الكورونا والمعرفة: كيف تهبط الطائرة – الجزء الثاني

بوست لبروفيسور مرموق

“هل تتساءل لماذا يوجد هذا الكم من الهراء – حتى في الدراسات العلمية – وخصوصًا الآن؟

في بلاد كثيرة دعي كل العلماء للعمل على أبحاث عن فيروس سارس-كوڤ- 2 ومرض كوڤيد 19 حتى إذا كان هذا ليس تخصصهم الأساسي أو حتى تخصصهم الفرعي الأول. الأسوأ من هذا أن أغلب الدوريات العلمية فتحت مسارات سريعة للنشر فيما يخص الموضوع نفسه. الأسوأ والأسوأ؛ في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال، إذا كنت باحثًا لا تعمل على بحث يخص أمر عاجل يجب أن تغلق معملك وتبقى بالمنزل أو أن تبحث في كوڤيد 19!

تدريبنا مستمر دائمًا لفصل الغث من السمين في البحث العلمي. الآن نبدو كمن يبحث عن إبرة في كومة من قش الهراء العلمي يكتبه هواة ونصابون وباحثون عن الشهرة.

الأمر لا أخلاقي في الأغلب ولكنهم يفعلونه، إما عمدًا أو لأنهم بلا إمكانات حقيقية”.

هذا بوست كتبه بالإنجليزية الدكتوررامي كرم أستاذ ورئيس قسم الميكروبيولوجيا والمناعة ؛كلية الصيدلة جامعة القاهرة؛على صفحته بالفيسبوك ،وقد استأذناه قب ترجمته ونشره 

1

يبدو ما كتبه عالم الميكروبيولوجيا على فيسبوك الوجه الآخر للمأزق الذي كتبت عنه في الجزء الأول من هذا المقال، في وسط تعامل غير مسؤول، وربما مجرم وجاهل -أو جميعهم – من الساسة وصناع القرار أحيانًا مع ما هو علمي، التعامل الذي قد يقود إلى كوارث وندفع ثمنه من حياة آلاف البشر، هناك أيضًا آليات في منظومة البحث العلمي وتماسها مع السياسة وأولويات الحكومات والأنظمة السياسية وجهات الدعم المالي والشركات الكبرى قد تنتج أخطاء أو تدفع البحث العلمي في مسارات بعينها. 

(يمكنك عزيزي القارئ أن تبحث عن أسباب استقالة البروفيسور ماورو فيراري؛ رئيس مجلس البحوث العلمية الأوروبي منذ أيام، فهي تصلح مثالًا للمساحات المختلطة بين العلم والسياسة والاقتصاد)..

2

المأزق يمكنك أن ترى ملامحه الأوسع بسهولة على السوشيال ميديا، ستجد مواطنين يتحدثون فيما هو علمي بأريحية شديدة، ويؤكدون فرضيات بعينها لم تثبت صحتها أو ينفون ما نعرفه بأفضل أدلة علمية حتى الآن. أو تجد شخصًا شهيرًا – قد يكون طبيبة شهيرة على إنترنت أو أستاذ في كلية الطب على فيسبوك أو شيخًا من شيوخ الأزهر في قناة تليفزيونية، أو خبيرة تغذية في حوار مع صحيفة قومية، آو رجل من رجال الدين المسيحي في بث مباشر على يوتيوب – يروج لخرافات ومؤامرات من أول استعمال الماء والملح لعلاج الكوفيد 19، أو اعتباره غضبًا إلهيًّا، أو أن اللبن يزيد من خطورة الفيروس ويسهل العدوى، وحتى إنكار وجود الفيروس من الأساس وتحميل تكنولوجيا الـ 5G الوزر. 

(يمكنك عزيزي القارئ إن كنت من هواة المؤامرات أن تبحث على محركات البحث عن اسم ديڤيد أيك David Icke، وهو لاعب كرة قدم سابق ومذيع برامج رياضية، وأيضًا أحد المنظرين لـ”مؤامرة” الـ 5G، ستجد مؤامرات أخرى تحدث عنها سابقًا منها وجود كائنات خفية تشبه الزواحف تتحكم في مصير الكرة الأرضية، ووجود “أخوية” من برامج الكمبيوتر تتحكم في البشر).. 

الأسوأ أن بعض هؤلاء وهؤلاء يتحركون في مسار يبدأ بأنهم “لا يعرفون” إلى “يصدقون هراء ويروجونه” إلى “مكتفين بالهراء ويرفضون أي شيء آخر” منتهين بأن يكونوا “فخورين بجهلهم ويهاجمون العلم بعنف”. إن عدم المعرفة قد يكون طبيعيًا، لكن “احتقار العلم” هو المأزق الحقيقي. 

الشك فيما يصل إليه الخبراء/العلماء في أي مجال مفيد وصحي بكل تأكيد، هو جزء من العلم في الحقيقة؛ أن يبقى لدينا شك فيما نصل إليه، ساعتها نستطيع أن نصل أبعد وأعمق، المشكلة هي كراهية واحتقار البعض للعلم وتصديقهم أن العلماء جميعهم مخطئون أو أشرار ولديهم أغراض مريبة فقط لأنهم علماء. 

3

هل تعني الفقرة السابقة عدم البحث في الأخطار المحتملة لتكنولوجيا الـ 5G مثلاً ؟ قطعاً لا ، معنى هذا عدم استعمال الوباء الحالي لدعم وجهة نظر في موضوع مختلف تماماً ليس له علاقة بالوباء أو الفيروس – ويتساوى في هذا دعوة دينية للـ”توبة” خوفاً من “غضب إلهي” يتصوره صاحب الدعوة أو هجوم على تكنولوجيا لأي سبب.

4

يمكن لأي فرد مثلًا أن يقرر أن يقتصر نظامه الغذائي على تناول أطعمة خالية من “الجلوتين” فقط، حتى وإن كان لا يعرف ما هو “الجلوتين” هذا، في أجواء أكثر استرخاء من الآن يبدو الجدل حول الجلوتين أو فيتامين “د” مسلٍ، و بعواقب محدودة حتى إن كان من يناقشون الأمر أصحاب معرفة محدودة، أما في وسط تهديد حقيقي لحياة آلاف البشر يبدو قيام البعض بنشر “هذيان علمي” أو استنتاجات خاطئة من أفكار أو دراسات علمية – ليس لديهم أي معرفة أو أدوات لفرزها أو تكوين استنتاجات منها – خطير ومؤذي، ربما يكون التأثير تعريض حياة آخرين للخطر، أو ربما فقط الضغط على أعصاب وتخويف عائلاتهم ومحبيهم ممن يتابعون ما يكتبون، أو حتى تحميلهم هم  تكلفة مادية ونفسية لاتخاذ خطوات حماية غير ضرورية على سبيل المثال، حتى هذا مؤذي بشدة في لحظة مثل الآن. 

الأمر ليس مسليًا على الإطلاق إن كانت حياة بشر على المحك، قد يكون چيم كاري مضحكًا في أفلامه، لكن حين يتحول إلى عضو مؤثر في حملات بلا أساس علمي تروج لأخطار غير مثبتة للتطعيمات الإجبارية وتؤثر على قرارات آباء وأمهات وتعرض أطفالهم للخطر فهذا شيء آخر. 

5

ليس مطلوبًا من كل مواطن أن يكون عالمًا، فالعالم في القرن الحادي والعشرين وفَّر علينا تكلفة أن نعرف في الطب والهندسة وعلم النفس والفيزياء والذكاء الاصطناعي، يكفي أحيانًا أن تعرف حدود معرفتك، والأدوات التي تستطيع بها معرفة تلك الحدود وأين تبحث لتجد المعرفة الكافية لحمايتك كما في حالتنا الحالية. ومرة أخرى هذه ليست دعوة لعدم البحث عن المعرفة وتوسيع مساحاتها، بل هي دعوة لاستعمال أساسيات “التفكير العلمي” من الجميع للحصول على المعرفة وليس العكس.

العلماء قد يخطئون، أو حتى يكذبون، ربما عمدًا، أو بسبب غرور أحدهم أو محدودية قدراته أو ربما فقط لأنهم بشر والخطأ دائمًا احتمال قائم، ما نعرفه أن الكم الهائل من البحث العلمي والمعرفة التي تنتجها البشرية يوميًا من جهات متنوعة تنوعًا هائل تعطي دائمًا فرصة للنقد الذاتي وتصويب الأخطاء، الأخطاء العلمية وأي كان سببها عمرها قصير في الأغلب، يصوبها العلم نفسه وديناميات إنتاجه. يمكنك أن تشك عزيزي القارئ في كل ما يصل إليه العلم؛ فهذا صحي، ولكن أظن أيضًا أنه يمكنك أن تصدق أن هذا هو أفضل ما لدينا الآن، يمكنك أن تحن للـ “زمن الجميل” في أي سياق يعجبك، ولكن دعني أؤكد لك أنه فيما يخص العلم، لم يكن لدي البشرية “زمن أجمل” من اليوم ومن المؤكد أننا غدًا – حرفيًّا- سنعرف أكثر، ومن ثم فغدًا “أجمل” علميًا. مطلوب منك أيضًا أن تكون أكثر تسامحًا مع فكرة أن الإنسانية وعلمائها ما يزالون لا يعرفون ما يكفي وخصوصًا مع فيروس جديد ومرض جديد، مطلوب أن تكون أكثر قبولًا لوجود غموض ما حول الأمر فمرة أخرى – وللأسف – هذا أفضل ما لدينا حتى الآن ولكن بالقطع سنعرف أكثر غدًا. 

أظن كذلك أن من واجبنا كمواطنين العمل والضغط على الساسة والاقتصاديين لنضمن بحثًا علميًا أكثر استقلالية. 

أخيرًا عزيزي القارئ، لا أعرف إن كان في إمكانك أن تهبط بطائرة هبوطًا ناجحًا إذا بحثت فقط عن “كيف تهبط الطائرة” على جوجل، الفنان شكوكو/ لبلب في فيلم “عنتر ولبلب” الذي عُرض في بدايات عام 1952 استطاع أن يهبط بالطائرة بعد أن بحث عن “كيف تهبط الطائرة” في كتاب، الآن أشك كثيرًا أن أحدا يستطيع تكرارها.