إلى الطابق الحادي عشر من فندق شيراتون، حيث تنزل فيروز والفرقة، صعد طارق حبيب يجري حوارًا في اليوم الأخير للحفلات.. يوم الحفلة الرابعة.. فيروز مرهقة لم تستيقظ بعد.. يقول طارق حبيب “عاصي رقيق مثل النسيم.. وحالم.. تشعر أنه يكاد يذوب من الحساسية الزائدة.. منصور دينامو، عليه أن يدبر كل شيء.. كأنهما روح واحدة، كل منهما متعلق بالآخر.. حتى أن عاصي عندما أراد أن يشرب الشاي، نظر إلى منصور وقال: منصور بدّي أشرب شاي.. مع أنه كان يمكن أن يطلبه رأسًا من الجرسون الواقف في الحجرة.. قال له منصور طلبته لك فعلًا“.
المنتج رمسيس نجيب موجود، وهو صديق للأخوين وفيروز منذ الخمسينات.. اتفق مع الأخوين على تصوير الحفل الرابع والأخير، واشترى حقوقه.. سيخرج الحفل تليفزيونيًّا حسين كمال، وعاصي سيقود الأوركسترا بنفسه بعد أن قادها في الليلة الأولى فقط ومنصور تولى الليلة الثانية والثالثة.. يطلب رمسيس نجيب برجاء أن تغنى فيروز “خايف أقول اللي في قلبي” فأضيفت إلى للحفل الأخير، وينهمك منصور في كتابة النوتة الموسيقية للأغنية.. يتابع طارق حبيب “منصور مستغرق في الأغنية.. خايف أقول اللي في قلبي تتقل وتعند ويايه.. يرددها.. يعود ويرددها بأداء آخر، يبدو أنه حائر.. أي النغمتين أجمل؟.. يرددها.. أحد الموسيقيين يرددها معه، ويصل موسيقى آخر يرددها أيضًا.. يدخل عاصي ويسأله منصور أي النغمتين أجمل.. الفارق دقيق جدًا حتى لا يكاد يخطر ببالك“.
حسين كمال حاضر في البروفات.. يراقب حركة الفرقة والراقصين ليعرف أفضل زوايا للتصوير.. ويحفظ حركات وسكنات فيروز فلا تفلت منه آهة واحدة مع الأغاني..
***
انتهت الحفلات الأربع كالحلم.. ودَّعت فيروز الجمهور بأغنية “زوروني كل سنة مرة” لسيد درويش، وفي اليوم التالي نشر صلاح جاهين كاريكاتيره الشهير وهو يهتف “أهو انتي اللي لازم تزورينا كل سنة مرتين تلاتة“.
بعد انتهاء الحفلات، والفرقة تحزم أغراضها، ذهبت الإذاعية آمال العمدة للقاء فيروز وأجرت معها حوارًا مليئًا بالشجن.. تقول آمال العمدة “كان عليَّ أن أنتظر حتى السادسة بعد الظهر حتى تصحو فيروز، في الغرفة رقم 1104 بالدور الحادي عشر من شيراتون القاهرة.. أمضيت الوقت بصحبة الفنانة منى جبر التي تلازم الفرقة منذ وصول الرحبانية، حتى صارت تتحدث مثلهم بلكنة بيروتية.. ودارت عيوني في الغرفة تتأمل بوكيهات الورود الكثيرة، ولم أجد بينها بوكيه واحد يحمل اسم مطرب أو مطربة مصرية..“.
آمال: اشتقنا لصوتِك.. سمعته آخر مرة في بيكاديللي بيروت وكانت المسرحية “ميس الريم“.
فيروز: بيكاديللي انطفأت أنواره.. حزني على بيروت فاق الحدود.. هجرها أهلها هربًا من القصف العشوائي.. ونحن ظللنا في حماية الجبل..
تحاول آمال تغيير الموضوع الحزين فتسأل فيروز عن أولادها، وعن تفضيلاتها من الموسيقى، ثم تتطرق إلى الأزياء.
آمال: بعض المطربات يخترن الفساتين آخر موضة للتألق على المسرح.. هل تهتمين بالموضة؟
فيروز: مثل أي سيدة عادية.. وعلى المسرح أنا أسيرة ذوق مصمم الملابس للفرقة المسرحية.. أحيانًا ألبس كفلاحة فقيرة..
***
رحلت فيروز والأخوان رحباني والفرقة يوم الثلاثاء 2 نوفمبر 1976 إلى بيروت عن طريق دمشق.. يوم الخميس 4 نوفمبر عرض التليفزيون المصري شريط الحفل الأخير، بعد أن اشترى حقوق إذاعته لمدة ثلاث سنوات من المنتج رمسيس نجيب.. في الأيام التالية تحدثت الصحافة بدهشة وإعجاب عن طريقة أداء فيروز.. إنها المرة الأولى التي يرى فيها الجمهور المصري ذلك الالتزام والانضباط، وانهالت الخطابات على ماسبيرو تطالب بإعادة عرض الحفلة مرة ثانية..

كتب الإذاعي أحمد عبد الحميد مقالًا مطولًا عن الحفل تحت عنوان “غنت فيروز.. فأطلقت الرصاص على حفلاتنا“.. أقتطف منه “تدخل فيروز بجسدها النحيل وملامحها الدقيقة.. انحناءة خفيفة تحيي بها الجمهور، ثم تقف خاشعة كأنها في صلاة.. تنتهي من أغنيتها الأولى– قصيدة إلى مصر– وقبل آخر خطوة تغادر بها المسرح يكون مغني الفقرة التالية قد بدأ خطوته الأولى إلى خشبة المسرح.. هنا التصفيق يودع فقرة ويستقبل فقرة في نفس الوقت.. العازفون يقلبون صفحة من نوتهم الموسيقية، وفورًا يبدأ عزف الفقرة الجديدة.. وهكذا تتصل الفقرات رغم انفصالها.. والقياس الزمني الدقيق لايختلف على الإطلاق بين ليلة وأخرى.. الشيء الذي لا يحدث حتى في مسرحنا الدرامي“.
ما معنى هذا؟ معناه لا توقفات.. لا وقت ضائعًا.. الفقرات المنفصلة متصلة بمونتاج بارع ودقيق، وكأن الفاصل الغنائي الواحد فصل كامل من إحدى المسرحيات الغنائية.. ولم تحي فيروز الحفل وحدها، بل شاركها في الأداء مغنون انفراديون (سوليست) وكورال وراقصون.. لم يكن ما قدمته أغنيات فردية فحسب، بل كان معظمها ألحانًا مسرحية..
وفيروز وفرقتها لم تظهر بملابس مبهرة ومدندشة كما تفعل مطرباتنا، وإنما لكل أغنية لوحة ملابسها المتسقة والمعبرة عن جو الأغنية واللوحة.. الموشحات أندلسية.. لوحة المشهد البدوي ملابس بدوية.. الأغاني الجبلية زي لبناني وطني وأزياء شعبية..
في حفل فيروز لا توقفات بسبب التصفيق.. استمرارها في الغناء يحبس التصفيق في أثناء الأغنية ويمنعه.. إنها إذا ما غنت اندمجت في تيار الإحساس بما تغني، ومن ثَمَّ لا تقبل أن يخرجها من هذا الاندماج تصفيق في غير موضعه.. إنها تجبر المتفرج أن يحترم اندماجها..
***
بحفل حديقة الأندلس تنتهي رحلتنا.. هذه هي الرحلات الثلاث التي زارت فيها فيروز مصر مع الأخوين رحباني.. فبراير 1955 وأكتوبر 1966 وأكتوبر 1976.. من بعد هذه الرحلات أتى الأخوان رحباني إلى مصر أكثر من مرة بدايةً من 1981.. وأتت فيروز إلى مصر لإحياء حفلها المعروف عند سفح الأهرام يوليو 1989..
***
انتهت السلسلة، وما انتهى الكلام..