ليلى حلمي

ليلى حلمي: نجمة الإذاعة الذهبية

اعتادت القرى والأحياء الشعبية المصرية خلال القرن العشرين أن تشاهد مجموعة من الفرق المسرحية المتنقلة التي تضم جماعة من هواة التمثيل والغناء، وكانت هذه الفرق المتنقلة على اتصال مباشر بالجمهور في الأقاليم، ولا شك أن جمهور هذه الأحياء كان أكثر انجذابًا إلى النكتة المباشرة أو السخرية المجتمعية. فكانت من بين أبرز هذه الفرق المتنقلة، فرقة المرحوم أحمد الشامي، وظلت هذه الفرق لفترة بعيدة نواة لتفريخ العديد من المواهب على مستوى التمثل والغناء. ومن بينها واحدة كان يديرها والد الفنانتين ثريا  وليلى حلمي. وإن كانت ثريا هي الأكثر شهرة في العالم العربي، حيث اعتبرها النقاد المونولوجست الأولى أمام ميكرفون الإذاعة وشاشة السينما، ولا ريب أن تلك الشهرة لعبت دورها، وإن على نحو غير مباشر، في التقليل من تسليط الأضواء على أختها الكبرى المطربة ليلى.

ليلى حلمي وثريا حلمي مع المطربة دنيا

لمحة تكوينية

ولدت ليلى حلمي باسم «فريدة» عام 1920، بالقرب من شاطئ مدينة دمياط، وبعد عامين من ولادتها نزحت مع الأسرة إلى مدينة القاهرة، حيث احترفت والدتها التمثيل فوق المسارح. وعندها شاركت مع والدها في إنشاء فرقة مسرحية للتمثيل تجوب الوجهين القبلي والبحري. وقد أدى هذا التنقل المتواصل بين القرى والمدن المصرية إلى التحاقها بأكثر من مدرسة، كما كانت تقضي أغلب وقتها بين كواليس الفرقة وعروضها لتحفظ الألحان والبروفات التمثيلية. وكانت أسطوانات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب هي المادة الخام الأولى التي استمعت إليها وتعلَّقت بها في عالم الطرب، خصوصًا مونولوج «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» لأم كلثوم. وفي الثامنة من عمرها التحقت بمدرسة «ديروط» الابتدائية وتفتحت مواهبها الغنائية خلال الفسحات المدرسية التي تغني خلالها لزميلاتها من الفتيات. وعندما بلغت الثانية عشرة من عمرها انتقلت مع أسرتها إلى مدينة الإسكندرية، وبدأت تغني هناك في ثلاث صالات، فسمعتها فنانة فلسطينية وعرضت عليها العمل في إحدى الصالات التي تملكها في مدينة «يافا»، وقضت هناك ستة أشهر (ليلى حلمي: حياتي، الراديو المصري، 15/6/1946، ص 9).
شهدت البدايات الأولى للطفلة ليلى غناء بعض الطقاطيق والمونولوجات الخفيفة أمثال «ألو ألو» من ألحان سيد شطا، و«زنوبة يا زنوبة» من ألحان ليتو باروخ. ومع الوقت بدأت في تقليد أغنيات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، حتى أطلقوا عليها لقب «أم كمون» بدلًا من أم كلثوم. وكان اسمها يكتب على جميع إعلانات الفرقة في أثناء رحلاتها إلى شتى أرجاء القُطر المصري. وعقب رحلة فلسطين غادرت الفرقة إلى مدينة «بيروت» إثر اتفاق مبرم مع متعهد الحفلات حينها أحمد الجاك، وهناك قضت الفرقة ما يقرب من عامين بين ربوع الشام. ومن أغرب المواقف التي شهدتها ليلى هناك الحادث الأليم الذي تسبب في مقتل العديد من رواد مقهى «كوكب الشرق» بعد أن انهار السقف على من فيه. ولعبت المصادفة دورها فقد حدث أن تأخرت ليلى على إحياء إحدى حفلاتها في المقهى بعد أن تأخرت في صالة السينما وعندما عادت إلى موقع المقهى علمت بما حدث! وبمجرد عودتها إلى القاهرة علمت بأن الفنان مصطفى بك رضا أعد حفلة غنائية من أجل مساعدة الفنان القعيد كامل الخلعي، وكانت هذه الحفلة سببًا في تعرفها إلى مصطفى بك رضا؛ الذي رافقها في الذهاب إلى الفنان مدحت عاصم والذي أُعجب بصوتها وتعاقد معها على الغناء لمدة ستة أشهر في محطة الإذاعة اللاسلكية الحكومية المصرية (بدون توقيع: حديث طريف مع المطربة ليلى حلمي، الراديو المصري، 4/3/1939، ص 10).

وبعد شهرين من هذا الاتفاق غادرت ليلى مجددًا للعمل في فلسطين، وقد تزوجت لمدة خمسة أشهر فقط وغادرت إلى العراق. لكن يبدو أن قفص الزوجية لم يكن مريحًا للعصفور الذي عشق الحرية والتغريد فكان الانفصال النهاية الحتمية. وفي عام 1936 تعاقدت ببا عز الدين معها للقيام برحلة إلى «تونس»، قبل أن تعود مجددًا للعمل مع أختها ثريا في صالة ببا في شارع عماد الدين عام 1938 (ميمدال: هذه هي السيكاميكا، الفن، 9/2/1953، ص 13). واستطاعت ليلى خلال هذه الفترة أن تصبح واحدة من نجمات المسارح والإذاعات العربية، حيث قامت بالغناء في إذاعات القدس وبيروت وتونس كما غنت على مسارح الجزائر والعراق ومراكش والشام قبل أن تنضم إلى الغناء في فرقة «الباليه المصري» بكازينو الكوبري عام 1951.

بطولات سينمائية

لم يكن ظهور السينما الغنائية الناطقة في المجتمع المصري ظهورًا عاديًّا فجمهور المسارح بدأ في الانسحاب تدريجيًّا نحو صالات العرض لمشاهدة نجومه ونجماته المفضلين وهم يتبادلون الكلام والنكات ويغنون في صورة متحركة تنبض من لحم ودم. فانطلقت المطربة نادرة في فيلمها «أنشودة الفؤاد» عام 1932، ثم تبعها الموسيقار محمد عبد الوهاب في فيلمه الغنائي «الوردة البيضاء» عام 1933، وكذلك السيدة أم كلثوم في فيلمها «وداد» عام 1935. وهكذا بدأ الجميع في التوجه نحو الشاشة الفضية كوسيط جديد يملك قدرة شديدة على اجتذاب الجمهور واكتساب شرائح أوسع من السميعة ومتذوقي الفنون. فكان طبيعيًّا أن تكون نجمات الإذاعة ضمن الطليعة التي يبحث عنها المنتجون لعمل خلطة سينمائية متكاملة تصبح الأغنية إحدى ركائزها الأساسية. ولعل الشهرة التي وصلت إليها مطربتنا ليلى حلمي في الأوساط الفنية والمسارح والإذاعة الحكومية هي ما دفع بالمخرج والممثل يوسف وهبي لتقديمها خلال فيلمه «المجد الخالد» عام 1937. وجاءت مشاركتها الثانية خلال فيلم «قيس وليلى» عام 1939 من بطولة بدر لاما وأمينة رزق وإخراج إبراهيم لاما. وعززت موقفها في العام ذاته بالمشاركة في فيلم «خلف الحبايب» بطولة أنور وجدي وإسماعيل يس وتحية كاريوكا وعقيلة راتب وإخراج فؤاد الجزايرلي. وفي فيلم «العريس الخامس» عام 1942 من بطولة حسين صدقي وآسيا وإخراج أحمد جلال لعبت دور بدوية الفلاحة في العزبة. وكذلك فيلم «حسن وحسن» عام 1945 من بطولة محمد الكحلاوي وحورية محمد وإخراج نيازي مصطفى. وشاركت في فيلم «عروسة للإيجار» عام 1946 من بطولة أنور وجدي وزينات صدقي وإخراج فريد الجندي. وكان فيلم «خالي شغل» عام 1955 من بطولة أحمد غانم وكاريمان وإخراج حسن عامر العمل قبل الأخير الذي شاركت فيه، وذلك قبل أن تشارك في فيلم «لوكاندة المفاجآت» عام 1959 من بطولة إسماعيل يس وهند رستم وإخراج عيسى كرامة. وعلى الرغم من هذه المشاركات السينمائية فإنه من الصعب بلوَّرة شخصية ليلى حلمي السينمائية. فهذه المشاركات جاء أغلبها عن طريق الأغنيات القصيرة ضمن السياق العام لجو الفيلم. وبالتالي فهي أدوار تمثيلية محدودة المساحة، ولا تحمل بصمات راسخة وما بقي منها هي الأغنيات التي شدت بها مطربتنا من حين لآخر.

في دائرة الظل

على الرغم من أن ليلى حلمي كانت من المطربات الشهيرات، فإن إمكاناتها الصوتية كانت متوسطة الجودة، لكن يبدو أنها كانت تتمتع بشخصية فنية مرنة، وعلى درجة عالية من الذكاء مما دفع العديد من كبار الملحنين من التعاون معها؛ أمثال محمد القصبجي وأحمد صدقي ومحمود الشريف وعبد العظيم عبد الحق وأحمد عبد القادر وعزت الجاهلي وفلمون ورياض السنباطي الذي لحن لها «مجنون ليلى» بالاشتراك في الغناء مع سعاد محمد وعادل مأمون وشفيق السيد وعبد العظيم عبد الحق وصالح الكويتي الذي لحن لها «قلبك صخر جلمود» باللهجة العراقية من كلمات عبد الكريم العلاف، وكانت ليلى تؤدي أدوار داود حسني القديمة إلى جانب بعض الموشحات في الإذاعة الحكومية. لكن ينبغي التوقف عند قصيدة «يا نسمة مرت عليا» ودور «صحيح إن الغرام» وهما من ألحان زكريا أحمد وكذلك لحني «قالوا على الهوى غالي» من كلمات صالح جودت و «في الروض جمالك» وهما من ألحان محمد عبد الوهاب. وتقول ليلى عن هذه الألحان «كل أغنياتي راضية عنها تمامًا، وكنت لا أقدم على لحن لأغنية إلا إذا كنت راضية عن كلماته تمامًا، ولكن يعجبني جدًا بعض هذه الكلمات والتي لاقت إعجابًا أكثر عند الجمهور مثل «يا سلام على طبعك»، وهي من ألحان الأستاذ محمود الشريف، ثم هناك أيضًا «في الروض جمالك» وهي من ألحان الأستاذ عبد الوهاب وقصيدة جميلة من ألحان الشيخ زكريا بعنوان «يا نسمة مرت عليَّ» لقد كان لهذه القصيدة وقت أن سجلتها دوي وإعجاب كبير عند جمهور المستمعين» (بدون توقيع: عودة صوت قديم، الكواكب، 30/4/1974).

وظل مونولوج «في الروض جمالك» من كلمات أحمد عبد المجيد وألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب عام 1954 قمة أعمالها الفنية، مما دفع عبد الوهاب بتزويدها بلحن آخر بعنوان «قالوا على الهوى غالي» من كلمات صالح جودت. ولكن السؤال الواجب طرحه هنا لماذا تراجع صوت ليلى حلمي على الأقل إذاعيًّا بعد لحني عبد الوهاب في منتصف الخمسينيات؟ وإن كانت قد شاركت في فيلمها الأخير «لوكاندة المفاجآت» عام 1959 كما أسلفنا، فلماذا أيضًا آثرت الانقطاع عن أضواء الشاشة الفضية؟
لا شك أن هناك عاملين قد لعبا دورًا مؤثرًا في حياتها بعيدًا عن صوتها حلو النبرات متوسط الجودة؛ وهما أنها قضت أكثر من ثلث حياتها في الشام؛ وخصوصًا في مدينة حلب، لأنها كانت من أكثر النجمات اللائي يطلبهن جمهور المسارح والحفلات هناك. بالإضافة إلى الشهرة الواسعة التي حققتها أختها الصغرى ثريا حلمي كمونولوجست، مما جعل المنتجين يتعاقدون معها لبطولة العديد من الأفلام السينمائية التي تجمع بين الخفة والغناء. فقد كان لثريا صوت ناعمًا مؤديًّا لا بأس به.

وعلى أي حال، فإن الستينيات والسبعينيات قد شهدا جولات غير منقطعة لهذه المطربة الرشيقة، والتي عرف عنها منذ حداثة عهدها تقليدها لكوكب الشرق أم كلثوم، حتى باتت تعرف في الخارج بالمطربة الكلثومية. وهذا ما جعل العديد من متعهدي الحفلات في «بيروت» يتوافدون للتعاقد معها على إحياء حفلات عامة على مسارحهم (دون توقيع: المطربة الكلثومية في ملاهي بيروت، الموعد، 22/2/1973). وقد حاولت ليلى حلمي أن تعود إلى الحياة الفنية مجددًا في مصر في منتصف السبعينيات بعد محاولة لإعادة توزيع أغانيها موسيقيًّا، لكن يبدو أن هذه الفكرة لم تنشد النجاح المطلوب. ومرة أخرى وجدت حالها في ربوع العراق بهدف إحياء مجموعة من الحفلات العامة والجولات الفنية. وبعد هذه الرحلة المضنية الطويلة في عالم الفن فارقت الحياة في التاسع من أغسطس عام 1980.