فيروز في القاهرة 1955:بيتنا في الجزيرة

في 6 نوفمبر 1954 سافر وفد فني كبير من مصر إلى لبنان مكوّن من نقيب الممثلين يوسف وهبي، ومدير شركة مصر للتمثيل والسينما محمد رجائي، والنجوم مديحة يسري ومحمود ذو الفقار وحسين صدقي وأمينة رزق، بالإضافة إلى العديد من الصحفيين المصريين وعلى رأسهم الأستاذ صالح جودت… كان هدف الوفد دعم توزيع الأفلام المصرية في دور العرض اللبنانية والعربية، بعد أن حدثت خسائر للمنتجين المصريين بسبب الإقبال على عرض الأفلام الإيطالية والهندية الأرخص سعرًا… 

جاءت دعوة الفنانين المصريين برعاية الموزع اللبناني نديم أسبيريدون، الذي جدد سينما ماجيستك في بيروت وغيَّر اسمها إلى سينما راديو… وفي يوم الافتتاح تم عرض فيلم “فاعل خير” بحضور رئيس الوزراء اللبناني سامي الصلح، ونجمي الفيلم صباح ومحمد فوزي، الذي كان موجودًا في لبنان قبل وصول الوفد المصري…

بعد استقبال الوفد السينمائي المصري في القصر الجمهوري، وانتهاء التشريفات التقليدية في دار السفارة المصرية، أمضى الفنانون يومين للدعاية والسياحة في ربوع لبنان… وفي مساء اليوم الثاني للرحلة كانوا على موعد مع سهرة مع الآنسة الشابة فيروز ذات التسعة عشر عامًا وملحّنها الأستاذ عاصي الرحباني، في ضيعة أنطلياس مسقط رأس الأخوين رحباني…

كانت هذه هي المرة الأولى التي يتعرف فيها الفنانون المصريون عن قرب إلى الفنانة الصاعدة فيروز التي ملأت الأسماع، بعد أن وصلهم صوتها الساحر عبر الإذاعات دون أن يروها قط… غنت فيروز الخجول النحيلة في حضرة يوسف وهبي وأمينة رزق ومديحة يسري، الذين صاروا كورالًا لأغنيتها الشهيرة المحبوبة في مصر “يابا لالا” بينما عاصي الرحباني يوقّع على البُزُق…

في 23 يناير 1955 تزوجت فيروز من أستاذها عاصي الرحباني… وفي القاهرة بدأت الصحف تتنسّم أخبار وصول العروسين إلى القاهرة، بعد أن دعتهما إذاعة صوت العرب… ستصل فيروز في يناير… لا، ستصل في فبراير… لا لا، في مطلع مارس… الكل مترقب، وعلى رأسهم محمد عبد الوهاب الأكثر حماسة وإعجابًا بالتجربة الفنية الرحبانية وبالصوت الفيروزي..

في منتصف فبراير وصلت فيروز مع الأخوين رحباني وشريكهم الفني المخرج صبري الشريف، المشرف على البرامج الموسيقية في إذاعة الشرق الأدنى، إلى القاهرة… وفي يوم الاثنين ١٤ فبراير ١٩٥٥ زارت فيروز والأخوان رحباني والأستاذ صبري مبنى الإذاعة المصرية للمرة الأولى، حيث تم الاتفاق مبدئيًّا على تسجيل 38 أغنية من ألحان الأخوين… وأفردت مجلة الإذاعة المصرية ترحيبًا بالضيوف وتعريفًا بهم وبفنهم للجمهور المصري…

كما ستكون نهاية الرحلة؛ كانت البداية من منزل محمد عبد الوهاب، إذ زارت فيروز منزله بصحبة الأخوين، وأهدى إليه الأخوان ديوانهما سمراء مها، وهو ديوان يضم العديد من القطع الشعرية الغنائية التي ذاعت بصوت فيروز، بينما أسمع عبد الوهاب الحضور أحدث تسجيل له لم يُطرح تجاريًّا بعد، وهي أغنية “قابلته”، وهو لحن لطيف بديع صاغه عبد الوهاب على إيقاع التانجو الذي يروق له وللأخوين وفيروز… اصطحب فيروز والأخوين في تلك الزيارة المطرب والملحن المصري سيد إسماعيل، الذي كوَّن صداقة متينة مع الأخوين… واستمرت تلك الصداقة في لبنان، بعد أن تعاقدت محطة الشرق الأدنى مع سيد إسماعيل على تقديم مجموعة كبيرة من البرامج الغنائية… لا تنسوا اسم سيد إسماعيل، فسنعود إليه مرة أخرى بعد ثلاثين عامًا…

بعدها زار محمد عبد الوهاب الأخوين رحباني وفيروز في منزلهم الذي استأجرته لهم الإذاعة المصرية في الزمالك… ضمَّت السهرة الكاتب توفيق الحكيم، والصحافي والناقد الفني أنور أحمد، والدكتور حسين فوزي صاحب كتاب الموسيقى السيمفونية وغيره من المؤلفات المعنية بالتطور الموسيقي… وأخذ الأستاذ صبري الشريف يعرض على الحضور مجموعة من الأشرطة المسجلة التي أحضرها معه كنموذج بسيط لإنتاج الأخوين رحباني وفيروز، ومدى ما وصلوا إليه في مجال الموسيقى في ستديوهات محطة الشرق الأدنى… يقول الأستاذ أنور أحمد عن تلك السهرة:

سمعنا أولًا قطعة اسمها (حلوة الموطن) وهي اسكتش غنائي تجمع بين الموشح والإنشاد والقصيدة، ويصاحب هذا كله موسيقى تساوق النغم دون أن تؤثر على الطابع الشرقي للغناءوهي موسيقى موزّعة توزيعًا آليًّا للتخت الشرقي بآلاته المعروفة، مضافًا إليها المندولين والفلوت والجيتارثم سمعنا اسكتش (هيفاء والديب) الذي يصور قصة راعية لبنانية يسرق الذئب إحدى نعجاتها، وهي من نغم السيكا، والموسيقى موزّعة فيها توزيعًا كاملًا رغم الأرباع الصوتية، وقد أُضيف إلى آلات التخت الفلوت والكلارينيت…”.

وهذا استكش (عروسة المواسم) وقد اُستُخدِم في تسجيله الأوركسترا الكامل، مع أحدث أساليب التوزيع والهارموني، ومع ذلك فقد احتفظت القطعة بطابعها الشرقي في التعبير والإلقاء الغنائيوقد قام الأستاذ صبري الشريف بتقديم التسجيلات والتعليق عليها، إنها أغنيات وضعها وقام بتلحينها وتوزيعها الأخوان رحباني“.

احتفظ صبري الشريف بدرة شرائطه للنهاية، ففي ختام السهرة استمع الحضور إلى أوبرا “دمبو الجبار” للأخوين رحباني، وبطولة عاصي الرحباني، إذ يلعب عاصي دور ضابط يعود مع فرقته إلى القرية بعد سنوات من الحرب… وبعدها علَّق توفيق الحكيم بتمهُّل وقال:

إن هؤلاء الفنانين الهابطين إلينا من جبل لبنان قد وضعوا أمامنا قضية الموسيقى الشرقية على بساط البحث بصورة عملية، إذ قدّموا لنا نماذج لما يمكن عمله لتطور هذه الموسيقى والخروج بها من نطاق التخت وقيود القوالب القديمة، إلى الميدان الإنساني الفسيح، بحيث تُصبح موسيقى عالمية“.

***

في 6 مارس 1955 زارت مجلة “الجيل” العروسين في منزلهما بالقاهرة… جرى الحوار على النمط نفسه؛ من التعريف بفن الأخوين ورؤيتهما الموسيقية، غير أن هذا الحوار يعد الأول ويسبق حوار مجلة “أهل الفن” الذي وجد طريقه لشبكة الإنترنت منذ سنوات… كتب المحرر

الصوت الذي نستقبله هذا الأسبوع صوت فيه دفء، وشمس، وحب، وعاطفةصوت ساخن ناضج كله إحساس وتعبيريؤدي جميع الألوان الغنائية بنجاح تاممن العتابة اللبنانية ذات الترجيع والترخيم، إلى الأغنية الراقصة ذات الطابع الغربيويؤدي كل ما يغنّيه بغير جهد أو افتعال، لأن صاحبته تعيش في جو الأغنية وتطبع به إحساسها ثم تشدو من قلبها بهاإنه صوت فيروزوفيروز جاءت إلى مصر في شهر العسل مع زوجها عاصي الرحباني، الذي عرفته منذ بدء حياتها الفنية، والذي يختار لها الشعر، ويؤلفه لها بنفسه ثم يلحنه لها…”.

قالت فيروز إن زواجها من عاصي نهاية طبيعية لعلاقة طويلة بين تلميذة وأستاذها“، بينما يقول عاصي بلهجة لبنانية ظريفة وهو يضحك براغيث الغرام! سرحت براغيث الغرام! شو بدّها تعمل…”.

وفي أبريل 1955 كانت الإذاعة قد أعدت طائفة كبيرة جدًا من الأغاني والبرامج الجديدة احتفالًا بالربيع والأعياد واستعدادًا لرمضان، وكان لفيروز وألحان الأخوين نصيبًا محترمًا منها؛ ومن الأغاني الراقصة لفترة الصباح سجلت فيروز: روح يا بلبل، يريد زهرة، يا ليل بلادي… ومن أغاني السهرة موطن القمر… كما سجَّلت فيروز من كلمات الشاعر الغنائي المصري مرسي جميل عزيز ولحن الأخوين قصيدة “سوف أحيا”…

اهتم الوسط الفني بوجود فيروز في القاهرة، وكالعادة بدأت تنهال عليها عروض العمل بالسينما… كان المخرج حسن الإمام من أشد المتحمسين للتعامل مع الأخوين رحباني، وظلَّت هذه الرغبة تراوده وإن حالت الأقدار دائمًا دون إتمامها. وكان حسن الإمام قد طلب من الأخوين رحباني في العام 1954 أن يلحنا أغنية لفيلمه الجديد، وأن تقوم فيروز بالغناء والدوبلاج الصوتي فقط دون أن تظهر على الشاشة كما تريد، لكن الأخوين طلبا مبلغًا كبيرًا نظير التأليف والتلحين والتوزيع، فلم يتم التعاون، لكنهما أشارا على حسن الإمام بالصوت المميز للفنانة المصرية الصاعدة “نادية فهمي” والتي كانا يودان التعامل معها، بحسب ما نشرته مجلة روز اليوسف… وهكذا، بإيعاز من الأخوين، أدت نادية فهمي بصوتها فقط أغاني فيلميّ “الملاك الظالم” 1954 و”الجسد” 1955 بينما كان الأداء التمثيلي في الفيلمين للفنانة هند رستم…

غير أن إقامة الأخوين وفيروز في مصر لم تمض كلها بسلام… فقد أثار تمسُّك الأخوين بفيروز واستئثارهما بها غيظ الملحنين المصريين؛ إذ اعتذرت فيروز عن تقديم أية ألحان لغير الأخوين- ولا حتى لعبد الوهاب- امتثالًا لسطوة الأخوين عليها… الملحن محمود الشريف، صاحب الطبيعة الملتهبة، هاجم الأخوين صراحةً في الصحافة، وذلك رغم حماسته لهما في البداية، بل وتأثره بهما في تلحين وتوزيع أغنية “يا أهل المحبة” واستخدام حناجر الكورال، إذ سُجلت “أهل المحبة” في الفترة نفسها وأذيعت مع أغاني فيروز الجديدة في أثناء شهر رمضان.. وكتبت مجلة روز اليوسف بتاريخ 15 مارس عن الأغنية أنها المرة الأولى التي سيستمع فيها الجمهور لمحمد عبد المطلب وهو يغني على أنغام الجاز مثل فيروز…


كما تمّ الترويج  لفكرة أن ألحان الأخوين إما مسروقة أو مقتبسة من الألحان الغربية… فرد منصور الرحباني بهدوء

إن ما نُشر لا يستحق الرد، لأنه ليس فيه شيء محدد يُرَد عليهلقد قيل إن جميع ألحاننا مسروقة، فهل أرد على الكاتب وأحلف له أنها غير مسروقة؟ لو قال إن لحن كذا أو أغنية كذا مسروقة من لحن كذا لكان هناك مجال للرد والكلاموقيل مرة عن فيروز أن صوتها طوله بوصة واحدة، وهذا خلط بين قوة الصوت وبين قدرته على تأدية الألحانفالأصوات لا تُقاس بالبوصة إنما بالمقامات الموسيقية“.

لم تقتصر الخلافات على التلحين لفيروز، بل امتدت إلى المخرج صبري الشريف، فبأي صفة يوجد في أثناء تسجيل فيروز والأخوين لبرامجهم الإذاعية؟

بيتُنا في الجزيرة، على ضفافِ النيل

أفياؤه الوثيرة، ينسُجُها النخيل

امتدت إقامة فيروز والأخوين في مصر حتى أغسطس 1955، أي قرابة الستة أشهر، وهي أطول فترة قضاها الأخوان وفيروز خارج ديارهم اللبنانية، وأطول رحلة فنية لهما على الإطلاق… أنجزت فيها فيروز للإذاعة المصرية ما يزيد عن الأربعين لحنًا، ما بين الأغنية الخفيفة والقصيدة والبرامج الإذاعية… وعلى الرغم من طول المدة التي قضوها في مصر، إلا أنهم نجحوا في الحفاظ والتمسك بطابعهم الخاص وفنهم المميز، دون الانجراف للأضواء والمغريات المصرية، لدرجة أنهم اعتذروا عن الاشتراك في حفلات اللجنة العليا لمهرجان 23 يوليو…

عادت فيروز والأخوان رحباني إلى بيتهم الريفي الهادئ في أنطلياس، التي تبعد مسافة ربع ساعة عن بيروت… بعد شهر التقى بهم مراسل مجلة الكواكب، وسألهم عن انطباعاتهم عن الرحلة المصرية… في ختام الحديث انطلق الثلاثي يقول سلموا لنا على محمد عبد الوهاب والشجاعي ونويرة وحجاجوعلى كل من في الإذاعة المصرية“… وقبل أن ينصرف المحرر همست له فيروز أن يسأل عبد الوهاب عن أغنية “قابلته” وهل صدرت بعد أم لا…؟