الهروب من الكهنوت

ماذا تحمل في حقيبتك إلى الجونة؟
لم يكن هذا سؤالي لنفسي قبل السفر؛ بل هو سؤال تكرر في أكثر من برنامج مُصوَّر على السوشيال ميديا، السؤال كان موجهًا أكثر للنجمات، وعن الحقيبة التي تحملها في الحفل؟

النميمة عين زائدة يمنحها نوع من الإعلام للمستهلك.. تسلية خفيفة، لكنها تتحول عند قطاع لا يستهان به إلى أسلوب وهدف وجودي.. تتضخم وتبتلع كل شيء؛ الفن والإعلام..والحياة. النميمة بهذه العين المتوحشة تلتهم كل متعة فيها.. وقبلها تلتهم كل شيء ممتع في العالم.. ماذا ستجد في حقيبة النجمة؟ وماذا إذا افتقد النجم هذه المادة المثيرة للنميمة.. هل تموت نجوميته؟ هل يلوك حكاياته المملة ليطفو فوق سيول النميمة.. هل سيقتلون النجم يومًا ما إذا لم يقدر على إفراز نميمة؟

فكرت بصوت عالٍ أمام مجموعة من الأصدقاء: تتعطل كل الغرائز هنا في الجونة أمام توحش غريزة الاستعراض.. كل الغرائز؛ حتى الجنس.. هناك شيء ما خفي يحفزك لعرض شيء ما.. حتى لو كان هذا العرض هو التأفف من محاولتك تقريب المسافة بين السينما والاستعراض.. الأفلام والنميمة.. أو المهرجان والاجتماع السنوي للكهنوت.. وهذه تسمية أطلقتها؛ منذ الدورة الأولى (لم أحضر الثانية والثالثة) على لقاءات تعميد النجوم الجدد في “الكوميونتي”.. فأنت لست نجمًا كامل النجومية إذا لم تحضر الجونة وتدخل في الدوائر الضيقة لأصحاب المليارات المتيمين بصحبة نجوم السينما والتليفزيون.. وليس هناك مكان يصلح لهذه الطقوس أكثر من الجونة؛ فهي اليوتوبيا كما ترسمها المخيلات المحبطة

وفي الحقيبة تشحن كل ما في وسعه ليكون معك هناك؛ في اليوتوبيا.. وهذا توصيف ناقص لو لم تضف إليها كلمة أخرى لتكون أدق: اليوتوبيا الموحشة.

 وهل هناك يوتوبيا غير موحشة؟ وتستمر في السؤال: اليوتوبيا عملية بناء للفردوس المتخيل (كما روجت له كل كتب الخلاص السماوية) على الأرض.. كل شيء كامل وتحت السيطرة.. مرور على فلاتر  الحشود الطاغية، لتصطفي الجيتو الذي تعيش فيه؛ومنه تولد فلاتر أخرى تنشأ عنها جيتو جديد…وجيتو تلو جيتو ….حتى تصبح أنت وحدك جيتو

كيف ستختبيء من الجيتو؟ من نفسك؟

أضحك عندما يسألني السائق: بعد إذنك، هو حضرتك ماجد الكدواني؟المشهد كله غريب؛ أركب سيارة تاكسي لندن في شوارع مدينة تطل على البحر الأحمر.. على بعد ٥٠٠ كيلومتر من القاهرة …ومنذ قليل كنت على السجادة الحمراء باعتباري على قائمة الشخصيات المهمة ..والسائق توسم فيَّ بأنني من المؤكد نجم.. وهذا يدعوه للابتسام غير المبرر إلا لنفسه؛ فهو مع النجم في حيز واحد.

السؤال ليس جديداً عليَّ تماماً.. يتكرر منذ أن اختار ستايلست فيلم “هيبتا” هيئة وملابس قريبة لهيئة ظهرت بها في أكثر من برنامج تليفزيوني؛ وأرسل الأصدقاء لي صورتين، أحدهما لي في البرنامج، والأخرى لماجد الكدواني في دوره كمحاضر للتنمية البشرية في الفيلم..

استفزني التشابه في البداية، لأنني من أعداء التنمية البشرية، لكنني بعد أكثر من سؤال يشبه سؤال السائق، أو ترحيب بأنني بالتأكيد ماجد الكدواني، أحببت اللعبة.. واعتبرتها هدية تتيح لي الاختباء في شخص آخر.. طبعًا أصحح لمن يسأل.. لكن مادام لم يتجاوز الأمر الابتسامة..فإنني أشعر بحماية ما… مادام هناك من يراني شخص آخر؛ غير ذلك الضيف والكاتب الذي يظهر على شاشات/فتارين تليفزيونية،وعند مقابلته في الشارع ليس هناك سوى سؤال مرعب في تكراره : احنا رايحين على فين يا أستاذ؟ وهو سؤال مرعب، لأنه يقصد ب”أحنا” البلد.. أو شيء ما يجمعنا معًا…وينتظر أنني مادمت أظهر على الشاشات وأتكلم وأحلل وأناقش في أحداث وقضايا وأفكار، سأقوم بمهمة العراف.. وأقرأ له البلورة السحرية التي أرى فيها المستقبل…وهو ما يثير رعبي من نفسي وعلى نفسي، خصوصًا عندما ظهر شخص ذات ليلة في الميدان، وبينما كنت في جولة من جولات قراءة البلورة للمحتاجين والهائمين الباحثين عن مستقبل أجمل، فإذا بالشخص القادم من أطراف الحلقة يسألني بكل حرقة الحيرة “أنا هنا ليه”؟
من ساعتها وأنا في محاولات مستمرة للاختباء.. لم تنجح حتى الآن إلا عبر ماجد الكدواني..

….

…في فيلم “الماتادور الرقيق” تكررت لعبة الاختباء؛ الثوري الذي قابل الدراج كوين في أثناء هروبه/ها من الحفل، وأنقذها؛ ظل مختبئًا في عالمها من مطاردات البوليس السياسي، خصوصًا بعد اشتراكه في محاولة اغتيال بينوشيه…الملكة هو الاسم الكودي.. وسط احتمالات كثيرة.. لمحب الليل والموسيقى والمسرح والسهر، ومطرز مفارش زوجات الجنرالات.. هو سابح في عالمه، غير مقيد بهويات جنسية ولا أسماء مسبقة، يقيم في أبنية مهدمة (منطقة هدمها زلزال ضرب المدينة).. وفراغ هش يهدده حراس الديكتاتور الباهظ في قسوته.. والثوري مع رفاق التنظيم يخبئون الأسلحة في عالم “الملكة” الباحث/ة عن قصة حب تخترعها/يخترعها للآخرين.. في وصلات حرية مرح مخطوف من عالم الارتداد والقتل والقمع المفرط…

الممثل ألفريدو كاسترو، وعبر لغات جسده، صنع مجالاً مغناطيسيًّا من عواطف خاضتها الملكة بكل قوتها، بينما الهارب المختفي في مجالها عواطفه مشوشة؛ مكتومة..

الملكة تتحرك بحرية رغم الاستبداد العام و الشخصي الموجه ضد طبيعته واختياراته العيش على هامش كل شيء، وفي امتداد جيتو المثليين.. بينما حركة الثوري مقيدة ؛ مرهونة بتعليمات وتستر دائم؛ حتي إنه في عز اللحظات المفروكة على قمة هضبة في طريق موكب الجنرال بينوشيه، لا يهتم سوى باتخاذ رقصة الملكة ستارًا لمراقبة الموكب، ويضطر في النهاية للهرب إلى كوبا و هو ما يواجَه برفض الملكة.

…..

الفيلم رقيق.. مشبع بحواس الاختفاء.. وبدا فيه المخرج التشيلي رودريجو سيبوليدا أورثوا صانعاً لفضاء غير تقليدي لأسئلة عن حدود الحرية والحياة والثورة والسياسة والاستبداد.. هل التحرر يقف عند حدود مصارعة الثيران المستبدة؟ ومساحة الحب والفرد في محاولات الثورة والتنظيم؟ وماذا بعد أن تقتل الثور؟ هل ستجد الحرية في انتظارك؟ وسينتظرك الحب؟ ماذا إذن عن الخوف؛ هل يمكنه أن يقتل الحرية يومًا ما؟

الفيلم مأخوذ عن رواية عنوانها “أنا خائفة يا مصارع الثيران”، و هو عنوان أغنية للمغنية الشعبية لولا فلوريس.. الرواية للكاتب والمؤرخ بيدرو ليوبيل المشهور بقصة حضوره مؤتمر لتنظيم يساري وهو يرتدي الكعب العالي ويضع على وجهه مكياجًا كاملاً.. في هيئة الدراج كوين.. فأفسد الاجتماع موجهاً رسالة احتجاج على كهنوت اليسار الذي يعادي التعبير الحر عن الهويات الجنسية.

…..

تخيلت في يوتوبيا الجونة ظهور دراج كوين على المسرح.. وكيف سيتم استقباله/ها من كل الباحثين عن حريتهم هنا..

صديقتي حكت لي أنها تاهت في طريق عودتها من حفل على أحد اليخوت المقيمة في مياه الجونة.. وبدلاً من عشر دقائق؛ استغرق الطريق أربعين دقيقة..

هل توجد طرق يمكنها أن تستغرق هذا الوقت في تلك المدينة؟ تأملت الطرق جيدًا فوجدتها موحشة.. كل الطرق بين المناطق كأنها طرق سريعة دون خدمات.

اليوتوبيا موحشة.. موحشة.. مو..

لا توحي بالحياة المشتعلة داخل أحواض الإسمنت المتسعة على المتيمين بالزحام.

زحام في أيام الكورونا.. مقاومة، أم هي غواية الطقوس التي تعني هنا الاكتفاء بالإجراءات الاحترازية الروتينية؟ وصوت طه الشاب الأسواني اللطيف وهو يبلغني درجة حرارتي ٣٦ فاصلة ٦.. أحببت كلمة فاصلة كل مرة.

هذه تعويذة الخائفين من الكورونا..

كما أن اللهاث من فيلم لفيلم علامة المتيمين بالسينما؛ يخلقون عالمهم المكتمل بالكلام المحنك عن الأفلام والأبطال والمهرجانات، يكتفون كما يفعل الناس في المعابد بتلاوة الآيات المقدسة، وتداول ما يرضى الكهنة..

الكهنة.. الكهنة.. الكهنة..

في الكهنوت ما يجعلنا نكره حتى أحب الفنون والأفكار والعلاقات..

في الكهنوت سم قاتل..

في الكهنوت حياة للركود والكمكمة..

تخيل الباحثين عن العمق في السينما وهم يتداولون فيلمًا؟ ما الذي يعجبهم؟ عم يبحثون؟ لماذا يسارعون من مهرجان إلى مهرجان ليثبتوا أنهم على حق، والعمق قليل.. ما حدود العمق الذي يبحث عنه الكهنوت؟

….

يموت الفيلم في كلام الكهنة قبل أن يبدأ حياته.. هكذا تعلمت من خبرة المهرجانات.. لا تسمع إلى نصائح الكهنة.. منهم الطيبون.. لكنهم يدلونك إلى السينما الميتة.. سينما المشاعر الفوارة.. الضغط على المشاعر الجاهزة.. النضال والمآسي والدموع…

أقاوم منذ عشرين سنة سحر الكهنوت والاطمئنان داخل معابده..

 النجوم الصغار  يسارعون إلى الجونة مقر كهنوت آخر، كهنوت النجومية يطلبون الاعتراف السري..

كل هؤلاء النجوم يأتون إلى الجونة ليشاركوا الطقوس السرية لكهنوت لن يعرضه المهرجان غالبًا على شاشاته..

الطقوس التي تبدأ من السجادة الحمراء.. وتمر بكل برامج تفتش في حقائب النجمات وصناديق النميمة.. وحتى قوائم مصممي الأزياء والماكياج التي ترسل إلى النجمات على شكل شروط الحضور …المنضبط على خطة مدير السجادة الحمراء…وهو متخصص محترف أثبت تفوقه في مهرجانات آخرى ؛ وأحد عناصر نجاح مهرجان الجونة.

…في الجونة تحتدم معركة بين كهنوت النجوم وكهنوت المحنكين.. تتكرر في كل مهرجان لكنها في الجونة أكثر ضراوة..

كهنوت المحنكين غرباء في الجونة؛ صوتهم خافت؛ يلوكون سرًّا معاركهم القديمة.. ومناهجهم المعتقة في مشاهدة الأفلام.. ينضم إليهم أعداد أقل من الشباب..

الجونة مدينة بلا صوت.

أصواتها داخلية؛ في “علب” إسمنت أو “هياكل مراكب” تتبختر على الماء، وكل فراغ تلتئم فيه حفلات وما بعد الحفلات، وتصدح فيه أصوات “حياة الليل” بينما الممرات والشوارع تغيب فيها الهمهمات والأصوات الشاردة، كل شيء تحت السيطرة ليكتمل بيع “الموديل” الكامل، أو لتلتحق من زيارتك الأولى في تقاليد “الماكيت العمراني” الذي لا يسمح إلا بما كتبه ”نص غير معلن”، يشترك في تنفيذه في (مكان التصوير )/ الجميع؛ أصحاب الشركة /والسكان المقيمون والهاربيدون من الضجيج والمراقبة المحافظة /والمتيمون بالملكية والتسقيع.

كلهم يشاركون في تجاوز “الجونة” فكرة الموضة التي سيطرت على الساحل الشمالي، وتحركها نخبة تلهث هربًا من طبقات تلاحقها من العجمي إلى ماربيلا وبعدها إلى مارينا، والآن هاسيندا وتلال، وأخيرًا في رأس الحكمة وسيدي حنيش.

هذه المطاردة الطبقية تمنح الجونة وضعًا خاصًا بسبب طموح داخلي عند مؤسسيها وسكانها؛ ألا تتحول إلى” منتجع/موضة”، بل إلى يوتوبيا/مدينة تعيد زمن شركات أنشأت بأفكارها وهندستها أحياء/مدنًا داخل القاهرة مثل “مصر الجديدة” و”المعادي” و”المقطم”.

أي أنها ليست “سفينة نوح “التي يظن اللاهثون إليها أنها بالأسوار العالية يمكنها أن تحميهم من زحف القطعان العشوائية.

لكن الحشود تصلك في وقت ما.. حين يظهر ماكيت يوتوبيا جديدة.