اللذة والحموضة: جوائز للأبطال

عادةً يظهر هؤلاء بعد ثورات الخروج من الفقاعة… وفي فترات ما بين الثورات يقبع هؤلاء الميلودراميون عاشقو الأسى الطويل في فقاعات شخصية يتغذون فيها على خزين الشعوب المستسلمة من أفكار وقيم ومشاعر لا تمكنهم من المكوث طويلًا في مجال عام، وعندما تنفجر الفقاعة ويخرجون تحت الضغط أو للبحث عن حيز جديد، فإنهم عادة ما يتحولون مع أول “ضربة مرتدة” إلى لا وعي كامل مبني على الميلودراما… وتتحول أيام الثورة إلى حائط مبكى واحتفالات دموع تجعلهم ينتظرون النيزك أو يتخيلون أن ما حدث في مصر بعد ٢٥ يناير هو “عقاب إلهي” يختص به الشباب الطاهر الثوري الذي خرج من أجل اليوتوبيا فوجد نفسه في قطعان مساقة إلى الجحيم.

هؤلاء تبوش روايتهم عن الثورة مع الأيام، ولا تبقى سوى رحلات يعيد أبطالها اكتشاف ذواتهم في تلك اللحظات التاريخية المبهمة التي يخرج فيها سكان الفقاعات خروجًا جماعيًّا ويعطلون العالم… من أجل بداية عالم جديد… هؤلاء في رواياتهم لذة، على الرغم من ألمها وسخريتها وتفكيكها للأصنام الذاتية والعمومية، فالخروج من الفقاعات ليس نزهة مستوحاة من هراء التنمية البشرية… أو طريق مستقيم رسمه زعيم يقودك إلى الجنة الأرضية التي صممها المخلصون على نمط خيالاتهم عن فردوس السماء المفقود.

هذا موضوع طويل جدًا، وهو هاجسنا المُلح في مدينة؛ الذي بدأ مع مرور ١٠٠ عام على ثورة ١٩١٩. رحلة طويلة من أجل العثور على مداخل جديدة نتتبع منها ماذا يحدث عندما يثور الناس هنا؟ ومداخلنا المبدئية هي المرح والميلودراما… ولهذا اخترنا هذه المقاطع من أولى روايات أحمد عوني: جوائز للأبطال.

وهي رواية تفكك مفهوم البطولة التي ينتظرها الناس تعبيرًا عن عجز أو يأس، ثم تصبح مصدر أساسيًّا لعذاباتهم.

لا ينطلق الراوي من مفهوم فلسفي يرفض البطولة، لكنه يراها عن قرب، مرتديًا قناع كنتاكي رمز الاستهلاك؛ صانع اللذة ومصدر الحموضة معًا… يطارده قناع فانديتا الذي يرث منه كل شيء: الاستهلاك واللذة والحموضة.

اكتشفت مع هذه الرواية كاتبًا جديدًا.. لاعبًا من هؤلاء الذين أحب مواقعهم في الحياة؛ يقفون صامتين بينما ينشغل الآخرون باستعراضاتهم… لديهم جسم لا مرئي يلتقط ما يصنع به ماكيتات للسرد، تصبح بعد قليل وحدات نشطة في عالم يتمطى، ويتفكك أمامنا، أو يسقط على رؤوسنا لنصبح شهود الانهيار، أو الحالمين بخراب يسحب معه كل البؤس الذي تغطه أقنعة تمنحنا مشاعر تشبه تلك التي لراقصين في احتفال لقبيلة بدائية لا تدرك أن هذه سعادة من علامات الانقراض.
بطل الرواية الذي ارتدى قناعي كنتاكي وفانديتا… وبدأ روايته من لحظة المفارقة التي جمعت بين بطولته وموته، وأكملت ماكينة السرد البناء الذي يفسر الارتباط بين اللذة والحموضة… كان هذا من بين كلام سأقوله في حفل توقيع أولى روايات أحمد عوني… لكن انتقام ضروس العقل بعد خلعها كان أذكى مما توقعت وهيأت نفسي له بالكاتفلام… جاءت الضربة في التركيز ومهارات الوجود الاجتماعي النشط.

…. وائل

رسوم :مخلوف

أول مرة رغبت في الهروب من بيتي، كانت حين أفقت على صوت باب البيت تغلقه هدير خلفها. رأيت قميصي ملقى على السفرة، ولم أعرف كيف سأنسى هذه الليلة، ولكن كنت أعرف أن عليَّ الخروج من البيت بعدما شممت رائحة الفول السوداني وقد عبأته بالكامل، كأنها عاشت فيه لسنين. ظلت الرائحة معي حتى وصلت إلى الجونة، ولم تختفِ إلا خلف رائحة مصطفى وأنا أحضنه للمرة الأولى منذ زمن. حضنت الزوز أيضًا كأني أفتقده، أو بالفعل في هذه اللحظة كنت أفتقده. على الرغم من وجودنا في عرض البحر كنت أشعر كأني دخلت بيتًا دافئًا في يناير، وكنت أنظر إلى الشمس والبحر والجبل وأقول هذا عالمي، لن أفكر في تركه. 

    مصطفى كان نائمًا طوال الرحلة، فكان لي في نكات الزوز المتتالية أنس. كنت أضحك معه من قلبي ونحن أمام سنارتينا، وأنا أصب لنا كأس ويسكي جديدة كل ساعة كأننا صديقان قديمان. هو نفسه نسي في مرة أن عمري تسعة وعشرون عامًا، وبدأ يحكي لي قصة عن اليوم الذي من المفترض أن نكون ذهبنا فيه إلى شادية بأغنية من تأليفي، وقبل أن يحكي عن ردة فعلها لاحظ فجأة أنه يكلمني أنا وليس مصطفى، فارتبك وتوقف عن الكلام. لم يكن هذا جديدًا عليَّ، أفرّق بيني وبين مصطفى في الصور فقط من تاريخها، لنا النحافة نفسها والأعين المختبئة خلف الحواجب الثقيلة، والشعر القصير شديد السواد، ولنا النظرة نفسها في كل الصور، شيء بين التجهم والشرود. لم أكن أعرف أني سأسأل الزوز هذا السؤال إلا حين سمعته يخرج مني، وبي خوف أن يوقظ مصطفى صوت الزوز العالي:

     . هو انتو رجعتو من كاليفورنيا ليه؟

   كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها الزوز يهمس بشيء ما، وكانت لرؤية مصطفى نائمًا وأنا أتلصص على ماضيه رهبة لها لذة.

   

الغلاف:مخلوف
ميجو
دار النشر :المحروسة

يقول الزوز إن مصطفى اكتشف نفسه، أو وسامته تحديدًا، في كاليفورنيا. كانوا بعثة من أربعة طلاب أرسلتها هندسة القاهرة في أواخر السبعينات، وكانوا في ذلك الوقت ينكرون الأسطورة المتداولة في مصر عن هوس الخواجات بالشاب الفرعوني الأسمر النحيف، مستغربين فكرة أن تمنحهم بشرتهم الطافحة بسوء التغذية أي إعجاب، ولكنهم فوجئوا بعد أسبوع واحد أن مصطفى، شاعرهم الرومانسي المحبط وأصعبهم حالاً وأكثرهم ترددًا في السفر وأقلهم كلامًا، قد خرج من شرنقته وانطلق في هذه البلاد الواسعة، وظلوا يراقبونه في دهشة وهو محاط بكل هؤلاء النساء اللاتي يدخلهن بسهولة بعد ابتسامة في مدخل الجامعة، أو حوار قصير بلغته الإنجليزية الضعيفة بعد إحدى المحاضرات، أو في بار قريب، أو في حفل يحكي لهم عنه حين يعود لسريره بينهم ليلة كل أسبوع، ليلة أطلقوا عليها استراحة المحارب. يؤكد الزوز أن في هذه الأيام تغير مظهره، لم يكن معه ما يكفي ليشتري ملابس جديدة، ولكن:

     . أول مرة نعرف ان السكس بيطلَّع عضلات.

    يحكي عن المرة التي عاد فيها مصطفى إليهم وقد بدا عليه الإنهاك، فأدركوا أنهم حسدوه أكثر مما ينبغي، واستجابوا لرغبته الحازمة في أن يخلد فورًا إلى النوم. كان الزوز يعاني من أرق ورغبة في العودة من السفر، فصحا في وسط الليلة ليجد نور الغرفة مضاءً ومصطفى يجلس على السرير بين كومة من الأوراق، منهمكًا في الكتابة، وهنا عرف أنه سيبقى ضيفهم لأيام مقبلة.

    . طلعت بشرتنا دي مش سوء تغذية، طلعت محن.

يصف الزوز وجه مصطفى في هذه الليلة بأنه انطفأ، ولم تعد لديه حكايات للتسلية. هي حكاية واحدة، حكاية أنجيلا، التي يقول الزوز عنها:

    . أمك، نزّلته خمسة كيلو في أسبوع.

   أكد الزوز أنه أول من نبهه إليها، بعد رؤيته لها سارحة في صديقه في أثناء المحاضرة، وربما لم يلتفت إليها مصطفى إلا بعد شهر أو أكثر منشغلاً بما كان في يده، حتى أتت في يوم إليه غير عابئة بأصدقائه من حوله ودعته أمامهم إلى العشاء، وفي الليلة نفسها كان قد طلب يدها للزواج بعد أن وجد نفسه أمام فتاة كاثوليكية جميلة ومتفوقة، اكتشف صلاحيتها لأن يدعوها إلى بيت أمه في كفر الزيات، لا تشرب الخمر ولا تسلم إلا باليد، فرضت عليها المعيشة مع أهلها أن ترفض إكمال السهرة بالذهاب إلى السينما، تُعجب بقلقه عليها وتتحاشى السلام على رجال آخرين في وجوده، حتى إنها حين أعدت له العشاء في بيت العائلة اكتشف أنهم كلهم يحبون البط. بعد تمام سنة، كانت البعثة تعود إلى القاهرة ومصطفى يتزوج مقررًا البقاء في أمريكا، والعمل في ورشة للسيارات انتظارًا للحصول على الجنسية. خطة دامت ستة أشهر وانتهت بعد استقبالهما لنبأ حمل أنجيلا وترجيح الدكاترة أن المولودة أنثى.

   . أبوك كان بيقول لي هو انا هاستنى لما افتح الباب لعيل بشخة داخل للبت؟ ولو نطقت تجيب لي البوليس؟

    وافقت أنجيلا على طلبه أن تعيش في مصر.

   . بس طلعت حامل فيك انت يا بيه. روح بقى اضربه، كان زمانك خاربها هناك بدل ما انت قاعد كده وسطنا.

   فهمت أن ولادتي لم تجلب الحظ السعيد. ففي الوقت الذي فشل فيه مصطفى في العودة إلى السلك الأكاديمي بهندسة القاهرة، ورفض محاولات أصدقائه في إدماجه في أي مهنة في التجارة كما كان متاحًا في ذلك الوقت، كانت أنجيلا تتعلم العربية وتضرب صحوبية مع أمه التي كانت تتباهى بها أمام كل فرد في كفر الزيات،الخواجاية أم شعر أصفر، التي جلبها مصطفى من بلاد الغرب كي تربيني. ومع إصراره الشديد على عدم استخدام دولار واحد من الأموال التي منحتها عائلة أنجيلا لبداية حياتها في مصر، لجأت أنجيلا إلى الأم فصنعتا له مكيدة محترمة، أخبرته أنجيلا أنها ستستخدم الأموال لمشروع تخطط له، مصنع صغير لإنتاج العبوات، وأخبرته أمه أنها غاضبة جدًّا من هذا القرار،هو خلاص مافيش دم عندها؟ هتقعد ترضّع انت وللا إيه يعني؟، فقبل أن يشارك زوجته في إدارة المشروع، وتقاعدت أنجيلا بعدها بشهرين لتتفرغ لمشروع اكتشاف مواهبي، الذي أزعجني التفكير فيه والزوز يختم حكايته عن مصطفى:

   . ما شفتش انت ستك؟ الله يرحمها، كانت لو نوت على حاجة، والله لو محمد علي كلاي، هتجيبه بالقاضية.

   لم يفق مصطفى والزوز يحكي، وفي عصر اليوم التالي كان الزوز نائمًا حين قرر مصطفى فجأة أن نعود إلى القاهرة. في الطريق قال إنه سعيد بصيدنا الثمين الذي حفظناه مع الثلج في شنطة السيارة، واقترح أن نمر على البيت لنضعه في الفريزر ثم نذهب بعدها إلى مباراة الأهلي وغزل المحلة في الإستاد. كانت لدي أسئلة، ولكني لم أشأ أن أخدش مزاجه الرائق وغناءه المعتاد، فانشغلت بالقيادة وبإخراج بعض الجنيهات المعدنية من جيبي كي أدفعها لكارتة الطريق.

   ربما قضيت في هذا ثانيتين أو ثلاثًا، رفعت رأسي بعدها على صوت ارتطام السيارة بشيء حاد لم ألحق أن أراه، قلت لعله طائر أو حجر نُسي بعد إصلاحات الطريق، وأكملت طريقي محتفظًا بالجنيهات المعدنية في يدي، ولكن مصطفى لم يكمل الغناء وظل ينظر إليَّ بعين متفحصة حتى نفد صبره وانفجر فيّ:
.
ارجع نتطمن ع الراجل يا عرص!

   حين عدنا، كان الرجل العجوز مستسلمًا لنا تمامًا ونحن نحمله إلى داخل السيارة، وكان بالفعل في خفة طائر. وأنا أثبت وضعه على الكنبة كان مصطفى يفصل أكياس الثلج عن صيدنا ليضعها على أماكن كدماته، أتذكره، كان به بعض الكسور أيضًا. طمأنه مصطفى وأمرني أن نذهب إلى أقرب مستشفى، وحين تحركت بالسيارة نطق الرجل أخيرًا:

  . ربنا يوقف لكو في كل خطوة ولاد الحلال ويديكو على قد نيتكو. ابن الكلب خبطني وجري. تخيلوا؟!

  نظرت إلى مصطفى فوجدته يجاهد لكتم ضحكته، إلا أن عينيه كانتا تبرقان رغم ظلام الطريق، قال للرجل:

   . الناس لبعضيها يا حاج.

  وطمأنه أكثر بتأكيده ألا يقلق من أمر تكاليف المستشفى، وانتظرني حتى ناولت عامل الكارتة الجنيهات وانخرط في نومه راسمًا على وجهه ابتسامة رائقة، ليتركني أستمع إلى الرجل الذي كان كلما زادت ألفاظه حنوًّا في دعائه لنا، زادت قسوته في الدعاء علينا.

   أمام المستشفى كان المُسعفون يثبتون الرجل على النقّالة بينما أوقظ مصطفى.

  . اصحى يا مصطفى، وللا عايز نقّالة انت كمان؟

  ولكنه لا يرد. أفكر في تركه لنومه ثم أتذكر أنني بحاجة إلى محفظته كي ندفع للمستشفى، فأهزه قليلاً بيدي، ثم أهزه أكثر، ثم ينقطع الصوت، بين ملاحظة المُسعف وجريهم إليه، وفتح الدكتور لباب السيارة وحمل مصطفى على النقالة، وانتظاري أمام غرف الطوارئ، حتى يعود من جديد على صوت الطبيب، البقاء لله!

لم أفهم ولم أُصدم، تركت الدكتور وصعدت السلالم التي كانت تقول اللافتة إنها تصل بي إلى قسم العظام، وهناك وجدت العجوز وهم يضعون قدمه في الجبس، وفور أن لمحني عاد إلى وصلة الدعاء، كان وقع صوته عليَّ منفرًا، ووجدتني راغبًا لسبب ما في أن يموت الآن أمام عيني، إلا أنني لم أكن لأنتظره، فكنت قررت العودة إلى قسم الطوارئ كي أضع حدًّا لهذه المهزلة، وقلت لجسد مصطفى الممدد على السرير، غاضبًا من تماديه في اللعب، ومن ابتسامته المستفزة:

   . فيه إيه يا عم انت؟ ما تبطل الخرا ده؟

  لم يكن أمامي إلا أن أكلمه حتى أثنيه عن المواصلة في هذه اللعبة المرعبة، حتى تنفرج ضحكته المكتومة فُتحرك جسده رغمًا عنه.

   . يا مصطفى، أبو تريكة جاب جون فشيخ لازم تشوفه!

   . يا مصطفى، لو ما قمتش دلوقتي هوري العيال في المصنع صورك وانت بتطرطر في الصحرا! طب لو ما قمتش دلوقتي والله لا اقوم احضنك غصب عنك!

  ولكن إصراره على تجاهلي جعلني أحضنه في محاولة أخيرة لاستفزازه. لم أترك فيه شبرًا واحدًا حُرًّا خارج كتفيّ، إلا يده، وقعت من يدي، فخرج مني صوتي كأني أسمعه للمرة الأولى:

   . فيه إيه يا بابا؟ ما كفاية!
ثم تركته ليفكر مع نفسه وبحثت عن الحمام، ذرفت بعض الدموع فيه، دموع غريبة كنت أجهل مصدرها، حتى إنني ذقتها لأتأكد من ملوحتها. خارج الحمام سمعت أصواتًا عالية دلتني إلى مكان الاستراحة. الأهلي يُحرز هدفًا في غزل المحلة، أي لعبة تستحق أن يفوتك هدف مثل هذا يا مصطفى؟ جلست لمشاهدة المباراة حتى آخرها، وحين انتهت مواعيد الزيارات، افترض أمن المستشفى أن العجوز قريب لنا فتركوه وحده معي في الاستراحة، فمنحني حضنه عندما لاحظ رجفتي من برودة التكييف، لم أطلب منه أن يتوقف عن الدعاء، بعد قليل نام، فأغلقت عيني لدقائق ثم انفتحت مني فجأة وبي شك في أن العجوز هو الزوز الذي تركناه وحده في الجونة قبل ساعات، ولكن العجوز كان أنحف من أن يمتد الشك لأكثر من ثوانٍ، وشعرت أن من المنطقي الاتصال بالزوز وإخباره بما حدث، ولكني خشيت أن أكون بهذا أؤكد إشاعة موت مصطفى بنفسي، فنمت“.

*الفصل رقم 17

!

“من بعيد، وقفت أشاهد الناس وهم يتجمعون عند مشرحة مستشفى قصر العيني انتظارًا لجنازتي، وبي سؤال وحيد، كيف أُخذت أحلامي بهذه الجدية؟ أعرف هذه الجنازات المهيبة، مشيت فيها أكثر من مرة، وبكيت فيها كما كان يُفترض أن أبكي، ولم أهتف فيها قط.

    . يا نْجِيب حقهم.. يا نموت زيهم!

    كأني كنت أعرف كم كان غبيًّا أن نمنحهم بأنفسنا اختيارين، تمامًا كما أعرف الآن أني لا بد أن أقول إن هذا كابوس، لأن بعض الأحلام لا يصح أن يُعترف به، ولا بد أيضًا أن أقول إني يجب أن أبتعد عن المشرحة كي أفكر، وليس لأني لا أود أن أُكشف قبل أن أرى بنفسي جنازتي، كبيرة ومدوية. خجلت من أفكاري ولكنني لم أبتعد، لأني رأيت كتلة البشر الواقفين بعشوائية تترتب فجأة. اقتربت فوجدتهم يتجمعون أمام باب المشرحة، ثم رأيت هدير تخرج منه، وتقول لهم شيئًا ما جعلهم يتناوبون عليها بالأحضان، فرأيتها تبكي. ثم سريعًا تفرق الجمع إلى مجموعات صغيرة تنصرف، وعلى وجوههم رأيت ما لم أفهم إن كان إحباطًا أم غضبًا.

    بقيت في مكاني حتى تحركت هدير. كان معها طنط دعاء، ورجل آخر لا أعرفه. مشيت وراءهم، وكانت مشيتهم بطيئة بعد ابتعادهم عن صخب شارع قصر العيني، ودخولهم في شوارع جاردن سيتي، التي ساعدتني كمية الأشجار وأكشاك أمن السفارات بها على أن أبقي نفسي بعيدًا عن أنظارهم. توقفوا أمام عمارة طنط دعاء التي تركتهما ودخلت عمارتها، فوجدتهما يدخلان سيارة افترضت أنها ملك للرجل، ووجدته يحضن هدير، حضنًا طويلاً تجمدت أنا فيه، ولم أنفك حتى بعد رحيل السيارة، كأني أحافظ على ثباتي وسط دوامة. نجحت بعد قليل في رفع رأسي فرأيت طنط دعاء في البلكونة، بين ورودها، تدخن في أسى، ولم أهتم إن كانت لمحتني، لأني كنت تلقائيًّا قد جريت على سلالم عمارتها، وعلّقت يدي على الجرس، ثم انفك جسدي تمامًا وأنا في حضنها.

     في بيتها رأيت أنقاض احتفال فاتني، كؤوسًا متناثرة في كل مكان وعلب سجائر فارغة وعلب بيتزا، وكنبة وحيدة في الصالة أعتقد أنها كانت استراحة للراقصين، استسلمت لطنط دعاء وهي تسحبني من يدي وتُجلسني عليها. كانت تتصرف بغرابة، لم تكن تناولني كوب المياه في يدي بل في فمي ولا تنطق بشيء. تمسح على شعري وتمر بيدها على يدي كأنها تتأكد من وجودهما. ثم تضغط صدري برفق كأنها تخشى أن ينكسر، تجده ما زال صلبًا، فتضع رأسها عليه لينكشف أخيرًا البيت من ورائها، وأرى شبيهي ذلك من جديد مُعلقًا على الحائط، هذه المرة بالألوان داخل برواز ذهبي. أرتجف، فأتأكد من أنني رغم كل شيء ما زلت حيًّا. تسحب هي نفسها من عليَّ فيختفي شبيهي وراء وجهها المذعور.

       . عملوا فيك إيه يا حبيبي ولاد الكلب دول؟

       . ماحدش عمل فيا حاجة.

رغمًا عن نيتي أتراجع. خاطر يهمس لي ألا أعترف لها بأي شيء، على الأقل قبل أن أحسم رأيي، أهذا حلم أم كابوس ما أعيشه اليوم؟

    . مش مهم.. ما تتكلمش دلوقتي!

    تقول وهي تضع يدها على فمي. تهاجمني رغبة غريبة في النوم، ولكن طاقة ابنة عشرين عامًا تدب فيها. أتفرج. تقفز من الكنبة وتلهث في المكان وراء أفكارها. تقترح حفلاً في بيتها الليلة:

    . نستحقها يا رامي. إنت عارف ان العيال في المشرحة فاكرينك مُت؟ اتجننا والله!

    تشعل سيجارة. أتأكد من أنها علامة على حيرتها. أفكر في كيف بقيت لشهر كامل في الجونة دون تدخين، وكيف أدخن عادةً حين أود أن أبدو أمام نفسي محتارًا. أنهر نفسي على سؤال مثل هذا وأنتبه لطنط دعاء، والفكرة تلمع في عينيها.

    . مفاجأة؟ هاقول لهم فيه اجتماع في بيتي دلوقتي عشان أي هبل، يخبّطوا تفتح لهم انت!

    تتراجع. لن يتسع البيت لكل من في انتظار الجنازة. ولكن، خير البر عاجله، تقول وهي تبحث عن هاتفها لتأخذ لنا صورة تتخيل أن الكل سيراها على الفيس بوك بعد ثوانٍ ويهرولون إلى الحفل. أم أني غير قادر على الاحتفال؟ تسألني وهي تخبرني عن نيتها تنظيم مؤتمر صحفي في الغد، كي أحكي فيه ما حدث. أسئلة لم يسعفها الوقت لتُجاب. هاتفها يرن. تجري بعينيها في كل مكان بحثًا عن هاتفها، وأجري وراءها.

    . هدير مساء الفل.

    أنتزع الهاتف من يدها وأغلق المكالمة. أنفجر فيها كأن لساني يقذفني في كل اتجاه.

   . أنا كنت مسافر.. ومش فاهم حاجة!

   أعود إلى نفسي مع السكينة التي حلت عليها. سكينة مرعبة. تشعل سيجارة جديدة بوجه خالٍ من أي شيء. تملأ لنا كأسين من الويسكي. أشرب مُجبرًا من كأسي، وقبل أن تشرب هي تنفجر في الضحك، وتقذف بالكلمات دون اتجاه محدد.

    . اللي يمشي ورا العيال.. بس هنعمل ايه.. يا بن الكلب!

    مع هذيانها، أنسى كلماتي التي أعددتها وأنا أجري على سلالم عمارتها.

   . أنا ممكن اعمل أي حاجة عشان اصلح ده.

   . لا على إيه؟ دي غلطتنا احنا واحنا نصلحها.

   . طب إيه العمل؟

  دون مقاومة، يعود هاتفها إلى يدها. ثم لا يصبح ممكنًا سوى أن أتجمد في مكاني. أسمعها وهي تكلم هدير، أفهم من الكلام أن هدير تستأذنها في إجازة، وأفهم من ردها أني في مأزق:

   . سافري يا حبيبتي واتبسطي. الدنيا مش هتطير، ولو فيه حاجة هنكلمك.

   أراقب طنط دعاء وهي تتحرك في البيت كأنها علمت بنبأ زلزال آتٍ بعد ثوانٍ، تدخل إلى غرفتها وتخرج بحقيبة، تضع فيها لاب توب، وأسلاك التليفون والتليفزيون، ثم تفتش جيوبي، قبل أن تمسك بي من رأسي فأستسلم لعقابي.

    . إنت ميت.. لحد ما انا اقول لك!

تصفق باب الشقة بقوة وهي تخرج، فتهتز لوحة شبيهي. مع صوت تكة إغلاق الكالون يثبت في مكانه”.

*الفصل رقم 20