. وعلى الطرف الثاني جويل؛ حفيدته من ابنه مجاهد؛ مهندس الإلكترونيات الدقيقة الذي يدير 5 مصانع في شركة سواتش السويسرية الشهيرة، وفي الوقت نفسه عضو أكاديمية العلوم هناك، وبعد دقائق اتصل سامي؛ الحفيد الثاني(من الفرع السويسري).. نولة ابنة يوسف درويش علقت بجمل قصيرة توازت مع مشاغبات بسمة.

كنت أقفُ على الباب المؤدي إلى غرفة المكتب، واكتشفت أن هذه هي المرة الأولى التي أتامل فيها يوسف درويش بعيدا عن مقعده.. وأنني الآن في قلب عائلة يوسف درويش.
مجاهد ابنه من زوجته الأولى.. يحكي عنه بفخر شديد “وُلد سنة ١٩٤٢.. في مستشفى في شارع فيني على يد طبيب شهير وقتها اسمه إبراهيم باشا.. خرجتُ من المستشفى منتعشًا جدًا.. قابلت سعيد خيَّال المحامي المعروف، فسألني عن سر سعادتي، أخبرته فقال لي سمِّه مجاهد لأنك أنت مجاهد فعلاً”..
نولة؛ لم تكن تسميتها بعيدة عن مزاج الحياة المختلفة للأب؛ ولدت وهو في السجن ١٩٤٩.. من زوجته إقبال حاسين، ذات الأصول المغربية، والتي عاشت معه أكثر من ٥٠ عامًا.. صورها في أماكن كثيرة على الحوائط، أو بجوار مقعده الدائم.. وهو يتحدث عنها بصيغة تبجيل “كانت رائعة جدًا”.

في الزيارة رأى يوسف درويش طفلته.. وعرف أن اسمها جاء نتيجة مصادفة عجيبة؛ فالأم لا تجيد العربية، وبحثت في القاموس الفرنسي عن معنى كلمة هدية.. ووجدت في الشرح أنها “نولة”.. وكانت هي هدية يوسف لإقبال. يخلط يوسف بين بسمة ونولة؛ يقول لي “نولة كانت في التليفزيون” وهو يقصد حوارًا تليفزيونيًّا مع بسمة.. وينادي على نولة أحيانا باسم شقيقته “نيللي” المهاجرة في آمريكا…هي أخطاء تعبِّر عن محبة ممتدة من الأخت إلى الحفيدة ؛وتتركز على البنت التي ما يزال الأب يتحدث عنها بفخر وانحياز ، لا يعلنه أمامها.

لماذا بقيت؟

أساله عن المطربين المفضلين فيقول “أم كلثوم.. وعبد الوهاب.. ومنيرة المهدية.. وليلى مراد.. وطبعًا عبد الحليم حافظ”.
قلت له “كل هؤلاء عاديون.. هم الذوق العام.. ألم يكن لك ذوق خاص؟”.. يشرد، ثم يقول “لا.. كنت أسمع هؤلاء.. لكنني أحبُ منير الآن (نطق اسمه كما ينطقه المغرمون بأغنيات محمد منير)”. ضحكت.. فأكمل “هناك أيضًا مطرب دمه خفيف ظهر في فيلم (حريم كريم)”.. هتفت “تحب مصطفى قمر لا هذا انحياز لبسمة.. لأنها ظهرت معه في الفيلم، وليس حبًّا في صوته”. فضحك وقال “يمكن”.

سألته المذيعة “لماذا بقيتَ هنا رغم إن عائلتك كلها هاجرت؟”..

ضحك يوسف ليخفي الثقة من تأثير إجابته “لأنك أختي”؛ إجابة ذكية؛ لم يضطر معها إلى أن يحكي حكاية هجرة عائلته من العباسية إلى أمريكا.

 الأهم من الهجرة أن نعرف قصة البقاء في مصر.

خطة الضابط

غادر الضابط باب العمارة مهمومًا.. خطته فشلت.. كان يريد أن يصبح من سكان هذه العمارة المحترمة في وسط البلد.. المالك من عائلة بركات المشهورة بين أغنياء منتصف الخمسينيات، ومثل أغلب أصحاب الأملاك في قلب القاهرة كان سكانهم المفضلون: الأجانب واليهود.. لماذا؟ لم يكن أحد يدري.. ربما وقوعًا في هوى المزاج الأوروبي، أو عقدة الخواجة، التي ترى أن التعامل معهم أسهل من أولاد البلد الذين لم يتدربوا بعد على الحياة في المدن بالطريقة الأوروبية. المهم؛ كان اليهود (حتى لو مصريين) أقرب إلى هذا المزاج.. وهذه ميزة استفاد منها يوسف درويش.. كان يبحث عن شقة بعد أن ضاقت شقة 20 شارع شامبليون التي تحولت إلى بيت ومكتب.. ومع اتساع أعمال المكتب لم تعد مساحة البيت كافية لعائلة من 4 أفراد (يوسف وإقبال ونولة ومجاهد).. إقبال زوجته اختارت من عمارة بركات شقة بحري 3 غرف وصالة.. تحوَّلت هذه الشقة إلى هدف ضابط البوليس الذي جرب مع يوسف درويش خطة التخويف.

كنا في 1956.. لحظات انفلات غير معلنة (في مانشيتات الصحف) كل شيء ينقلب رأسًا على عقب.. ثورة الضباط الأحرار تُغيِّر الخرائط الاجتماعية، وتعيد ترتيب شرائح المجتمع في مواقع جديدة.. والقناصون والشطار من مطاريد الطبقات يبحثون عن طريق للصعود إلى أعلى.. الضباط والموظفون الكبار نسبيًّا استغلوا حالة العداء المتضخمة ضد الأجانب واليهود على وجه خاص بعد مشاركة إسرائيل في العدوان الثلاثي مع إنجلترا وفرنسا.. شهوات فردية اقتنصت المزاج العام.. وبدأت حملة تهديد وضغط لكي يترك اليهود شقق وسط البلد والأماكن الراقية.
“واليهود بطبيعتهم خوافين”؛ قال يوسف درويش وهو يحكي عن 4 أو 5 جيران له من اليهود، تركوا الشقق لضباط ومسؤولين لمجرد تهديد خفيف.. وحكى عن الضابط الذي جرب معه هو الآخر باعتبار أن أصله اليهودي سيجعله هو الآخر يترك البيت طلبًا للسلامة والأمان “لكنني انفجرت في وجهه.. حتى خاف مني.. وخرج مثل الكلب يجرجر خيبته”. وضحك مستعيدًا لحظة انتصاره “أومن بأنه إذا لم تتصد من البداية فإنك ستضرب أكثر”.. وعَلَت الضحكة أكثر وهو يقول “لم يكن يعرفني جيدًا”.

يوسف درويش الثاني من جهة اليسار

أنا من اليهود القرائين

لا يتذكر يوسف درويش آخر مرة مارس فيها الطقوس اليهودية.. وتعجبت عندما قال لي “كنت أذهب إلى الكنيسة يوم السبت مع والدي أحيانًا”.
سألته: كنيسة؟
رد بسرعة شديدة “نعم..”.
أكملت السؤال: ألا يُسمى في اليهودية كنيس؟
فأجاب “نعم.. لكنني أقولها على طريقة المسيحيين”..
لم أفهم المقصود من إجابته؛ هل يريد أن يخبرني أن كل الأديان بالنسبة له سواء.. هو متمرد كبير منذ أيام المراهقة.. حكي لي عن مجلات جريئة كانت تصل إليه عبر البريد أيام شبابه، بينها مجلة اسمها “القسيس الذي لا يُفرق بين الألف والياء”
“ماذا تريد بعد ذلك” ختم الحكاية بهذه الجملة التي تشير إلى أن قراءاته تجاوزت كل الخطوط الحمراء وكسرت التابوهات الدينية.. لكنه ربما في الوقت نفسه يتصور أن المصريين الآن لا يعرفون كثيرًا عن مفردات الديانة اليهودية.. فقرر أن يتعامل بشكل لطيف مع جهلي.. (خصوصًا وأني لاحظت في كلامه نبرة مستوحاة من ثقافة ولاد البلد.. تفلت كلمة من مصطلحاتهم فجأة.. فيقول على المسيحيين نصارى مثلاً).. المهم عبرتْ هذه النقطة سريعًا لأنها كانت في منتصف حكايته المثيرة مع اليهودية.
“أنا من اليهود القرائين”، لم أسمع الوصف من قبل، لكن يوسف درويش قالها بشكل عادي وهو يشرح “تعرف أن اليهود ينقسمون إلى قرائين وربانيين.. والفرق بينهما هو الإيمان بالتلمود.. القراؤون يؤمنون بالتوراة فقط.. وهم متأثرون إلى حد ما بالأفكار الإسلامية.. حتى إننا عندما نصلي مثلاً نخلع الأحذية مثل المسلمين، وهذه عادة ليست موجودة عند اليهود الربانيين”.. 

عرفت بعد ذلك من بحث للدكتور عبد الوهاب المسيري أننا حينما نتحدث عن اليهودية فإننا في معظم الأحيان نتحدث عن يهودية الربانيين (تسمى أيضًا اليهودية الحاخامية أو الارثوذكسية لأنها أعرق أنواع اليهودية).. تذهب هذه اليهودية، بحسب بحث الدكتور المسيري، إلى أنه عندما ذهب موسى إلى جبل سيناء لتلقي الوحي لم يعطه الاله توراة أو شريعة واحدة، بل توراتين أو شريعتين: إحداهما مكتوبة، وهي التوراة، والأخرى شفوية. هذه التعاليم الشفوية تلقاها موسى، وورثها عنه الأنبياء ثم الحاخامات وتم جمعها في التلمود واصبحت “ملزمة لليهود باعتبارها الكلمات الأزلية الإله.. وتدريجيًّا أصبحت الشريعة الشفوية أي التلمود.. أكثر أهمية من الشريعة المكتوبة.. أي التوراة”، هذا قبل ثورة عنان بن داود في القرن الثامن الميلادي.

عنان هو مؤسس يهودية القرائين التي تمردت على سلطة الحاخامات والمفهوم الذي يرى أن الحاخام هو وكيل الله على الارض.. أعطاه الاسرار والتعاليم.. انتهت هذه السلطة مع دعوة القرائين إلى “العودة إلى النص المقدس المكتوب.. أي العهد القديم”، وكان مفتاح الفكر الديني عند عنان بن داود هو عبارته “فلتبحث بعناية فائقة في النص ولا تعتمد على رأيي”.. (وليس غريبًا هنا أن يكون مؤسس القرائين متشددًا في طقوس الزواج وشعائر السبت.. فهو أصولي.. يعود إلى النص فقط)، هكذا يرى عبد الوهاب المسيري أن القرائين تأثروا بعلم الكلام عند المسلمين وبالعقلانية الإسلامية بشكل عام.. وأصول الفقه عند أبي حنيفة وبفكر المعتزلة “ويتضح تأثير الإسلام ككل في واقع أن القرائين قد جعلوا النص المقدس المكتوب -أي العهد القديم- المرجع الأول والأخير في الأمور الدينية كافة والمنبع لكل عقيدة أو قانون.. وقد هاجم القراؤون التلمود وهدموه وفندوا تراثه الحاخامي، باعتباره تفسيرًا من وضع البشر (أي انهم وضعوا التوراة التي يقال لها “المقرا”، ومن هنا تسمية القرائين.. مقابل “المشناة” التي تعني في العبرية التكرار الشفوي)”.

وطقوس القرائين المتشابهة مع المسلمين ليست فقط في خلع الحذاء عند الصلاة كما حكي لي يوسف درويش لكنهم أيضًا يضعون شالاً (أو طرحة) في أثناء الصلاة ويصومون سبعين يومًا على طريقة المسلمين.. بل و”يحرم بعضهم استخدام الادوية حيث لا شافي إلا الله”. ربما حدث هذا التأثير لأن أصول القرائين من يهود الجزيرة العربية الذين سكنوا البصرة أيام خلافة عمر بن الخطاب وانتقلوا منها إلى مناطق كثيرة وعلى وجه الأخص شرق أوروبا. وربما أيضًا لان عقيدة القرائين كانت نوعا من الحفاظ على أصل نقي لليهودية.. وكانوا لذلك لا يختلطون باليهود الربانيين (الذين اعتبروهم من الاغيار).. ولم يهتموا غالبًا سوى بالاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها.. اندماج الأقلية الذي يسمح لهم بالعمل والحياة.. وهذا سر نجاتهم من محرقة هتلر.. لأنه اعتبرهم “يتمتعون بسيكولوجية غير يهودية كما أنهم في البداية وقفوا ضد الصهيونية وقيام إسرائيل..
وكما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري وبسبب الدعاية السياسية التي انتهجتها بعض الحكومات العربية والمبنية على عدم إدراك الخلافات بين الربانيين (الحاخاميين) والقرائين.. جعلت معظمهم يهاجر من البلاد العربية إلى إسرائيل.. ويبلغ عدد القرائين الآن في إسرائيل نحو 20 ألفًا.. معظمهم من أصل مصري (هاجروا سنة 1950)، ليس بينهم واحد من عائلة يوسف درويش الكبيرة.

والد يوسف درويش

العائلة والأبونية

حياة يوسف درويش كانت عكس اتجاه حركة القرائين في مصر. فهم يحبون العمل في مهنة واحدة يتوارثونها؛ غالبًا صناعة المجوهرات.. واختار هو مهنة مختلفة؛ المحاماة.. كانوا يبتعدون تمامًا عن السياسة، وغرق هو حتى أذنيه في السياسة ومتاعبها، لكنه -وهذا مدهش- لم يخرج عن عادة وحيدة: الزواج من الطائفة نفسها (في المرتين كانت الزوجة يهودية قرائية).
يوسف هو الابن الثاني لزواج بين عائلتين تختلفان في المستوى الاجتماعي؛ الأب لم يتعلم في المدارس، عمل أولاً في ورشة تصليح مصوغات، ثم أصبح “مندوب مبيعات للمصوغات.. وله زبائن مهمة في بورسعيد والإسماعيلية وبورسعيد.. كان يذهب لهم مرة أو مرتين في الأسبوع”.. قلت له “أبونيه” بلغة أهل الصاغة.. ابتسم وأكمل “بعد ذلك امتلك محلاً للمجوهرات”. تم الزواج في أثناء عملية صعود سلم الترقي الاجتماعي.. وهو ما أتاح لرجل يبني نفسه بنفسه مثل موسي درويش أن يتزوج من فتاة متعلمة.. أشقاؤها الذكور محامون.. كانت عائلة الأم أقرب إلى البرجوازية الصغيرة (أو الطبقة الوسطى).. قلت ليوسف درويش الذي علَّق “طبعًا كانت برجوازية أكثر من عائلة والدي”. ولم يكن غريبًا أن ولادة يوسف درويش لم تكن في حارة اليهود (في السكاكيني) أو في الخُرنفش (الملاعب التقليدية لأغلب اليهود المصريين) بل في العباسية؛ الصحراء التي أحبها الخديو عباس حلمي الأول لأن جوها جاف (قضى فيها وقتًا بغرض الاستشفاء) فأقام فيها قصرًا ليكون حجر أساس للحي الجديد.. بعدها منح أمراء العائلة المالكة أرضًا ليبنوا عليها قصورًا.. وحين تكاسل بعضهم أصدر فرمانا يهددهم باسترداد الارض إذا لم يبنَ عليها في فترة محددة.. وهذا ما جعل الصحراء تتحوَّل إلى ضاحية جاذبة لطبقات جديدة تريد الانتقال من أماكنها القديمة إلى أماكن جديدة.. في مراحل صعودها على سلم الطبقات (هذا تقريبًا حدث لعائلة الأديب الشهير نجيب محفوظ، إذ انتقلت من الجمالية إلى العباسية.. تقريبًا في توقيت استقرار يوسف درويش وعائلته هناك.. الانتقال كان استجابة لتغير موقع الأب على خريطة الطبقات).. العباسية أيضًا كانت مقرًا للجيش المصري، وبعد الاحتلال كان مستعمرة بريطانية كاملة بثكنات جنود الاحتلال.. وشوارع أسماؤها إنجليزية (كلها كانت في المنطقة التي أصبحت الآن أرض المعارض)..

“العباسية وقتها كانت عاملة زي جاردن سيتي.. نجيب محفوظ حكى عن العباسية.. بتفاصيل أعرفها جيدًا.. أعرف أيضًا تفاصيل تكلَّم عنها في النحاسين والصاغة.. تنقلنا في أربعة بيوت.. البيت الثاني كان في عمارة الجمال.. في شارع سعيد بعد المدرسة الإيطالية.. من هناك رأيت، وعمري ٩ سنوات، مشهدًا لم أنسه.. كنت أقف في النافذة ولاحظت أن اثنين من الجيران شباب لابسين جلاليب.. وواقفين وأيديهم ورا ضهرهم.. وفجأة ظهر ٢ عساكر إنجليز، ودبحوهم بالسكاكين اللي كانت ورا ضهرهم.. ورموهم في الساقية اللي كانت وسط الحقول الممتدة أمام بيتنا”..
العباسية كانت ساحة مواجهة بين الفدائيين والإنجليز (وهوما ظهر تأثيره على أديب آخر من سكان العباسية؛ وهو إحسان عبد القدوس.. في رواية أصبحت كلاسيكية هي “في بيتنا رجل”). وامتدت المواجهة إلى المناطق المحيطة؛ فكان إضراب عمال الترام، وتعطيل المواصلات من أجل رجال الثورة (ثورة ١٩١٩ طبعًا)، ومشهد العسكري الإنجليزي الذي يقف في أول الخط وزميله في آخر الخط.. مشهد يومي ليوسف درويش في مشوار المدرسة الذي يمر بالحسينية.. لكن في إحدى المرات تقدم رجل بخطوات متوترة وأخرج من تحت الجلابية ساطورًا وقطع يد العسكري الإنجليزي”.

قلت له: مع أنك عرفت السياسة والوطنية عبر مشاهد عنف.. إلا أنك كنت ضد العنف؟

قال “أنا طبعًا ضد العنف.. لكن ما حدث وقتها ضد الإنجليز كان دفاعًا عن النفس.. ومؤخرًا سألوني عن رأيي في مسالة إسرائيل وكان موقفي واضحًا؛ أنا ضد قيام دولة إسرائيل.. لأنه عندما يأتي شخص ويحتل بيتي.. سأضربه بالنار فورًا.. وهذا سيكون دفاعًا عن حق.. وهو دفاع مشروع دوليًّا.. وهذا غير الإرهاب والعنف.. قلت لك من قبل أنا ضد الدولة الصهيونية”..

قنابل الإخوان

سألته: هل شعرتَ في أيام الطفولة أو المراهقة بفكرة الجيتو (الجماعة المعزولة).. المشهورة عن اليهود؟

الإجابة كانت فورية “لا.. لم أشعر بهذا.. ولا أحد من أخوتي.. كان في وقت من الأوقات هناك ٧٠ ألف يهودي من الربانيين ٧ آلاف من القرائيين.. وكانت العلاقة عادية بين المِلل الثلاث.. اليهود والنصارى والمسلمون.. كانوا يحضرون أفراح بعضهم ويتزاورون بل ويتاجرون معًا”..
– متى شعرت أنك يهودي؟
“أنا عمري ما حسيت إني يهودي”.
– حتى وأنتَ صغير؟
“آه.. ذهبت مرة أو مرتين إلى كنيس كان موجودًا في حارة اليهود.. بعدها كنت أذهب أحيانًا في الأعياد لم تكن هناك تربية يهودية خاصة في بيتنا”. كان بيتًا عاديًّا من بيوت المصريين وقتها.. الأب مشغول في تجارته، والأم شخصيتها قوية.. سيدة البيت والمسؤولة عن التربية.. الفارق أن الأم تقرأ وتكتب وتعرف القليل من اللغة الفرنسية.

يوسف وإخوته كلهم تعلموا.. الأولاد في مدارس أميري (لغة عربية).. والبنات في مدارس إفرنجي.. يوسف وحده اختلف.. البداية كانت في مدرسة ابتدائية أميرية في السكاكيني.. لكنه انتقل إلى مدرسة الفرير في الضاهر، ومنها إلى مدرسة الفرير بالخُرنفش في المرحلة الثانوية.. (وهناك، من نافذة الفصل رأى محمد عبد الوهاب.. يقف طويلاً في نافذة بيته.. كان نجمًا في أول لمعانه على شاشة السينما.. ومع المراقبة اكتشف يوسف أنه يغازل بنات المدارس.. “وبصراحة أعجبني المشهد.. وتابعت عبد الوهاب باهتمام أكبر”)..

يوسف أيضًا كان الوحيد الذي عبر مراحل التعليم العادية. كان التعليم يفتح أمامه طريقًا غير الطريق المرسوم للابن الأول؛ زكي، الذي خرج من المدرسة ليساعد الأب في إدارة التجارة العائلية. ومن التعليم والثقافة الشخصية، أمسك يوسف درويش تدريجيًّا بأول خيوط التمرد الهادئ.
يحكي “أبي كان يمنحني فلوسًا كثيرة لأشتري جرائد وكتب؛ تابعت البلاغ والكشكول.. ومجلات تصدر بالفرنسية، منها مجلة كان يرأس تحريرها على رشيد، وأتذكر افتتاحية له لا أنساها.. بعنوان “دفاعًا عن الاتحاد السوفيتي”.. في الوقت نفسه كنت شغوفًا بقراءة الكلاسيكيات الفرنسية.. ديدرو وفولتير وفيكتور هوجو.. والحقيقة أن أبي لم يبخل عليَّ بأي موارد مالية، وساعدني مساعدة جبارة لكي أكمل تعليمي وأُثقِّف نفسي.. تعلمت منه أشياء كثيرة.. أمي كانت ترسلني معه إلى المحل لتتخلص مني.. وكنت أذهب معه إلى الصاغة.. ولم أكن أعرف وقتها ماذا تعني الشيوعية.. حتى سمعته يقول عن الشيوعيين “دول جماعة حاطين سكينة في بقهم”، وظلَّت هذه الصورة ملتصقة بذهني فترة طويلة.. طويلة جدًا” الصورة مدهشة تُعبر عن خيال خاص للأب الذي لم يكن يحب السياسة على الإطلاق، لكنه رأى في الشيوعيين نوعًا خاصًا من مغامرين يسيرون على حافة الخطر. وفي رحلة من رحلات “الأبونيه” الأسبوعية.. كان يوسف مع أبيه في الطريق إلى بورسعيد.. وتوقف القطار في الإسماعيلية وصعد رجل له هيبة كبيرة جدًا.. “اكتشفت أنه كان حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين.. أبي كان يعرفه، وتحدثوا فترة طويلة.. وعندما عرفني به، قال لي: آه أنت تدرس في فرنسا بلد الملحدين”. قلت له “لا طبعًا.. العلمانية هي فصل الدولة عن سلطة رجال الدين.. وطبعًا لم يرد.. سكت”. هيبة الرجل الكبير في الإخوان لم تمنعه من تذكر حكاية لم تذكر من قبل.
سألني قبل الحكاية “هل تعرف السبب الكبير في قلق اليهود.. وتفكيرهم في الهجرة؟”.

وقبل أن أجيب قال لي “أعتقد أن هذا القلق بدأ بعد هجوم الإخوان المسلمين على حارة اليهود.. حرقوا البيوت.. حرقوا الحارة كلها”..
– متى حدث هذا الهجوم؟
“١٩٤٧، وتلته تهديدات بتكسير محلات شيكوريل.. وأعتقد أن هذا بداية الشعور بالخوف لدي اليهود”
قلت له: لم أسمع عن هذا الهجوم من قبل
قال “أعرف.. هناك حقائق كثيرة في التاريخ منسية”.

يوسف درويش الأول يسارا

عبد الناصر اختبأ عند اليهود

المدهش أن يوسف درويش وقع في هوى الوفد.. كان يذهب كل أسبوع إلى “بيت الأمة”.. ولهثَ وسط جموع غفيرة ليحصل على نظرة من سعد زغلول في أثناء عبوره محطة السكة الحديد.. وعندما مات سعد ارتدى ملابس سوداء لسنة كاملة.. وعلَّق صورة زيتية كبيرة له على الحائط.. بعده أحب مكرم عبيد وحفظ خطبه كلها. وفي زيارات منتظمة إلى البرلمان رأى العقاد وهو يصرخ تحت القبة الشهيرة “علينا إذا لزم ذلك أن نقضي على أكبر رأس في البلد” (وكان أكبر رأس هو الملك أحمد فؤاد الأول). كانت العائلة تسخر منه ومن هواه الغريب على اليهود القرائين.. فهم لا يتدخلون في السياسة.. كان يهرِّب إلى الكتب في غرفة على السطوح.
وعلى السطوح نفسه غنت أم كلثوم للمرة الأولى. وقبل أن يكمل الحكاية نظرَ إليَّ ليرى وقع هذه المعلومة التي يعرف أنها ستثيرني “نعم أم كلثوم غنت في فرح أخي زكي.. كان لنا أقارب من بعيد يملكون محلات صاغة في شارع عبد الخالق ثروت.. هل قلت لك من قبل إن القرائين غالبًا يعملون في المجوهرات؟”.
-لا..
أكمل “من بين هذه العائلات.. عائلة باروخ أقاربنا.. الذين احضروا أم كلثوم؛ ولم تكن مشهورة بعد.. كنا في نهاية العشرينيات تقريبًا.. وبعد سنوات عرفنا أن هذه النجمة التي لمعت.. غنَّت للمرة الأولى على سطوح بيتنا.. أم كلثوم غنَّت بالعقال وملابس الرجال.. على سطح بيت يهودي”..
علَّقت على ضحكاته فأضاف بتحد “هل تعرف أيضًا أن عبد الناصر اختبأ في السكاكيني.. قبل الثورة وعند من؟ عند يهودي من القرائين؟”.
ضحكتْ..