أزمنة الوباء: قراءات من تاريخ الأوبئة عند العرب

1

لا بأس. هذه أيام صعبة. الحذر عنوانها، وتقلب المزاج سمتها، وترقب الموت نشاطها الأهم. رغم قصرها اللافت وغياب القدرة على العمل أو الرغبة في إنجازه خلالها، نعيش، بين الأمل والخوف، عشرة أيام على الأقل في اليوم الواحد. لا بأس. كم من أيام شبيهة مرت! 

لماذا إذن، وقد حَرَمنا من عاداتنا كائن لا نراه، لا نجرب ما لم نجرؤ على فعله من قبل؟ لماذا لا نعيد اكتشاف شيء في أنفسنا لم يكن ليظهر إلا لو توقف قطار الحياة فجأة؟

هذا ما قررت أن أفعله هنا على صفحات مدينة، وبدعوة وترحيب مشكور منها. هذا التسجيل هو الأول من سلسلة ستمتد لبضع حلقات. أقرأ فيها نصوصًا من تاريخ التعاطي العربي مع الأوبئة في أزمنة ماضية. سأقرأ نصوصا لابن بطوطة، والمقريزي، وابن إياس وربما غيرهم. ولأن الزمن دوّار، حتى ولو لم يكن يعيد نفسه، أردت أن يكون في خلفية هذه القراءات صوت موسيقي معاصر. واخترت بالاتفاق مع مدينة أن يكون هذا الصوت لموسيقيّ المفضل موريس لوقا. ورحّب هو دون أدنى تردد وبمحبة لا تخفى على من عرفه ولو لبضعة دقائق.

لماذا؟ 

وكيف تجتمع فصاحة تلك النصوص مع موسيقى “السايكاديليك الشعبي”؟

أولاً، لأن موسيقى موريس تشبه ما أعتبره شريط صوت لأيامي. حتى في الأوقات التي لا أستمع إليها فيه، هي هناك في الخلفية، بازدحامها، بتوترها، بصخبها، بجمعها بين ما يبدو متناقضا، بارتباطها بثورة خائبة، بتشبثها بطموح لا يريم، بنخبويتها، بشعبيتها، هي بالضبط كأيامي، داخل الجائحة وخارجها.

وثانيًا، لأن صوت ابن بطوطة أو غيره من هؤلاء المؤلفين يبدو بعيدًا، وما أتمناه هنا أن نعيد النظر إليهم من موقعنا اليوم، في جائحة لا نعرف بعد ممن ستحرمنا ومَن ستُبقي منا. وموسيقى موريس أصدق تعبير موسيقي عن هذا الفزع، بما تسمح لنا بالرقص على هامش الألم، والتواحد على هامش التشتت، والالتذاذ بالحياة على هامش الخسارة.

وثالثًا، أن في الجمع بين هذه الموسيقى وخطاب عامر بدوال التدين ضرب من سلب مطلوب وضروري لهذا الخطاب من يد من يزعمون ملكيته، واستخصاصه للحياة ممن يحسبونه طريقًا إلى الموت. وما أكثر الحياة في نصوص هذا التراث حتى وهي تتناول الموت، وما أكثر الحياة  في موسيقى موريس!

ورابعًا، هذه نصوص عوملت دوما، وعن حق، كنصوص للتاريخ، فلم يكن ممكنا النظر إليها بوصفها لغة، وباعتبارها أدبًا، وبالتالي فنًا. الآن وقد أصبحنا قادرين على قراءة التاريخ من مصادر أدق ووثاىق لها قدر أكبر من المصداقية، يجدر اكتشاف الجانب الآخر من تلك النصوص. ربما تشجع الموسيقى على هذا، وربما بموسيقى موريس تشجع المفارقة على نظر أبعد وتأمل أعمق.

خامسا وأخيرا، يبدو في الأمر نوع من الجنون. فليكن. إن لم نُجَنّ الآن، فمتى نفعل؟

المقطوعة الموسيقية التي نستمع إليها هنا هي “هاف توث”، فشكرًا لموريس لوقا، وكما قال هو: “ياللا بينا!”

2

في هذا النص القصير من كتاب ابن بطوطة، لم يكن الهم الأول للمؤلف الحديث عن الوباء، بقدر ما كان همه وصف بركات مسجد الأقدام الذي رآه في دمشق وعجب من تبرك الناس به في زمن الوباء. وهو يستعرض أهمية هذا المسجد بينما يتناول معالم أخرى للمدينة كأبوابها وقبورها وباقي مساجدها.

غلاف كتاب رحلة ابن بطوطة

غلاف كتاب رحلة ابن بطوطة

عاش ابن بطوطة الرحالة المغربي والعربي الأشهر بين عامي 1304 و1368 ميلادية. والتاريخ الذي يتحدث عنه هنا هوعام 749 هجرية وهو ما يوافق عام 1348. ولأن هذا ليس المقام الأنسب، لن ننتبه للمزيد من التفاصيل، ولا إلى اختلاف المؤرخين على طبيعة هذا التاريخ ومناسبته لحكاية ابن بطوطة عن زيارته للشام. أما الوباء المقصود بـ “الطاعون الأعظم” فهو ما يسمى أيضا بالطاعون الأسود أو الموت الأسود والذي انتشر بين عامي 1347 و 1352 وحصد نسبا هائلة من السكان في حوض المتوسط. 

من أجل فهم أفضل لهذا النص، يجدر بالقارئ والقارئة – غير المتمرسين بهذه النصوص – الانتباه إلى أن ابن بطوطة يفرق بين كلمة “المسجد” التي تطلق على المسجد الصغير الذي لم تكن تقام فيه صلاة الجمعة، وكلمة “الجامع” التي يَقصد بها الجامع الكبير بدمشق، والذي تجمّع الناس فيه قبل وبعد ذهابهم إلى مسجد الأقدام الذي يتناوله بالحديث. يجدر أيضًا الانتباه إلى أن معنى كلمة “الزوال” هو وقت الظهيرة، بمعنى زوال الشمس من كبد السماء، وليس الغروب كما قد يفهمه بعضنا اليوم.

وبعد، أتمنى أن تكون هذه فاتحة خير، وكل ما أرجوه ألا يعمّ الفأل وأن يحمينا زماننا ومكاننا مما جرى في أزمنة أخرى وفي أمكنة أخرى.