النوتة 1: جدول زيارة أمير كوستاريكا

أمير كوستاريكا (هكذا ننطق الاسم منذ عرفناه في القاهرة).. مخرج من البوسنة حصل على السعفة الشهيرة لمهرجان «كان» مرتين.

له فيلم اسمه «تحت الأرض». حكى فيه عن محتال في يوغوسلافيا.. كان المحتال يوهم الناس أنه من الثوار، بل بأنه فعلاً من قادة مقاومة الاحتلال النازي 1943، مع أنه يتاجر في السوق السوداء ويسرق الأغنياء ليمول المقاومة. المحتال أخفى مجموعة من أفراد المقاومة، وبينهم صديقه القريب جدًا، في نفق تحت الأرض هربًا من الألمان، فقط ليستطيع الزواج من حبيبة صديقه، ويستمتع وحده بغنيمة الثورة.. وبعد الاستقلال بقيادة الزعيم التاريخي تيتو يصبح المحتال أقرب مساعديه. واستمر في لعبته، وأقنع مجموعة النفق بأن الحرب لم تنته. خدعهم بأصوات لقنابل وطائرات وهمية لأكثر من 20 عامًا كاملة.. ظل الثوار يعيشون في الوهم تحت الأرض.. والمحتال ينعم بالسلطة والزوجة والمال. وعندما خرجوا (1961) كانوا مثل أهل الكهف: خارج الزمن.

لا أحد يعرف بالضبط أين يقف الزمن؟ ليحدد كيف نقف خارجه؟ الزمن شبكة عجيبة يتجاور فيها الماضي والحاضر والمستقبل أيضًا. وشكل الشبكة هو الذي يميز كل مجتمع، كل بلد، كل جماعة بشرية. وأتصور أن شبكتنا أقرب إلى المتاهة؛ نعود إلى نفس النقطة كلما قال لنا خيالنا إننا نتقدم.

التقدم فكرة عويصة هي الأخرى. بدأ وعينا بالعالم خارج حجرتنا المحاصرة بأخلاق برجوازية مصرية تسير حسب الموضة.. تقلد المستعمر فتصبح معاصرة ومتقدمة. ثم تصعد موضة الخصوصية/ الهوية فتخترع عجينة بين تقليد المستعمر وتقليد البلاد التي قاومت التغيير، وعاندت الزمن. ثم تنهزم هذه الصيغ المهترئة، وتترنح رومانتيكيتها البليدة، المتوحشة، ويظهر بدلاً منها أنبياء الصحوة، وعودة الزمن الدائري، وظهور المخلص كل 100 سنة، وغابت فكرة التقدمي الذي يحاول بناء حركة على أساس الوعي.. ثم تبهت الحركة مع بقاء الوعي مثل دبوس يعلق ورقة متآكلة.

عمر الزهيري – تصميمات مدينة

كوستاريكا.. سيحضر للقاهرة ليكون رئيسًا للجنة تحكيم أفلام مهرجانها السينمائي الدولي.. سيحضر نجمًا ويغيب عن المبهورين بالضوء المحيط به كل القلق المؤرق الذي أتي به خياله.

الخيال عدو كما نتعلم من صغرنا.. عدو متغطرس.. وفتاك.. ويؤدي بنا إلى الجنون.. وبدلاً منه تجمعت كل القوى الساعية إلى السيطرة لتوحيد جهودها، لنشر فكرة أن الترتيب الذي يبدو عليه الواقع، هو الخيال. هو البئر الذي تختبئ فيه الحريات، والمسطرة التي نتعذب للتماهي مع قياساتها..

الترتيب الذي نجح فيه المسيطرون هو حدود خيالنا.. لهذا قامت حملة الغضب من فيلم “ريش”.. لأن المخرج جرب خياله الخاص.. وبنى حكايته البصرية على صور وشخصيات وعالم كامل يتعلق برأسك عندما تزور أحد الذين يعيشون معنا في قلب المدينة.. أو يتكاثرون مثل بقع تتساقط من جسمها المترهل..

في الباب السابع من كتاب “الجمهورية” يروى أفلاطون أسطورة شهيرة عن رجال كانوا مقيدين في قاع كهف مظلم ولا يرون إلا ظلالاً على الجدار تلقيها النار من خلفهم، وكان هؤلاء الرجال يعتقدون أن ما يرونه هو الواقع، وتحرر أحدهم من أغلاله وترك الكهف واكتشف ضوء الشمس والعالم الفسيح.. في البداية أذهله ضوء الشمس الذي لم يعتده، وأصابه بالحيرة، إلا أنه تمكن في النهاية من الرؤية وعاد إلى رفاقه متحمسًا وأخبرهم بما رآه، وكان من الصعب عليهم تصديق ذلك.

الحكاية ذكرها في كتاب عالم الفيزياء الإيطالي كارلو روفيلي “الواقع ليس كما يبدو”، ترجمة صفية مختار، والذي أعادني إلى قراءة الفيزياء الكمية، واعتبرتها منذ تعرفت عليه مع ترجمة الفنان عادل السيوي لكتابه “أجمل نظرية”، أداة اكتشاف لفهم العالم.. ربما من المنطلق الذي ذكره كارلو روفيلي في مقدمة الكتاب، من “أننا مهووسون بأنفسنا.. فنحن ندرس ما “يخصنا” من تاريخ وعلم نفس وفلسفة وآلهة.. وكثير من معرفتنا تدور حول الإنسان نفسه كما لو كنا أهم شيء في الكون.. أعتقد أنني أحب الفيزياء لأنها تفتح نافذة يمكننا من خلالها رؤية المزيد، أشعر أن الفيزياء “كالهواء الطلق الذي يدخل المنزل”.

كارلو روفيلي – تصميمات مدينة

 

أنا كذلك أحب الفيزياء للسبب نفسه.. أحب كل خيال يغطس في الغموض.. في كل ما لا نراه بعين مهندس العالم المحيط بنا.. هذا المهندس يجعل من عالمنا “مكان للعجز” وكلما أمعنا في تأكيد هذا العجز، أغلقنا أعيننا.. وزاد هوسنا بأنفسنا.

هذا تقريبًا سر النعرات التي تنتاب البعض دفاعًا عن استمرار إغلاق النافذة.. لأن في إغلاقها راحة واستقرار.. وهذا سر مأساة ممثل مثل شريف منير، تقول حياته إنه اكتشاف صلاح جاهين؛ عاش بخفة لاعب إيقاع في فرق صغيرة ومتجولة.. حتى بدأ التمثيل وظهر في أعمال جيدة، لم تمكنه من احتلال مكانة بين الصفوف الأولى التي تعترف بها آلهة الصناعة.. وفوجئ مع تقدم العمر بأنه مضطر إلى بذل مجهود كبير للحفاظ على مكانه “في الصورة“.. وهذه مهمة قاسية ومؤلمة.. أصعب من تجويد الأدوات في التمثيل.. وتحتاج دائمًا إلى احتفال بالركاكة.. واللهاث المريع وراء أي شيء يبقي الوضع على ما هو عليه.

شريف منير – تصميمات مدينة

تخيل معي أن حركة واحدة فعلها هذا المسكين لتضمن له الانفراد بالمسرح للحظات، أثارت كل هذا الرعب والوحشة ونشرت الشعور بالتهديد من هدم البلدوزر لهامش الحريات الضئيل.. حدث كل هذا لأن ممثلاً رفض الخروج من الكهف الذي يعيش فيه سعيدًا.. وأصابه الهوس من مجرد فتح النافذة على خيال مختلف، وتصور أن كل هذا “مؤامرة” على اطمئنانه وسعادته وانسجامه مع كل مميزات البقاء في الكهف.

تخيل بقوانين الفيزياء أن حركة “المسكين” ضد فيلم “ريش” أثارت كل هذا الذعر من التوحش الذي لا يحتاج إلى مجهود كبير ليؤكد وجوده وتحفزه.

هل تفلح الفيزياء في إدراكنا لحركة الأنقاض؟ هل سنأخذ أمير كوستاريكا في جولة لكهوفنا.

..هل سيحبها لأنها تذكره بفيلمه بعد 26 سنة؟

أعود إلى كتابة النوتة.. بدأتها في الجونة 2020.. شذرات صغيرة تمنح طاقة للأفكار المتفجرة.. تكسر الأنماط المستقرة.. تفكك الكتل الكبيرة من الخطابات والكلام.. يمكن أن نسميها تهتهة تقلق صاحبها والقارئ معًا.

فكرت في الاستمرار في كتابتها طوال السنة الماضية، لكنني لم أعد إليها إلا مع الجونة 2021؛ 

ربما لأن الجونة ذبذبة أكثر منها مهرجان..

….

ذبذبة يمكن السيطرة عليها في البداية.. لكنها سيطرة مؤقتة.. طالما أن الفن عنصر فعال.. الفن مقلق.. وفاضح.. سيرتاح الرومانسيون للعبارة السابقة.. لكنها ليست كما يظنون.. تخيل أن الفن هو مصدر طمأنينة وانسجام.. تتوحد الناس مثلاً عند سماع أم كلثوم.. وتسمع الآهات.. لكن لا يمكن امتلاكها في أي لحظة.. تهرب من كل قفص أو متحف أو برواز أو صنم تحشر فيه.. في كل مرة ستكتشف شيئًا، وتخونك “الست” كلما أفرطت في الثقة بها…أو تعاملت على أن كل أسرارها في محفظتك.

سيتكفل المحافظون بشرح عظمة الكلام، أو المعاني التي تقطر من أغاني أم كلثوم.. وإذا أوقفتهم لتسألهم له ما العظمة في مقطع مثل “أمل حياتي يا حب غالي.. ما ينتهيش..”؟ كلام عادي جدًا.. بل ومستهلك.. لكن السر في “الفن”؛ ذلك الغامض الممسوس بكل ما ينجزه البشر من علاقة بين الغموض والعقل.. بين اللاعقلاني والمنطق.. بين الهندسة وعلم الفلك. 

كيف ستشرح تلك الفكرة دون اختصار مخل.. أو تعميم يقوم على الجانب الخرافي من العالم!

في العام الخامس ولادة جديدة للمهرجان؛ لكن الذبذبة خرجت عن السيطرة..

في الجونة كل شيء ونقيضه.. كل شيء في تطرفه.. كل شيء مبعثر في القاهرة يتجمع هناك، بعد عبور البوابات.. لكن لا شيء يمر دون سيطرة..

حتى الحريق الصغير.. لم نشاهد سوى القدرة في السيطرة عليه.. وانتظار ما سيقوله “أصحاب المهرجان”.. إنهم حاضرون بقوة.. لم ينمُ المهرجان بعيدًا عنهم ولو قليلاً.. ولهذا تطل النميمة من جحورها، وتعيش في الطرقات، تنمو وتكبر.. وتنتهي كل محاولة عاقلة في الفهم عند تفسير كل ما يحدث بأنه “العين”.

هناك بالفعل عين كبيرة تراقب كل صغيرة وكبيرة تحدث في الجونة.. ولا يقف في مواجهتها سوى “قدرات” عائلة ساويرس، وإمكاناتهم اللانهائية في “كسر العين”، أو في السيطرة على كل شيء.

وحده فيلم “ريش”، وبالتحديد بعد الأزمة التي فجرها، وضع كل التناقضات في اختبار خارج السيطرة التقليدية.. فيلم خارج التوقعات المرئية.. من خارج المنهج.. وبعيد عن السيطرة.. وجد فيه ممثل يلهث ليبقى في كادر الصورة، ويحافظ على مكانه، ليعلن غضبه، و…

تقريبًا حدث ذلك عندما فجرت عناصر من “القوة الناعمة” نفسها، في نفسها.. سلاح فاسد كشف ما كان وراء استخدام التعبير الأنيق، بديلاً عن البروباجندا والمستوى المحدود منها وهو “التوجيه والإرشاد”.

هل تحبنا القوة الناعمة؟

ربما قد تجد إجابة في النوتة القادمة.