الحلقة الثانية: رحلة أشهر لاعب إيقاع من القدس وبيروت إلى نيويورك

ضارب الرقّ اللبناني ميشيل مرهج بقلوق في منزله بحيّ ستاتن آيلاند بولاية نيويورك الأميركية في شهر ديسمبر 2018.

بدقتين على رِقِّه أعلن المايسترو ميشيل بدء حُلم “بالأفراح” بمقطوعة “قصقص ورق” للأخوين الرحباني. التهبت حماسة الجمهور الذي ملأ إحدى قاعات جامعة مدينة نيويورك بوسط المدينة والذين احتموا بالموسيقى العربية من برودة نيويورك التي نزل طقسها لصفر مئوية في تلك الليلة الشتوية.

قبل ذلك ببضعة أيام زُرنا المايسترو ميشيل مرهج بقلوق في منزله بحيّ ستانن آيلاند الأميركي، الذي يبعد نحو 20 كيلومترًا عن وسط مدينة نيويورك، لحضور بروفة الحفل. وزُيّنت باحة المنزل الخارجية بديكور أعياد الميلاد المُبهِج وأضوائه الملونة.

اجتزنا مرآب المنزل الذي زُيّنت باحة المنزل الخارجية بديكور أعياد الميلاد المُبهِج وأضوائه الملونة. إلى باحة يطل من أحد أركانها تمثال للسيدة العذراء يلّفها رداء أزرق، ثم نزلنا إلى قبو المنزل؛ حيث استقبلنا المايسترو البالغ 90 عامًا بحفاوة على الباب، وكان بالانتظار في الشَقّة أعضاء فرقة بالأفراح على آلاتهم باستثناء لاعبي القانون والطبلة، ومعظم لاعبي الفرقة أميركيون.

بعد البروفة جلس ميشيل بين عائلته وقال لنا إن تسجيل شريط “بالأفراح” لزياد الرحباني، والذي شارك فيه على الرِقّ، لم يستغرق سوى “ثلاث ساعات بالأكل والاستراحة”. قاطعته ابنته كلوديت، مُسندة بيديها على حاجز يفصل المطبخ عن غرفة المعيشة مائلةً بكتفيها إلى الأمام، مُقللة من شأن دهشتنا، قائلة إن الأغاني كلها كانت معروفة لهم عن ظهر قلب وهؤلاء أساتذة موسيقى محترفون.

غلاف ألبوم بالأفراح لزياد الرحباني وميشيل مرهج بقلوق على الرق في منتصف الصورة

يتذكر المايسترو إنه حين سجَّل زياد شريط بالأفراح قبيل الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975، قصد مهندس الصوت زهير سمهون غرفة التسجيل، وجلس بصحبة عاملَين آخرين في ستوديو شلهوب بمنطقة فرن الشبّاك في بيروت مع الفرقة المكوّنة من نحو 11 عازفًا، ورددوا ما جال بخاطرهم بظرافة ردًّا على رشاقة الموسيقى وبراعة العازفين، مصفقين حينًا وملقين بتعليقٍ أو مزحة أو جملة من الأغنية الأصلية حينًا آخر من نوعيّة “يا حلاوتك يا حلو” و”يا روحي يا روحي” و”إيه يا ولا” و”طير يا حمام” و”حلو والله” و”أيوه كركور”، فخرج الشريط بذلك الشكل بين الخفة والجد. وقال عضو فرقة بالأفراح جوش فرار (بُزُق وغيتار كهربي) إن ذلك الجو طبع التسجيل بطابع مميّز فصار “وكأنه حفلة تنهمر فيها الكحوليات انهمارًا وتلفّها دخان السجائر”.

بعد مرور أربعين عامًا على الشريط بالأفراح حاولت الفرقة استنساخ الطابع الودود و”الحميمي” الذي ساد التسجيل الأصلي بروح الفرح والبهجة، ولذلك لعبت الفرقة مثلًا في حفلات منزلية بحي بروكلين، وأحيت حفلين في مكتبة باي ريدج العامة في عام 2017. وحي باي ريدج أحد مراكز تجمع الجاليات والمتاجر والمطاعم العربية في بروكلين. ولكن الحفلين اللذين تستعدان لهما الفرقة في تلك بروفة سيكونا أكبر وأكثر حفلات الفرقة رسمية على الإطلاق.

من القدس إلى بيروت إلى نيويورك

ميشيل مرهج بقلوق الإداريّ في مكتب إذاعة الشرق الأدنى في القدس في أربعينيات القرن العشرين.

وُلد ميشيل مرهج بقلوق في شهر أكتوبر من عام 1928 في القدس لأب لبناني كان قد هاجر للولايات المتحدة الأميركية قبل عودته للشرق. ولما توفي الوالد في عام 1939 التحق الصبي ميشيل بمدرسة داخلية للأيتام تابعة لدير اللاتين الكاثوليكي في القدس، وهناك تعلم النوتة الموسيقية وغنى مع كورال الدير في أعياد الفصح والقيامة والميلاد بصحبة لاعب الأرغن الفلسطيني أوجتسين لاما.

ويقول لي ميشيل إن شخصين تركا أثرًا في نفسه، أولهما عمّته التي اعتادت الطبل في المنزل بعد تسخين جلد الطبلة على الفحم الذي كانت تغلى عليه ركوة القهوة. وثانيهما الشيطان العجوز إبراهيم عفيفي لاعب الرق في فرقة أم كلثوم.

ويحكي لي ميشيل أنه اعتاد الاستماع لأم كلثوم كل خميس عندما كان ابن التاسعة عبر البث الإذاعي من القدس. “كنت أنام عالأرض أنا واخويا ونحطّ الراديو بيننا ونسمع من 10 بالليل للساعة تلاتة الصبح…اللي عجبني الرق (إبراهيم عفيفي) لأن أنا بحبّ الإيقاع.. كان يلعب بطريقة غريبة الشكل، وبعدين ما في فلسفة، فيه إيقاع، فيه انتباه، وإذا واحد شرَد بيضربه، بيجيبه.. بالإيقاع يعني، وأنا أخدت النمط الخاص به، وده اللي خلاني أتعلق بالإيقاع”.

عمل ميشيل المراهق إداريًّا في مكتب إذاعة الشرق الأدنى بالقدس بعد نقلها من يافا، والتي أطلقتها دائرة الإعلام في وزارة الخارجية البريطانية في مطلع الأربعينيات للرد على محطتي الإذاعة العربيتين اللتان بثتهما إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، ومزجت في بثهما بين الموسيقى والأخبار.

ويحكي المايسترو أنه لمّا اندلعت حرب 1948 بين العرب واليهود في فلسطين المنتدبة، رجع ضاربا الإيقاع بالإذاعة كلٌ لبلده مصر وسوريا، فاستدعاه رئيس قسم الموسيقى في الإذاعة حليم الرومي لدقّ الإيقاع بدلًا منهما، لأن حليم سمع ميشيل يطبّل على سطح مكتبه مع أغاني البث. وكان اختبار حليم الرومي- وهو الذي قدم فيروز للأخوين الرحباني- لميشيل عبارة عن أغنية “على بلد المحبوب ودّيني” لأم كلثوم، فأثبت ميشيل جدارته وصار أساسيًّا مع فرقة الإذاعة منذ ذلك الحين.

ميشيل مرهج بقلوق (الثاني من اليمين على الطبلة) أثناء إحدى الحفلات المذاعة على التلفزيون اللبناني وعلى يمينه أخوه حنّا على الرِقّ.

وبسبب الحرب، انتقلت إذاعة الشرق الأدنى لقبرص فمكث ميشيل هناك أربع سنوات. وعندما فُتِح مكتبٌ للإذاعة في بيروت في بداية الخمسينيات، قصد ميشيل العاصمة اللبنانية واستقر فيها منذ عام 1953 حتى هاجر للولايات المتحدة الأميركية في عام 1989.

وفي أعقاب حرب السويس في عام 1956 استقال كل الموظفين العرب في إذاعة الشرق الأدنى (وكثير منهم فلسطينيون ومصريون)…أو طُردوا بعد إعلانهم على الهواء دعمهم لمصر في موقف مضاد لسياسات الإذاعة التي بدا تدريجيًّا عداؤها للعرب وعبد الناصر. أُغلقت الشرق الأدنى في قبرص وسُرِّح ميشيل مع جميع الموسيقيين والعاملين في مكتب بيروت، وذاب ما تبقّى منها في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، وانتقل ميشيل للتسجيل مع بي بي سي في ستوديو الشرق الأدنى في العاصمة اللبنانية.

اشتغل ميشيل لاعب إيقاع في الإذاعة اللبنانية بداية من الستينيات ولأكثر من عقدين من الزمان، كما درَّس الإيقاع في القسم العربي في المعهد الوطني اللبناني العالي للموسيقى لنحو ربع قرن.

ويحكي لي ميشيل أنه لدى تقدّمه لمعهد الموسيقى استغرب أساتذته أن “إيقاعجي عربي” يقرأ النوتة الموسيقية. ويرى بقلوق أن إتقانه للنوتة وفّرت على زملائه في الإذاعة تعليمه أساسياتها، وهذا ما ساعده على التقدم في الموسيقى وكتب اسمًا له على حدّ قوله. ولكن ذلك الأمر ليس مُستغربًا كون ميشيل لعب مع الرحابنة.

ويعلّق جوني فرّاج، مؤسس موقع “عالم المقامات“، قائلًا إن النوتة دخلت على الموسيقى العربية بتأثير الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وقد تأثر بها الرحانبة “أكثر بكثير من غيرهم ويظهر هذا التأثير واضحًا في استعمالهم المعتاد للآلات الغربية، وبناء ألحانهم وتوزيعهم الأوركسترالي”.

‎⁨13 المايسترو ميشيل مرهج بقلوق مع صورته شابًا في منزله في نيويورك في شهر يناير 2019

ميشيل مرهج بقلوق على الرقّ على مسرح البيكاديللي.

لازم ميشيل الرحابنة منذ أن استهلّت فيروز الغناء في الإذاعة اللبنانية في الخمسينيات وعلى مدار أكثر من نصف قرن، وصاحب صوتها الملائكي على الإيقاع في الأغلبية العظمى من رحلاتها الخارجية مثل حفليّ قاعة ألبرت الملكية في لندن في عاميّ 1962 و1986، وحفل مسرح الأولمبيا في باريس في عام 1979، وفي كل جولاتها الغنائية بالولايات المتحدة وكندا في أعوام 1971 و1981 (وهي الجولة التي شملت 14 حفلة بينها واحدة في الأمم المتحدة) و1987 و1999 في لاس فيغاس و2003، مرورًا بمعظم حفلاتها في الدول العربية وأستراليا وأميركا الجنوبية.

كانت آخر مرّة صاحب فيها المايسترو فيروز في حفليّْ مونتريال الكندية في عام 2005، بعد نحو 24 عامًا من انقطاع السيدة فيروز عن كندا، وفي عشيّة اغتيال الحريري.

ويقول لي المايسترو ميشيل إن الرحابنة وثقوا فيه “ثقة عمياء” فكان يتعاقد بالنيابة عنهم مع الموسيقيين ويدفع أجورهم ويحجز المسارح والاستوديوهات.

فندق الملك داود في القدس بعد تفجير 22 يوليو 1946 الذي نفّذته جماعة الإرجون الصهيونية والذي راح ضحّيته 91 شخصًا.

يذكر ميشيل تعرّضه لحادثتين، أولهنّ لدى تفجير فندق الملك داود في القدس في عام 1946 حين كان يعمل في جمعية الشبّان المسيحيين المواجهة للفندق، ويصف ميشيل بيديه كيف أن الانفجار اقتلعه من الأرض على مدخل الجمعية ورمى به في حديقتها الداخلية.

والثانية بعد نحو أربعة عقود في لبنان مطلع الثمانينيات بينما كان في شُرفة منزله في منطقة غاليري سمعان، بالقُرب من الخط الأخضر الذي كان يفصل شرق بيروت عن غربها في أثناء الحرب الأهلية، فاخترقت رصاصة قنّاص من نوعية دمدم كتفه الأيسر وخرجت من فوق قلبه ونُقِل في إثرها للمستشفى.

تحكي لنا ابنته كلوديت أنه بعد إذاعة خبر إصابته على الراديو، تلفن منصور الرحباني للاطمئنان على ميشيل فردّت عليه كلوديت، فسألها أول ما سألها عن يديّ بقلوق: “إيدين بيّك بهم شي ولا لأ؟ طمنيني عنّه!”. ولم تُستخرج شظيتان استقرّتا في كبد ورئة لورا زوجة ميشيل في ذلك اليوم سوى بعد أكثر من عشرين عامًا في الولايات المتحدة.

حكت ابنتا ميشيل، اللتان جلستا في غرفة المعيشة معنا، عن تقدير العساكر السوريين الممركزين في شارعهم، أيام الاحتلال السوريّ للبنان الذي استمر من عام 1976 حتى عام 2005، لميشيل أو “أبو طوني” بالنظر لملازمته الدائمة للسيدة فيروز. ويعلّق ميشيل مازحًا أن فيروز شكّلت له حماية من نوع خاص خلال الحرب بالنظر إلى لمكانتها في قلوب السوريين.

ميشيل مرهج بقلوق (يسار) مع عبد الوهاب في جبل لبنان في بروفة لأغنية سكن الليلُ التي لحّنها عبد الوهاب لفيروز، وعلى يساره سيتراك سارك

وعلى مدار مسيرته الفنية الطويلة، لعب ميشيل مع كبار الموسيقيين العرب مثل عبد الوهاب وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وجوزيف عازار ومحمد الموجي وبليغ حمدي ووردة وصباح ووديع الصافي وفايزة أحمد، ومع أم كلثوم على آلة المزهر في أغنيتها نهج البُردة، ومع زياد الرحباني في “أبو علي” وغيرهم الكثيرين والكثيرين.

حكى لنا المايسترو أنه لمّا شارك باللعب مع نجاة الصغيرة وفرقتها، لم يُعجب نجاة أن ميشيل نصّب عينيه على النوتة الموسيقية بدلًا من النظر نحوها، وكانت أول وآخر مرة يلعب فيها المايسترو مع نجاة.

وكما لعب ميشيل الإيقاع مع حليم الرومي الذي مهّد له الانضمام لفرقة إذاعة الشرق الأدنى، لعب كذلك مع ابنته ماجدة في أحد حفلاتها بالبحرين. وبعد هجرته للولايات المتحدة صاحب ميشيل الكثير من المطربين العرب في جولاتهم الغنائية للولايات المتحدة مثل مارسيل خليفة وكاظم الساهر وغيرهما.

أخبرنا ريموند راشد، الذي كان مع أخيه آخر مالكَي “مبيعات راشد” أحد أبرز متاجر الأسطوانات العربية في نيويورك، إن ميشيل مرهج “أيقونة” موسيقية عربية إذ شارك بدقّ آلات الإيقاعية، ولا سيّما الرِقّ، في مئات التسجيلات.

ميشيل مرهج بقلوق على الرِقّ (يمين) مع فريد الأطرش في أغنية مش ممكن أحبك من فيلم قصة حبي 1955

يقرّ ميشيل بأنه استمتع باللعب ضمن فرقة فريد الأطرش أكثر من أي موسيقيّ آخر، واجتمع الاثنان بعلاقة عمل استمرت حتى وفاة فريد في عام 1974. وبالإضافة لمشاركة ميشيل لفريد في الستوديو والحفلات وفي أحد أفلامه، عمل بمثابة مدير أعماله. وهنا تضيف لورا زوجة ميشيل التي جلست معنا في أثناء المقابلة تأكيدًا على كلام زوجها بابتسامة من يتذكر عزيزًا “فريدي”.

كما حكى لنا أنه مرِض قبيل تسجيل أغنية “حبينا حبينا” في ستوديو نبيل ممتاز في بيروت السبعينيات، فرشّح ضارب رقّ آخر بدلًا منه، ولكن يبدو أن فريد لم يكن يطربه سوى رِق بقلوق بالذات، ما أجبر ملك العود على تأجيل التسجيل حتى عودة ميشيل.

ويذكر ميشيل أنه ذات ليلة أنهى حفلًا مع فيروز في مهرجان دمشق الدولى ثم سافر مع فرقته لعاليه بجبل لبنان للمشاركة في حفل مع فريد الأطرش (المسافة بينهما نحو 100 كم، الذي غنّى فيه فريد “عش أنت”، وهتف له الجمهور اللبناني “بص شوف فريد بيعمل ايه…بص شوف فريد بيعمل ايه”.

حلم برونكا

ميشيل مرهج بقلوق يشير لصورته على غلاف ألبوم بالأفراح في منزله في نيويورك في شهر ديسمبر 2018.

كان “بالأفراح” أول عملٍ كامل لزياد قبل بلوغه والذي وزعه من موسيقاه وموسيقى حليم الرومي والشيخ سيد درويش. ويقول الموسيقيان جوني فراج وسامي أبو شميس في كتابهما “في الموسيقى العربية” إن شريط بالأفراح “عمل فني استثنائي في التوزيع الموسيقي كونه أحدث توازنًا بين آلات السحب ذات الصوت المتواصل كالناي والكمان والأكورديون من جهة، وآلات النقر ذات الصوت القصير كالعود والقانون والبُزُق”.

وأضاف زياد في هذا العمل أربع آلات (أكورديون وبُزُق وطبلة وبيس) إلى التخت الشرقي (عود وكمان وقانون وناي ورقّ)، وحرص في توزيعه على إفساح المجال للآلات المختلفة أن تردّ على بعضها البعض مكررة اللحن الرئيسي للمقطوعة مع إضافة لمستها الخاصة بدعم خافت من الآلات الأخرى “دون تشتيت المستمع أو إثقال كاهله” كما يشرح لنا جوني. وتستمر تلك التقسيمات والزخارف الموسيقية على طول الشريط بمقطوعاته العشر والذي يمتد لقرابة 40 دقيقة دون مطرب ودون أن يملَّ المستمع. ويقول جوني إن زياد في هذا الشريط “أطعمنا عينات بدلًا من أن يُشبعنا”.

ميشيل مرهج بقلوق (الثاني من اليمين) أثناء التسجيل مع زياد الرحباني

من المحتمل أن يكون بريان برونكا (عود) أول من فكَّر في تأدية شريط بالأفراح كاملًا من أعضاء الفرقة بعد أن أهداه نجيب شاهين، عازف العود ذي الأصول الفلسطينية وأخا سيمون وابن حكمت، نسخة من الشريط بعدما انتقل الأول للاستقرار في بروكلين قادمًا من مدينة نيو آورلنز الجنوبية في عام 2003. ولكن حلم برونكا لم يتحقق سوى في عام 2015 عندما تجمَّع عدد من الموسيقيين المستعدين لتأدية مقطوعات الشريط كاملة باستخدام الآلات الأصلية وخصوصًا بعد ترحيب ميشيل بالفكرة مما “يثري التجربة ويسمو بها لآفاق رحِبة” كما صرّحت عضوة الفرقة إنسيا مالك (كمان) في أكثر من مناسبة.

في تقرير لقناة الحرة الأمريكية قال كلٌ من جوش فرار وبريدجيت روبنز (ناي) إن وجود ميشيل بينهم بمثابة كنز. وقال لي المايسترو ميشيل إن أعضاء الفرقة الأميركيين صاروا أكثر إحساسًا باللحن “بفضل” توجيهاته واجتهادهم.

لعب ملتقى الموسيقى العربية، الذي يشرف عليه الموسيقار سيمون شاهين والمعهد العربي الأميركي للفنون والذي يُعقد سنويًا في ولاية ماستشوستس الأميركية منذ عام 1997، دورًا أساسيًّا في تعريف أعضاء الفرقة الأميركية بميشيل. ويعتقد بريان أن الملتقى خلق الظروف الملائمة لاحتضان وتحفيز انطلاق مشروع مثل “بالأفراح”.

البروفة

‎⁨20 ميشيل مرهج بقلوق (يسار) وجوش فرار أثناء بروفة فرقة بالأفراح في منزل ميشيل في نيويورك في شهر ديسمبر 2018.

في البروفة بمنزل المايسترو، وعند مقطوعة “يا حمام يا مروَّح“، سأل ميشيل الموسيقيين، وأغلبهم لا يتحدثون العربية، إن كانوا يعرفون معنى “حمام”، فردّت إنسيا، وهي من أصول باكستانية وتحضّر رسالة دكتوراه عن برامج المواهب الغنائية العربية مثل “آراب أيدول”، بالإيجاب.

ولمّا وصلت الفرقة لمقطوعة “سألوني الناس، حكى ميشيل لفرقته عن تاريخها–وهي الأغنية التي لحنها الصبي زياد وغنتها فيروز في السبعينيات في أثناء تلقّي عاصي العلاج في فرنسا- فطلب جوش من زملائه الانتباه والاستماع للقصة لفهم السياق التاريخي للأغنية.

أثناء بروفة فرقة بالأفراح في منزل الأول في نيويورك في شهر ديسمبر 2018.

كانت كلوديت بقلوق (59 عامًا) موجودة لبعض الوقت في البروفة، تؤدي، عن وعي أو غير وعي، دور زهير سمهون ورفيقيه في التسجيل الأصلي مغنيّة الكلمات الأصلية للمقطوعات حينًا ومعلّقة على أداء الفرقة الموسيقية حينًا آخر، فقالت ” مثلًا “يا حنون” خلال وصلة لبريدجيت على الناي، وهي الكلمة التي رُددت في التسجيل الأصلي في مقطوعة آخد حبيبي (تلحين محمد سلطان).

سيتقمّص دور الُمفاعل العربي في حفل نيويورك ظافر الطويل (قانون) حيث سينظر تجاه إنسيا في أثناء إحدى وصلاتها على الكمان ويصيح “الله يا ستّ الله”. وسيهتف ريموند راشد منتشيًا، وكان جالسًا أمامي في الصف الأول، بلكنته الأميركية الثقيلة “حِلو”.

مقطع فيديو من بروفة فرقة بالأفراح في منزل ميشيل مرهج بقلوق في نيويورك ونقاش حول نهاية مقطوعةشيراكمن شريط بالأفراح لزياد الرحباني

استطاع سيمون مشبّك استنساخ ألاعيب زياد بخفّة وبهجة، وخصوصًا ضربات الإيقاع المقسوم على آلة الأكورديون التي تشبه قفشات زياد الذكية. نظرت ميراندي تجاه سيمون وهو يؤدي إحدى الزخارف الموسيقية وقالت “الله”.

في نهاية البروفة قبل حفل نيويورك بخمسة أيام، اتفق أعضاء الفرقة، بعد نقاش استمر بضع دقائق كانوا فيه أمام ثلاثة خيارات، أنهم سيرتدون الأسود جميعًا رجالًا ونساءً، أما ميشيل سيرتدي قطعة جاكت إضافية كونه نجم الليلة بلا منازع “والذي لا بد له أن يتلألأ فوق بقية أعضاء الفرقة” كما قال بريان.

حفل فرقة بالأفراح على مسرح جامعة مدينة نيويورك (كيوني) في يوم 7 ديسمبر 2018. ويليام فارينتغتون/لايف ساوندس

جلس ميشيل على أقصى يمين المسرح بحذائه اللمّيع وزيّه الأسود بصحبة رِقِّه الذي لم يفارقه منذ أكثر من سبعة عقود. وقالت إنسيا في مقدمة حفل نيويورك، الذي حضره نحو 200 شخص في أمسية شهر ديسمبر 2018، إن أعضاء الفرقة فخورون بمصاحبة “الأسطورة الموسيقية ميشيل؛ أحد أبرز وأكثر لاعبي الإيقاع العرب تسجيلًا للأغاني”، مضيفة أن شريط بالأفراح “نصّ أساسي لأيَ عازف للموسيقى العربية”.

ميشيل مرهج بقلوق أثناء حفل فرقة بالأفراح على مسرح جامعة مدينة نيويورك في يوم 7 ديسمبر 2018. ويليام فارينتغتون/لايف ساوندس

وشبَّهت إنسيا (30 عامًا) تكوّن فرقة زياد الأصلية من مسلمين ومسيحيين وأرمن قبيل الحرب الأهلية اللبنانية، بتباين أعمار وتنوّع أعراق أعضاء فرقة بالأفراح الذين يعزفون موسيقى عربية إبان “الظرف المعقّد الذي تشهده الولايات المتحدة في الوقت الجاري” في عهد رئيس أميركي معادٍ للأقليات يسعى بكل ما أوتي بناء جدار عازل على حدود الولايات المتحدة الجنوبية.

على مدار الساعة والربع التالية، لن يمثّل ميشيل مرهج بقلوق مصدرًا للحنين فقط، بل سيضبط الإيقاع كقائد فرقة موسيقية، فلاعب الإيقاع يرسل إشارات البدايات والوقفات والنهايات، ويتدخل في الوقت اللازم لإنقاذ الأغنية إما لتصليح غلطٍ أو تسريع لحنٍ أو إبطائه.

ويشبّه جوني فرّاج، الذي يحلّ مكان ميشيل مع فرقة بالأفراح عند غياب المايسترو، الرِق بـ”جهاز التحكّم”، فعندما ينتقل ضاربه من دقّ الجلدة إلى رجّ الصاجات، يقرر وحده دون غيره مستوى حماس الفرقة والجمهور. وسيُتبع حفل نيويورك بحفل آخر في مركز جون إف كنيدي للفنون الاستعراضية في واشنطن العاصمة بعد تلك الليلة بيومين.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يؤدي فيها المايسترو ميشيل في المركز، إذ أنه تشارك مسرحه مع فيروز عندما غنّت عليه مرّة في عام 1981 ومرتين في عام 1987. وقال لي بريان عندما قابلته في إحدى جلسات المقام في بروكلين إن ميشيل اصطحب لحفل واشنطن شهادة تقديرية استلمها من المركز قبل أكثر من ثلاثة عقود إشادة بمشاركته في حفل فيروز.

بالإضافة لشريط بالأفراح، لعبت الفرقة مقطوعتيّ “خطوة سمر” لزياد الرحباني و”رقصة عرق سوس” للأخوين الرحباني، والتي في آخرها ينادي ميشيل “سوس” مرتين محاكيًا التسجيل الأصلي ونداء باعة العرق سوس الجائلين. ودقّ ميشيل الرِقّ في التسجيل الأصلي لكل تلك المقطوعات.

ويقول لنا ميشيل إنه لا يزال يحسّ بموسيقى “بالأفراح” و”شايفها وكأنها حيّة” أمامه. ويضيف بمزيج من اللبنانية والمصريّة، والسبب قد يكون مصاحبته لموسيقيين مصريين كُثر على مدار مسيرته الفنية الطويلة أو بسبب كوني مصريًّا، إن متعته تكمن في أن يكون مُحاطًا بالموسيقى العربية واصفًا إيّاها بـ”الأشياء الموجودة فيَّ خلقانة فيّ وِلدت معايا وعازفها ونايم عليها وآكلها…هنا هنا (مشيرًا لقلبه).. لا بتطلع لا يمكن.. احنا الي بنطلّعا ونطلّع أبوها”.

عند توديعنا أخبرتنا كلوديت إن الموسيقى ترد لأبيها الشباب، ودونها تتجلى آثار العمر واضحة عليه. ويقرّ ميشيل بغرامِه بالرقّ الذي لا يخفى على أحد قائلًا “لو ما دقيت إيقاع، كأني مش موجود بالحياة”.

بعد انتهاء حفل نيويورك، سمعتُ امرأة أميركية تسأل رفيقتها خارج القاعة إن كانت قد شعرت حقًا “بالفرح” في حفل “بالأفراح”: “Did you feel joyful in that concert؟”

 الصور: رولا خياط

رولا خياط Rola Khayyat

رولا خياط
Rola Khayyat

رولا خيّاط مزيجٌ من مدن عدة، ولدت في جراتس النمساوية لأب لبناني صيداوي وأم سعوديّة سوريّة. وانتقلت لبيروت الحرب الأهلية في سنّ صغيرة ومكثت بها حتى شبابها. عاشت في فيينا وبرشلونة وبرلين، ودرسَت الرسم في فلورنسا والتصوير في نيويورك، ودرّست الفن في الجامعة الأمريكية بالقاهرة. وتعيش الآن وتعمل في بروكلين وتدرّس التصوير في جامعة كولومبيا. عرضت أعمالها الفنية في معارض منفردة وجماعية في عدة دول، من بينها أرت اللوا، وتعمل حاليًا على أول فيلم وثائقي لها تحت عنوان “من بروكلين لبيروت” عن اليهود من أصول لبنانيّة في مدينة نيويورك. تابع رولا على إنستجرام هنا وتويتر هناك.

الطرب العربي في نيويورك

الطرب العربي في نيويورك سلسلة عن الموسيقى والمهجر