فيرونيك

حكاية فيرونيك وشريف

قرر شريف أن يبدأ الحكاية من الفصل الأخير: لحظة القتل.. لم أتخيل أنه سيحكي بهذه البساطة.. بدا عند دخوله مكتب ضابط المباحث غير مبالٍ.. لكنه مع بداية الحكاية كان متوترًا، ولم تتحرك دموعه إلا لحظة ذكر أمه وأبيه.. كان شريف يحكي وكأنه يقصُّ فيلمًا قديمًا لا علاقة له به، مع أنه كان بطل قصة شغلت مصر لأكثر من 20 يومًا في عام 2004.
تأكدت بعد الحكاية ان شريف لم يعرف أحدًا من القائمة الطويلة من الفنانين والكُتَّاب والصحفيين وأساتذة الجامعة الذين شملهم التحقيق (تختلف المصادر في تحديد العدد …لكن المستقر عليه هو رقم 370 شخص كانوا علي قائمة تليفونها!). كل هؤلاء أتوا إلى فخ التحقيق بلعبة أدارها شريف بذكاء فطري.. قتل المصورة الفرنسية.. وقبل أن يغادر الشقة مسح بصماته وغسل وجهه ويديه من الدماء وغيَّر ملابسه.. وكتب على صورة فوتوغرافية عبارة بالإنجليزية ترجمتها المهذبة تبًّا لشيراك.. المسلمات سيرتدين الحجاب“. أراد أن يبعد نفسه عن دائرة الشك، فلعب بالقضية السياسية المطروحة..والتي تفجرت بعد منع طالبتين مسلمتين من دخول المدرسة بسبب أنهما ترتديان الحجاب…وأصدر جاك شيراك وقتها قراراً بمنع ارتداء الأطفال في المدارس للعلامات الدينية مثل الصلبان  المسيحية والقلنسوة اليهودية والحجاب الإسلامي… لم يكن شريف يعرف عن القضية شيئًا قبل أن تناقشه القتيلة قبل عدة أسابيع ويقول لها يمكن أن تحل القضية ببساطة.. فإذا كان الحجاب يغطي الرأس والرقبة يمكن أن ترتدي النساء المسلمات في فرنسا برنيطة على الرأس وبلوفرات برقبة عالية وتحل المشكلة“. كدت أضحك وهو يروي لي طريقته في التفكير.. لا يخلو من ذكاء فطري يعرف كيف يستخدمه في اللحظات الحرجة؛ وهذا ما جعله يبعد كل الشبهات عنه بإيهام البوليس أن الدافع وراء القتل سياسي. لكن اسم شريف ظهر فجأة عندما خَفَتَ الدافع السياسي بعد التحقيقات المرهقة (لم يكن سهلاً توجيه اتهام لأحد من معارف القتيلة، لأنهم ببساطة من دائرة النخبة المثقفة، واحتاج التعامل معهم من البوليس حذرًا حكاه لنا ضابط المباحث قبل وصول شريف). لم أكن مهتمًا بالوقائع، بل بمعرفة بطل الجريمة. قتل شريف فيرونيك الفرنسية المولودة في سويسرا وتحمل الجنسية المصرية أيضًا بعد زواجها من مصري. وقبلها عرف يابانية، وبعدها تم اصطياده في فخ صنعه رجال المباحث كانت بطلته فتاة أخرى حصل على تليفونها من صديق له. كان يريد الخروج من مزاج القتل والتكلم مع بنت لطيفةاتفق معها على موعد في ملحق هيلتون رمسيس، وهناك كان في انتظاره 40 ضابطًا من ضباط مباحث الجيزة. هل يمكن إدانة شريف ببساطة؟! من هو؟! كيف سار إلى مصير القاتل بهذه السهولة؟! وهل الدافع هو الجنس كما فسَّرت الصحف؟! أم البطالة وفقدان المعاني والقيم وكبت الحاجات الأساسية لشاب يلعب حول العشرين؟! البداية عند فيرونيك؛ القتيلة.

1
حياة الـ
puzzle

في عام 1995 قررت فيرونيك أوديرجون البقاء في القاهرة. بالتأكيد لم تدرك وقتها أن هذا القرار هو الخيط الأول في مصيرها المأساوي؛ إذ اصبحت صباح يوم من أيام يناير 2004 مجرد خبر في صفحة الحوادث: اكتشاف جثة مصورة فرنسية مقتولة في شقتها بالمهندسين!
قبل عام بالضبط (يناير 2003) كانت صور فيرونيك محل اهتمام المثقفين والفنانين في وسط البلد. كانت لها تجربة مثيرة في تصوير نفسها يوميًّا خلال مراحل العلاج الإشعاعي من سرطان الرحم. كانت تقاوم زحف الخلايا الخبيثة داخل جسدها بالتصوير وبإرادة قوية محبة للحياة. خرجت الصور من كاميرا التصوير الفورية البولارويدلتحكي يوميات الجسد تحت رحمة الأجهزة الرهيبة. بل إنها صورت مراحل المرض بداية من بحيرة الدم التي استيقظت ذات صباح لتجد نفسها غارقة فيها، وحتى علامات العلاج الإشعاعي على الجسد الواهن، وغرفة العمليات والأطباء والممرضات. كانت هذه الصور جزءًا من مشروع كبير بدأته في عام 1984، وأسمته المصير، لتصوير حياتها بكاميرا البولارويد. التي تستطيع التقاط اللحظات العابرة دون أن يكون لها نسخ سالبة (نيجاتيف) أو قدرة على التكرار. (بعد موتها رأيت أربع صور شخصية لفيرونيك؛ كانت شخصيتها تتغير تمامًا مع تغيير قَصَّة الشعر والمظهر الخارجي.. وهذه سمات شخصية متعددة ومثيرة نفسيًّا). عرضت فيرونيك صور السرطان والمصير في معرض واحد؛ كانت الصور فيه مثل المربعات الصغيرة في لعبة البازل puzzle (وهي لعبة تعتمد على إعادة تجميع المربعات لتخرج منها صورة كاملة). وفي كتالوج المعرض حكت حكايتها من البداية: يوم الكريسماس عام 1961 حين ولدت بينما الثلج يتساقط على تلك المدينة السويسرية.. وهي تبكي للمرة الأولى.. كان من اللافت أنها استخدمت صيغة الغائب (كأنها تحكي عن شخص آخر.. بعيد) واختارت إشارات غير مباشرة بدلاً من أن تروي الوقائع؛ فتقول على سبيل المثال إنها في عام 1965 بدأت تجمع أغطية زجاجات الكوكاكولا وأعقاب السجائر من الشوارع (ربما لتقول إنها من أسرة فقيرة وكان الشارع ملعبها الوحيد) وكانت في 1967 تلبس كل أحد جونلة بيضاء (في إشارة إلى عمل ما داخل الكنيسة). لكن الإشارات الأكثر وضوحًا كانت عند تاريخ 1968 وجيل الطلاب الذين تمردوا على المؤسسات السياسية والاجتماعية، واندلعت ما يُعرف الآن بالثورة الجنسية، التي تمردت على كل قوانين العائلة والعلاقات بين الرجل والمرأة. وهنا تبدو العلاقة مع إشارة أخرى في تاريخ حياة فيرونيك؛ وهي فريق الموسيقى الشهير بينك فلويد The Pink Floyd وألبومه The Wall (الجدار) الذي أحدث عند ظهوره في 1979 ضجة كبيرة جعلته علامة فنية في تاريخ الموسيقى في العالم.. وعلامة اجتماعية على جيل متمرد على سلطة المدرسة والعائلة وكل المفاهيم البرجوازية المسيطرة على الحياة في أوروبا وأمريكا.. بدت فيرونيك معجبة بهذا النوع من الثورات التي غيَّرت أفكار أجيال كاملة عن الفن والمجتمع. كانت وقتها ما تزال مراهقة تداعب فكرة التصوير من بعيد، وتنظر إلى القمر، وترى الوحش يسير على سطحه. سافرت إلى أيرلندا برحلة أوتوستوب (1982)، واكتشفت سحر جزر بالي في آسيا بعدها بعام واحد. هي هنا سارت على درب سلكه الفنان الأشهر بابلو بيكاسو، حين قرر اكتشاف أماكن ساحرة أخرى في العالم، يكسر بها احتكار أوروبا مصادر للثقافة والجمال.. اكتشاف ثقافات أخرى غير أوروبا البيضاء أصبح تقليدًا عند الفنانين المختلفين من أجيال تالية، وأصبحت الثقافات الآسيوية واللاتينية والأفريقية من المصادر المهمة للباحثين عن حياة خارج النمط الأوروبي.
وفي 1983 قررت فيرونيك دراسة التصوير الفوتوغرافي.. بعدها بأربع سنوات فقط ركبت القطار البرتقالي من بلدتها في سويسرا إلى باريس، لتعيش هناك 8 سنوات، مع أن خطتها كانت أن تقضي سنة واحدة فقط. وهناك تعلمت على يد مصور أمريكي كيف تكسر القواعد التقليدية للتصوير.. وعملت مصورة بالقطعة.. وطُردت مرتين من الأستوديوهات لأنها امرأة. عرفت فيرونيك مصر وعمرها 13 عامًا حين رأت وجه رمسيس الثاني.. كان أضخم وجه رأته في حياتها. وقبل قرارها بالإقامة نهائيًّا في مصر زارت الأقصر مع مصور متخصص في تصوير عروض الموضة والأزياء.. وزارتها مرة أخرى للتصوير بالأبيض والأسود.. قبل أن تحمل كل حياتها لتختمها هنا في شقة صغيرة بالدور الرابع 11 شارع كمال إبراهيم خليل، المتفرع من شارع لبنان.. حيث ظل جسدها ساكنًا 7 أيام قبل أن ينكشف آخر أسرارها المثيرة.

2
المتمرد بجسده

في الأيام الأخيرة شعر أصدقاء فيرونيك بأنها بعيدة“. شلتها المعتادة لم تعد على جدول مواعيدها. التفسير الأول أنها في إحدى دورات اكتئابها. أو أنها ارتبطت بدوائر أخرى من الأصدقاء. لكن هناك تفسير غاب عن كثيرين، وهو أن موعد إعادة فحص السرطان اقترب.. العلاج انتهى منذ خمس سنوات، وكان من المفترض أنه خلال الأيام القادمة ستكون المتابعة التي ستؤكد أن الخلايا الخبيثة ذهبت إلى الأبد أم ما تزال تختبئ في مكان ما وتنتظر الفرصة لإعادة الهجوم.. فيرونيك هربت من الموت بالسرطان، لكنه في الحقيقة أسهم في اهتزاز حياتها، فقد كان السبب الخفي لنهاية علاقتها بزوجها خالد حافظ الطبيب والفنان التشكيلي. خرجت فيرونيك من العلاقة بجرح نائم يصحو في لحظات تستسلم فيها للاكتئاب والسخرية المُرة. وربما كان السرطان الدافع الخفي الذي جعلها تذهب بلا وعي إلى مصيرها على يد شاب لا يعرف عنها شيئًا تقريبًا. المدهش أن شريف لم يذكر اسم فيرونيكولا لمرة واحدة خلال حوارنا الطويل معه (استمر 110 دقيقة). كان يشير إليها بأوصاف من نوع هي، أو الفرنسية التي كنت أعرفها، أو الست الفرنسية“.. سألته بماذا كنت تنادى عليها، فقال بعد تردد فيرو“.. هل هو شعور بالاحتقار؟! أو أنها بالنسبة له مجرد: حسناء فرنسية؟ أو هو خوف من ذكراها؟!
الحقيقة أنني طول الحوار لم أشعر أن شريف حزين على قتل فيرونيك التي قال إنه أحبها، ولم ألحظ ندمه على قتلها.. شعوره بالندم كان مُوجهًا فقط لعائلته.. قال على سبيل المثال أنا قلق على أبي وأمي.. لو أتوا وشافوني هنا سيموتون بالتأكيد.. أنا أشعر بأنني سآخذ عقابي.. أنا راضٍ بما سيحكم به عليَّ.. لأنه سيخلصني من الذنب.. والحمد لله لأنني كنت خائفًا أن يُتهم أحد غيري ويُعاقب بسببي“.
شريف من مدينة السنبلاوين التابعة لمحافظة الدقهلية. مولود عام 1978 (حين كانت فيرونيك تبدأ رحلتها الباريسية في استوديوهات الفوتوغرافيا) درس منذ الابتدائية في المعاهد الأزهرية حتى حصل على بكالوريوس العلوم قسم الفيزياء من جامعة الأزهر، دفعة 2002. الأب موظف كبير في مديرية الزراعة، واختار له الطريق الأزهري لأنه يقبل الالتحاق به في سن أصغر من المدارس العادية. لم يكن تلميذًا لافتًا، وحتى في الجامعة تخرج بتقدير مقبول.. لا يهتم شريف بشيء آخر غير جسده.. يهوى كمال الأجسام، وأخيرًا الملاكمة، ولا يحب القراءة، حتى الصحف، ولا يرى في السينما سوى أفلام الصيف (لأنها خفيفة وظريفة وبتسلي)!
ما الذي قاده إلى فيرونيك؛ الفنانة التي تعيش في أوساط المثقفين.. وتربت، كما تقول سيرة حياتها، على اتخاذ موقف نقدي من العالم وأفكاره السائدة؟!
يحكي شريف تقابلنا في المركز الثقافي الفرنسي منذ نحو خمسة شهور.. كنت أدرس الفرنسية.. وبين الحين والآخر أتردد على مكتبة المركز لقراءة كتب أو للاستماع إلى الأسطوانات.. كانت تجلس بجانبي تقرأ.. وتجاذبنا أطراف الحديث.. سألتني إن كنت أتحدث الفرنسية.. قلت لها إنها ليست جيدة.. فقالت لي إنها أيضًا لا تتحدث العربية بكفاءة.. واتفقنا على أن نتحدث بالإنجليزية.. قالت لي إنها مصورة ولديها معرض.. ذهبت معها إلى هناك.. ثم إلى بيتها.. في المرة التالية تقابلنا في البيت أيضًا.. وقالت لي إنها مُعجبة بي.. وليلتها حدثت معاشرة جنسية بيننا“.
مَن كان الصيد في لقاء المركز الفرنسي: شريف البعيد تمامًا عن عالم الفنانة صاحبة التجربة الثرية، والذي يشبه آلاف الشباب الذي يمكن أن تقابلهم في الشارع؟! أم فيرونيك التي من الطبيعي أن تتحول إلى هدف بالنسبة لشاب لا يملك لتحقيق ذاته إلا جسده، واللغة التي تكون وسيلة الدخول إلى عالم مختلف متحرر فيما يتعلق بعلاقات الرجل مع النساء..
يبدو التحرر هنا حلاً بالنسبة لشاب لا يستطيع أن يحل مشكلاته الجنسية في مجتمع تحوَّل فيه الزواج إلى مشروع استثماري.. وما تزال تحكمه نظرة عصور الحريم التي تحرم الحب؟! الفارق الوحيد أن فيرونيك متمردة من الأساس، لكنها في الوقت نفسه محبطة بعد أن أصبحت عاجزة عن الإنجاب. وشريف لا يجيد التمرد إلا عبر جسده.. فمن منهما اصطاد الآخر؟!

3
خِرْتي أم جوجولو؟

فيرونيك ليست الأولى في حياة شريف. هناك قصته مع اليابانية؛ هكذا أيضًا كان يشير إليها في حكاياته.. يقول إنه تعرف عليها في المركز الثقافي البريطاني كنت وقتها أجهز لمشروع التخرج من الكلية.. وكنا نتردد عليه أنا وزملائي للاستفادة من المكتبة.. وهناك قابلنا مجموعة من شباب أمريكي يتحدث مع شباب ياباني.. لاحظت أنهم يتكلمون عن الدين.. الأمريكان يحاولون أن يقنعوا اليابانيين بالدين.. فأنت تعرف أنهم لا يؤمنون.. ويكتفون بأفكار شخص اسمه بوذا“.
قلت له: البوذية ديانة أيضًا لكنها ليست سماوية..
المهم.. كنا نتكلم حول هذا الموضوع.. ومن بين المجموعة اليابانية أعجبتني فتاة.. اقتربنا من بعضنا.. وظللت أكلمها عن الإسلام.. هي كانت بوذية، وبعد الكلام اشترت مصحفًا مترجمًا إلى اليابانية، وكتابًا للتفسير…شعرت أنني أحبها.. وهي كذلك.. وتطورت العلاقة بيننا.. حتى تزوجنا عرفيًّا بحضور اثنين من زملائي شهودًا على العقد.. كانت تدرس اللغة العربية، وبعد أن أنهت دراستها أقامت في مصر.. وظلت علاقتنا بين حين وآخر لأنني كنت مشغولاً في امتحانات البكالوريوس.. وأقنعتها بفكرة العمل في مصر.. رفضت في البداية، لكنها اقتنعت، وعملت في المركز الياباني، ثم مرشدة للأفواج اليابانية في شيراتون“.
سألته: هل كنت تتعامل معها كزوج؟ أي كنت تصرف على البيت؟!
كنت مشغولاً في الامتحانات كما قلت لك.. ولم أكن أذهب إليها في شقتها بأحمد عرابي إلا على فترات.. في كل مرة كنت أحمل معي بعض الاحتياجات.. كي لا أشعر بالحرج.. يعني مثلاً وجبات.. فاكهة.. أطباق حلوى“.
وكيف انتهت العلاقة؟
كانت من أسرة غنية.. أبوها مهندس في شركة سيمنز في اليابان.. لكنها تصرف على نفسها هنا.. وقالت لي إنها ممكن تساعدني على السفر إلى اليابان، أو الحصول على منحة.. وأنا لم أكن أرغب.. لكن المشاكل بدأت بعد أن أخبرتني بأن أباها وأمها يرفضان العلاقة.. وأنها وحيدتهما.. فقررنا الانفصال.. وقطعنا ورقة الزواج العرفي.. لكن لم تنقطع علاقتنا.. أكلمها بين حين وآخر.. بل إنني في الخميس التالي لحادثة القتل اتصلت بها وقلت لها أنا عايز أتكلم معاكي شوية.. كنت أفكر في الاعتراف لها.. فأنا لم أكن قد حكيت لأحد.. وذهبت إليها فعلاً، وظللت معها حتى اليوم التالي، لكني لم أحكِ لها“.
اليابانيةكانت تكبر شريف بعامين فقط. وربما كانت علاقتهما أكثر هدوءًا لأنه شعر بنوع من الإنجاز معها؛ أولاً حدَّثها عن الإسلام، وثانيًا تزوجها. لكنها كانت أيضًا علاقة ناقصة مثل علاقته بفيرونيك. كلاهما لم يكن على الصورة التي يحلم بها الآخر لشريكه أو حبيبه. لقد تصرَّف مثل بائع جسده للنساء الأكبر سنًّا (أو المعروف بالجوجولو). لم يرفض الطريقة التي سارت بها علاقته بفيرونيك.. قال إنها هي التي كانت تتصل به في أوقات فراغها لكي يذهب إليها.. كان هذا يحدث عادة يوم السبت.. وعندما يفكر هو في اللقاء يتصل بها فتقول له سأخبرك حينما يكون لديَّ وقت..
أسأله: هل هذا شكل مريح في العلاقة؟!
عادة هي التي تعمل، ووقتها مزدحم.. أنا فاضي وأستطيع تدبير مواعيدي.. لم يكن لديَّ سوى تمارين الملاكمة أو كمال الأجسام“.
ولماذا تكون اللقاءات عادة في بيتها؟
أنا ليس لديَّ بيت.. أقيم هنا في القاهرة عند زملاء لي في شقة بشارع عباس العقاد في مدينة نصر“.
هل حدثت لقاءات خارج البيت؟
مرتين فقط في مطعم ماكدونالد“.
ماكدونالد!
أيوه.. هي التي اختارت المكان.. كنت أُفضِّل أن نلتقي في إحدى العوامات الموجودة على النيل في الزمالك.. لكنها في المرتين فضَّلت ماكدونالد.. وأنا لم أعترض، لأنني كنت أفكر في كل مرة في الخروج من سيدفع الحساب؟!”.
وهل كانت تصرف عليك؟!
لم يحدث هذا الا عندما كنا في ماكدونالد.. أعطتني لكي أحاسب“.
قال أيضًا انها لم تمنحه هدية إلا في عيد ميلاده.. وكانت دبدوب.. وهل يحتاج حساب ماكدونالد إلى معونتها؟! كان الحساب في كل مرة 23 جنيهًا.
كيف تصرف على نفسك يا شريف؟!
أبي يعطيني مصروفًا 300 جنيهًا في الشهر.. وأمي تمنحني فلوس إضافية“.
أساله لا بد أن لديكم أرضًا لكي يستطيع والدك منحك مصروف يماثل مرتب موظف منذ عشر سنين، خصوصًا وأن لديه أربعة أخوة، بينهما اثنين ما يزالا في مراحل التعليم والصغرى تدرس في كلية طب المنصورة.. ولم تكن تستطيع من مصروفك أن تدفع 23 جنيها؟!
(يبتسم)..
ثم كيف عرفت الطريق إلى عوامات الزمالك؟
نكون مجموعة من الأصدقاء في حفل راس السنة مثلاً.. وندفع الحد الأدنى“.
أسأله عن الأصدقاء.. وأعرف أنهم مجموعة عباس العقاد، وبالتأكيد من شريحة أعلى منه اجتماعيًّا، طيب.. ألم تفكر في العمل كي تصرف على نفسك بشكل أفضل.. أو كي تشعر بالندية في العلاقة؟
بعد التخرج قدمت في كلية الضباط المتخصصين التابعة لأكاديمية الشرطة، لكنني رسبت في كشف الهيئة“.
ولماذا لم تعمل في مجال آخر.. أنت تقول إنك تجيد اللغات؟
أحب اللغات كنوع من الهواية.. هي هوايتي إلى جانب الرياضة.. لكنني أريد أن أعمل في مجال تخصصي.. وعمومًا قبل الحادث فقط حصلت على وظيفة في إحدى مدارس القاهرة الجديدة.. وكنت سأبدأ التدريس في التيرم الثاني“.
شريف يحب عادة ارتداء البدل الكاملة (دون كرافتة) ويشتريها من محلات وسط البلد في القاهرة، أو من محلات شبيهة في المنصورة. وقد شعرت طول وقت الحوار يريد أن يعطيني صورة عن نفسه.. هو أفنديمن أفنديات الطبقة الوسطى كما ربته عائلته. لكنه لا يمتلك الإمكانات إلا عبر مهارات تافهة. وهو في هذا يشبه شريحة من الشباب تسمى الخِرْتيةيعيشون في العادة على هِبات السياح. ويقدمون خدمات مفتوحة (من الإرشاد السياحي وحتى الجنس والمخدرات). مفتاح العلاقة هنا هو إجادة اللغات والفهلوة وخفة الحركة وإجادة تقديم الخدمات. بدأت هذه الشريحة بمجموعات من الشباب العاطل الذين يحصلون على عمولة من أصحاب البازارات والمطاعم السياحية على اصطياد الزبائن لهم.. ومصدر سعادة الخِرْتية في العلاقة مع السياح إلى جانب المكافآت هو الشعور بالرضا المعنوي بالاقتراب من أشخاص خارج المجتمع الذي يسبب لهم الإحباط ويشعرهم بالعجز. تتسع شريحة الخِرْتية الآن لتشمل قطاعات من الطبقة الوسطى والمتعلمين الذين يحلون مشكلاتهم بالدخول في علاقة غير متكافئة مع الأجانب المقيمين في مصر. والملاحظ أن السنوات الأخيرة تشهد ازديادًا ملحوظًا في الأجانب الذين اختاروا مصر للإقامة؛ بداية من الباعة الجائلين الصينيين والأفارقة، مرورًا بالمغنيات والراقصات من روسيا، وحتى الفنانين من أوروبا وأمريكا. كانت فيرونيك من القطاع الأخير وأغلب علاقاتها كانت من الوسط الثقافي، وهو وسط أكثر انفتاحًا وتحررًا من المجتمع المحيط، ولهذا كان من الغريب أن يقع اختيار فيرونيك على شخص من دائرة أقرب إلى الخِرْتية بمفهومها الواسع الآن.. وتتعامل معه مثل بائع الجسد، فلم تكن تستطيع تقديمه لأصدقائها، كما أنها لم تصحبه ولا مرة إلى أماكن يمكن أن تلتقي فيها بأصدقاء قريبين من شكل حياتها.. لذا اختارت مكانًا عامًا يليق بشخص عادى. وهو لم يعترض.
سألته عن حدود معرفته بعالمها..
لم تكن تتكلم كثيرًا.. أنا الذي كنت أحكي لها عن كل شيء.. لم أعرف عنها شيئًا سوى أنها كانت متزوجة من طبيب.. وانفصلا.. بعد ذلك عرفت أن السبب هو عدم الإنجاب.. لم أكن أعرف أنها مصابة بالسرطان.. عرفت من الناس بعد الحادثة“.
أليس غريبًا ألا تُدخلك إلى عالمها وتريد أنت أن تعرفها على عالمك؟
يجيب إجابات مبهمة هي لم تكن تريد.. هي كانت تحبني وفقط.. كنت أذهب إليها وأجلس على الكمبيوتر.. وأستمع إلى الموسيقى“.
إلى مَن كنت تستمع معها؟
روبي ويليامز.. وسيلين ديون“.
فقط! هذه أسماء يسمعها أي شخص يتابع فضائيات الأغاني.. ألم تعرفك على شيء خاص؟
كانت تسمع موسيقى.. لكنى لا أعرفها“.
كانت تراه أداة للمتعة، وكان يعرف، لكن ولأنه ابن التركيبة العصرية التي تريد أن تفعل كل شيء وتغطي ذلك بمسحة من الشرعية الدينية، عرض عليها بعد لقائهما الجنسي الأول أن يتزوجا.. وردت عليه لا أريد أن أُكرر غلطتي.. دعنا نعرف بعض أكثر.. كي لا يفشل الزواج مثل المرة الأولى“.
ويروي شريف أنه في الليلة السابقة على الحادثة اتصلت به فيرونيك وقالت أنا فاضية بكرة.. ممكن أشوفك“. في الموعد ذهب شريف، ووجدها في انتظاره لكنها كانت غريبة.. تتكلم بصعوبة.. وكانت تشرب خمرة (أخبرني أنه لم يشرب قط معها).. فاستغربت.. أنا أعرف إنها ممكن تكون عادية وهي تشرب.. بدأت تتكلم كلامًا غير مفهوم.. قلت لها لو تعبانة أمشي وأجيلك بكرة.. رفضت وقالت: أنا عايزة أعترف لك إنك مش الراجل الوحيد الذي أعرفه.. وأنني كنت أكذب عليك.. وأرجو أن تخرج من حياتي.. قلت لها لماذا تقولين هذا الكلام.. كان من الممكن أن تخفي عني.. أنا عرضت عليك الزواج.. قالت: أنت غبي.. فرددت عليها بأنها مومس (سألته كيف قالها بالإنجليزية فقال you are a bitch).. فحاولت صفعي على وجهي.. فصفعتها.. سقطت على الأرض.. حاولت ضربها بالكمبيوتر لأفقدها الوعي وأمشي.. اكتشفت أنها ما تزال واعية وتحاول ضربي بمفك الكمبيوتر.. فأمسكت بسلك الكمبيوتر وخنقتها به.. وبدأت أضربها بالمفك.. ولم أعد في وعيي نهائيًّا.. بحثت عن شيء آخر أضربها به.. فوجدت مقصًا ظللت أضربها به دون وعي.. واكتشفت أنني أضرب أيضًا في الأرض حتى انكسر المقص.. وهكذا حتى وصلت الطعنات إلى 58 طعنة“.

انتهت رواية شريف لليلة الأخيرة. لكن أسئلتي لم تنته؛ كيف كان شريف يتصوَّر الزواج وهو عاطل لا يعمل؟! في المرة الأولى (مع اليابانية) أخبر أمه وإخوته وأخفى عن الأب قصة الزواج العرفي أمي قالت لي ما دمت تشعر بالراحة.. لا مشكلة“. ماذا كان سيفعل في المرة الثانية؟ لماذا تمرد على مشكلته الجنسية فقط، ولم يتمرد على البطالة وعدم تحقق الذات؟!
لم أسأله هذه الأسئلة طبعًا.. لكنني سألته بماذا كنت تحلم يا شريف؟ ماذا كنت تتمنى أن تصبح في المستقبل؟! لم يحمل رده الأسى أي شيء.. فقط أكون إنسانًا ناجحًا، ولم أسأله عما يعنى النجاح بالنسبة له!

أرشيف المدينة

مجموعات مختارة من صور و قصاصات صحف و قطع صوتية  ومصورة، تذاكر، طوابع بريد، إعلانات، بطاقات بريدية، تحكي كل منها حكاية عن علامات و مسارات و رحلات سكان المدينة، ليس من قبيل الحنين  إلى الماضي، أو  صناعة أصنام من الماضي ..ولكن للتحديق في  طبقات المدينة التي لا نراها.