فيروز في القاهرة 1966:هدية العمر

أربع نقرات على القانون تبدأ بها موسيقى المقدمة، تمثل تحرك البوارج البحرية من توسكانا صوب لبنان.. وصوت يصيح بقوةفخر الدين ارجع“..

هَيْدي العلامة رجع للشط فخر الدين

يا رجعة السيف، يا سنين الكِبَر يا سنين

يا أحراشنا حَوربي.. يا جبالنا غنّي

فرسان لبنان ع خيول البحر جايين

في أواخر سبتمبر 1618عاد الأمير فخر الدين المَعْنِي الثاني الكبير، بعد غياب خمس سنوات، من منفاه في توسكانا بإيطاليا إلى الأراضي اللبنانية.. بمشهد العودة واستقبال الأهالي يبدأ الأخوان رحباني أوبريت أيام فخر الدين، الذي قُدّم في مهرجانات بعلبك بدءًا من 30 يوليو وحتى 7 أغسطس 1966..

أربع نقرات على القانون..

فرسان لبنان ع خيول البحر جايين..

في 14 أكتوبر 1966 رسَت السفينة التي تقلّ فيروز وشقيقتها الفنانة هدى حداد والأخوين رحباني في ميناء الإسكندرية، ومن الإسكندرية انتقلوا بالسيارة مع وفد الاستقبال إلى القاهرة في 15 أكتوبر 1966..

كان المفكر والناقد الأدبي المصري محمود أمين العالم في رحلة إلى بيروت، زار فيهاضمن من زارفيروز والأخوين رحباني في بيتهم.. دار بين محمود أمين العالم وعاصي الرحباني حوارًا بشأن الآراء الفنية، وفيه قال عاصي الرحباني صراحةً إن ألحان فيروز محرَّمة في الجمهورية العربية المتحدة، وإن هناك قرارًا رسميًّا بذلك، بحسب ما أكد له أكثر من صحفي صديق، وتابع عاصي بحزن وأسف أن الإذاعة المصرية لا تذيع شيئًا من ألحان فيروز.. حاول محمود أمين العالم إقناعه بأنها مواقف فردية من بعض الناس، ويستحيل أن يوجد مثل هذا القرار، ثم مال عليه وسأله بحذروهو اليساري المعروفهل غنت فيروز في أحد المؤتمرات السياسية المعادية؟ فرد عاصي بقوة:

يا صديقي نحن لا صلة لنا بالسياسة الحزبية، لا دخل لنا فيها.. نحن نغني للحياة والتقدم والإنسان العربي“…

نُشِر الحوار يوم الجمعة 20 مايو 1966.. قبل أن ينتهي الأسبوع، وفي 25 مايو 1966 صدرت دعوة رسمية من وزارة الإرشاد القومي لفيروز والأخوين رحباني لزيارة الجمهورية العربية المتحدة..

في منتصف يوليو 1966 سافرت السيدة أم كلثوم إلى لبنان لإحياء حفلتين في افتتاح مهرجانات بعلبك الدولية يومي 15 و17 يوليو.. كتبت الصحافة المصرية أن أم كلثوم تقاضت 80 ألف ليرة؛ أي ما يوازي عشرة آلاف جنيهًا استرلينيًّا.. حضرت فيروز الحفل بصحبة عاصي، وفي استراحة الوصلة الأولى ذهبت لتحية أم كلثوم في غرفتها الخاصة بجوار الخيمة العظيمة التي أقاموها لتغني تحتها أم كلثوم.. لكن هذا اللقاء السريع لم يكن كافيًا، فحددت أم كلثوم موعدًا آخر يكون أكثر هدوءًا وراحة..

في اليوم التالي للحفل مباشرة (الاثنين 18 يوليو 1966) ذهبت فيروز مع عاصي الرحباني لزيارة أم كلثوم في جناحها الخاص بفندق بارك هوتيل في شتورة.. ونشرت صحيفة الأهرام المصرية نص لقاء فيروز وعاصي الرحباني وأم كلثوم..

تحدث عاصي في البداية عن إعجاز أم كلثوم في السيطرة على جمهور وصل عدده إلى خمسة آلاف رجل وامرأة تتباين ثقافتهم، وذلك السكوت المدروس الذي لا يقدر عليه غيرها..

أم كلثوم: عمر الواحد ما عمل حاجة ورضي عنها..

فيروز: بيضلّ الواحد يكتشف أخطاء..

أم كلثوم: لكن الجمهور يشم دايمًا ريحة الإخلاص.. ربنا دايمًا مع المخلصين.. يا ترى إيه الحكاية اللي هتقدموها السنة دي في بعلبك؟
عاصي: حكاية الأمير فخر الدين الذي دخل مع العثمانيين في حرب مستميتة، من أجل توحيد لبنان أيام الحكم العثماني.. فيروز تؤدي في الأوبريت اللي تستمر ساعتين دور بنت اسمهاعطر الليل“.. نصري شمس الدين يؤدي دور الأمير فخر الدين مُنشئ لبنان..

أم كلثوم: كنت أتمنى أحضر الحفلة، لكن إن شاء الله أقضي الصيف الجاي في لبنان.. يا ترى المزيكا عاملها كلاسيك علشان تمشي مع العصر اللي دارت فيه؟

عاصي: جربت الموسيقى العربية لقيت إنها مابتديش القديم الكامل، لكن تغلبت على ذلك..

أم كلثوم: أنت في التوزيع إعجاز، هي دي الحقيقة.. ماحصلش في الشرق توزيع على علم وأصول إلا على ايديك..

عاصي: النهاردة التوزيع في أوروبا كله في خدمة الميلودي.. المهم إن الموزع مايستعرضش عضلاته..

أم كلثوم: وامتى هتيجوا مصر؟ لازم تعرفي ان فيه تلاتين مليون معجب في انتظارك يا فيروز.. 

فيروز: أول أكتوبر إنشالله..

  • ***

تتنقّل الجارية عطر الليل بين مناطق لبنان المختلفة، تسري كنقطة صغيرة مرسومة على خريطة مرقومة.. تمرق بين الضياع والبيوت، من عكّار في أقصى الشمال وحتى صَيْدا في الجنوب.. تبث العزم وتبشر بمجد فخر الدين ومجد لبنان الحر.. تمضي متمهلة في طريقها ولكن بثبات، ومعها تمضي الأيام والشهور والأحداث.. يلعب الأخوان رحباني حيلة زمنية على المسرح لمرور السنوات، فتغني عطر الليل/ فيروز موالًا عذبًا قصيرًا هادئًا كالخريف القادم مع تشرين، عن طائر الحسّون الذي اتجه غربًا غرَّب الحسُّون، والزنبق تِكِي.. وتِشرين عم يجمع الزَّهْر الليْلَكي.. ما عاد تِحرزهَيْكقِلّك شو بِنِي.. كِترِتْ قصصنا، وما بقى يساع الحَكِي..”

***

مرَّت الأيام من مايو إلى أكتوبرأنهى الأخوان رحباني وفيروز ارتباطاتهم الفنية مع مهرجانات بعلبك في أغسطس، ومعرض دمشق الدولي في سبتمبر.. وتفرغوا للسفر إلى القاهرة لتلبية الدعوة المصرية، التي تجددت مرة أخرى على يد وزير الإرشاد القومي الجديد محمد فائق بعد التعديل الوزاري الذي حدث في سبتمبر..

في السادسة والنصف مساء الجمعة 14 أكتوبر كان هناك وفد مكون من مندوبي وزراة الإرشاد ووزارة الثقافة وهيئة السياحة، لاستقبال فيروز وشقيقتها هدى حداد والأخوين رحباني في ميناء الإسكندرية.. فُتِحَت لهم قاعة كبار الزوار في الميناء، وطُلِب من فيروز وهدى تسجيل ما تحملانه من مجوهرات في الإقرار الجمركي، بحسب ما جاء في السجلات.. ارتاحوا قليلًا ثم انطلقوا مع وفد الاستقبال بالسيارات إلى القاهرة، ليصلوا إليها بعد منتصف الليل؛ في الساعات الأولى من صباح السبت 15 أكتوبر.. 

 

كانت وزارة الارشاد قد حجزت لهم 3 غرف في فندق النيل.. في اليوم التالي ظهرت فيروز على صفحات الصحف المصرية وخلفها النيل وبرج القاهرة.. ومن الشرفة المطلّة على النيل الذي يمتد حتى ماسبيرو وكوبري الجلاء والزمالك سجّلت الصحافة وراء فيروز أنا أعرف هذه المناطق جيدًا عندما كنا هنا لأول مرة من 11 سنة.. كانت حلوة لكن عليها غبار، وهي الآن نظيفة.. يومها الناس كانوا أبطأ

كان الجدول حافلًا بالزيارات.. في صباح اليوم الأول (السبت 15 أكتوبر) زار الثلاثي مبنى الإذاعة والتليفزيون.. سلامات ولقاءات ونقاشات مع محمد أمين حماد رئيس التليفزيون، ثم عبد الحميد الحديدي مدير الإذاعة، ثم الصديق القديم أحمد سعيد مدير صوت العرب.. حفاوة بالغة من الجميع والصور متعددة ومتعاقبة، أكثر مما يمكن نشره..

عاصي يتساءلمتى يبدأ الموسم المسرحي عندكم؟“.. فيجيبه رشدي صالح في نوفمبر.. فيقول عاصي بسرعة كطفل متحمس بعيون بريئة متسعةإذن نريد أن نعيش وراء كواليس المسرح ونحضر البروفات.. كما نريد زيارة الفرق الشعبية.. فرقة رضا.. ونريد أن نرىهدية العمرالتي طالما سمعنا عنها“.

وقد مُد عرض أوبريتهدية العمرلأسبوع آخر على مسرح دار الأوبرا لتتمكن فيروز وعاصي من مشاهدة العرض، الذي حضروه بمصاحبة محمد الموجي صاحب ألحان العمل.. “هدية العمرعمل مسرحي غنائي بطولة كارم محمود وسيد الملاح وليلى جمال وتيتا صالح، عن قصة لإحسان عبد القدوس، أعدها للمسرح يوسف السباعي وأخرجها فتوح نشاطي.. كتب الأغاني حسين السيد ووضع الألحان محمد الموجي، ووزَّع الأغاني ووضع موسيقى الرقصات عبد الحليم نويرة، وكانت تُقدَّم في عرض موسيقي حي على مسرح دار الأوبرا بقيادة المايسترو شعبان أبو السعد.. وقد حظيت المسرحية بدعاية ودعم إعلامي مكثفين، لثقل الأسماء المشاركة فيها، واعتبارًا لأنها عودة إلى المسرح الغنائي المصري..

مساء الأحد 16 أكتوبر كان الثلاثي على موعد مع صديقهم الدائم الأستاذ الكبير محمد عبد الوهاب في منزله.. حمل عاصي معه أشرطة أوبريت أيام فخر الدين، وجلس عبد الوهاب يستمع إلى أحدث أعمال فيروز من ألحان وكلمات الأخوين رحباني.. يجلس عبد الوهاب محاطًا بفيروز وعاصيفضَّل منصور الجلوس على الأرض قريبًا من الأستاذ.. يستمع الجميع إلى أوبريت فخر الدين؛ الذي يستمر قرابة الساعتين ونصف الساعة قبل المونتاج.. عاصي بجوار جهاز التسجيل، يهمّ أن يسرِّع الشريط قليلًا ليتجاوز الحوارات إلى الأغاني كي لا يشعر الأستاذ عبد الوهاب بالملل، فيمنعه عبد الوهاب المستمتع بالحوار وغناء المجاميع.. يستفسر عن كل شيء ويشرح له عاصي ومنصور معاني الكلمات، ويصفان له المشاهد في حماس كأنه يراها..

مشهد موقعة عنجر، أهم معارك الأمير فخر الدين وأكبر انتصاراته ضد العثمانيينيقف الأمير فخر الدين (نصري شمس الدين) يوزع المهام، ويشرح الخطة أنا بدّي اتمركز ع مدخل نبع عنجر، ومعي السِّكْمان (فرقة المشاة) الجداد ورجال الغرب والمتن والخيّالة.. وانت يا على ابني، بتمشي ع برج المَجْدَل، وخود السِّكْمان العتاق، وفيه معك اللَّمعيين وفيه معك رجال الجِّرد.. ووصِّل ع تلّ الخراب تَـ تساند اولاد شهاب.. والقايد الكتَخدا، بدّك تقاتل ومعك رجال جبل عامل.. ويونس معه رجال الشُّوف ومعه رجال كِسْروان، بيتمركز جنوب عنجر حدّ كروم البِيَّاضة..”

ثم يتابع نصري شمس الدين مع الموسيقى:

ولمَّا بتشوفو العدو.. وبيصدر أمر الهجوم

ارفعوا بيارقكن.. خلُّوا الموسيقى تضرُب

عَ طول تضلّا تضرُب.. وخلّي ايديكن تضرُب

تـَ تصير قلوبُن تضرُبيالله

يعلو النفير، وتبدأ المعركة، وتقترب طلائع جيش العثمانيين ببطأ تهدر بالتحية التركية للسلطان مع الموسيقى الفخمة:

Padişahın çok yaşa… Askerin de yaşa

يفسر منصور لعبد الوهابفليحيا مولانا السلطان، وليحيا جنوده“.. تهب مجاميع الجيش اللبناني، ومعهم فخرالدين للرد والقتال:

يا مهيرة العلالي.. فرسانك ناطرين

وان يهدُر الشمالي.. قوليلُن حاضرين

يشتبك الجيشان، ومن التسجيل تتصاعد أصوات مدافع وسيوف، وعاصي يشرح في حماس مشاهد الالتحام على المسرح وأساليب الإضاءة وبيارق تلوح في الأفق.. المعركة تستمر في الخلفية، بينما تتضرَّع عطر الليل والنساء، وتغني على أصوات المدافع: يا ساكن العالي.

***

يوم الخميس 20 أكتوبر يوم مزدحم.. في الساعة العاشرة صباحًا لقاء مع وزير الإرشاد محمد فائق في مكتبه بمبنى الإذاعة والتليفزيون.. واقتُرحت فكرة فيلم بعنوانبوابة الدموععن القضية الفلسطينية، على أن تنتجه المؤسسة العامة للسينما.. حظي الاقتراح بموافقة مبدئية بعد أن وعدهم نجيب محفوظ رئيس مؤسسة السينما، الذي كان حاضرًا، على أن يبحث الفكرة..

في الساعة الثانية عشرة ظهرًا لقاء مع وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة.. كان ثروت عكاشة قد ترجم أعمال الشاعر اللبناني جبران خليل جبران عن الإنجليزية، وقدّم لها محللًا أدبه ورسالته وارتباطهما بسيرة جبران الشخصية.. فاهتمّ ثروت عكاشة بالحديث عن تجربة الأخوين وفيروز مع شعر جبران خليل جبران.. وكانت فيروز حتى ذلك الوقت (1966) لم تغنِ من شعر جبران سوىأعطني الناي“.. في العام التالي غنت فيروزسكن الليل“.. ثم في عام 1969 غنت فصل المحبة من كتاب النبي.

في السابعة من مساء اليوم نفسه كانت هناك دعوة عشاء وحفل تكريم من معهد الموسيقى العربية.. لكن الحفل أُجل إلى يوم الأربعاء 26 أكتوبر، وذلك بعد إعلان خبر وفاة الفنان محمد فوزي في برلين.. تأثرت فيروز لسماع الخبر، تُراها تذكّرت تلك السهرة البعيدة من العام 1954 في أنطلياس، وهي ما زالت آنسة شابة لم تتجاوز التاسعة عشرة، حين غنَّت يا بالالا على بزق عاصي الرحباني، ومحمد فوزي ومعه زوجته مديحة يسري، ويوسف وهبي وأمينة رزق يرددون خلفهايعني ما بتحبينا؟ ولا بتحبي غنانينا؟“..

كالأب الفخور بأبنائه المتفوقين، أصرَّ محمد عبد الوهاب على مرافقة فيروز والأخوين رحباني في زيارتهم إلى بيت السيدة أم كلثوم مساء السبت 22 أكتوبر.. كانت الجلسة وديّة مريحة، خرجت التغطية لها في اليوم الثاني بلا صور.. لا مصورين في بيت الست.. 

أعاد محمد عبد الوهاب مع أم كلثوم الاستماع إلى أوبريت أيام فخر الدين مرة ثانية، وإن كان التركيز هذه المرة على أغاني فيروز.. اعتبر محمد عبد الوهاب أيام فخر الدينأحسن حوار دار بين رجل وامرأة في تاريخ الموسيقى العربية.. عمل فاجنري من حيث الضخامة والغنى“.. يتناقش مع أم كلثوم في تفاصيل دقيقة عجيبة.. كيف استطاع الأخوان رحباني أن يحولا الآلات النحاسية مع الخشبيات إلى آلات وترية في فخر الدين.. يقول بإعجابإنهما لا يتحفظان على الإطلاق في أثناء عملية التوزيع الاوركسترالي على ألحان هذا العمل.. عمليات تطويع الآلات النحاسية مع الآلات الخشبية هي الإعجاز على أيدي الأخوين رحباني.. وصوت فيروز قد ازداد انفرادًا، وتضاعفت إمكانياته“.

تسألهم أم كلثوم عن عملهم الموسم المقبل، فيجيب عاصينعد مسرحية جديدة ستكون ضمن برنامج سنقدمه على مسرح بيكاديللي في شارع الحمراء ببيروت.. وهو مسرح جديد ستُقدَّم فيه المسرحية مع برامج أخرى كفرقة البولشوي وجولي أندروز في صوت الموسيقى“.. ويضيف منصور أن فيروز ستسجل عند عودتها إلى بيروت أغنية جديدة عن فلسطين من كلمات الشاعر سعيد عقل اسمهاأجراس العودة“.. وكانت فيروز قد غنتها لأول مرة على مسرح معرض دمشق الشهر الماضي (سبتمبر 1966).

تحكي فيروز عن تلك السهرةرنين التليفون لا ينقطع لحظة واحدة من معجبي أم كلثوم، حتى كاد يفسد الجلسة“..

وأم كلثوم هادئة وقور ومجاملة، تقترب من السبعين وتسيطر على الكل.. تقول إنها تحب وتتفاءل بأغنيةسهار بعد سهارلفيروز من لحن عبد الوهاب.. وعبد الوهاب ليس هنا، يتمايل مع أغنيةكتبنا وما كتبنا“… ويحكي كمال الملَّاخ عن السهرة وانبهار عبد الوهاب الكبير بأغنيةخَطّة قدمكُن“.. لا يصدق ما يسمعه، لحن الأغنية على مقام الصبا وهو مقام حزين، ومع ذلك فالأغنية دبكة مشتعلة تضجّ بالحماس والحيوية.. يكاد يرقص مع صوت الصاجات في مقطعويا حلوة اللي ع الحلا عم توعى.. عنقِك العقد، وإيدِك الإسوا..ااا..رة“.. وتنتهي الأغنية المشتعلة بآلات نفخ فيصيح بطفولة حلوةأنا عاوز زي دا“.. وهو ما سيحققه له الأخوان رحباني في العام التالي، حين يوزعان له أغنيةحيّ على الفلاحمن كلماتهما بعد نكسة 1967..

***

يوم الأحد 23 أكتوبر فيروز في مسرح البالون تشاهد عروض فرقة رضا.. عاصي إلى جوارها يتابع حركة الفرقة الاستعراضية مع موسيقى على إسماعيل.. رقصةفانوس رمضان“.. ورقصةالمجاذيب في ليلة الأحد“.. وبالطبع رقصةالمجنونةالتي ضحكت عليها فيروز طويلًا مع أختها هدى.. وفي الختام رقصةالنوبةوتحية من فريدة فهمي ومحمد رضا لفيروز..

جدول حفلات التكريم ما زال مزدحمًا.. يوم الاثنين 24 أكتوبر حفل في السفارة اللبنانية بحضور السفير حليم أبو عز الدين وقنصل عام لبنان وسامي الدروبي ممثل سوريا في الجامعة العربية.. عصر الثلاثاء ٢٥ أكتوبر، حفل استقبال في نادي السيارات بوسط البلد، أقامه مجلس إدارة جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين.. وقف فيه الشاعر صالح جودت يلقي قصيدة مهداة لفيروز والأخوين، ومنها:

طلــعــتِ على الـنـيـل أنشودة.. مدللة بالــصــبــا والــحـــيــــاء

وحولكِ كالقوس من صاحبيكِ.. ضــيــاء هلالين من كــبــريـاء

شـقـيـقـيـن يبتكران الــجــديــد.. ولا يــحــرمان الـقـديـم الوفـاء

وشـعرهــمــا كــرقيــق الآذان.. ولــحــنهما كــجــمــيل الدعـاء

بأيّــة مــعــجــزة يا صــبــيــة.. زان لـــهـــاتِــك هذا الــنــقــاء؟

فألهـمتِ منصوركِ الانتصــار.. وصيّرتِ عاصيكِ من الأتقياء

مساء الأربعاء 26 أكتوبر حفل معهد الموسيقى العربية المؤجَّل من الأسبوع الماضي.. دعا مدير المعهد أحمد شفيق أبو عوف النقاد والفنانين للحضور.. جاء الجميع باعتقاد أن هناك ندوة لمناقشة تجربة الأخوين رحباني الموسيقية، وسَرَت شائعة أن فيروز ستغني في معهد الموسيقى العربية فتزاحم الصحفيون والطلاب كذلك.. لكن شيئًا من هذا لم يحدث.. لم تغنِ فيروز بل غنوا أمامها، ولم تقام الندوة العلمية لمناقشة الأخوين، وانقضى وقت حفل التكريم في الفقرات الغنائية التي أعدها المعهد وقدمها عباس البليدي وإسماعيل شبانة من ألحان سيد درويش..

في الاستراحة اقتربت من فيروز المخرجة عطيات الأبنودي زوجة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي ومعها فتاة أجنبية هي الفنانة التشكيلية إيفيلين زوجة الشاعر سيد حجاب.. سلمت كل منهما على فيروز ثم أهدتها عطيات ديوان الأبنودي الأولالأرض والعيال، وأهدتها إيفيلين ديوانصياد وجنيَّةلسيد حجاب، بعد أن أخبرتها بالفرنسية أن سيد حجاب كتب قصيدة عنها في هذا الديوان.. قالت لها بأسى إنه لو كان موجودًا لفرح وأهداكِ الديوان بنفسه، لكن الشاعرينالأبنودي وحجابمعتقلان لأسباب سياسية..

في نهاية الأمسية قرر مجلس إدارة جمعية أصدقاء موسيقى سيد درويش ضم فيروز والأخوين رحباني إلى عضوية الجمعية أعضاءً شرفيين؛ تقديرًا لما بذلوه من جهد فني قيِّم في بعث تراث سيد درويش..

***

في نهاية حوار طويل شيق، سألها الأستاذ عبد التواب عبد الحي:

سيدة فيروز، هل أنتِ سعيدة الآن؟ والمكان غرفة رقم 625 بفندق النيل بالقاهرة.. واليوم الثلاثاء 25 أكتوبر سنة 66؟

ابتسمت فيروز وردت:

كتير.. كتير..

غادرت فيروز مع هدى والأخوين رحباني مصر ظهر الجمعة 28 أكتوبر 1966 بعد أن قضوا أسبوعين بالتمام والكمال في ضيافة الحكومة المصرية..

من 14 أكتوبر وحتى 28 أكتوبر.. لعلك لاحظت أن بعض الأيام قد أُسقِطَت.. الكلام عن زيارة 1966 لم ينتهِ بعد..

ثلاثيــة من بــنــات الــخــلـود.. وأســـطـــورة تتحدى الــفــناء