الحلقة الرابعة: قصة موزع “إنت عمري”في أمريكا

في نيويورك الستينيات، جلس ألبرت راشد مع صديقه المصري محمد عطيّة الذي جلب لتوِّه أسطوانة أنت عمري من مصر، استمع الاثنان إليها وكان وقع الرائعة الكلثومية الجديدة على ألبرت، المهاجر اللبناني ومالك أحد أشهر متاجر التسجيلات العربية في نيويورك، ساحرًا. 

وصف لنا ريموند راشد حالة انتشاء والده منذ نحو 55 سنة مُغمَض العينين، قائلًا إن مطلع الأغنية بين قانون محمد عبده صالح وكونترباص عباس فؤاد، كان كفيلًا بأسر الزبائن وإقناعهم باقتناء الأسطوانة. وبالطبع كونه لقاء السحاب الأول بين أم كلثوم وعبد الوهاب جعل تسويقها أمرًا هيّنًا.

بعد الاستماع للأغنية بصحبة محمد عطية، مالك مطعم كليوباترا في شارع برودواي في مانهاتن، راسل ألبرت راشد صوت القاهرة طالبًا شُحنة أسطوانات من “أنت عمري” لتوزيعها في السوق الأمريكية. ويذكر ريموند إنها ثاني أكثر الأغنيات مبيعًا في تاريخ راشد للمبيعات بعد “القمح الليلة” لعبد الوهاب.

ألبرت راشد وزوجته جوزفين في متجر بروكلين في نهاية الأربعينيات واللافتة الانجليزية فوقهما تقول إن المتجر يحتوي على أكبر موسوعة من الاسطوانات العربية في العالم وعلى يمين الصورة أفيش فيلم الغنائي الاستعراضي “بلدي وخفّة” لسعد عبد الوهاب ونعيمة عاكف

 

وُلد ألبرت راشد في بلدة مرجعيون (جنوبي لبنان حاليًا) في 1908 وهاجر للولايات المتحدة صبيًّا متجهًا صوب مدينة ديترويت في ولاية ميشيجان. وفي 1934، تخرَّج في جامعة وين ستيت وحصل على درجة إدارة الأعمال. عاشت ديترويت ازدهارًا اقتصاديًّا في العشرينيات جذب ألوف المهاجرين، ولا سيّما العرب القادمين أو الهاربين من سوريا العثمانية، الذين انضموا إلى قوافل العاملين في مصانع السيارات الأمريكية محاولين الفوز بقطعة من كعكة الحُلم الأمريكي.

ريموند راشد يتصفح جريدة قديمة في منزله في بروكلين في سبتمبر 2018⁩

البناية التي أوت مبيعات راشد لحوالي 55 عامًا في جادة آتلانتك ووُسع متجر سعادة على حساب مبيعات راشد الذي انتقل بدوره لشارع كورت على م

حنين المهاجر

صورة لوسط مدينة ديترويت يخترقها الترولّي وتعود لعام 1906، ويعيش اليوم أكثر من 300ألف شخص من أصول عربية في ولاية ميشيغان، بحسب إحصائية المعهد العربي الأميركي ما يجعلها ثاني أكبر ولاية من حيث كثافة السكان ذوي الأصول العربية بعد كاليفورنيا. وحوالي 40% من سكان مدينة ديربورن، المجاورة لديترويت والتي يقطنها حوالي 100 ألف نسمة، من أصول عربية ما أهّلها لتكون موقعًا مناسبًا للمتحف العربي الأمريكي.

استهلَّ ألبرت تجارته في الثلاثينيات عندما عَرض للجالية العربية في ديترويت، وأغلبها لبنانيون وسوريون، فيلم الوردة البيضاء لمحمد عبد الوهاب الذي استُقبل بحفاوة ربما بفِعل حنين المهاجرين للشرق، وبسبب التسجيل الصوتي الذي كان وقتها إضافة حديثة العهد إلى الأفلام المصورة.

كاتَب ألبرت شركة بيضافون موزع الفيلم في القاهرة للفوز بأسطوانات أغاني الفيلم، والتي كانت تُصنع في برلين وقتها، ثم جال يعرض الفيلم ويسوِّق أغانيه في المدن ذات التمركز العربي في أمريكا الشمالية حسب موقع أرشيف عائلة راشد. (تتكوَّن العائلة اليوم من بضعة مئات الأفراد من عدة أجيال متعاقبة وتجتمع سنويًّا بانتظام منذ 1928).

واصل ألبرت عرض الأفلام العربية عمومًا والموسيقية خصوصًا بعد ذلك لعقود، ونظّم عروضًا دورية للأفلام المصرية في أكاديمية بروكلين للموسيقى في نيويورك. وتذكر الباحثة آن رَسموسن، أستاذة موسيقى الشعوب بجامعة ويليم وماري بولاية فيرجينيا، في مقال نُشر بالإنجليزية في كتاب “صور من السحر: فنون الشرق الأوسط البصرية والاستعراضية” (تحرير شريفة زهور/مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة/1998) إن ألبرت راشد كان “دائم الانتباه لتغيُّر ذوق الجمهور الأمريكي وسريع الاستجابة له، فعندما أدرك أن الموسيقى المصرية الكلاسيكية قد لا تناسب ذوق العائلات الشامية في الولايات المتحدة، قرر استيراد أغاني الأفلام والأغاني الخفيفة العامية التي اعتقد أنها ستلقى رواجًا”. وأضافت الباحثة أن ألبرت كان فطِنًا بما أسمته “أُذُن المرحلة”.

في أثناء الحرب العالمية الثانية توقف استيراد الأسطوانات من مصر لفرض الولايات المتحدة حظرًا على الواردات من ألمانيا النازية وتشيكوسلوفاكيا تحت احتلال النازيين. وازداد الأمر تدهورًا بعد تدمير الحلفاء لشركات صناعة الأسطوانات في ألمانيا، الذي أثَّر على تسجيل الموسيقى المصرية مؤقتًا قبل أن يتجه المطربون المصريون والعرب لتسجيل الأسطوانات في معسكر المنتصرين بريطانيا وفرنسا في خلال عام من نهاية الحرب، بحسب مقالة كتبها ستانلي راشد في كتاب “جالية متعددة العوالم: العرب الأمريكيون في مدينة نيويورك” (تحرير فيليب كيّال وكاثلين بنسون/ مطبعة جامعة سيرَكيوس ومتحف مدينة نيويورك/2002). ويضيف ستانلي أن ذلك سبب توجه والده للعمل في مصنع فورد للسيارات في ديترويت لبعض الوقت.

إحدى قوائم مبيعات راشد⁩

ثلاث صور من المهرجان اللبناني الأميركي في مدينة لينكون بولاية رود آيلاند، والذي كان ألبرت المقدّم الرئيسي له لإثنى عشر سنة

انتقل ألبرت وعائلته إلى نيويورك في 1944، وقرر، بحِنكة التاجر الشاطر، البحث عن بديل محلي في ظل انقطاع الاستيراد، فأخذ يفتّش بين أبناء الجالية العربية في الولايات المتحدة للعثور على مغنيين لتسجيل أغانيهم على أقراص فونوغراف 78 لفّة.

وفي العام نفسه افتتح ألبرت متجر تسجيلات في مانهاتن في بناية مطبعة الهدى ناشر صحيفة الهدى اليومية، وكانت أول مطبعة لينوتيب للحروف العربية في الولايات المتحدة ومركزًا ثقافيًّا في نيويورك ومحيطها.

ثم ما لبث أن افتتح متجرًا آخر في حي “كوبل هيل” في بروكلين في 1947. وكان موقعه خيارًا طبيعيًّا لوجود جالية عربية من أصل لبناني وسوري في الحي. وكان المتجر الجديد على مبعدة أقل من كيلومتر من كنيسة سيدة لبنان التاريخية (والتي أصبحت كاتدرائية في السبعينيات). وبعد ذلك بنحو سنة وُلد ابن ألبرت الأصغر ريموند.

توافد المهاجرون العرب على بروكلين في أواخر الأربعينيات، وخصوصًا تجّار “سوريا الصغرى” الذين أجبروا على نقل متاجرهم من جنوب مانهاتن لضفة النهر الشرقي المقابلة في شمال بروكلين. 

وبعد إغلاق ألبرت لمتجر مانهاتن في نهاية الأربعينيات لتشييد مشروع إسكاني سيصير متجر مبيعات راشد “Rashid Sales Co” في 191 جادة آتلانتك (آتلانتك آفنيو) في بروكلين علامة مميزة في تاريخ بيع وتوزيع وتسجيل الموسيقى العربية خصوصًا والثقافة العربية عمومًا في نيويورك وأمريكا الشمالية، وسيمر عليه وعلى صاحبه ألبرت راشد علامات الفن العربي بدءًا بفريد الأطرش وعبد الحليم وزكي مراد ومحمد البكّار وسامي الشوّا وعازف القانون السوريّ محمد العقّاد وليس نهاية بعدوية وسمير غانم. وكذلك مشاهير عالميون مثل المغنيَين بوب ديلان وبوب سيجر والناشط مالكوم إكس الذي زاره في الستينيات بحثًا عن تسجيل للآذان بصوت عبد الباسط عبد الصمد لمسجده في هارلم شمال مانهاتن. كما قصده نجوم هوليوود بحثًا عن موسيقى شرقية لأفلامهم مثل منتجي فيلم “أمير مصر” (رسوم متحركة/1998) و”فانيتي فير” (2004) الذي رقصت فيه ريز ويذرسبون على أغنية السلام عليكم لحكيم.

ألبرت راشد مع فريد الأطرش وأسفل الصورة توقيع فريد، حيث كان ألبرت موزّعًا لأغانية في الولايات المتحدة⁩

10 نعي المطرب اللبناني محمد البكار في جريدة النيويورك تايمز في عدد 9 سبتمبر 1959، وتوفّي البكار قبلها بيوم أثناء غنائه على خشبة مسرح المهرجان اللبناني الأميركي في مدينة لينكون بولاية رود آيلاند نتيجة نزيف في المخ. وجلب ألبرت محمد البكّار من مصر في بداية الخمسينيات وسجّل له اسطوانة

مثّل ألبرت راشد كبرى شركات التوزيع المصرية والعربية في الولايات المتحدة. وتعرّف بعبد الوهاب من خلال محامي الأخير مجدي العمروسي، واتفق الطرفان أن يمثل ألبرت موسيقار الأجيال في الولايات المتحدة في 1939، وهو التمثيل الذي استمر حتى وفاة الاثنين (ألبرت في 1990 وعبد الوهاب في 1991). وصف ألبرت عبد الوهاب في حوار صحفي بأنه شخصية “جذابة محبوبة من الجميع”. وصورَتُهما معًا في القاهرة في 1939 معلّقة اليوم في منزل ريموند (71 عامًا) في بروكلين، والذي زرناه أكثر من مرة على مدار ستة أشهر لمطاردة حكايات الموسيقى العربية والطرب في بروكلين بغرض كتابة هذا المقال.

انخرط ألبرت راشد وزوجته جوزفين في الكثير من أنشطة الجالية العربية في نيويورك على مدار أكثر من 50 سنة، وغطت أنشطة آل راشد الصحافة العربية في الولايات المتحدة والصحافة المصرية. وقدَّم المهرجان اللبناني الأمريكي السنوي بين 1947 و1958، وكان يُعقد سنويًّا في بضع مدن على الساحل الشرقي في أسبوع عطلة عيد العمال الأمريكي الذي يوافق أول اثنين من سبتمبر.

يذكر ستانلي راشد في المقالة المذكورة آنفًا إن المهرجان السنوي كان فرصة اجتماعية لتلاقي أعضاء الجالية اللبنانية والسورية، بغضّ النظر عن المذهب الديني، بالإضافة لكونه سوقًا للتوفيق بين الراغبين في الزواج من أبناء الجالية. وكانت تلك المهرجانات وعروض أفلام ألبرت راشد الدورية في ذلك الزمان، بجانب السهرات المنزلية وحفلات الموسيقى العربية في قاعات الكنائس والمحافل الماسونية فرص ترفيه للمهاجرين الشوام في عطلاتهم الأسبوعية.

اسطوانات أم كلثوم

وفي 1969، ساهم ألبرت في افتتاح إذاعة عربية عبر أثير جامعة فوردهام في حي ذا برونكس شماليّ المدينة، وذلك ببث برنامج “نغمات الشرق الأوسط” لنصف الساعة أسبوعيًّا، والذي امتد فيما بعد لساعة أسبوعيًّا. وحظي البرنامج بنجاح واستمع له عشرات الآلاف من أبناء الجالية العربية وغيرهم في نيويورك ومحيطها.

كما أمَّن متجر راشد الأسطوانات اللازمة للبرنامج الإذاعي “كرفان” الذي يبثّ الموسيقى العربية أسبوعيًّا منذ 1975 عبر أثير محطة WSOU التابعة لجامعة سيتون هول في نيو جيرسي المجاورة. وكذلك مدَّ ألبرت إذاعة “فويس أوف أمريكا”، التي تمولها وزارة الخارجية الأمريكية للعالم، بمواد عربية. ويُذكر أن “فويس آوف أمريكا” واصلت البث العربي في عام 1950 في بدايات الحرب الباردة لرغبة الولايات المتحدة الشديدة في الوصول إلى لمستمعين العرب، بعد فترة انقطاع قصيرة تلت الحرب العالمية.

وكان متجر راشد يتسلم شحنتي أسطوانات من مصر سنويًّا، كل شُحنة بها نحو 500 أسطوانة. يفتح آل راشد الصناديق، وكأنها كنوز علي بابا، فيجدون فيها أحدث أسطوانات الموسيقى العربية من بينها أسطوانات جديدة لأم كلثوم مثل “كل ليلة وكل يوم” “وللصبر حدود” و”الحبّ كُلّه” و”ليلة حب” فيخصصون أسبوعًا للاستماع لكل أغنية.

بالطبع لم تخل السوق من منافسة إذ وجدت شركات التسجيل الأمريكية سوقًا مفتوحًا الموسيقى العربية في المهاجرين المتعطشين للأغاني التي نشأوا على استماعها وحفظوها، فعمدت إلى استيراد وتوزيع الموسيقى العربية استهدافًا لتلك الشريحة الجديدة. ثم ما لبث المهاجرون العرب أن أطلقوا عدة شركات للتسجيل في الولايات المتحدة مثل عالم فون والشرق ومقصود ومعروف ومعلوف الذي ألّف صاحبها الموسيقار اللبناني ألكسندر معلوف نشيد “أمريكا يا حلوة”.

أخبرنا ريموند أن أسطوانة الأطلال ستيريو كانت الأولى والأخيرة من نوعها لأم كلثوم، ربما لأنها سُجّلت في مسرح الأولمبيا في فرنسا في 1967. وأن الصوت المجسّم للأطلال أبرز صوت الكمنجات. وقد أخذ ألبرت الأسطوانة إلى شاعر عربي لترجمتها للإنجليزية، ونسخ كلماتها العربية بالحروف الإنجليزية على غلاف الأسطوانة لتسويقها في الولايات المتحدة.

المرآة العاكسة

يضحك ريموند عندما يتذكر الزبائن الذين اعتادوا قصد المتجر لشراء أغنية متعلّقين بها بناء على جملة شهيرة فيها ليست بالضرورة عنوانها، فمثلًا كانت “كل ليلة وكل يوم” تصبح “بتفكّر في مين”، و”أنت عمري” تصبح “اللي شُفتُه”، و”أنساك يا سلام” تصبح “مش ممكن أبدًا”، بسطت و”ألف ليلة وليلة” لـ”يا حبيبي” أو مجرّد “حبيبي”، أولى الكلمات التي يتعلّمها غير العربي من العربية؛ حبيبٌ مذكر متبوع بياء المِلكية.

ألبرت راشد في متجره في جادة آتلانتك في عام 1947⁩

ألبرت راشد مُعتمد شركة كايروفون المفوّض في الولايات المتحدة⁩

في برد نوفمبر ارتدنا الجزء العربي من جادة آتلانتك، ودخلنا متجر سعادة للبقالة العربية؛ أحد أكبر وأقدم المتاجر العربية في بروكلين الذي ورثه تشارلي عن والده كريستيان سعادة. ثم خرجنا وعبرنا جادة آتلانتك العريضة جنوبًا حيث ستجد مطعمين يمنيين فوق بعضهما البعض، افتُتح أشهرهما في الثمانينيات؛ وكأن جغرافيا الشارع تعبر عن موجات المهاجرين العرب المتتالية للولايات المتحدة؛ الموجات القديمة متركزة في شمال الشارع (لبنانيون وسوريون)، والحديثة في جنوبه (يمنيون بالإضافة للعراقيين والمصريين وغيرهم). وتحت مطعم اليمن السعيد، ستجد متجرًا لبيع مستلزمات التدخين والترجمة من العربية للإنجليزية والعكس. والشارع الآن مزيج فريد من مهاجري لبنان واليمن؛ إذ يمكنك أن تتناول منقوشة وبسبوسة ولبن عيران ثم تخزن القات وتحتسي القهوة وتدخن الشيشة في ليلة واحدة.

اللافتة على اليسار مكتوب عليها بالإنجليزية كيف تتعلم الرقص الشرقي للهو واللياقة والربح مع نيفينا وموسيقى إيدي كوجاك وموضوعة في و

سرنا غربًا صوب ضفة النهر الشرقي مارين بمتجر مالكو وإخوان (الوالد إلياس مالكو رابع شخص من اليمين في صورة تجار جادة آتلانتك أعلاه)، وصولًا لمتجر “أورينتال للحلويات والبقالة” الذي يديره غياث مصطفى، والذي تبدو واجهة متجره الزجاجية وكأنها تجمدت منذ 1999، إذ وسَط الأراجيل وآلات العود وأوعية تحضير القهوة والمفروشات ذات الطراز العربي، ستجد لافتة تشير بوجود شرائط فيديو لتعليم الرقص الشرقي مع نيفينا وإيدي الشيخ كوجاك مكتوبًا عليها بالإنجليزية وبخطّ اليد “تعلم الرقص الشرقي للّهو والمتعة”. وفي تغطية صحيفة نيويورك تايمز لمتجر أورينتال في 2007، كتب الصحفي سيث كوجل إن البحث عن “كِبّة البيض” بالإنجليزية على جوجل لا يسمن ولا يغني من جوع، مشيرًا إلى أن التسكّع في جادة آتلانتك لن يخيّب آمالك مثل جوجل، قبل أن يصف الطبق اللبناني الشهير بكل سطحية بأنه “وقود الرقص الشرقي”.

إيدي الشيخ كوجاك، أو هيو هيفنر الشرق، نجم المامبو العربي في شوارع بروكلين بدءًا بالأربعينيات وحتى مطلع الألفية، هو مغنٍّ أمريكي خفيف الظل مولود لأبوين سوريين غنّى “الجاز في بورسعيد” و”شيش كبوب” و”دبكة شرق مكة” وغيرها من أغان قصيرة لمصاحبة الرقص الشرقي في أغلب الأحيان. وأسمى إيدي موسيقاه “أميرابا” (كلمة مركّبة لموسيقى بوب عربية أمريكية). ويُقال إنه في أثناء خدمته مع الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، أدى عروضًا موسيقية لتسلية الجنود الأمريكيين. وتعاون مع الموسيقي اليهودي العراقي حقي أبو عبيدة وشكّلا معًا نمرة ثابته في الكباريهات العربية في جادة آتلانتك في الخمسينيات والستينيات، وقد نمَّطت أغنياتهما المرِحة، سواء عن قصد أو غير قصد، الأمريكيين من أصول عربية.

قابلنا المهاجر عماد درويش صاحب مطعم فتوش القريب والذي أخبرنا إن متجر راشد مكنه من الاستماع لأغاني خالد الهبر ومارسيل خليفة. أما المعلم رينالدو، الذي هاجر من لبنان في 1986 ويعمل الآن في متجر سعادة، فقال إنه اعتاد على ارتياد متجر راشد لمطالعة الصحف.

في مجلة بيلبورد كتب أحد الصحفيين في عدد 1 سبتمبر 1990 (رابط العدد والمقالة في صفحة 54) أن متجر راشد مثّل مرآة عاكسة للعالم العربي البعيد جغرافيًّا ومؤشِرًا للذوق السائدة في الموسيقى العربية. ولم يقدم المتجر الموسيقى فقط بل أيضًا الصحف والمجلات العربية (وعددها 50 صحيفة ومجلة وقتها معظمها مصرية وسعودية بحسب مقالة مجلة بيلبورد)، والتي زوَّدت الجالية العربية بالأخبار سواءً عن توحيد اليمن أو حرب الخليج.

‎تكريم ألبرت راشد من عمدة نيويورك السابق إدوارد كوتش

صورة الغلاف:عثرنا على هذه الصورة في متجر ``أورينتال للحلويات والبقالة`` الكائن في 170 جادة أتلانتك في بروكلين والذي يديره المهاجر السوري الأصل غيّاث مصطفى (في منتصف الصورة بالمئزر الأبيض). عرّفني غيّاث وصديقه عماد درويش بأسماء ومِهن بعض الأشخاص في الصورة ولكن ليس كلّهم. هل تعرف مهاجرًا عربيًّا للولايات المتحدة عاصر نيويورك في السبعينيات؟ شارك معنا في التقاط خيوط هذه الصورة على هذا الرابط لتحديد هويات الواقفين في هذه الصورة.

وفي رحلات ريموند لمصر في الثمانينات، تعرَّف إلى الشقيقين حسين ومودي الإمام وكانت لحفلاتهما في الزمالك حيث اللهو والمرح معزّة خاصة لديه. وعندما زار حسين الإمام الولايات المتحدة في أواخر التسعينيات لتصوير فيلم المهمة ونزل في فندق في نيوجرسي، زارهم ريموند في الفندق وتعرّف إلى بقيّة طاقم الفيلم. وظل على علاقة بحسين الإمام حتى وفاته في 2014، ولا يزال على تواصل مع مودي الإمام.

يتذكر ريموند حفلًا آخر من حفلات القاهرة أقيم على شرفه في منزل بثينة فريد، أستاذة البيانو في معهد الموسيقى في القاهرة، في 1983، ودُعي إليه فؤاد عبد المجيد وعبد الحميد نويرة الذي أوصته بثينة بجلب زجاجة خمر على شرف ريموند وإلا رحل مستاءً. وغطّت تلك الأمسية مجلة أكتوبر في عدد 4 ديسمبر 1983.

عدوية والحرية

جاب أحمد عدوية الولايات المتحدة في نهاية الثمانينيات وتغنّى لمدن وولايات أمريكا قائلًا “لوس أنجلوس غالية عليّ”. وعندما زار عدوية ريموند في متجره في بروكلين، اندهش لوجود عدة ألبومات كانت ممنوعة في مصر وقتها. حينها قال ريموند لعدوية “أهذه هي الحرية؟” ويذكر ريموند على صفحة متجره على فيسبوك إن المِنتج العربي المسؤول عن تنظيم الجولة الغنائية طلب من عدوية أن يمدح الولايات المتحدة في حفلاته.

وعندما زار أمريكيون من أصول مصرية يعملون في إدارة تحصيل الضرائب الفدرالية -وهاجروا للولايات المتحدة بعد ثورة 1952- نظروا باشمئزاز إلى شرائط عدوية قائلين إنها تمثل “انعدام للثقافة”.

``الحزن يخيم على آتلانتك آفينو``

‎⁨مات حبيب مصر وصديق الموسيقار محمد عبد الوهاب والموسيقار فريد الأطرش…الحزن يخيم على آتلانتك آفينو — تشارلي سعادة والعاملين في متجر سعادة

أشارت عدة مقالات في صحف ومجلات عربية وأجنبية اطلّعت عليها، منها أبحاث أكاديمية، إلى نشاط ألبرت راشد وذكائه وحرصه على نشر الثقافة العربية في الولايات المتحدة من خلال مشاريعه ومبادراته المتعددة. وذكرت إحدى المقالات، التي كُتبت في صحيفة عربية صادرة في الولايات المتحدة في السبعينيات أو بعدها، إن متجر راشد شكَّل “حلقة الاتصال بين المثقفين هنا وفي الأوطان الأم”. وفي مقالة بصحيفة البيرق بتوقيع فاضل سعيد عقل في 1958، كُتب “لا نغالي إذا قلنا إن المغترب المعروف السيد ألبرت -من مرجعيون أصلًا- قد فتح في الولايات المتحدة فتحًا لم يسبقه إليه أحد…”.

وبالإضافة إلى نجاح ألبرت في التجارة والاستيراد والبيع والتسجيل والتوزيع وعرض الأفلام واكتشاف المواهب وجلبها للولايات المتحدة، فقد برع كذلك في التسويق البريدي، ويُذكر أنه لدى وفاته، في يوم 4 يناير 1990 عن عمر ناهز 82 عامًا، كان لمتجره في جادة آتلانتك آلاف المشتركين الذين يتسلمون قوائم الأسطوانات في البريد ويشترون الأسطوانات هاتفيًّا. وقد ضمّ متجره آلاف الأغاني العربية، من بينها 72 أسطوانة لحفلات أم كلثوم.

وقد نعى تشارلي سعادة صاحب متجر سعادة المجاور ألبرت راشد “مات حبيب مصر وصديق الموسيقار محمد عبد الوهاب والموسيقار فريد الأطرش… لقد مات العملاق ألبرت راشد… واهتزت الأرض حزنًا على الرجل بمعنى الرجولة، لقد بكت العصافير والحمام… الحزن يخيم على آتلانتك آفينو”. وكتب تشارلي في النعي إن ألبرت ساعد الأدباء والشعراء من أبناء الجالية العربية ومنهم شاعر المهجر إيليا أبي ماضي.

ظل متجر مبيعات راشد في محلّه في جادة آتلانتك 10 سنوات إضافية حتى مطلع الألفية عندما زاد تشارلي، مالك البناية، الإيجار من 3000 لـ10000 دولار أمريكي، ووفقًا لريموند، قرر الأخوان راشد ألا يجددا عقد الإيجار، ونقلا المتجر إلى بناية تملكها عائلة راشد في 155 شارع كورت على مبعدة 150 مترًا عن متجر آتلانتك الذي ابتلعته بقالة سعادة.

ريموند راشد خارج متجر كورت ستريت في العقد الأول من الألفية.⁩

(صار متجر مبيعات راشد في شارع كورت اليوم متجرًا لمستلزمات الحيوانات الأليفة(صورة:رولا خيّاط⁩

ومع ثورة الموسيقى الرقمية في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة وزيادة الاعتماد على الإنترنت، وخصوصًا انتشار مواقع تبادل الملفات بين المستخدمين مثل نابستر وكازا وآيميش وبيت تورنت وغيرها، تراجعت مبيعات الموسيقى وأثّر ذلك سلبًا على متجر راشد. ومع أن الأخوين راشد افتتحا موقعًا إلكترونيًّا في 1994، يقرُّ ريموند أنهما لم يستطيعا الاستفادة من الإنترنت ورقمنة تجارتهم بما يضمن بقاءها، ويضيف متحسرًا إن “الديجيتال قتل مبيعات راشد”.

وفي أواخر سنوات المتجر، الذي أُغلق في 2009، أدخل تصوير مستندات التجنيس والإقامة للمهاجرين اليمنيين والفلسطينيين الجدد أرباحًا أكثر من بيع الأسطوانات، ومع أن المدفوعات فاقت الأرباح، لكن تعلقه بالمتجر دفعه للاستمرار، خصوصًا وأنها فرصة لمقابلة زبائن قدامى عرفوه وعرفوا والده، وإقامة علاقات صداقة مع زبائن جدد ومستمعين للموسيقى العربية في التفاحة الكبيرة.

بعد إغلاق المتجر، حاول الأخوان راشد تسويق الألبومات التي يملكان حقوق توزيعها عبر الإنترنت لبضعة أعوام. ولا يزالان حتى اليوم يتلقيان عائدات شهرية ضئيلة من جرّاء تنزيل تلك الأعمال إلكترونيًّا. وفي 2011 أنشأ الأخوان صفحة فيسبوك.

بعد وفاة زوجته، رجع ريموند لدق الرِّق والطبلة وحضور ملتقى سيمون شاهين السنوي لأول مرة في 2012. وعادة ما ألتقيه مرتين شهريًّا في جلسات المقام في بروكلين، التي يشارك في الجزء الارتجالي منها على الرقّ أو الطبلة. وهو متحمس لمشروع الجلسات، بل وراعٍ لحفلها السنوي الأول في مارس 2019. كما أراه على فيسبوك مشاركًا نشيطًا على صفحة مجموعة ملتقى الموسيقى العربية.

راي لا يتحدث العربية ولا يقرأ بها، ولكنه يرش بعضًا من كلماتها بفكاهة وسط حديثه الأمريكي من عينة “حرام عليك” و”حاجة جميلة”، وفي أثناء حضور الحفلات العربية سيصيح “حِلُو”. ويردد أسماء أشهر أغنيات أم كلثوم عن ظهر قلب.

في نهاية حديثنا، رنَّ تليفونه فقال لنا إن ابنه بالتبني يسأله عن غداء اليوم، وطبعًا كانت رنَّة الهاتف مطلع أنت عمري.

 الصور: رولا خياط

رولا خياط Rola Khayyat

رولا خياط
Rola Khayyat

رولا خيّاط مزيجٌ من مدن عدة، ولدت في جراتس النمساوية لأب لبناني صيداوي وأم سعوديّة سوريّة. وانتقلت لبيروت الحرب الأهلية في سنّ صغيرة ومكثت بها حتى شبابها. عاشت في فيينا وبرشلونة وبرلين، ودرسَت الرسم في فلورنسا والتصوير في نيويورك، ودرّست الفن في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وتعيش الآن وتعمل في بروكلين وتدرّس التصوير في جامعة كولومبيا. عرضت أعمالها الفنية في معارض منفردة وجماعية في عدة دول، من بينها أرت اللوا، وتعمل حاليًا على أول فيلم وثائقي لها تحت عنوان “من بروكلين لبيروت” عن اليهود من أصول لبنانيّة في مدينة نيويورك. تابع رولا على إنستجرام هنا وتويتر هناك.

الطرب العربي في نيويورك

الطرب العربي في نيويورك سلسلة عن الموسيقى والمهجر