أحلام مع العود، مجلة المصور

 أحلام: مطربة الصبر

1

ولدت أحلام (واسمها الحقيقي فاطمة النبويَّة محمود السيد الملاح) بمدينة «مدينة غمر» إحدى أعمال محافظة الدقهلية على الأغلب في العشرينيات من القرن المنصرم. كان والدها محمود السيد الملاح منتميًّا إلى أسرة متوسطة الحال من صغار ملاك الأراضي الزراعية بالمحافظة. وقد عُرف عن الوالد ميله إلى الطرب ودعوته إلى إقامة حفلات أسبوعية في منزله يحضرها الأصدقاء وعشاق الغناء. ولعل هذا الدور الذي لعبه الوالد قد أسهم ولو بشكل طفيف في تنمية مهارات الطفلة الموسيقية التي شرعت في تلقي أصول الموسيقى والغناء عن طريق تدريب أذنها على سماع فحول الطرب أمثال عبده الحامولي ومحمد عثمان ومحمد سالم الكبير وآخرين. وإلى جانب ذلك كانت دائمة الاستماع إلى محمد عبد الوهاب وأم كلثوم التي كانت تتخذها مثلًا أعلى في كل ما تتغنى به. ولعل ما أسهم أيضًا في تنمية مواهبها السمعية في تلك الفترة، الاستماع إلى القرآن الكريم مرتلًا بصوت الشيخ محمد رفعت. وقد أتاحت هذه الفترة لها أن تتدرب على مخارج الحروف والألفاظ فقد أدركت كيفية نطق الحروف المفخمة والمرققة بشكل سليم. ومع الوقت بدأ أهالي ميت غمر في تداول أخبار الطفلة الصغيرة التي تردد أغنيات أم كلثوم بصوت جميل رقيق يدخل القلوب بسرعة وسلاسة. ويبدو أن رغبة الوالد في استكمال تعليمها الأساسي مقابل رغبتها في الاتجاه صوّب الغناء جعلت من الضرب المبرح نصيبها ولم ينقذها من الضرب سوى تدخل الوالدة مرة تلو الأخرى حتى اتمت الطفلة دراستها الابتدائية. وشاءت الأقدار في إحدى المرات أن يستمتع إليها الطبيب رياض أبو سيف حكيمباشي المستشفى الأميري عندما كانت تغني لزوجته. وأصرّ الرجل أن يقنع والدها بأن تلتحق ابنته بمعهد الموسيقى الملكي في القاهرة وبعد محاولات مضنية نجح في إقناع والدها بالانتقال إلى إحدى الحارات القريبة من شارع «محمد علي» في قلب القاهرة. وهناك رافقهم الدكتور محمود الحفني صديق والدها الذي نجح في إقناعه بحجم الموهبة التي تمتلكها ابنته حتى التحقت بالمعهد (دون توقيع: أحلام سندريلا الجديدة، الإذاعة، 27/8/1955). وقد لعبت بدايات أحلام دورًا مؤثرًا في خطواتها الفنية فكان على رأسها:

الالتحاق بمعهد الموسيقى الملكي ودراسة أصول الموسيقى والغناء على أيدي مجموعة من الأساتذة أمثال مصطفى بك رضا وصَفْر بك علي ومحمود رحمي ومحمود الحفني.

الانضمام إلى معهد الاتحاد الموسيقي برئاسة إبراهيم شفيق بهدف إحياء بعض الحفلات الغنائية التي كان يقدمها طلاب المعهد.

التردد إلى نقابة الموسيقيين من أجل التدريب والمِران المتواصل على أصول الغناء والموسيقى.

الالتحاق بفرقة «الأنغام الذهبية» التي أسهها عبد الحميد توفيق زكي والذي قدمها للمرة الأولى في الإذاعة الحكومية المصرية.

2

على أن البدايات الأولى لها في الإذاعة الحكومية المصرية جاءت متواضعة نسبيًّا. فالمشاركة الأولى لمطربتنا أحلام كانت في عام 1940 عن طريق تعريب أغنية النجمة الأمريكية ديانا دربن بعنوان «أحب أن أصَّفر» وهي إحدى أغنيات فيلم «مولع بالموسيقى» عام 1938. وقد

أحلام

أحلام

ترجمها عبد الحميد توفيق زكي إلى اللغة العربية حتى تتوافق مع اللحن الذي وضعته فرقة الأنغام الذهبية (حمدية عبد الغني، غادة زهيري: تلميذة أسمهان ومطربة العطارين، الكواكب، 27/5/1997).

وتابعت أحلام خطواتها بعد ذلك في الإذاعة بسلسلة من الأعمال الناجحة أبرزها مونولوج «سمير القلب» من كلمات إسماعيل صبري (أبو أميمة) وألحان عبده قطر وطقطوقة «الدنيا في إيدي» من كلمات سعيد عبده وألحان رياض السنباطي. ولعل هذه الطقطوقة من أكثر الطقاطيق التي تغنت بها العديد من الأصوات النسائية على رأسهن جميعًا أسمهان وعصمت عبد العليم. وبدأت أحلام في تسجيل مجموعة مميزة من الأعمال الغنائية منها مونولوج «يا سحاب» من كلمات إسماعيل صبري وألحان عبده قطر و«وفاء النيل» من كلمات حلمي البشلاوي وألحان أحمد صدقي ومونولوج «ياللي غيابك طال» من كلمات أحمد رامي وألحان محمد القصبجي وغيرها من الأعمال الغنائية.

على الرغم من الحضور الآسر لصوت أحلام في الإذاعة الحكومية المصرية فإنها عانت من الجفاء لمدة ست سنوات كاملة اختفى خلالها صوتها من جداول برامج الإذاعة الرسمية. وحدث حينها أن انضمت إلى معهد الاتحاد الموسيقي. وفي إحدى المرات استمع إليها عازف الكمان أحمد الحفناوي عن طريق المصادفة بينما كانت تغني بعض أغنيات أم كلثوم «رق الحبيب» و«اذكريني» و«فاكر لما كنت جنبي». ورافقها الحفناوي إلى نقابة الموسيقيين لمقابلة محمد عبد الوهاب. وهناك طلب منها عبد الوهاب الغناء بمرافقة عازف الكمان أنور منسي الذي عزف أغنية «يا وابور قولي رايح على فين» وما كادت تنطلق في الغناء حتى أُعجب عبد الوهاب بطريقة أدائها وبدأ في العزف على عوده طقطوقة جديدة من كلمات حسين السيد بعنوان «القمح الليلة» على مقام عجم. وبعد انتهائه من العزف والغناء معها، عرض عليها التعاقد من أجل الغناء في فيلمه الجديد «لست ملاكًا» عام 1946 ليتم عمل دوبلاج على صورة الممثلة ليلى فوزي (جليل البنداري: أحلام تفتقد الأحلام مع الإذاعة وألحان الموجي، آخر ساعة، 1/11/1961).

3

شهد العام التالي، 1947، نقطة تحول فارقة في مسيرة أحلام الغنائية فبينما كانت تغني في معهد الاتحاد الموسيقي، كان الملحن محمود الشريف يلقن لحنًا جديدًا لفتاة من المنصورة. وعندما انصرفت الفتاة، طلب الشريف من أحلام أن تغنيها. ولشدة إعجابه بطريقتها في الغناء، طلب منها أن تسجلها في اليوم التالي في الإذاعة المصرية. وهناك استمع إليها علي خليل مدير الإذاعة وقدمها الإذاعي حافظ عبد الوهاب للجمهور. وهكذا ولدت أغنية «الصبر» من كلمات محمد إبراهيم إسماعيل (أبو سمرة) وألحان محمود الشريف لتكون أيقونة أحلام الموسيقية خلال رحلتها في دنيا الفن والطرب (دون توقيع: أحلام أسمهان سمراء، الأنباء، 18/9/1986). ولا عجب أن يقول عن صوتها محمود الشريف: «إن لأحلام صوتًا مميزًا يبتعد في نبراته عن جميع الأصوات المعروفة. وهو صوت متفرد، ليس له قرين أو شبيه. ويخطئ من يضعوه مع المطربة نجاة في اتجاه متقارب في التذوق السمعي. لأن لنجاة صوتًا مستعارًا لا يقلل من تفوق أدائها، ولكن لأحلام صوت طبيعي. وهي واحدة من أعظم من لحنت لهن من مطربات. ينطلق أداؤها من الوجدان وليس من الحنجرة فقط» (محمد سعيد: قراءة في صوت المطربة أحلام صوت ليس له قرين، فن، فبراير (شباط) 1990). كما قدمت أحلام مجموعة كبيرة من الأغنيات الدينية في الإذاعة المصرية بألحان إبراهيم حجاج وأحمد صدقي كما شاركت في البرامج الإذاعية والأغنيات الوطنية مثل البرنامج الغنائي «العرب للعرب» إلى جانب أصوات محمد عبد المطلب وعائشة حسن ومحمد تكروني وحورية حسن ومحمد رشدي وبرلتني حسن فكان كل منهم يمثل صوت دولة عربية بعينها. واختيرت أحلام صوتًا لمصر لما تمتعت به من شجن وعذوبة (زينب محمد حسين: العرب للعرب، الإذاعة، 8/12/1956). وكذلك غنّت «يا حمام البر» من كلمات صلاح جاهين وألحان محمود الشريف واحدة من أجمل الأعمال التي صِيغت بمناسبة الاحتفاء بجلاء القوات البريطانية عن مصر عام 1956. وانطلقت أحلام في الوسط الفني كواحدة من أبرز الأصوات النسائية، وبات اسمها على كل لسان خصوصًا أن الذي اختار لها اسمها شاعر الشباب أحمد رامي (أماني فريد: مطربة الصبر تسأل أين المسرح الغنائي؟ المصور، 12/12/1975).


تزوجت أحلام ثلاث مرات: الأولى من منير إسماعيل الذي كان يعمل دبلوماسيًّا وسفيرًا بوزارة الخارجية المصرية وانجبت منه ابنها الوحيد مدحت الذي درس بكلية التجارة. والثانية من الموسيقار محمد الموجي، ولكن الزواج لم يدم طويلًا وتسبب لها في العديد من المشكلات النفسية والاجتماعية. أما الزواج الأخير فكان من المحاسب محمود السماحي الذي شغل منصب المدير المالي لمؤسسة النقل الليبية خلال الفترة (1973 – 1977). وكانت تتردد على الأراضي الليبية كثيرًا وهناك سجلت مجموعة من الأغنيات لصالح الإذاعة الليبية. ونتيجة للمشكلات التي حدثت بين الدولتين الليبية والمصرية في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات من تراشق إعلامي ومضايقات، قررت العودة إلى مصر مرة أخرى دون رجعة (ثروت فهمي: مطربة الصبر تبحث عن الصبر، آخر ساعة، 7/6/1978، ص 56).

ولم تعد الحياة الفنية في مصر كسابق عهدها؛ فالعديد من الأصوات الغنائية كانت قد ظهرت على الساحة وارتفعت أجور المؤلفين والملحنين بشكل كبير، فعقب عودة أحلام من ليبيا عام 1978 كان أجرها في الإذاعة 92 جنيهًا. ولا شك أن أغنياتها عن الأسرة المصرية كانت من العلامات البارزة في حياتها الفنية فقد وصل عدد هذه الأغنيات كما رصدها الباحث والمؤرخ د. نبيل حنفي محمود خلال دراسته الرصينة عن أحلام إلى ما يقرب من 20 عمل (نبيل حنفي محمود: أحلاممطربة الصبر، أحوال مصرية، السنة التاسعةالعدد 26 – ربيع 2007، ص 175). من أبرزها «المهد المنصان» من كلمات محمود بيرم التونسي وألحان محمود الشريف وهي أغنية رقيقة تشبه الهدهدة نالت عنها الجائزة الفضية في مسابقة منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونسكو) بمدينة فلورسنا الإيطالية في عام 1961.

4

بعد أن شاركت أحلام عن طريق الدوبلاج في فيلم «لست ملاكًا» عام 1946 من بطولة محمد عبد الوهاب وليلى فوزي وإخراج محمد كريم كما شاركت عن طريق الغناء فقط في فيلم «الطائشة» في العام ذاته من بطولة فاطمة رشدي وحسين رياض وإخراج إبراهيم عمارة. وشاركت بعد ذلك بالغناء أيضًا في فيلم «ورد شاه» عام 1948 من بطولة رجاء عبده وعلي الكسار وإخراج عبد الفتاح حسن. وجاءت البطولة الأولى لها على الشاشة من خلال فيلم «المرأة شيطان» عام 1949 من بطولة محمد فوزي وإخراج عبد الفتاح حسن. كما قامت ببطولة فيلم «المرأة» في العام ذاته من بطولة كمال الشناوي وإخراج عبد الفتاح حسن. وشاركت إسماعيل يس بطولة فيلم «البنات شربات» عام 1951 من إخراج حلمي رفلة. وعلى الرغم من هذه المشاركات السينمائية المتميزة فإنه لا يمكن حصر الأعمال الكلية التي شاركت خلالها أحلام. فقد نوهت في حديث لها أنها شاركت في أكثر من ثمانية أعمال سينمائية وأن لديها رصيدًا كبيرًا من هذه الأغنيات (دون توقيع: هل تعود أحلام من جديد؟، الكواكب، 26/2/1974). 

5

لأحلام رصيد ضخم من البرامج الإذاعية التي لا تُنسى؛ أمثال «عظمة الرسول» من تأليف عز الدين فراج وألحان أحمد صدقي، و«الراعي الأسمر» من تأليف عبد الفتاح مصطفى وألحان محمود الشريف، و«الربيع» من تأليف عبد الرحمن الخميسي وألحان إبراهيم حجاج، و«ليلة القاهرة» من تأليف مرسي جميل عزيز وألحان علي إسماعيل، و«لغة الزهور» من تأليف عبد العزيز سلام وألحان فؤاد حلمي، و«الورد والتمر حنة» من كلمات إبراهيم محمد نجا وألحان عطية شرارة، و«اللؤلؤة المسحورة» من ألحان رؤوف ذهني، وغيرها من البرامج والصور الغنائية الإذاعية التي وصل عددها إلى ما يقرب من 13 عملًا. لذا فإن دراسة واحدة لا تكفي لرصد جميع الأعمال الفنية التي أدتها الراحلة أحلام. فهذا الصوت الفريد يحتاج إلى أكثر من دراسة لإجلاء جمالياته ورنته على الأذن. وقد عاشت في حالة من الهدوء والسكينة في أواخر حياتها بعيدًا عن صخب الحياة الفنية، قبل أن تفارق الحياة في السابع عشر من مايو عام 1997 تاركة إرثًا موسيقيًّا ضخمًا (أماني فريد: مطربة الصبر والعطارين أين هي الآن؟ الكواكب، 11/11/1980).