أسطورة رمسيس يونان :..وياليته يبكي!

من “المقالات غير المنشورة” اخترنا هذا المقال ،الذي يرسم علاقة حسن سليمان بمؤسس جماعة الفن والحرية؛ رمسيس يونان .وهي علاقة كما تبدو من المقال شائكة، ومثيرة للتفاعلمع السوريالية التي تركت بصماتها على كل فناني الأربعينات و الخمسينات.

أمسية 25 ديسمبر 1966

رمسيس يونان

  • – أجل مات رمسيس يونان هذا الصباح. أصابني ضيق وتوتر فتركت المعرض. لم أملك القوة على الذهاب إلى الجنازة، هل ذهبت أنت؟
  • – لا. فما علمت سوى متأخرًا مساء أمس، لم يكن بالجنازة سوى قلة قليلة فما توقع أحد هذه النهاية السريعة؛ وكما تعلم لم يكن له معارف كثيرة أو عائلة كبيرة.
  • – كيف حال زوجته؟
  • – أصابها شبه انهيار نفسي ولم تغادر المنزل.
  • – هل كان مريضًا؟
  • – لا، لا، وعكة بسيطة، صداع وقئ وسكتة قلبية مفاجأة والطبيب مندهش. هل سأراك هذا المساء؟
  • – لا أظن، لن أخرج، فأنا أشعر بكآبة تخنقني.

وحينما وضعت سماعة التليفون بعد هذه المحادثة القصيرة مع أحمد غنيم كل شيء حولي يرقد كثيفًا كئيبًا. يأخذ بتلابيبي ويضيق عليَّ الخناق، دقات الساعة، تكسر الخشب في المدفأة وهو يعوي، آنين مرثية للهابسيكورد تئن تحت اندفاع إبرة الجرامافون المستمر، هذيان المصباح كالمحموم على المائدة. 

كل شيء في تلك الأمسية كان يهز نفسي بأبعادها اللا نهائية كاهتزاز غابة نخيل في ليلة عاصفة. لم يكن ذلك حزنًا فقط على موته ولا رعبًا جامحًا في أعماقي من مصير محتوم لكل حي، لكن لأن كآبتي كانت تغطى على رنين ذكراه. 

وهاهي ذي ظلال مشوهة لأشياء على مائدة تتعانق أمامي على حائط أصفر باهت خلف النافذة تندفع، وقطع سحاب قاتمة ذات أطراف لامعة تندفع متكالبة إلى مصير محتوم كلوحة من لوحات رمسيس يونان المبكرة، أما من دفعة تجرح تلك الكآبة المحمومة؟ مات رمسيس يونان دون أن يبكي هو كذلك ويا ليته بكى!

ألوان زيت-من أعمال حسن سليمان 1952

جماعة الفن و الحرية سنة 1941

درب اللبانة بالقلعة سنة 1947

حين بدأت حياتي الفنية كان رمسيس يونان أسطورة، أسطورة ترتبط بالمرسم الذي استأجرته ببيت الفنانين بدرب اللبانة، درب اللبانة الذي اكتشفه رمسيس يونان؛ ولم يكن المنزل حين استأجره سوى أطلال وخراب، فأخذه يزيل الأتربه عنه حجرة فحجرة. وحينما كان يتم تنظيف إحدى الحجرات كان يأتي بصديق أو زميل له ليقطنها حتى أصبحت الحركة التقدمية الفنية والفكرية والأدبية في مصر تقاد من هذا المنزل، وأصبح ساكنوه روادًا للحركة التقدمية والسوريالية في مصر.

وأذكر من هؤلاء الرواد لويس عوض وحسن التلمساني وكامل التلمساني وعبد الحميد الحديدي وأنور كامل وعادل كامل، الذي كتب بعد ذلك رواية طويلة عن هذه المجموعة وهذا المنزل سماها مليم الأكبر. أصدروا مجلة التطور سنة 1940 كان رئيس تحريرها أنور كامل. ولم تمض شهور على إصدار هذه المجلة إلا وأصدروا مجلة أخرى وهي المجلة الجديدة. حررها رمسيس مع مصطفى كامل منيب وأنور كامل وغيرهم.

أخذت حجرات الدار تضج بالحياة يومًا بعد يوم. وما لبث أن انضم إلى هذا الرعيل الأول رعيل ثانٍ؛ وهم عبد القادر التلمساني وخضر وعادل أمين وكامي زهير وأحمد زهير ومحمد عوده ولطفي الخولي وإبراهيم عامر. ولكن حين قطنت هذا المنزل كان كل شيء جذوة تحت الرماد. تشتت الرفاق وبعثرتهم رياح سنة 1946 واعتقالات صدقي باشا الواسعة النطاق. فهاجر رمسيس شبه منفي إلى باريس سنة 1947 واحتوى السجن بعضهم وتشتت الباقي. فذهب عوده وكامل زهير وإبراهيم عامر إلى الهند ليعملوا هناك، وصمتت تلك الجدران السميكة القائمة في درب اللبانة عن كل شيء. ولكن ثرثرة هندية “بوابة البيت” ما كانت تنقطع. “الصورة دي بتاعة رمسيس ولكنها كما تراها لم تتم”، “الكتاب دا والله مش عارف بتاع مين أظنه بتاع إبراهيم عامر”، و”رأس التمثال الأنتيكة دا اشتراه حسن التلمساني وأعطاه لاشتاسن”. أو كانت تصرخ في وجهي “لا تصيح هكذا، فرمسيس يونان الله يمسيه بالخير كان يريد دائمًا حين يرسم أو يكتب أن يخرس المنزل كله كالقبر”.

تعيش مع ذكراهم وتتحدث عنهم راوية ذكرياتهم. كيف أنها باعت أساورها الذهبية لتدفع الكفالة لـ(س)، أو كيف أنها قضت ليلة بأكملها تشغل الفرن بكل أوراقهم ومسوداتهم ومذكراتهم وكتاباتهم متظاهرة أنها تخبز ولكن “نار الورق المكتوب ما تسويش عيش” كما كانت تقول. وما كانت هندية تعلم أن هذه الكتابات قد فعلت شيئًا فعلاً، لقد أنضجت الجيل الذي تلاهم أسرع مما كان يتوقع أحد وإن كان أحد يتهمهم بأنهم أخذوا من الفنون الغربية، وتأثروا لكتابات الكتاب المعاصرين الغربيين فما من فنان أو فن طوال مراحل التاريخ المختلفة إلا وتأثر بغيره، ويكفيهم فخرًا وعلى رأسهم رمسيس أنهم بشروا بالقيم الجديدة في الفن في ذلك الوقت الذي بشر بها بريتون وأبولنير وبيكاسوا وكيركو وغيرهم في الخارج في الوقت نفسه وبالحماس نفسه.

ثيران حسن سليمان الشهيرة، في واحدة من لوحات مطبوعة بالطباعة الحجرية

القاهرة سنة 1956

مضت سنون الاعتداء الثلاثي على بورسعيد وإذا باسم رمسيس يونان يتردد ثانية كأحد الذين يعملون مذيعين بالإذاعة الفرنسية الذين أصروا على رفض إذاعة بيان ضد مصر، ويعود رمسيس إلى مصر بهدوء، فلم يكن هذا الرفض ليحقق بطولة شعبية أو ليطالب بمنصب بل كان تصرفًا بسيطًا وطبيعيًا جدًا بالنسبة له.

يرجع رمسيس بهدوء دون مال أو عمل وكنت لا أزال بالقلعة، وفي صبيحة يوم اندفع صوت هندية الأجش “أستاذ حسن”، ففتحت الباب قبل أن تكمل “الأستاذ رمسيس عايز يشوفك”، وإذا برمسيس يونان بجسمه الضئيل ووجهه الشاحب وعينيه الوادعتين وصمته الذي يقطر حساسية مرهفة وابتسامته الباهتة وكأن مرارة كل تجاربه السابقة لا تزال تملأ فمه. تعجبت كيف لثائر أن يكون هادئًا ووديعًا هكذا! كان يقف وبجانبه زوجته البولندية وطفلتاه، يحملون نفس الوداعة والهدوء، هذا  هو أول لقاء لي مع رمسيس. تطرق الحديث إلى أشياء كثيرة، لكن حديثه كان كالهمس.. لم يكن على استعداد لأي شيء؛ لا أن يطرق الأبواب ولا أن يطالب بقيادة أو زعامة، وبرز لي في ذلك الوقت جانب آخر من مقومات رمسيس وهي عفته الزائدة عن اللزوم، عفته التي منعته من أشياء كثيرة، يبحث بالقلعة عن بقايا أشياء كانت له وكم كانت حاجته إلى أي مقعد وإلى أي كوب، سألني إذا يستطيع أن يشتري قماشًا يصلح ستائر وكساء للمقاعد فانطلقنا إلى عوف بسيدنا الحسين.

عد ذلك لم أره إلا لمامًا. في معرض أو في نادي الأتيلييه، أو يأتي لزيارتي في وقفة صديق أو أصدقاء دائمًا كما هو. حديثه همس يبدو نافد الصبر أو عازفًا عن تأمل أي شيء. باعدت بيني وبينه اختلاف وجهة النظر واختلاف المشارب والمذاهب الفنية التي يعتنقها كلانا، ولكني احترمته دائمًا وتمنيت لو صادقته.

صيف 1965

كان ذلك في أثناء معاناة رمسيس يونان من التفرغ، وكنا في غروب يوم من أيام أغسطس القائظة في ذلك الوقت، كنت أعاني من فرديتي ومن عدم تجاوبي مع الطبقة المثقفة في مصر وعدم قدرتي على فرض نفسي. وبدأت مثل هذه المشاعر تنسج حولي سياجًا من الكآبة والصمت والعزلة، انطلقت أنا وأحمد غنيم نتسكع في طرقات القاهرة، لينتهي بنا المطاف إلى شرفة فندق سميراميس. وإذ برمسيس يونان وزوجته يجلسان. كل شيء كان يتلاشى في الظلمة الفضية التي تغلف أفول شمس ذلك اليوم الحار.

عيناه تتأملان كل شيء حوله في هدوء عجيب، بينما زوجته تتمتم بلحن أغنية لجوليت جريكو، اهتز قارب مشدود فوق مياه النيل وهبت لفحة ساخنة واهتز ضوء ذبالة فانوس معلق بالقارب، فاهتزت حرارة التجربة التي أعانيها في أعمالي، وإذ بي أجد رمسيس لأول مرة على حقيقته عملاقًا قويًّا، شجاعًا في صمته، ليتني أملك قوته، ورأيت كم كان سيتغير الوضع لو كان هناك عشرة من جيله يملك نفس شجاعته. ظللنا صامتين، بينما استمرت زوجته في التمتمة بلحنها وعينا رمسيس تجولان تائهتين على صفحة النيل المرتجفة، وإذ تطرق مخيلته فكرة يلمسها كلها بسرعة ليلقيها إلينا بهدوء. ولكن بقية الرفاق ما لبث أن أتوا، فانصرفت أنا وأحمد. وفي الطريق تمتمت “كم أتمنى أن أصادق هذا الإنسان، ولكنه مثل هذا الموج لا تراه مقبلاً تجاهك إلا لكي يلم أطراف نفسه الشاسعة وينسحب بعيدًا عنك…”، فقاطعني أحمد “لا، بالعكس، هو يكن لك الكثير من التقدير”. وهكذا الآن أجد ذكرى رمسيس تطفو على سطح مخيلتي كما تطفو جذور نباتات الشاطئ على صفحة النيل بعد ليلة عاصفة.

فرض عليه التصوف ولم يكن بزاهد

عالم موحش وحشة المصادفة الجوفاء، وسماؤه ليست أكثر من صقيع وتراب. عاش بيننا وكأنه غائب، هنالك أناس تقسو عليهم الظروف لدرجة أن تحط لهم حدود وإطارات يجب إلا يتعدوها. وأنا لا أستطيع أن أنقد أو أمجد رمسيس يونان ولست في حالة تسمح لي بذلك، إلا أنني كفرد من أفراد الجيل الذي تلا رمسيس أنظر إليه بكل إجلال وتقدير، لقد كان أستاذًا، لكل من جرؤ من جيله أن يقول الكلمة سواء في مجال الرسم أو الكتابة وكان الوقت حينئذ عصيبًا.

….

على الرغم من أن فن رمسيس يونان من ذلك النوع الذي لا يهدف إلى تصوير الحياة القائمة على التفاعل والتناقض، إلا أننا يمكن أن نعتبره ذلك النوع من الفن الذي يحوي حقيقة ثورية. وعلى الرغم من أنني لا أحب ذلك النوع من الفن الذي يعبر عن التحلل والتآكل وخواء الوجود وسكونه، وأميل بحكم تكويني العقلي والنفساني إلى تلك الأعمال التي يلتزم فيها الفنان، تلك الأعمال التي يتحد فيها عنصر الإرادة مع المنطق الهندسي السليم، فكل نقطة لا بد أن تكون لها وظيفة فعلية في اللوحة، ولكني لا أملك تلك التمتمة الصوفية، وما من مرة كنت بجبل أتأمل تضاريسه، تنؤاته ومغاراته إلا وتذكرت صور رمسيس بكل تقدير، ولا يحق لي حينما أناقش عمل فني بمنهج علمي سليم أن أفضل مذهبًا على آخر، أو أن أقر المتفائل وأنكر المتشائم أو أدع مزاجي الشخصي يتحكم، ولا أستطيع أن أفصل العمل الفني عن الفنان نفسه وحياته، فالخلق الفني يخضع لتكوين الفنان النفساني والجسماني ولظروفه الإجتماعية والمادية؛ قطعًا أن تجربة رمسيس يونان الإنسانية أثرت فيه وطبعت فنه بهذه الصورة اللاشيئية حتى انعكست في أعماله نظرة ألا فائدة من أي شيء ولكن قيمة الفنان لا تقاس بهذه السهولة. فكل فنان يعكس لنا سطحًا من أسطح الحقيقة المتعددة؛ ورمسيس يونان يعكس لنا بشخصيته ورؤياه مزيجًا من أكثر من فنان أو شاعر، ولكنها وأخيرًا تكون شخصية مستقلة وقائمة بذاتها، وعلينا أن نحترمها وندع الزمن هو الذي يحكم عليها فقط – على الرغم من أن رؤية رمسيس يونان ضبابية، وفي مثاليته الكثير من السلبية، كما أن في رومانتيكيته قسوة الثلج مثل تلك الرومانتيكية التي نجدها في موسيقى الجروفون وليمز. كل ذلك كما أسلفنا واضح في عمله إلا أن أسلوبه نقي وصافٍ، وهذا هو الشيء الذي يهمنا أن لوحاته تشعرنا بالاختناق ولكنها في الوقت ذاته تشعرنا بالنور، نوع من النور الذي يشبه انعكاس آلاف المرايا، ويذكرنا برسوم سيزان المائية وينطبق عليه جملة أندريه بيرتون “أشياء ويشع منها الضوء”.

تمرد على الواقع المادي

إن رمسيس يونان لا يخلق في لوحاته عالمًا من الأجسام، أو يوجد علاقات متزنة بين الخطوط الطويلة والأفقية داخل إطار اللوحة، ولكنه يحس بالمساحة التي يريد رسمها إحساسه بالحياة، وكأنها حائط صلب لا يمكن النفاذ منه أو اختراقه ولكنه حائط مهلك من الممكن أن تنفذ منه ولو لفترة ثم يصطدم ثانية إما بحائط ثان أو بالعدم. إنه عالم غامض يشعرك أنه لا يمكن الخلاص منه لذلك فهو يمزقه ويهلهله. إنه فن ينتمي إلى ذلك النوع من الفن الذي هو عبارة عن التمرد، لا لاقتحام الآلة في حياتنا اليومية فقط بل تمرد على واقعنا كله وتفكيرنا المادي. فن يمثل التآكل والعدم في الحياة وتمد جذوره إلى السريالية، فن يعبر عن التمزق البشري وتحلل القيم، كما يستند إلى فلسفة هيدجر وفرويد.

القديم والحديث

إن رمسيس يونان قطعًا سوريالي في رؤياه، ولكنه يكثر من السوريالية، وقد تحول عن تحقيق رؤياه بأسلوب تجريدي بل أكثر من ذلك، نستطيع أن نقول إن رمسيس يونان ما هو سوى تجريد للفنان تانجي، أجل، إن عالم أرحب يذكرنا بعالم الفنان السوريالي تانجي، وبعض مراحل ماكس إرنست، ولكنه يختلف عنهما في ألا أثر في أعماله للفراغ أو المسافات أو احترام الشكل كثيرًا، ولكنه يستعيض عن ذلك بحيوية السطح التي تذكرنا برسوم بوسن وبزوهل، وإن نقصت أعماله انطلاق الرؤية أو جموحها تلك الميزة التي يمتاز بها بقية السورياليين. وقد كان ذلك سببًا لوضع أسلوبه في قالب أكاديمي محدد بالضبط كما حدث في القرن الماضي لبعض الرسامين دافيد وأنجر، فمجموعة ألوانه ونعومة السطح لديه لا تخرج عن أسلوبهما وهذا يجعلنا نعتبره فنانًا يحقق تفكيره بأسلوب معاصر.

الظل يمزق النور

ولكن أهم شيء يمكن أن تناقشه عند رمسيس يونان هو الظل والنور؛ فقد خرج بالظل والنور عن مفهوم الناس السطحي لهما، ذلك المفهوم الذي ينحصر في تجسيم الأشكال أو إظهار الأبعاد. فالظل والنور مثلاً عند الرسام سوتين ليس إلا تمزقًا في نسيج اللوحة العام، وكذلك عند رمبرانت ليست وظيفته النور الأساسية التعبير عن كتلة وصلابة الأجسام، بل إن النور ما هو ثقوب وتمزق في سطح اللوحة المظلم، كذلك عند رمسيس يونان تمامًا لا يخرج الظل عن كونه تمزقًا في سطح اللوحة المشع بالنور.

..وكما عاشت كتابات جان جيردو وسيلين ستعيش رسوم رمسيس يونان. وهي أن كانت تقول لي شيئًا فهذا الشيء هو أن الدموع كانت تجمدت في عينيه وكان دائمًا على حدود البكاء، ويا ليته بكى!