حول مناورات العماء والتيه تأملات عابرة في أوديسة الكورونا!

حول مناورات العماء والتيه: تأملات عابرة في أوديسة الكورونا!

1
الوباء والزمن

لنفترض أننا استيقظنا غدًا (بالمعنى الحرفي لكلمة غدًا)، على خبر الاختفاء التام لوباء الكورونا!

ولنفترض أيضًا أن هذا النبأ صادق في حد ذاته، ويشير إلى واقع حادث بالفعل، أو أنه يفي بمتطلباتنا أو شروطنا الذاتية للتصديق أيًّا كانت، بمعنى أنه إذا كان لدى كل منَّا ما ينتظره أو يتوقعه أو يشترطه من أجل التصديق أو الإقرار بشيء كهذا؛ فإن هذا الخبروفقًا لافتراضناسيكون قادرًا على الوفاء بهذه الشروط جميعًا.

والسؤال الآن: ماذا سيكون موقفنا المباشر من هذا الخبر؟ 

علينا أن نشير أولاً إلى أن انمحاء الوباء الحالي هو الحدث السعيد الذي يتوقعه الجميع بلا استثناء، ولذلك فمنالبديهيأن ظهور خبر يطابق هذا المتوقع سيجعل استقباله سلسًا للغاية فنصدقه على الفور، ولكن مع هذا فإن الكيفية التي سنستقبل بها هذا الخبر تبدو محكومة بعوامل كثيرة شديدة التعقيد والتداخل، وبالتالي فإذا ما تأملنا قليلاً في تلك الحالة الافتراضية، فقد نجد أن هذه البداهة تتراجع على نحو غريب لتحل محلها بداهة أخرى معاكسة، إذ سنجد تفكيرنا أميل إلى أننا جميعا سنستغرق وقتًاقد يطول أو يقصرقبل أن نتمكن من إبداء تقييم متوازن إزاء هذا الخبر، أولاً، ثم فحص مبررات تصديقه وإقرارها، ثانيًا، أما رد فعلنا اللحظي فقد لا يتجاوز الإنكار والنفي والتمني والسخرية العنيفة والقاسية، ناهيك بالانخطاف تجاه التفسيرات التي تسعى إلى تقصي وتجسيد تلك المؤامرات التي تريد الإيقاع بنا لغرض ما (وبعيدًا عن التفكير الافتراضي فواقعيًّا لا يزال أغلبنا يجد صعوبة كبيرة في تصديق أن الصين قد سيطرت بالفعل على انتشار الوباء!).

وهكذا فإن تلك الحالة الافتراضية التي بدأنا بها تأملنا تضعنا أمام ظاهرة دقيقة وغريبة بعض الشيء، ظاهرة تحول البداهات وتعارضها أو حلول بعضها محل البعض الآخر، وهو سياق لم تهتم الفلسفةلا قليلاًبالتوقف عنده، فباستثناء بعض العناية الكانطية ثم الهيجلية بمسألة التحول الذاتي لمثل هذه الأفكار فقد كانت البداهة الثابتة والمستقرة والتي تتطابق دائمًا مع ذاتها بمثابة نقطة الأصل التي تبدأ الفلسفة منها وتنتهي إليها

ولكن لنتقدم خطوة أخرى في تأملنا ونذهب إلى الحالة العكسية التي تقابل الفرضية التي بدأنا بها، أي خبر ظهور وباء الكورونا، وهي حالة سبق أن وقعت وعايشناها بالفعل في كل تفاصيلها، فهنا أيضًا سنلاحظ أن هذا الخبر كان صادقًا منذ لحظة ظهوره الأولى، بقدر ما كان مؤثرًا ولا يمكن تجاهله أو التقليل من أهميته، وبالرغم من ذلك فقد استغرقنا وقتًا طويلاً نسبيًّا قبل الإقرار بصدقه والاعتراف بأهميته، والتحول من التفكير فيه بوصفه شأنًا يخص الآخرين إلى أمر يخصنا، إن لم نقل إننا أنفقنا الكثير من الجهد في إنكاره؛ كل قدر استطاعته!

وبالنظر إلى هاتين الحالتين المتعلقتين بخبر بداية الوباء ونهايته، سيبدو واضحًا أن هناك فارقًا ملحوظًا بين وقت أو لحظة اكتمال وقوع بعض الأحداث في الواقع، ووقت أو لحظة اكتمال الاستجابة لها في الوعي، أي بين زمن الظهور، وزمن الحضور، وأن هذا الفارق في حركة وسرعة سريان الزمن (بالنسبة للموضوع ذاته) بين هذين النمطين قد يكون مصحوبًا بحالة من انقلاب ما هو بديهي على نفسه، ونشوء حدوس متعارضة ومتضاربة، أي أننا أمام ما قد يلوح وكأنه تغير في الوعي نشأ عن التلاقي مع حدث بعينه ثم تباعد عنه نسبيًّا تجاه مسارات تخصه.

وهذه الحالة لا تنطبق بالطبع على كل ما يحدث، ولا على كل الأحداث بغض النظر عن أهميتها من عدمه، فهي لا تنشأ إلا في نمط بعينه من سلاسل الأحداث التي تستطيع أن تصطنع لنفسها مساحة؛ أو أفقًا زمنيًّا خاصًا

ولكن كيف يظهر هذا الأفق الزمني المختلف عن سريان الزمن الواقعي للحدث؟

2
الزمن والفعل

الفلسفة (منذ زينون الإيلي فصاعدًا) وما تفرع عنها من علوم فيزيائية ورياضية؛ كانت تتعاطى دائمًا مع مفهوم الزمن بوصفه مشتقًا من تغير الحركة، أي من التباينات بين الملاحظات الممكنة حول الحركة التي تحدث في الواقع، ولكن من الصعب القبول بهذا المدخل بوصفه الأصل الفينومينولوجي للزمن، فمجال الزمن لا يظهر لنا بمجرد رصد أو ملاحظة اختلاف الحركة، إذ ينبغي أن نحوز مسبقًا مفهومًا بعينه للزمن قبل أن تكتسب هذه الملاحظات أي معنى، وهو ما يدعونا للإقرار بأن تحول هذا الاختلاف إلى نسق زمني منتظم ومستقر يتطلب ذاته ويستطيع إعادة إنتاج نفسه هو تطور معرفي تحقق عبر عمليات أكثر أولية وجذرية.

يتكون المجال المعرفي من مكونات تنطوي على علاقة ترابط بين الحدث والفعل، وهذا الترابط أطلق عليهالحكاية“.

ويتكونمجال الحضورالمعرفي من ترابط تلك الحكايات على هيئة سلاسل

وفي هذا السياق يمكن أن تتطور الحكاية المفردة بحيث تضم في ترابطاتها الفعل الذي وقع في الحدث، وكذلك الفعل المزمع أو المطلوب إجراؤه داخل إطار حدث بعينه لم يقع بعد ولكن من المنتظر وقوعه

والأصل في ظهور الفعل هو محاولتنا للاستجابة للحدث وتوجيهه أو حتى السيطرة عليه، ولكن لما كانت الأحداث بالنسبة لنا توالي الظهور والانقطاع بلا توقف، فلا يمكن تنظيم الاستجابة لها سوى عبر محاولة استباقها معرفيًّا، بحيث إنه كلما ظهر حدث بعينه تمت الاستجابة له عبر الفعل المناسب

ولكن طالما ظلت هذه الأحداث والأفعال تتوالى فلا يترتب بعضها على بعض على امتداد سلاسلها المتقابلة، فإن الحكايات التي ستنشأ عنها في مجال الحضور المصاحب لها لن تفضي إلى ما هو أكثر من مجرد ذاكرة لها طابع شبه آلي بغض النظر عن مدى ثراء ترتيبها أو كثافة ما تصنفه، أما عندما تظهر سلاسل متقابلة من الأحداث والأفعال التي يمكن أن يتعدل لاحقها طبقًا لسابقها، فإن المسافة التي تفصل بين هذا السابق وذاك اللاحق تصبح قابلة للتعديل والامتلاء والحذف والإضافة والتقسيمإلخ، وهذه الحالة هي أصل ظهورأفق الزمن“.

ولكن بما أننا ننصاع دائمًا للحدث مقابل قدرة أعلى نسبيًّا على التحكم في الفعل فإن تطور أفق الزمن مرتبط أكثر بتلك الأفعال الممكنةولكنها لم تقع بعدوالتي يمكننا إضافتها دائمًا إلى الحكاية التي تحتوي على ترابط مكون منحدث وفعلمرا بنا مسبقًا.

وربما يمكننا هذا التحليلالمقتضبمن المضي قدمًا في محاولة رصد الانتهاك العنيف الذي استحدثه وباء الكورونا في علاقتنا بالزمن والعالم عبر تقليصه المباغت لمساحة أفعالنا اليومية القائمة مما أدى إلى خلخلة ترابطها مع سلاسل أفعالنا الممكنة تاليًا، وهو ما أدى إلى ظهور حالة من العتمة أو العماء الجزئي على أفق مستقبلنا القريب بحيث لم نعد نستطيع تخيله أو التفكير فيه بوضوح.

3
وباء الكورونا ومناورات الوعي المتعب

في التأملات السابقة حاولنا التفكير في أن الاضطراب الإبستمولوجي أو الزمني المباغت الذي جلبه الكورونا إلى علاقتنا بالعالم قد تطور على نحو أكثر بطئًا من سريان حدث الوباء نفسه، وبقدر استمرار هذا الاضطراب وتشابكه مع ممارساتنا فإنه بالمقابل لن يزول أو ينمحي إلا في لحظة متأخرة أيضًا عن لحظة زوال الوباء، مما أفضى بنا إلى إعادة تحليل علاقة الفعل بالزمن بوصفه حضورًا بالمقام الأول؛ وصولاً إلى محاولة رصد الدور الذي يلعبه ترابط الفعل الحادث في الواقع مع حضور الفعل الممكن لاحقًا في خلق مفهوم الزمان، وإعادة إنتاجه باستمرار.

أما هنا فسنركز على التأمل في تغيرات الوعي الجارية حاليًّا بغرض مواجهة الانتهاك الذي استحدثه وباء الكورونا في عالمنا.

وفي هذا الإطار يمكننا أن نلاحظحتى الآنأننا جميعًا بلا استثناءسواء على مستوى الافراد أو المجموعات الثقافيةنخوض في مرحلة اجترار أو إعادة تدوير لأساطيرنا وحكاياتنا الخاصة من أجل محاولة الالتفاف حول فجوة العماء الجزئي التي خلقها وباء الكورونا في أفق زماننا، وهو ما نقوم به بغرض الانفتاح على التفكير فيما يمكن أن يكون تاليًا لزوال هذا العماء، أي أن جهدنا الأساسي هنا يكاد ينحصر في محاولة جعل المستقبل شفافًا بالنسبة لنا قدر الإمكان. وهو ما أدى إلى تنشيط متزايد لحالة إبستمولوجية كان هيجل قد أشار إلى ما يماثلها تحت اسمالوعي المتعب” (أو الشقي، أو البائس؛ The Unhappy Consciousness)، وهو وعي لا يكاد يستهدف سوى المناورة مع العالم بقدر ما يعاني من صعوبة متفاقمة في التعاطي معه نتيجة للازدواجية المتزامنة التي قد تبلغ حد التناقض في مسارات تلك العمليات المعرفية التي يستخدمها بإفراط، إذ أنه يسعى عادة إلى إثبات ما يريد إثباته أو تأكيده عن طريق نفي غيره، مثلما يحاول نفي ما يريد نفيه عبر إثبات غيره، مما يجعله دائم الانقلاب على ذاته وغير قادر على تحقيق علاقة مستقرة بالعالم.

وإذا ما تأملنا فيما يجري حاليًا فسنستطيع بسهولة تلمس تجليات تلك المناورات المحمومة التي يقودها الوعي المتعب، حيث تتم محاولات تجاوز عماء الكورونا أو الالتفاف حوله عبر تأكيد ما يخصنا في مواجهته، وهو ما يمكن تصنيفه في نمطين ينتظمان حسب الهيمنة النسبية لأحد وجهي الوعي المتعب.

فعلى سبيل المثال؛ إذا ما حاولنا رصد ما ينتج عن آلية تحويل النفي إلى تأكيد فسنجد أن  ثمة متدينين على اختلاف مشاربهم يفكرون في تقلص الأفق الزمني للعالم الذي أحدثه هذا الوباء بوصفه استدعاءً مباشرًا للدين ودعوة إلى إكسابه مزيدًا من الهيمنة على مجريات الحياة، بينما هناك سياسيين (بغض النظر عن تناقض مذاهبهم) يرون فيه شيئًا حافزًا لحراك سياسي قادم سيعمل على رفع ما يرونه من أخطاء أو خطايا اجتماعية وسياسية متراكمة، بحيث بالضرورة سيفضي إلى نظام اجتماعي (واقتصادي) أكثر كفاءة ورُقيًّا، فيما يعتقد بعض المثقفين والمبدعين أن ما هو جار حاليًا سيجبر العالم على التحول تجاه أفق عام (أو حتى نظام عالمي جديد) أكثر اكتراثًا بالقيم الإنسانية والجمالية، بمعنى أن هذه النزعة من الوعي المتعب تعيد تعريف نفي الوباء للعالم المعاش بوصفه تأكيدًا للعالم الذي كانوا يطمحون إليه مسبقًا، لدرجة أن الأمر سيبدو أحيانًا وكأنه ينطوي على عملية مقايضة لما نمر به من أوضاع شبه ديستوبية بحالة يوتوبية تنتظرنا خلفها.

أما النزعة الأخرى التي تقودها مناورات الوعي المتعب فتسعى إلى تعميم نفي العالم الذي استحدثه الوباء؛ إذ يتحول من نفي جزئي أو طارئ أو مؤقت إلى نفي شبه كامل للعالم المعاش حاليًا على نحو يلقي به نحو ما يعتبرونه شرًا مصيريًّا أو انحطاطًا دائمًا ونهائيًّا، أي أنهم يحاولون إعادة رسم عالم ما بعد الوباء بصورة تجعله أكثر توافقًا مع ما كانوا يخشونه أو يرهبونه سلفًا.

وفي هذا الإطار سنجد الكثير من الاستدعاءات لرؤى نهاية العالم ذات الطابع الأبوكاليبسي الحاد بغض النظر عما إذا كان مصدرها دينيًّا أو أسطوريًّا، مثلما سنجد أطروحات حول انحطاط أنظمة الحكم في العالم إلى منحدر فاشي غير مسبوق سيحيل مجتمعاتها إلى مزارع تسمين حيوانات بالمعنى الحرفي للكلمة، وبالمقابل سنجد تصورات أخرى تتوقع فشل وتداعي هذه الأنظمة وانهيارها ليدخل العالم في حالة من الفوضى البدائية الشاملة.

ومع الأخذ في الاعتبار أننا اقتصرنا هنا على ذكر الحالات الأكثر حدية وتطرفًا للمعطيات التي تفرزها مناورات الوعي المتعب، وأن الواقع يعج بتباينات أكثر فردية أو نزوعات جماعية أشد كثافة وتفاوتًا، إلا أنه يمكننا القول إننا جميعا (أفراد وجماعات وثقافات) مستغرقين بطريقة أو بأخرى في مناورة العالم على نحو لا يستهدف سوى محاولة تطويق العماء الجزئي الذي استحدثه الوباء بحيث نستعيد القدرة على رؤية ما بعده، ولذلك فإن كل ما يتم إنتاجه حاليًا من مفاهيم وتصورات وتمثلات فردية أو جمعية هو ذو طابع مؤقت وعارض ولا يملك بذاته ما يكفل له الاستقرار، ومن ثَم فإن الانغماس الجدي في تناول ما تفرزه هذه المناورات ليس سوى انصياعًا أو انحناءً أو تضامنًا مع نزعة المناورة لا أكثر، بينما في كل الأحوال لن تستطيع هذه المناورات البقاء طويلاً للأسباب التالية:

فأولاً: إذا كان مقدرًا لوباء الكورونا أن ينتهي سريعًا فسيتلو ذلك انمحاء العماء الذي استحدثه، وهو ما سيلغي الحاجة إلى مناورات الوعي المتعب القائمة حاليًا على قدم وساق لتتلاشى وتتبدد وطأة المعطيات التي قدمتها والتي ستبدو حينها بالنسبة لأغلبنا بمثابة محض ذكرى مزعجة جديرة بالتجاهل ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

وثانيًا: أما إذا كان مقدرًا لهذا الوباء أن يستمر لفترة أطول؛ فإن الاضطراب الزمني الذي جلبه سيتحول تدريجيًّا إلى اضطراب يتعلق بالمصير النهائي لكل منا أكثر مما يتعلق بممارساتنا الحياتية، ومن ثم فعند لحظة بعينها سيفقد الوعي المتعب قدرته على استحداث أو تنفيذ أية مناورة، إذ أن هذا الوعي لا يستطيع البقاء في وضع مهيمن داخل أي ثقافة أو مجتمع لأمد طويل، إلا إذا رافق سريانه قيام هذه المجتمعات بتأطير عالمها داخل أفق من الأسى المعمم.

 والأسى هو استجابتنا البائسة والمستقرة في مواجهة عالم لا نستطيع التوافق معه إلا جزئيًّا، فنصبح دائمًا في حالة توقع لتزايد حدوث ما هو مكروه وغير مرغوب فيه؛ والذي يمكن حسابه ولكن لا يمكن رده. وهنا تتوفر لمناورات الوعي المتعب أرضية تستدعيه بشكل متكرر ليقوم بنفي ما لا يمكن تحمله لصالح تأكيد غيره. ولكن في العالم الذي قد يخلقه استمرار الوباء فإن ما هو أسوأ سيكون قد وقع بالفعل، وعليه فإن أفق الانتظار سيميل أكثر تجاه الاحتفاء بما قد يكون أفضل، مما يعني تضاؤل فرص نشوء أفق الأسى المعمم، بل إن المجتمعات التي ترزح تحت وطأة هذا الأفق منذ فترة طويلة (منذ المجتمع المصري الذي ولج إليه منذ السبعينيات ولم يغادره حتى الآن) قد تجد نفسها خارجه فجأة على نحو درامي للغاية.

وهكذا، ففيما أدى ظهور الوباء إلى تنشيط الوعي المتعب فإن استمراره سيؤدي إلى تلاشيه، وهو ما سيعني حينها نهاية مرحلة وبداية أخرى قد تضعنا أمام أفق جديد ومغاير، لا يمكن أن نواصل تأملنا عبره إلا من خلال محاولة بناء سلسلة من الفرضيات التحليلية التي قد نفلح من خلالها في التلميح إلى هو متوقع، وجلبه إلى حيث يمكن التفكير فيه.

4
من مناورة العماء الجزئي إلى الانسحاب نحو رحم العماء الكلي

انطلاقا من التأملات السابقة يمكننا القول إن الأحداث والإجراءات التي وقعت كاستجابة لانتشار الوباء قد أدت إلى انقطاع وتهتك الكثير من السلاسل المتقابلة لترابطاتالحدث، الفعلالتي تتمحور حولها حياتنا اليومية، فأصبحنا نتعرض لحالة اختلال جماعيومتزامن في تطورهلعلاقتنا بالزمن، فلم نعد قادرين على مواصلة ممارساتنا اليومية بل إن الكثير من جهدنا يتوجه نحو كبح أو كبت هذه الممارسات ومنعها من الظهور، كما لم نعد نستطيع التخطيط لما سنفعله في الأيام القادمة على النحو الذي كنا نفعله بمنتهى الأريحية قبل الوباء، ومقابل ذلك فقد بتنا نملأ يومنا بسلاسل من الأفعال المؤقتة التي لا يمكننا تقبل احتمال دوامها لأنها تبدو لنا بوصفها مجرد رتق مؤقت في انقطاع أفقنا الزمني، مما دفعنا إلى تبني مناورات الوعي المتعب التي قد تتبدد فجأة حال استمرار الوباء، وحينها سيصبح من الصعب أكثر فأكثر التفكير في كيف سيكون شكل العالم الذي ينتظرنا خلف هذه الحالة، وهل سيظل كما كان أم أننا قد نخسر ما يصعب تعويضه، وهل سنستطيع العودة إلى نمط حياتنا المعتاد أم أننا على شفا مقاربة أوضاع أكبر من قدرتنا على مواجهتها انطلاقًا من هذه الممارسات التي ألفناها، وبعبارة أخرى، فإن انقطاع امتداد أفق الزمن وتعرض الواقع الآني للاختراق بواسطة كتلة من الأحداث والأفعال الطارئة والمصمتة على نحو يجعلها لا تشف ولا تكشف عما وراءها، خصوصًا بعد توقف قفزات الوعي المتعب، فهنا سيتحول الأمر من مجرد بقعة مظلمة تعترض طريقنا نحو مستقبلنا المتوقع إلى حالة من العماء شبه الكلي التي ستخفي أو تبتلع ما يمكننا من تمييز أي نقطة بداية  للمسار المحتمل نحو هذا المستقبل.

ومع حلول هذا العماء الكلي سيلوذ معظمنا بأكثر سلاسل حكاياته الخاصة صلابة وتماسكًا ويحولها إلى كهف ذاتي أو صندوق مغلق في وجه العالم، أما البقية فلن يكون أمامهم سوى محاولة الحركة العشوائية داخل هذا العماء.

وتحول العماء من اعتراض جزئي للأفق إلى الإحاطة بالحدود الخارجية لصندوق يمكن التحكم ذاتيًّا في طبيعته وامتداداته وفيما يدخل إليه أو يخرج منه سيجعلنا في حالة أقرب إلى استعادة متأخرة للمرحلة الجنينية، بحيث سيصبح هذا الصندوق أو الوعاء مثل الرحم الذي يهيئ الحياة التي تدور داخله للتعامل مع شروط وأجواء حياتية مختلفة مغايرة تمامًا، وهو ما يعني أن المآل النهائي الأكثر احتمالاً هو أن يلفظنا هذا الوعاء الرحم إلى خارجه في وقت بعينه. فنظرا إلى طبيعته الانغلاقية التي تحجب العالم سيصبح عرضة لانتهاكات وهجوم مستمرين مما يستلزم توفير موارد فعالة للدفاع عنه في وجه العالم، وهذا الدفاع يمكن أن يتطلب العنف أو يتطور إليه بمنتهى السهولة، ولذلك فهي مسألة وقت قبل أن تنفد هذه الموارد الذاتية أو يتشرخ جدار هذا الرحم ويتداعى، أو قبل أن نحاول الخروج منه.

وهكذا، فإذا كان مقدرًا لحدث الكورونا أن يطول إلى اللحظة التي نستنفد فيها هذه المرحلة فإن كل منا سيخرج بالطريقة التي تخصه وفي اللحظة التي تخصه؛ للخوض في العماء، علما بأن أي حركة داخل العماء ستؤدي فورًا إلى تحويله إلى تيه!

وفي هذه اللحظة يمكننا افتراض أن حدث الوباء بدوره سيخطو نحو تحوله الأخير لينهي مساره الذي بدأ من مجرد انقطاع طارئ يمكن مناورته والالتفاف حوله، ليصل إلى ما يجعله يبدو بمثابة بوابة المصير التي لا نستطيع البقاء في العالم إلا إذا اقتحمناها وتمكنا من عبورها إلى الجهة الأخرى أيًّا كانت.

5
التيه وأوديسة الكورونا

هذا التحول الممكن يطرح علينا التفكير في هذه المرحلة الأخيرة بوصفها قد تدشن أو تستهل رحلة من النمط الأوديسي، لأنه إذا قطعنا شوطًا من التأمل في هذا الافتراض فسنعثر على الكثير من التطابقات الجوهرية بينهما، فمثلما لم يكن أوديسيوس يهدف إلا إلى تجاوز عماء البحار والعودة إلى إيثاكا موطنه الأصلي، فنحن أيضًا سنريد تخطي هذا العماء الكلي الذي يحجبنا عن مصيرنا بغرض العودة إلى نقطة أصلية سابقة، أي تقريبًا إلى حيث كنا قبل ظهور الوباء، ولكن ربما مع الخوض في العماء وتحوله إلى تيه بلا مسار يمكن تمييزه فإن المسافة بيننا وبين نقطة العودة هذه ستوالي التقلص والاتساع بشكل لا يمكن حسابه، وستمتلئ بأخطار تهدد مصائرنا على نحو لا يمكن توقعه، وهو ما واجهه أوديسيوس في رحلته.

وبغض النظر عن أن البعض يفهم لفظة الرحلة والارتحال بوصفها تشير إلى الانتقال في المكان فحسب، فإن فعل الارتحال بصفة عامة يتطلب الانتقال في الزمان والمكان معًا، أما نمط حكاية الرحلة بوصفه تأسيسًا لمجال أساسي من مجالات فضاء الحضور؛ فهو يقوم على محاولة تنظيم ترابطات الفعل في العالم، أو بمعنى آخر تنظيم حضور الفعل في العالم، ولذلك فسواء غلب طابع الانتقال في المكان أو في الزمان على رحلة مقابل أخرى، فهما في كلتا الحالتين يتأسسان على سلاسل من الأفعال المترابطة، وبالتالي فإذا ما قمنا ببعض التجريد الذي يتجاوز آلية تمييز نمط الرحلة طبقًا لانتقالها في المكان أو الزمان فسنجد أنفسنا أمام نمط واحد له أشكال متعددة لا يمكن فصلها بسهولة إلى ما يعود للمكان فقط أو الزمان فقط.

والآن كيف يمكننا مواصلة التأمل في إمكانية تطور حدث الوباء من خلال الاتكاء على نموذج الرحلة الأوديسية وثنائية العماء والتيه المصاحبة لها، وهل يوجد ما هو أكثر امتناعًا على التفكير (حتى في شقه الافتراضي) أكثر من هذه الحالات؟

عموما إذا كانت الأوديسة تنتظرنا في نهاية ما نخوضه الآن فهذا يمثل أيضًا خط نهاية مناسب لهذه التأملات، فلا يبقى أمامنا سوى التوقف مع بعض الملاحظات الهامشية التي تعين الطبيعة العامة لهذه الرحلة.

الأوديسة عادة رحلة مباغتة لم يطلبها أحد ولم يتوقعها أحد، فهي لا تنشأ إلا عن حدث طارئ وغير متوقع يفضي إلى انزلاقلا يمكن مقاومتهنحو وضعيات مفاجئة، ولذلك فهي رحلةفريدةومفردة وغير قابلة للتكرار، أي أنها بلا مرجعية يمكن أخذها في الحسبان (علمًا بأن خاصية التفرد غير المتكرر هو ما يميزها عن نمط رحلة السندباد مثلاً) ومع أن الأوديسة تتمتع بنقطة نهاية مطلوبة ومحددة مسبقًا، فإن أن مسارها مجهول على نحو شبه كامل، وهذا الجهل المطبق بالمسار الممكن أو الواجب يجعل أفق الأوديسة بمثابة عماء قد تتباين كثافته أو يتغاير مدى انتشاره من حين إلى آخر ولكنه يظل مهيمنًا طوال الوقت.

أما كونها رحلة انتقالية في فضاء العالم فهو يجعلها ملزمة بالتحرك نحو فعل تالٍ أو نقطة تالية، مما يعني أنها مجبرة على الخوض دائمًا في العماء، وهو ما يضفي عليها صفةالتيهالعصي على التفكير والتوقع، فداخل أي عماء يوجد نظريًّا عدد لا نهائي من المسارات التي لا يمكن حساب النقاط التي يفترض أن تمر بها مثلما لا يمكن توقع المناطق التي ستفضي إليها في النهاية، ولذلك فمجرد الخوض في أي عماء أيا كانت مساحة امتداده يحوله إلى تيه غير محدود.

وكل مسار داخل هذا التيه يمكن أن يفضي على نقاط أو محطات توقف مختلفة ومتباينة قد يمنينا بعضها بخسارة لا يمكن تخيلها أو تعويضها، مثلما قد يمنحنا بعضها الآخر فترة منشودة من الهدوء والراحة، وفي النهاية فإذا كان مقدرًا لنا الوصول إلى النقطة التي قد نعتبرها إيثاكا، فربما لن نجدها أبدًا كما تمنيناها، بل لا حتى كما تركناها.

دعونا نؤكد في النهاية أن الاوديسة هي رحلة من النوع الذي لا يتمناه أحد لنفسه، ولذلك فإذا كان مقدرًا لنا أن يقودنا وباء الكورونا إليها فمن المحتم أن نواجه ما لا نتمنى مواجهته!