الفن الشعبي

إن ما حدث كأنه حدث أمس. أظن ذلك كان في سنة 1939. لا زلت أذكر أن المذيع بالتأكيد هو محمد فتحي بيه. صعقنا وشدنا بلغته العربية الرصينة ووصفه الرائع. اجتمعت الأسرة كلها حول “الراديو” لأنه قال: إنهم سيخرجون آلات موسيقية من المتحف المصري القديم وخصوصًا آلات نفخ، فهناك ألماني قد أثبت أنها صالحة لتؤدي الغرض. يريد أن يجربها ليتأكد من نظرياته عن جذور وامتداد الفن الشعبي المصري عبر الأجيال.

حينما جاء خالي (*يقصد عالم الآثار الدكتور أحمد فخري) من الخارج أخبرنا أن التجربة قد نجحت جدًا، واستطاع الألماني إثبات أن هناك علاقة تربط بين ثقوب آلة النفخ مع مسافات وسمك أوتار الهارب. أتي ببعض النغمات –التي ما زالت تعمل في التراتيل القبطية والنغمات التي لازالت ببعض مناطق الصعيد في موسيقاه الشعبية– المشتركة بينهما. نسيت اسم الرجل الذي نطق به خالي في ذلك الوقت فهمنا كان منصباً على التجربة في حد ذاتها، وسرد محمد فتحي الرائع لتاريخ مصر وعظمتها كما عودنا دائمًا بصوته العذب، وعربيته الممتعة.

مضي الزمن، وقبل أن أسافر مرسم الأقصر سألت خالي عن ماذا ينصحني أن أفعله في مرسم الأقصر. قال لي: لا تضيع وقتك في زيارة عابرة للمقابر فعددهم أكبر مما تتوقع ولن تستطيع أن تلم بكل شئ لا خلال سنتين أو حتى عشرة. لكن أنصحك بمقبرة مجهولة إلى الآن بمنطقة الخوخة رقم 38 – حسب الترقيم حين ذاك. قال لي: هي لأميرة ماتت قبل أن تتم المقبرة رسمها، وأظن أن الفنان كان في حالة وجد وحب حين رسمها. وإن وجدت لديك وقتًا فلا تضيعه إلا مع نائحات راموزا وعلاقة أيديهن المرتفعة مع انحناءات شعورهن المتكررة. لم أضيع وقتاً في الأقصر، وبما أن الخفر يدركون علاقتي بخالي فقد فتحوا لي المقابر المغلقة. كان الرسم في المقبرة محصورًا في جدار يسار المدخل. الرسم يعبر عن خادمات تقدمن عقود اللوتس للزائرين راقصتان انثنى جسدهما عكس رقصهما وجلست العازفات تنفخن في أذني صعقت أمام رشاقة الخطوط وجمال الألوان والوجد الذي يحمله العمل الفني. ضيعت معظم الوقت في نقل هذه الفترة بالألوان، وحينما أتى طه حسني لفنان “أندريه لوت” ليدرس لنا في مدرسة الأقصر أخذته إلى هذه المقبرة. 

“أندريه لوت” بُهربجمال هذا المهجور وعذوبة الفتيات المرسومة، وطبعها في كتابه عن الفن المصري القديم حينما رجع إلى فرصة ثم تبعه الكثير ممن نشروا عن الفن المصري القديم.

لا أعلم الآن ماذا أصبح رقمها(..المقبرة) أو ماذا حدث لها، حينما رجعت إلى القاهرة، وأطلعت خالي على الرسوم التي رسمتها اشتراها كلها. لم أكن أتوقع أنه سيعجب بها إلى هذه الدرجة. سألته: إن الراقصتين اللتين تقفان عكس بعضهما في حركات راقصة – هل يتذكر أن أي أثر من تلك الحركات الثنائية بين الراقصتين امتد إلى الآن؟ قال لي: أنا أذكر أنه مازالت تلك الحركات الثنائية إلى الآن في شمال السودان تسعى برقصة (الدلوكة). ولا بد أن هناك مكاناً ما في القاهرة مازالوا يرقصون فيه هذه الرقصة. بسهولة وأنا في مولد عرب المحمدي سألت عن تلك الرقصة، فدلوني عن مكان في “عزبة أبو حشيش” لا زالت تمارس فيه هذه الرقصة، وأخذني صديق خضرة(محمد) خضر “عم بشير” إلى هناك. وجدت حجرة متسعة غطى سقفها بجذوع النخل وسعفه. طلبت الحجرة بالأزرق.. تنفذ الشمس من خلال ثقوب السقف كأنها دنانير ذهبية منثورة على الجالسين وعلى الجدران الزرقاء. الجالسون كلهم سودانيون يستندون إلى الحوائط الزرقاء بملابسهم البيضاء على “الحصر” التي تفترش الأرضية كلها. وأمام كل واحد منهم “قرعة البوظة” وطبق صاج صغير فيه “الشطيطة” وهي كبدة الجمل مقطعة قطعا رفيعة صغيرة تغرقها الشطة والليمون –يأكلونها نيئة– فجأة دخلت فتاتان ترتديان في وسطيهما تنورة كلها أحبال وبها حوافر معيز جافة– أما أعلى أجسامهما إما أن تكون صدرية خضراء شفافة ملتصقة أو عارية الصدر، بدأتا الرقص على إيقاعات دقات بدائية ساذجة من الطبلة ذات الجانبين ودف كبير، يحرك العازف الطبلة يميناً ويسارًا بسرعة. أما الشيء الملفات للنظر كثيرًا فقد كان آلة موسيقية غريبة لا أتذكرها جيدًا، لكني أذكر أنها عبارة عن طبق صاج قشر بعض سطحه وشدت عليه أسلاك مختلفة وله يد قصيرة والعازف يشد الأسلاك. حينما بدأت الراقصتان ترقصان عكس بعضهما بالضبط. فوجئت بأنه أولاً حوافر المعيزة الكثيرة التي تحدث أصواتاً غريبة متحركة يمينا ويسارا وأصله إلى أسفل ركبتيهما – لكأنني أمام الرسم الذي في المقبرة تماما مع انثناءات أيديهما. دائما يتحركان ولكن عكس بعضهما.

بالشقة التي بجانب مرسمي كانت تسكن راقصة سويسرية ترقص في “صحارى سيتي” اسمها “ليزا ماي”. مدربها على الرقص كان يسمى الشيخ سيد، كان يرتدي جلبابًا أصبح فيما بعد الجلباب الشائع الذي تلبسه الطبقة العليا في العجمي؛ وهو مفتوح الجانبين وبه تطريز. سألته أنني قرأت في كتاب عن خطابات “فلوبير” للكاتب “جي دي موبسان” وهو في زيارته لمصر. في أحد الخطابات ذكر “فلوبير” أنه طلب منهم أن يرى رقصًا شرقيًّا، فأجابوه أن الخديو نفى كل “العوالم” والراقصات إلى المنيا.

لكن بقيت مقهى في بولاق لازال يمارس فيها الرقص الشرقي من فتية مخنثة. حينما أخبرت الشيخ سيد بهذا قال لي: “ياه دا كان زمان وخلص” الحكومة أغلقت هذا المقهى مع انتهاء الدعارة لكنهم ما زالوا يمارسون هذا الرقص في شقة ببولاق. وكان في بالي إلى أي مدى احتفظ الرقص الشرقي وعلاقته بالرقص المصري القديم قبل أن تأتي عليه المؤثرات التركية. وفي حديثي معه صرح بأنه منذ سنين طويلة يسيطر على تدريب الراقصات المشهورات “الشواذ “( مكتوبة بهذه الطريقة التي كانت شائعة..ويقصد المثليين) من الرجال. سألته هل تستطيع أن تدبر لي زيارة لهم. قال: أظن أنه من الصعب لكني سأحاول وسأخبرك. بعد أيام أخبرني أنهم وافقوا وعليّ أن أذهب خلف الفسخاني الذي كتب على لافتة “الهلوتي المشهور بـ..” يمنعني الحياء أن أقول الكلمة وتحتها مكتوب دون إحراج. قال لي: قف على الربوة التي خلف الحانوت بجوار ضريح سيدنا أبو العلا، وانتظر من سيأتي لك. لم تطل وقفتي طويلاً إذ بزغ أحدهم واضعا طرف جلبابه في فمه ليصبح الجلباب ملتصقا على فخذيه بادرني بلهجة أنثوية “أنا اسمي حودة.. إنت بقى الأفندي الذي سيشرفنا”؟ قلت له: أجل. قال: اتبعني لكن اعمل حسابك النقطة في كل مرة لن تقل عن عشرة جنيهات. سبقني وهو يقول: “وسع يا ولا”، وجلبابه لا زال في يده أو فمه، كل ما أذكره أننا دخلنا شارع الواجهة المتسع الذي يواجه ضريح أبو العلا، وفي الناحية اليمنى المواجهة لوكالة البلح دخلنا إلى زقاق ضيق ثم انعطفنا لزقاق أضيق حتى كدت أن أخشى أني لا أستطيع الخروج من هذه الأزقة الملتوية وشعرت بخوف، صعدنا درجات سلم متآكل وكانت تترامى على مسامعي موسيقى “أكورديون” وطبلة. فجأة وجدت راقصتين يرقصان بالضبط عكس بعضهما، يملكان نفس انثناء الراقصتين المرسومتين في المقبرة – وحركة ساقيهما حتى تعطي فرصة لتحريك أردافهما. من وقت لآخر يقول أحدهما: “هلا هلا يا أخا”. سألت ما معنى كلمة (أُخا) فقالوا لي: بأنها بلغة العوالم أختي. توقف الراقصان ومروا عليّ كي أدفع النقطة فدفعت عشرة جنيهات. فجأة قال أحد الراقصين “يالا يالا يا معلمتي دى الأفندي يرى الرقص على أصوله!”. فوقف رجل في منتصف العمر يميل إلى البدانة قليلا وأحد الراقصين اندفع إليه ليحزم شالا أسفل بطنه. إذ بهذا الرجل يدهشني بمرونة جسمه التي لا تتناسب مع سنه وثني جسده وهو يميل إلى الخلف حتى يمس الأرض بكفيه ثم ينتصب سريعا كالصور التي على المقابر الفرعونية.

مع صوت الطبلة المتلاحق الذي يصمت فجأة ليبدأ من جديد –رأيت ما أريد أن أراه- لكني لم أشعر بارتياح ربما لنظرة الطبقة المتوسطة التي أنا منها للشذوذ (كما كانت تسمى المثلية الجنسية ) في ذلك الوقت. وما إن وصلت إلى شارع الواجهة ورأيت الأضواء تزين حانوت الفسخاني مع جامع وضريح أبو العلا تنفست الصعداء وقلت لنفسي: لا زالت جذور من أيام الفراعنة باقية تصورتها كما هي، لكن حينما سألت علماء الآثار قالوا: لا أحد يستطيع التكهن بنوعي الرقص اللذين كان أحدهما يمارس في المنازل لتسلية الضيوف أو رقص فتيات المعابد والفرق بينهما، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ثبات أشياء بذاتها عبر آلاف السنين مع مؤثرات أخرى دخلت إلى مصر من شعوب أخرى.

كبرت ومن مناقشات خالي بمنزله واستراحة الهرم علمت أن الرجل الذي اتهمه البعض بأنه معتوه لأنه أصر على أن يخرج الآلات الموسيقية من المتحف ويجربها هو الدكتور “شيفرز”، وأنه أضاع عمره كله – رغم دراسته العميقة الموسيقى- في تتبع الموسيقى الشعبية المصرية والآلات من أقصى الصعيد حتى أعلى شمال الدلتا ومن سيناء حتى الصحراء الغربية، لا أدري من أين كان يأتي بالمعونة والمساعدة. هل هي من معهد الموسيقى الشرقية.. أم من القصر الملكي.. أم الحكومة الألمانية؟ لكنه كان دائم البحث والسؤال والسفر والترحال والتدوين بالألفاظ العربية وبجانبها اللغة الألمانية والنوتة الموسيقية. خالي دائما يستقبله ويحضر له كتباً من مكتبته. لا يضيع وقته أبداً لابد أن يسأل في شيء مهم. أصبح اسم “د. شيفرز” بالنسبة لي أسطورة. كلما قلت لخالي شيئاً في الموسيقى أو ذكرت له مكاناً إلا وقال لي: سبقك إلى معرفة هذا ودراسته بعمق “د. شيفرز”. حينما قررت الذهاب إلى سيوة سنة 1951 قال لي خالي: إن أردت أن تنصت للموسيقى الحقيقية للصحراء الغربية فلا بد أن تذهب إلى “الزيتونة”. سبقك إليها “د. شيفرز” لكنك لن تستطيع الذهاب إليها بمفردك، فلا بد أن أكتب إلى المأمور خطاباً ليرسلوا معك خفيرين لأنها منطقة خلف ملاحات ينفون فيها المتمردين والسكاري، وهم في سيوة يشربون شراب “اللبجي” وهو عبارة عن عصارة النخل. يقلمون النخلة من سعفها، ثم يشقون شقا يربطون أسفله وعاء فخاريًّا له فوهة. أنا واثق أنك ستحتفظ به لجماله كفن شعبي يتعدى كل العصور والأماكن. “الليجي” إن شربته في الصباح فائدته عظيمة وطعمه ورائحته لن تنسى، إنه يشبه عصير القصب لكنه دون سكر وبه مزازة وبه رائحة “الجمار” وأكثر كثافة لكن احذر أن تشربه خميرا أو ثاني يوم فهو خمر شديدة إلى أقصى درجة.

في سيوة بالتأكيد قررت أن أذهب إلى “الزيتونة” وهي عبارة عن غابة من أشجار الزيتون والنخيل على ضفاف ملاحات. قال لي المأمور: إن أردت أن تنصت إلى موسيقاهم وأغانيهم فلا بد أن تقضي الليل معهم. فلا يبدأون في الغناء إلا ليلا يسهرونه معربدين يشربون “الليجي” الخمير. ليلتي هناك ليلة لا تنسى، ولا يمكن لأحد أن يتصور وهج النيران المشتعلة والمشاعل منعكسة على صفحة الملاحة الساكنة، لم أكن أتوقعهم وقد صورهم خالي لي شرسين أو متهورين، رأيتهم بالعكس وديعي الخلق دمثي الأخلاق. الموسيقى لديهم تنحصر تقريبًا في آلتين “الناي” ونوع من “الطنبور” أوتاره مشدودة على أربع خشبات. كانت ليلة غريبة. أصواتهم متنوعة وكل فرد يأخذ النغمة من الآخر منوعا إياها بصوت يختلف من حيث الارتفاع والانخفاض أو الصوت الرفيع والأجش –إنه شيء لا يوصف الفجر هناك – الملاحة الرمادية اللامعة، الصمت، و(شوشة النخيل) ترد عليها شجيرات الزيتون الرمادية، وبقايا النيران المنطفئة وسط رجال ثملين وقد التفوا في أحرمتهم الصوفية البيضاء. حين رجعت إلى القاهرة قصصت على خالي شاكرا هذه الزيارة. رد على: سبقك في الإعجاب “د. شيفرز”، ولكنه سجل كل هذا. أصبح “د. شيفرز” عقدتي كلما ذهبت إلى مكان أو أعجبني نغم شارد فالإجابة. سبقك “د. شيفرز”.

التحقت بـ”البريتش كانصل” مع بداية دراستي بكلية الفنون لأحصل على “المتروكليشن”، وحينما وصلت إلى السنة الرابعة كان عليَّ أن اختار مع الأدب الإنجليزي إما الموسيقى أو العمارة أو الرسم ففضلت الموسيقى. مدرسة الموسيقى كانت سيدة بها مسحة من جمال ليست في سن صغيرة ولكنها دائما كانت لا تفيق من الخمر. لا أستطيع القول إني كنت طالب مجد أو دائم الحضور، أضف إلى هذا أنها كانت تتكلم سريعًا جدًا وهي سكرانه مدغمة الكلمات ببعضها. لم أحضر لها من الدروس إلا لماما، واعتمدت على مذكراتها. كان البرنامج ينحصر في موسيقى “الباروك” إلى “ديبوسي” و “رابيل”، ولم يكن أحد يتوقع منا أن الامتحان سيكون في “ديبوسي”، وبما أني لم أكن مذاكرا فقد اعتمدت على ذاكرتي وأخذت أحوم حول الموسيقار ذاكرا أثر الحرب السبعينية على فرنسا و”جمباتا” والفنانين التأثيرين و”رودان” والشاعر “ملارميه”، واختتمت كلامي بأن أهم شيء في موسيقى “ديبوسي” هي “الأرابيسك”، وأهم عزف له هو عزف “د. هيك مان”. ذهبت في موعد أخذ الدرجات، فصرفت لكل التلاميذ الورق إلا أنا، فعلمت أني راسب. نادتني فذهبت إليها قالت لي: من أنت وماذا تعمل؟ قلت لها: إني انتهيت توا من دراستي في كلية الفنون الجميلة. استطردت: لذلك فأنت تعرف كثيرا عن الرسامين التأثيرين، لكن هناك شيئاً أهم وهو ربطهم بالحرب السبعينية، و”جمباتا” وما يحيرني أكثر هو من قال لك عن أحسن من عزف “ديبوسي” هو “د. هيك مان”، فكل الأسطوانات التي تستعيرونها من “البريتش كانصل” هي إنتاج شركة (صود صيدو has master voise) أجبت بشبه ابتسامة: لقد اشتريت الاسطوانات من شركة “دكا” الأسطوانات الكبيرة والصغيرة، فقد أعجبت جدًا يعزف “د. هيك مان”. قالت حقيقة هو أعظم من عزف “ديبوسي”، وأخذ الدكتوراه وكرس حياته فيه، وأحسن من عزف “الأرابيسك”، ولدهشتي فوجئت أني أخذت أفضل درجة. 

مضت الأيام وقابلت ولي الدين سامح، وكان قد دعاني للعشاء، أخبرني أنه لابد أن نذهب أولا لنودع السيدة “د. شيفرز” قبل سفرها من مصر نهائيا. قلت له: إنني أذكرها ولكني غير واثق أنها لا زالت تذكرني كطالب عندها في “البريتش كانصل”، استقبلتنا سكرانة كعادتها والمفاجأة نظرت إلي ولي الدين سامح وقالت: هل تعرفه؟ لقد كتب بحثًا هائلاً عن “ديبوسي” وعزف “هيك مان” له منذ سنوات. علمت في الجلسة أنها زوجة “د. شيفرز” الذي حيرني لتكريسه زهرة عمره لدراسة الموسيقى الشعبية وجذورها لشعب غريب عنه، وهي ستلحق به في برلين.

انصرفنا وعلى مائدة العشاء “بمحل الجمال” حيث كنا نجلس دائما أخبرني ولي الدين سامح بالقصة وهو يعصر الليمون الكثير في المياه قبل أن يشربها – ذكر أنه – ذات أمسية كان على “د. شيفرز” أن يترك مصر نهائيا ربما كان ذاك سنة 1956. ثم استطرد – طلبني “د. شيفرز” بالتليفون وطلب مني الحضور للأهمية القصوى. قال إن عليه الآن الرحيل من مصر ولا يدري لمن سيترك أبحاثه كلها وهل سيحافظ عليها أم لا؟ وهل ستترجم أم لا؟ وخصوصًا أنها ليست بالعربية. لم تدم المناقشة طويلاً وقرر من في الجلسة بالإجماع حفظًا لها أن يأخذها كلها معه في الخارج من شرائط مسجلة ونوت موسيقية ونصوص بالعربية وتحتها ترجمتها. سيحافظ عليها أكثر وربما في مصر سيكون مصيرها العدم. في وقت من الفوضى لا ندري متى سينتهي. مضت السنوات وعلمت أن الموسيقار كمال عبد الرحمن ترجم كتيبًا صغيراً كتبته زوجة “د. شيفرز”، وأكد لي الموسيقار راجح داود أن الدكتورة سمحة الخولي رأت التسجيلات والأبحاث محافظاً عليها كلها في برلين، وهناك من قال إنها في تل أبيب. 

أظن أنني لا أستطيع أن أختتم كلامي سوى بكلمة كفى.. كفى! وتتجمع الدموع في عيني. لماذا ضحى “د. شيفرز” بأجمل سنوات حياته من أجل المحافظة على تراثنا الشعبي الموسيقى؟ ولماذا لم يوجد إلى الآن لدينا ذلك الفدائي الذي يشعر أنه لا بد له أن يذهب إلى برلين ليترجم لنا ما ضحى “د. شيفرز” بعمره كي يحققه، خصوصًا وأن معظم بعثات “الكونسرفتوار” إلى النمسا وألمانيا –الحقيقة أننا أصبحنا عقلاء نجرى وراء مصالحنا الذاتية وليس فينا الفدائي المجنون– وللأسف الشديد البشرية والحضارة سطرها مجموعة من الفدائيين والمجانين منذ عهد اليونان.