من يعالج تشققات المدينة؟ – عن فيلم المُرمِم

في فيلم المُرمِم نجد فنانًا يحاول ترميم ذاكرة المدينة، حاملًا حقيبته على ظهره، ممسكًا بعلبة الرش، منكفئًا يحاول سد الفجوات ومُداواة التشوهات. بروح فنان يبحث عن المستحيل، يستمر طول الفيلم في إكمال لوحته الخاصة.

تبدو عملية التذكر كأنها تحدث على هيئة انقطاعات، ليست الذاكرة حلقة متصلة من التسلسلات، تنتظم في علاقات سببية ومنطقية، لكنها مجموعة من الشذرات والصور والأحداث والكلمات والمشاعر، تتشكل في أذهاننا باستخدام نوعًا ما من المونتاج الداخلي. انقطاعات، فجوات، فراغ، حالة من الإبهام أو بالأحرى هالة من الضباب.

يبدو أن مرور الزمن لا يمكن محو أثره بسهولة، يترك بصمته ويحفر وجوده مثل ندبة في الوجه، تتهالك المدينة مثل عجوز مع الوقت ويبدأ وجهها الشاحب في التشقق واليبوس. تتصدع ذاكرتها كإشارة لضربات متلاحقة من قبضة الزمن. محاولة علاج تشققات المدينة نراها في الفيلم محاولة سيزيفية، كلما استمر الفنان في عمله يبدو الوضع لا يحدث فيه تقدمًا ملحوظًا. إبهام وفجوات في الذاكرة والتاريخ والمعرفة، كلما ازدادت محاولات الترميم، تبدو من بعيد كالنبش في الفراغ.

نلاحظ اهتمام داريو ريتشاردي في أعماله بطبيعة عمل الذاكرة، نجد في فيلمه The Interpreter، 2011 تجسيدًا للانقطاعات والفجوات، شاشة سوداء تفصلنا بين مشاهد تتكرر لشاب محبوس داخل إطار تصوير كاميرا الفيديو، فواصل من الإبهام، ترسم لنا تصورًا عامًا عن آلية عمل الذاكرة. كأن الكاميرا مزروعة بالفعل داخل ذاكرة أحدهم.

تتشكل الذاكرة الفردية داخل ذاكرة اجتماعية وتتفاعل الذاكرات الفردية مع بعضها البعض لتشكل ذاكرة اجتماعية كبرى، يولد الفردي من رحم الاجتماعي، ويتبلور الاجتماعي من كثرة من الفرديات، لذلك نصل مع الفيلم إلى حالة يبدو فيها سعي الفنان الدؤوب هو محاولة لترميم الداخل قبل الخارج، يبدو أن الضباب يكتنف كل شيء، العام والخاص يتشابكان يمتزجان إلى درجة تجعلنا نتساءل عن مكان حدوث الفيلم، هل يحدث داخل ذاكرة الفنان أم ذاكرة المدينة؟ ما الحد الفاصل بين مدينته الخاصة والعامة؟ تبدو المدينة تعبيرًا عن ذاكرة اجتماعية، هوية مشتركة تستحق، من وجهة نظر الفنان، عناء الترميم السيزيفي.

يبدو أثر الزمن عليهما -ذاكرة الفنان والمدينة- مثل نسيان لا يمكن الفرار منه، لذا محاول الترميم تمثل إعادة بناء الذاكرة من الخيال، بعدما فعل النسيان أفعاله.

يتكون الفيلم من مشهد واحد، كمحاولة لنحته على حوائط ذاكرتنا، بدلًا من التشتيت، حيث يضعنا داريو ريتشاردي في حالة تأمل تستمر لمدة دقيقة ونصف الدقيقة، كأن عمله قائم على محاربة النسيان. نجد ذلك يتكرر في فيلمه Summer, 2014، الذي يتكون من مشهد واحد لفتاة تسبح داخل حمام سباحة، ويتركك الفيلم تتأمل حركتها المربكة في البداية، هل تسبح للأمام أم للخلف؟ عندما تتضح حركة سباحتها، يكون الفيلم بالفعل قد انتهى.

يدفعني الفيلم إلى طرح أكثر من سؤال، أولهم، لماذا يبحث الفنان في الفيلم عن الترميم ومحو آثار الزمن بدلًا من ابتكار مساحة وأفق جديد؟ مع نهاية الفيلم يعود الوضع كما هو عليه، مجرد استخدام عبوة الرش يشبه وضع منديل على جرح غائر، ينزف دماء بلا توقف.

إذا فشلنا في سد الفجوات، لماذا لا نشكل ذاكرة جديدة، تولد انقطاعات وفجوات جديدة أيضًا، ما دامت الجروح والتشققات أشبه بخيوط تغزل نسيج الوجود والموجودات. لا أقصد هنا نوعًا من الحتمية أو رغبة في قول “أن هذا قدرنا الجمعي”، لكنها مجرد محاولة لوضع أصبعي على ظاهرة تكتنف الوجود. 

نرى في الفيلم محاولة تأسيسية ليوتوبيا مُتخيلة، داخل الفنان وخارجه، يبدو أنه يبحث عن كماله الذاتي، يحاول ترميم تشققاته الداخلية والخارجية، بدلًا من البحث عن طرق لخلق ذاته من جديد وابتكارها، يسعى جاهدًا للقبض على زمام ذاته والتنقيب داخلها.

“لماذا يظل ذلك الفنان محبوسًا في ذاته وذاكرته؟” طرحت ذلك السؤال على نفسي بعد انتهاء الفيلم مباشرة.

يبدو الفيلم سجينا لماضيه، لم ينفتح على المستقبل أو ينقب عن مهرب ما، لكن ظل الفيلم مخنوقًا بسلطة الذاكرة والذات، مُكبلًا بأوهام كماله. لذلك فضلت استخدام لفظ “منكفئ” في مستهل حديثي عن الفنان الذي يرمم ذاكرته/ذاكرة المدينة، حيث لم تفارق عينه موضع عمله الترميمي، لم يرفع رأسه لاستنشاق نسمات الهواء وملاحظة أن عمله لم يتحرك بعد من نقطة الصفر.

كريم محسن

كريم محسن كاتب وقاص، شارك في مشروعقصص القاهرة القصيرةالذي نظمه معهد جوته في القاهرة عام 2018. نشر عدد من القصص القصيرة والمقالات في مواقع ومدونات مثل: موقع الكتابة الثقافي، وموقع BoringBooks ـ كتب مملة، ومدونة ختم السلطان. يعمل الآن على كتابة مجموعته القصصية الأولى


طوِّر هذا النص من خلال فراشات لا تجري نحو الضوء، وهي ورشة عمل حول نقد الأفلام الإبداعية التي عقدت في يوليو 2019 كجزء من مهرجان القاهرة التاسع للفيديو. المزيد من المعلومات حول الورشة هنا.