ومن يهتم بالمتسكع في الوباء؟

ومن يهتم بالمتسكع في الوباء؟

ومن يهتم بالمتسكع في الوباء؟

لن يهتم الكثيرون بمتابعة تأثير الوباء على شخص يعيش حياته بلا هدف واضح، ولا ينخرط في ماكينات الإنتاج المعروفة، ولا يُصنف ضمن قطعان العبودية الحديثة (حشود العمل والجدية في خدمة ضخ الأموال، الفخورة بالانضواء الجاد في سباق القطعان لنيل مكانة “العبد المثالي”.. المُمتثل لكل ما يخدم سادة”ماكينات” و”عجل” الإنتاج الهادر).

إجمالًا لا يُلتفت إلى المتسكع في خطابات تهدئة القطيع.. فهو لا يهم أحدًا لأنه فردي.. ولأنه لن يؤثر من وجهة نظرهم على “حشود” تقف خلف عجلة الإنتاج، حياته بالكامل خارج البيت وأماكن العمل.. فماذا يفعل في وقت ترتبط النجاة فيه بالبقاء في البيت؟

المتسكع بعيد إلى حد ما عن فخ ثنائية الشارع والبيت.. يطارد الشوارع أو يكتشفها؛رافضاً أو متمرداً على الحياة وفق كتالوجات تؤهله ليكون ترس في ماكينة ضخ المال أو ماكينة صراف آلى يسدد الفواتير..  إلى آخر الصور المعبرة عن نسخة الإنسان في عقود النيوليبرالية، حيث السوق إله الآلهة، والأرباح طقوس العبادة.هذه هي الدائرة التي أجبرتها أزمة “الكورونا”على التوقف، وطرح مجموعات هائلة من الأسئلة الفكرية والوجودية والسياسية والمسائل الأخلاقية..: لماذا نقبل بحياة كالثيران العمياء ثم نموت من  فيروس يهاجم كل ما نلمسه ويجعل وجوهنا تخاف من أيادينا.، أسئلة عن العدالة والمساواة والإنضواء و التمرد…وما الحياة.. وما الموت.. وما انحيازاتنا.. وماذا فعلنا بالكون.. وهل سننجو.. وإذا نجونا هل سنعود مرة أخرى إلى كل هذا الرعب خلف الحياة النشطة المستقرة؟

أعود إلى السؤال الذي بدأت به لكن في صورة أخرى:

ماذا يفعل المتسكع في الوباء؟

1

مع أول يوم في حظر التجول رعبًا من انتشار الكورونا، اتصلت بعمرو عادل: “أين أنت؟”.

سألته وأنا أتوقع الإجابة “في الشارع”..

وبالفعل كان في الشارع يركب حلف سائق “سكوتر” تابع لتطبيق “أوبر”..

لم أكن في حاجة إلى إن أسأله “هل تصور”؟ لأنه بالفعل كان يحمل أكثر من أداة تصوير: موبايل.. كاميرا جو برو.. وفي حقيبته كاميرا محترفين معطلة.

كان يضحك وهو يطير خلف السائق.. جسده كله يخترق هواء مدينة مذعورة. وفي مرآة الماكينة الصغيرة يرى كيف تتسابق السيارات على أشهر كوبري في العاصمة.. إلى أين يذهب كل هؤلاء؟ كيف ستبتلعهم بنايات المدينة كلهم مرة واحدة؟

توقعت أن هذه الأسئلة تدور في خياله الممزق دائمًا بين السخرية وألم غير معلوم المصدر.. إجاباته لا تحمل شيئا كثيرًا مما يدور بداخله.. هناك في الغالب حوار لا ينجح في الظهور حتى بالصور، أو بالضحكات المميزة، أو بنظرات يتعمد أن يوجهها أمام كاميرات الأصدقاء الذين يتواطؤون معه ويتبادلون معه الموقع خلف العدسة.. لماذا يطير عمرو خلف سائق الاسكوتر وسط كبارى وشوارع القاهرة التي على وشك أن تغلق وتتحول إلى “كارنتينا مفتوحة” ..كيف سيروِّض الخوف..؟ الكاميرا ؛بالنسبة له؛ ليست أداة فن؛ بقدر ما هي رفيقة اكتشاف يحملها مع علبة سجائر كابتن بلاك (في أوقات اليسر) وسوبر كليوباترا (في الأوقات الضيقة).. الكاميرا امتداد لجسده يمكّنه من التصوير.. واختزان لحظات تخصه.. هذه المرة حمل الجو برو Go Pro.. وقرر أن يتجول في مدينة مصدومة بفيروس.. النتائج الأولى كانت غريبة جدًا.. عمرو لا يصوِّر.. لا يوثِّق.. لكنه وسط الصدمة.. في قلبها.. جسده توحد مع المدينة في صدمتها.. ستلمح أصابعه.. يده.. سلك الشاحن.. قدمه الممدودة داخل الكادر.. كأنه يريد أن يلمس مركز البركان، لا أن يخزن له صورة…عدسة الجو برو.. هي عين السمكة.. جعلت عمرو عادل وهو يصوِّر ما فعلته الكوفيد 19 في القاهرة، يقف على حافة الجنون.. لا.. ليس الجنون بمعناه وأوصافه في كتب علم النفس.. ولا بمعناه الاجتماعي.. عمرو يقف على هذا المنحنى من الحياة.. ويتمعن فيه كأنه سيجد شيئًا… وتفاجأ به يضحك ضحكات عالية.. وصاخبة كأنه اكتشف للتو شيئًا مدهشًا.. سنفهم ذلك تمامًا عندما نرى صورته الناعمة.. المستقرة بعدسات الكاميرا التقليدية.. تصنع تلك الكاميرا مسافة تجعلنا نرى المشاهد مستقرة. تفاصيلها مقيمة.. كأنها لن تزول.

عمرو عادل

عمرو عادل – تصوير عمرو وشاحي

2

طلبت منه أن يكتب تعريفًا لنفسه.. فكتب:

مُتَسَكِّعٌ على باب الله في الأساس ومصور فوتوغرافيا وفيديو. 

يهوى المشي في المدن والفضاءات العامة والكثير من الطرق المقطوعة.

درس الاقتصاد والعلوم السياسية ويحب الأرشيف الشخصي والعام. 

اهتماماته متعددة بما يدعو إلى الحيرة النفسية والشُرُودُ والتِّيه. 

 قصر النيل، محمود بسيوني، ممر الجريون، أكتوبر ٢٠١٣

قصر النيل، محمود بسيوني، ممر الجريون، أكتوبر ٢٠١٣

3

المتسكع كلمة لها وقع سيء عند استخدامها باللغة العربية.. كيف لدارس الاقتصاد والعلوم السياسية أن يصف نفسه بكلمة تستخدم لوصف شخص متبطل يسير في الحياة بلا هدف..حسب الصورة الذهنية عند عموم الناس. كيف يضع البرجوازي ابن الطبقة المتوسطة العليا؛ ساكن مصر الجديدة؛ وسليل أفندية من الشريحة العلوية نفسه في تصنيف قريب للواقفين على النواصي.. المتبطلين بمزاجهم.. الصعاليك (وكل منهم فئة اجتماعية تختلف عن الأخرى) لكن كلمة المتسكع ترسم صورة غائمة تجمع نذرًا من كل ذلك.. لهذا الذي يسير “في الشوارِعِ بلا هدف: يتلكَّأُ، يتشرد، يتِيه، يضل”.. هذه بعض من تعريفات معجمية تدور بقيتها حول الحيرة والتشرد وغياب العقل (بعد ضربة على الرأس).. وهي تعريفات تتماشي مع تعريف عمرو عادل لنفسه. ربما يكون قد قرأ حول معنى “التسكع” واختاره كتفسير لعدم قدرته على الانضواء. أو اختاره اعجابًا بأسلوب حياة تشبه “الفلانير” الشهير في باريس القرن التاسع عشر، والذي جعل منه فالتر بنيامين كشافة لتحليل المدينة.

وربما أيضًا هي تمديد لرومانسية اللحظات العابرة في 2011. وجعلته لا يتحمل “البيوت” كثيرًا.. “لماذا يكون البيت هذه العلب المرصوصة فوق بعضها.. لماذا لا يكون البيت حديقة دون بوابة أو سور؟”.

4

قلت له اكتب كلمات توضع بجوار الصور.. تحمس، وبعد عدة محاولات انتهت الكلمات إلى 3 فقرات تحت اختار عمرو لها عنوان “لا تطل بجسمك من النافذة”.. وقسمها إلى ماضٍ/ وماضٍ قريب/ وحاضر.. وربط كل منها بتاريخ محدد.. الزمن هنا مهم بالنسبة له.. ربما هو العلامات التي يضعها ليرسم خريطة المكان المفتوح.. أو يطارد به المكان الذي لا حدود له..

في فقرة “ماض” كتب:

1 يناير 2009:

س: ماذا نحن فاعلون؟ 

ج: الكثير ولا شيء في الأفق.. لا شيء فيه أمل..

الصور التي أرسلها عمرو وتنتمي إلى الماضي، كلها صور مستقرة، كادرات مضبوطة كما يمكن لذاكرة صبي يتجول في القاهرة ووسط محيط من ذكرياتها المفعمة بالرومانسية، وتصنع سحابة النوستالجيا التي تظلل الغاضبين من المدينة. النيل ومركب صغير يعبره بهدوء. محلات مصر الجديدة بكل ما تستدعيه من الزمن الكولونيالي السعيد…احتفالات الكوربة بكرنفالها الذي كان برعاية قرينة مبارك، الرئيس الذي عاند الزمان.. كلها صور ناعمة لا خدش فيها.. بكاميرا مطمئنة.. وعقل مدرب على التقاط هذا النوع من الجمال الكلاسيكي بكل البهاء والحضور للضاحية (المغدورة الآن).

ربما كانت مصر الجديدة وطن النوستالجيا بالنسبة للبرجوازي الذي لا يركن إلى مصير “السكون” الذي يصل إليه مراهقو وشباب هذه الضاحية باعتبار أن “الحركة” و”النشاط” هي مرحلة الشقاوة التي تليها مرحلة “العقل” والحصول على وظيفة وعروسة وبيت.. يقول عمرو “أصحابي لم يفهموا لماذا لا أحصل على وظيفة في بنك (الحلم الكبير لأجيال ما بعد السبعينيات.. ولم يعد كذلك الآن، ربما ورثتها وظيفة في شركة عابرة للحدود.. كما ورثت وظيفة البنك أحلام وطموحات في السلك الدبلوماسي.. أو غيرها من وظائف لا تحتاج مباشرة إلى قانون الوراثة أو التفوق الدراسي).

لماذا يستمر عمرو في ارتداء الشورت والصندل ويمشي بلا هدف من مصر الجديدة إلى الزمالك في الجزيرة التي تتوسط كوبري أكتوبر “كانت الناس في السيارات تتفرج عليَّ.. وأنا لا أبالي.. أضع السماعات في أذني أسمع موسيقى كلاسيك بصوت عالٍ وأتفرج عليهم كأشياء عابرة”..

سلم مشاة، كوبري ١٥ مايو الزمالك، كورنيش النيل، القاهرة، أكتوبر ٢٠١٣

سلم مشاة، كوبري ١٥ مايو الزمالك، كورنيش النيل، القاهرة، أكتوبر ٢٠١٣

في هذه التمشية انتقام ما من هذا السكون المحافظ على الطبقات في أماكنها.. ومن استهلاك الحياة كلها لترسيخ الوضع المستقر الثابت.. بعد أن تنتهي أيام الشقاوة “أتعجب جدًا من أصحاب تربيت معهم.. لا يخرجون من دائرة حركتهم في مصر الجديدة.. ويفكرون ويخططون كلما أرادوا الحركة خارج هذه الدوائر المغلقة”..

غريب جدًا هذا الثبات، والأكثر غرابة هو الانتقام اللاواعي منه بهذه الطريقة في الاستفزاز الهادئ.. لا يغضب عمرو وهو يتحدث عن الأصدقاء “الجالسين في الدوائر المستقرة” كما أسميهم لأضع فرقًا بين أصدقاء من عالمه الثاني.. يتصل صديق من الدائرة الأولى…يسأله “أنت فين يا عمرو؟” يقول له “في الدرب الأحمر.. فيتعجب صديق الدائرة المقفولة، مستنكرًا “بتعمل إيه يا عمرو في الدرب الأحمر؟!”، بينما عمرو يستمتع بمشاهد بجوار ترمبولين منصوب في حارة من حارات الجمالية.. ومجموعة من شباب (كانوا ستة تقريبًا) عادوا بعد يوم عمل طويل.. وبعد تدخين سيجارة مشتركة.. دخلوا جميعا الترمبولين وناموا.

5

الصورة التي يحبها عمرو عن نفسه: متسكع برجوازي.. لم ينجح في ترويض نفسه ليكون “مثاليًّا”، ويكسر الغرابة وينجح في أن يكون “شخصًا، طبيعيًّا، أو عاديًّا”؛ كما يسمون الشخص المدمج بالكامل.. وهو هنا “متسكع” بالمعني الثقافي/الفني أو المنتمي لعالم السنوات التي كان مسموحًا فيها بهذا الهامش الذي ظهرت فيه شخصيات بودلير وعشاقه المتجولين في المدينة.. أو إدجار آلان بو ورجله الذي يتفرج على الدنيا ويكتشفها من نافذة مقهى باريسي.. هؤلاء الذين أصبحوا جزءًا من عالم أول قرون الحداثة الكولونيالية.. ليس في أوروبا فقط، بل عندما أقلِّب في ذاكرة شخصية أجد أن سر محبتي لألبير قصيري يعود إلى حس التسكع الذي يجعله يري العالم بعيون الكسل.. أو حتى زرياب الملحن المتجول في الشوارع (فيلم أيس كريم في جليم).. وغيرها من تلك الشخصيات لتي تهرب بإرادتها أو رغمًا عنها من الدخول في ترس الماكينات الدائرة.. تختار ساعتها الشارع ليكون بديلاً للبيت الخانق؛ لكونه الخيط الأول في منظومة الحصار بفواتيره وشروطه ومستلزمات أن يكون لك “علبة” خاصة تسكن إليها وتسميها قلعتك.

ميدان التحرير، القاهرة، أكتوبر ٢٠١٣

ميدان التحرير، القاهرة، أكتوبر ٢٠١٣

6

كنت أرى بهنس..

قالها عمرو فجأة وسط الكلام.. ظهر بهنس كأنه علامة أو شارة انتماء.. أو ندبة في وعي مرتبك.. بهنس الفنان السوداني الذي مات من الجوع والبرد في زاوية بمنطقة باب اللوق…كان عمرو يراه ويعرف أماكن يختارها ليأوي آخر الليل “كنت ألقي عليه التحية من بعيد.. عندما يكون قريبًا أو من على الرصيف الآخر …كان يرد مرات ومرة لا يرد.. لا أعرف السبب.. ولم يرد على بالى أبدًا أنني سأموت مثله من البرد والجوع (هناك من سيظهر وينقذني.. بالتأكيد)”..

في فقرة الماضي البعيد يكتب عمرو..

هذا الرجل بجلبابه، يمشي حاملًا كيس بلاستيك، أنتمي إليه، أحس به وأمشي مرتاحًا خلفه، بينما السيارات تمر بجانبنا، لا يعجبها مشاركتنا الطريق العلوي، كوبري أكتوبر.. 

مترو الأنفاق، تكدس، مرور، حالة من الالتحام الجمعي بسبب الظروف، حجر، مرض.. زحمة يا دنيا زحمة وتاهوا الحبايب..

مترو الأنفاق، تكدس، القاهرة ٢٠١٣

مترو الأنفاق، تكدس، القاهرة ٢٠١٣

أخرج من الأنفاق.. أو كما كان يقول صديقي العزيز: أنفاق فوق وتحت.. 

أترجل في شوارع هليوبوليس، بجانب المنزل، المدرسة، الأصدقاء، الطفولة العذراء من أشياء كثيرة وأهمها الخوف. احتفالات الماضي، حرية ساكني الحي، فضاء خالٍ، باندا (القط المصاحب للكثير من التعب).. 

بنت صغيرة تترقب في انتظار الباص، نهر النيل، كورنيش الزمالك، وشاي من إيد عم سعد تحت الكوبري. 

أفكر في كل ذلك ويا ريته ينفع!.

أخاف؟ كورونا، كوفيد 19، فعلًا؟ 

حقًا من الممكن أن يتملكنا الخوف كبشر.. لكن أمامي الآن في شارع هارون، امرأة مسرعة تحمل الخبز للبيت، وهي في عزم شديد للوصول.. أمشي وأحب المشي كما أحب التمهل فيه.. اليوم أتمشى في فضاء مريح رغم الوباء العالمي.. أشاهد أناسًا تحب الجلوس على جوانب الطرق وتحت منازلهم..

الأماكن العامة، للعامة.. ليت كل عام مريح.. ع البيت.. ع البيت قبل الحظر..

مهرجان الكوربة، شارع بغداد، يوليو ٢٠٠٩

7

المتسكع يمتص الحياة.. يبتلعها.. يتجرعها.. أو أي تعبير من تلك التي تصف النهم في الوجود وسط الضجيج دون هدف إلا الوجود ذاته.. مطاردة المغامرة.. أو المفاجأة حتى آخر قطرة من قطرات الزمن.. ساعتها يتحوَّل النوم إلى شيء غير الذي يوصف به في روشتات الحياة الصحية المديدة.. أو وصفات توعد بعمر طويل ونشاط وافر.. النوم يكون تخاطف “مجرد تغميض” نصف ساعة..

1 يناير 2020: 

كل مرة يعود السؤال في يناير.. لا بسبب الأحداث الجسام التي مررنا بها.. أو مرت فوقنا.. أو بالأحرى عشناها حتى ثمالة المشاعر والأعصاب وفقدنا الكثير من كل ذلك. ليس الشهر هو السبب، آمالنا المعلقة في هواء تكييفات مكتبية هي! لا الزمن، لا الشهر، لا شيء.. لكن بسبب مولدي، بالأصح بسبب الأزمة الحتمية كل سنة.. أتساءل: ماذا نفعل؟ ونحن، تأتي مصاحبة للسؤال دومًا، لأن نحن هي المشكلة الكبرى.. 

من هم نحن؟ وما المشكلة؟ لا أعرف. لا.. لا.. خلاص.. خلاص، أعود إلى الشارع كما أحب دومًا رغم كل شيء. هذه المدينة فعلاً لا تموت! تحب القاهرة الحياة والموت؛ جنبًا إلى جنب. ضجيج بصري أمشي بداخله.. وأتكون بشواهده.. وأنسى كل الأسئلة التي تبدأ بـ ليه وعشان إيه وأنزل مع الغاطسين في بحر، ترعة، نيل، نفق، أي ماء يغسل جزءًا بسيطًا من الهموم أو يشغلنا عنها بأمور أخرى.. ويساعد على طول النفس أو ما تبقى منه.. عايم يابا في بحر الواقع وسلامات يا صاحبي..

أيام الكورونا في القاهرة؛مارس-إبريل٢٠٢٠

أيام الكورونا في القاهرة؛مارس-إبريل٢٠٢٠

8

وماذا بعد أن فرغت المدينة؟ والناس خائفون؟ في الشوارع ذعر من أي لقاء جماعي.. وفي البيت زمان السيطرة.. مدينة أشباح وموتى من الخوف.. وحدها الحيوانات تسيطر على الشوارع.. لكنها ليست سعيدة بالسيطرة كما يبدو من نباح الكلاب الذي لا يتوقف.. أو إقبال المشتاق الذي تبديه القطط لأي عابر في ساعات الحظر.. المتسكع مرتبك لم يعد يحفر لنفسه طريقا في العتمات المجهولة للمدينة.. المدينة كلها مكشوفة من الرعب.. ماذا سيفعل.. هل يغامر بمقابلة الفيروس القاتل منفردًا في الشوارع أم يختبئ في البيت؟ 

يكتب عمرو في فقرة الحاضر

ضجيج 

27 مارس 2020:

أجلس خلف سائق الموتوسيكل وأفكر في الحجر وماذا يفعله بنا وبي؟ حجر، كرب، مرض، شلل اجتماعي، تحول واعتماد على الفضائي، الإنترنت، الجلوس، المقعد، الزووم المنزلي..

الجو حلو والسائق مسرع بلا كلام، مع بعض الكورونات الطائرة في فضاء القاهرة.

كالعادة أفكر في مدينتي.. القاهرة. أجلس مرتاحًا رغم سوء الوضع الدولي والمحلي والعام والخاص. يا جمال الموتوسيكلات! الكل في وضع غريب عليه ويحاول التأقلم.. الإنسان كائن أضعف من فيروس الكوفيد 19.. أستمع دائمًا إلى الموسيقي خلف سائقي الموتوسيكلات وأبحث كثيرًا وبحضور سميع إلى خلفية تصلح للقاهرة دون ضوضاء.. خلفيه أعدها عدًا وأرتبها حسب مزاجي المعتل. 

شرَّق راح تغرَّب

تبعد راح تقرب 

مستني يجي عليا الدور كما ذكر موريس لوقا في ألبومه. 

نصل هليوبوليس، طفولتي: 

المدرسة الأولى، مدرستي.. 

أمشي من ميدان هارون وأنا أبحث عن شيء لا أعرفه، وسط أماكن أعرفها جدًا.

مصر الجديدة، القديمة حاليًا.. 

أعبر هارون وميدان الجامع وأشاهد كلابًا أحبها كثيرًا.

أبحث عن ميكي في الطرق.. وأستمر في المشي تتبعني الكلاب.

أدخل السوق التي تعودت أن أذهب إليه مع أمي لشراء السمك. 

لا أحد هناك.. أخرج مسرعًا.

أجلس خلف كنيسة البازليك وأشاهد عمال نظافة مصر الجديدة في عمل.

أستمر في مشي حتى أتوقف لقراءة منشور على باب المطعم السويسري شانتي، في شارع بغداد: 

عملائنا الكرام، تنفيذًا لقرار السيد رئيس مجلس الوزراء... مع تحيات شركة المطاعم السويسرية المصرية

منشور على باب المطعم السويسري شانتي

منشور على باب المطعم السويسري شانتي

9

غالبًا تحوَّل المتسكع إلى وصمة عار بعدما نجحت نماذج الانضواء وأصبحت أيقونات الحياة المعاصرة.. لكن الأيقونات تتهاوى منذ فترة.. وشطار الاستهلاك بدأوا منذ سنوات في تحويل التسكع إلى موضة ملابس وماكياج ومناظر مثيرة للوجوه الملولة…

المتسكع مهزوم من أقوياء اللحظة الذين ركعهم الكوفيد 19.. فماذا وكيف سيكون المستقبل؟