كما ستكون نهاية الرحلة؛ كانت البداية من منزل محمد عبد الوهاب، إذ زارت فيروز منزله بصحبة الأخوين، وأهدى إليه الأخوان ديوانهما سمراء مها، وهو ديوان يضم العديد من القطع الشعرية الغنائية التي ذاعت بصوت فيروز، بينما أسمع عبد الوهاب الحضور أحدث تسجيل له لم يُطرح تجاريًّا بعد، وهي أغنية “قابلته”، وهو لحن لطيف بديع صاغه عبد الوهاب على إيقاع التانجو الذي يروق له وللأخوين وفيروز… اصطحب فيروز والأخوين في تلك الزيارة المطرب والملحن المصري سيد إسماعيل، الذي كوَّن صداقة متينة مع الأخوين… واستمرت تلك الصداقة في لبنان، بعد أن تعاقدت محطة الشرق الأدنى مع سيد إسماعيل على تقديم مجموعة كبيرة من البرامج الغنائية… لا تنسوا اسم سيد إسماعيل، فسنعود إليه مرة أخرى بعد ثلاثين عامًا…
بعدها زار محمد عبد الوهاب الأخوين رحباني وفيروز في منزلهم الذي استأجرته لهم الإذاعة المصرية في الزمالك… ضمَّت السهرة الكاتب توفيق الحكيم، والصحافي والناقد الفني أنور أحمد، والدكتور حسين فوزي صاحب كتاب الموسيقى السيمفونية وغيره من المؤلفات المعنية بالتطور الموسيقي… وأخذ الأستاذ صبري الشريف يعرض على الحضور مجموعة من الأشرطة المسجلة التي أحضرها معه كنموذج بسيط لإنتاج الأخوين رحباني وفيروز، ومدى ما وصلوا إليه في مجال الموسيقى في ستديوهات محطة الشرق الأدنى… يقول الأستاذ أنور أحمد عن تلك السهرة:
“سمعنا أولًا قطعة اسمها (حلوة الموطن) وهي اسكتش غنائي تجمع بين الموشح والإنشاد والقصيدة، ويصاحب هذا كله موسيقى تساوق النغم دون أن تؤثر على الطابع الشرقي للغناء… وهي موسيقى موزّعة توزيعًا آليًّا للتخت الشرقي بآلاته المعروفة، مضافًا إليها المندولين والفلوت والجيتار… ثم سمعنا اسكتش (هيفاء والديب) الذي يصور قصة راعية لبنانية يسرق الذئب إحدى نعجاتها، وهي من نغم السيكا، والموسيقى موزّعة فيها توزيعًا كاملًا رغم الأرباع الصوتية، وقد أُضيف إلى آلات التخت الفلوت والكلارينيت…”.
وهذا استكش (عروسة المواسم) وقد اُستُخدِم في تسجيله الأوركسترا الكامل، مع أحدث أساليب التوزيع والهارموني، ومع ذلك فقد احتفظت القطعة بطابعها الشرقي في التعبير والإلقاء الغنائي… وقد قام الأستاذ صبري الشريف بتقديم التسجيلات والتعليق عليها، إنها أغنيات وضعها وقام بتلحينها وتوزيعها الأخوان رحباني“.
احتفظ صبري الشريف بدرة شرائطه للنهاية، ففي ختام السهرة استمع الحضور إلى أوبرا “دمبو الجبار” للأخوين رحباني، وبطولة عاصي الرحباني، إذ يلعب عاصي دور ضابط يعود مع فرقته إلى القرية بعد سنوات من الحرب… وبعدها علَّق توفيق الحكيم بتمهُّل وقال:
“إن هؤلاء الفنانين الهابطين إلينا من جبل لبنان قد وضعوا أمامنا قضية الموسيقى الشرقية على بساط البحث بصورة عملية، إذ قدّموا لنا نماذج لما يمكن عمله لتطور هذه الموسيقى والخروج بها من نطاق التخت وقيود القوالب القديمة، إلى الميدان الإنساني الفسيح، بحيث تُصبح موسيقى عالمية“.
***
في 6 مارس 1955 زارت مجلة “الجيل” العروسين في منزلهما بالقاهرة… جرى الحوار على النمط نفسه؛ من التعريف بفن الأخوين ورؤيتهما الموسيقية، غير أن هذا الحوار يعد الأول ويسبق حوار مجلة “أهل الفن” الذي وجد طريقه لشبكة الإنترنت منذ سنوات… كتب المحرر
“الصوت الذي نستقبله هذا الأسبوع صوت فيه دفء، وشمس، وحب، وعاطفة… صوت ساخن ناضج كله إحساس وتعبير… يؤدي جميع الألوان الغنائية بنجاح تام… من العتابة اللبنانية ذات الترجيع والترخيم، إلى الأغنية الراقصة ذات الطابع الغربي… ويؤدي كل ما يغنّيه بغير جهد أو افتعال، لأن صاحبته تعيش في جو الأغنية وتطبع به إحساسها ثم تشدو من قلبها بها… إنه صوت فيروز… وفيروز جاءت إلى مصر في شهر العسل مع زوجها عاصي الرحباني، الذي عرفته منذ بدء حياتها الفنية، والذي يختار لها الشعر، ويؤلفه لها بنفسه ثم يلحنه لها…”.
قالت فيروز إن زواجها من عاصي “نهاية طبيعية لعلاقة طويلة بين تلميذة وأستاذها“، بينما يقول عاصي بلهجة لبنانية ظريفة وهو يضحك “براغيث الغرام! سرحت براغيث الغرام! شو بدّها تعمل…”.
