شون بوني

شون بوني:لعبة المصادفة

أسماء يس ترجمة

منذ نحو شهر، وأنا أتصفح موقع Poetry Foundation، تعرفت بالمصادفة على شاعر توفى أخيرًا؛ شون بوني، كنت أقرأ اسمه للمرة الأولى في مقال نقدي، لكنه أساسًا مقال رثائي يبدأ بهذه الجملة الغريبة، التي تبدو مشرقية “عادة ما يموت الأنبياء قبل أوانهم..”، الجملة غريبة طبعًا خصوصًا وقد عُنون المقال هكذا: شاعر الواقعية الرأسمالية.. الغضب النبوي عند شون بوني.. بعد القراءة التي ستعرفني أن شون بوني كان شاعرًا يساريًّا “أناركيًّا” ثائرًا، سواء سياسيًّا أو أدبيًّا، سيتأكد لي كم هي غريبة كلمة النبوة؛ خصوصًا وقد كتب بوني عن النبوة في قصيدة (نحن الموتى) “كلمة لم ترتبط عندي، خلال الأشهر القليلة الماضية، إلا بالمراقبة والكاميرات والقضاة..” لكن كاتب المقال؛ إد سايمون Ed Simon ظل مُصرًّا على أن بوني كان الشاعر النبي في هذا القرن.. فهو يستعير، كثيرًا، ضرورات الخطاب النبوي لإدانة الرأسمالية والعسكرة والبطريركية، وجميع النظم القمعية الأخرى، باعتبارها أصنام العصر الحالي الحقيقي، والنبي في نهاية الأمر ما هو إلا شخص يقول الحقيقة!

ما الذي يجعلنا نعرف شاعرًا ولا نعرف آخر؟
أو سلطة الترجمة

هل هناك ما يسمى بالمزاج العالمي الموحد؟ الإجابة السريعة ستكون: بالتأكيد لا يوجد، هناك أمزجة بعدد ستة مليارات شخص؛ لكن لو ركَّزت قليلاً في الصورة فستجد أنه موجود؛ حاليًا يجمع البشر في كل مكان تقريبًا مدارات من القلق والعنف والسرعة والتساؤلات والقتل والأوبئة والكراهية والغضب.. وأظن أن هذا ما كان يجمعهم على مر الأزمان..
عادة ما يكتب البحارة على سفنهم “لا تغضب ولك الجنة”، أو “لا تغضب وعُد سالمًا” لكن كيف يعود سالمًا من يعيش في هذا الواقع المضطرب، ولماذا يعود سالمًا إن كان ثمة غضب آخر، لأسباب أخرى، ينتظره حين يعود، لهذا يهمني أن أعرف شاعرًا كتب “إذا كنت جائعًا، لا تطبق القوانين/ يمكنك صنع الأسلحة من أي شيء/ لا ينبغي أن تمر الجريمة دون عقاب..”، لكن أحدًا لم يعرفني عليه؛ إذ يتحكم مزاج الترجمة، أو مزاج المترجمين تحديدًا، في النقاوة، وهكذا فما دمت لا تقرأ إلا بالعربية فأنت تحت رحمة مزاج المترجمين الذي لا يفضل، غالبًا، إلا الشعر الآمن، الظريف، الذي لا يخرج عن حدود ذائقة المترجم التي هي ذائقة الجماعة أصلاً. وما دام الحال هكذا فسيقع قراء هذا المقال تحت رحمة مزاجي اللعين، الذي يسعده أن يقرأ قصائد لا تحسس على ذائقة المجتمع المستديرة الطرية، فكتابات بوني “ليست جمالية بحتة، ولا تنحو نحو ذلك، كما أنها ليست رومانسية ولا اعترافية، والجانب الشخصي فيها منفصل عن السياسي..” وهكذا!

شون بوني

في 21 مايو 1969 وُلد الشاعر الإنجليزي شون نويل بوني في برايتون، ونشأ في شرق لندن التي قضى فيها معظم حياته.. حصل على درجة الدكتوراه في آداب اللغة الإنجليزية من بيركيبك، جامعة لندن، وفيها أكمل دراسته للأدب الأمريكي الأفريقي، وتخصص في الشعر الثوري؛ الذي لا يمكننا وضع تعريف واضح ومحدد له، يمكن تسميته في مقام آخر بالشعر النضالي، أو شعر الضد، أو الشعر المتمرد أو الراديكالي.. إلخ. لكننا سنفهم أكثر حين يصرِّح النقاد، ويعترف بوني، بأنه تأثر بشاعرين مختلفين؛ هما الأمريكي أميري بركة (1934-2014)، وهو أصلاً إفريت ليروي جونز؛ شاعر ومسرحي وأكاديمي أمريكي من أصول أفريقية، كان له نشاط كبير في الحركة الثورية السوداء ضد عنصرية البيض، تأثر بمالكوم إكس وكان اغتياله نقطة تحول في حياته؛ فأعلن إسلامه، وطلَّق زوجته البيضاء اليهودية هيتي كوهين، “ويكيبيديا”، وتزوج من سيلﭬيا روبنسون، التي صارت لاحقًا، وحتى الآن، الشاعرة أمينة بركة. بعد فترة أصبح بركة ماركسيًّا، وغيَّر الكثير من مفاهيمه. أما الشاعر الآخر فهو الإيطالي باولو بازوليني (1922-1975). كان بازوليني يمارس كل الفنون تقريبًا ببراعة لافتة؛ بدءًا بعلوم اللغة والشعر والرواية والسيناريو والمسرح والصحافة، بالإضافة إلى التمثيل والإخراج السينمائي والسياسة بالتأكيد.. كما أنه كان مثليًّا؛ وهو خيار لم يكن من السهل تقبله في ذاك الزمان، وكان ماركسيًّا راديكاليًّا، اعتقله الألمان وفر من السجن، ولقي مصرعه، دهسًا بسيارته، على يد أو أيدي ثلاثة من الشباب الذين كانوا يرونه “شيوعيًّا قذرًا” ينبغي قتله لتطهير العالم.. القصد أن الشاعرين اللذين تأثر بهما بوني وأحبهما لم يكونا مسالمين، ولم يعيشا حياة هادئة رائقة، صحيح أن أميري بركة توفي في التاسعة والسبعين من عمره على سريره؛ إثر مضاعفات ناجمة عن جراحة أجريت له “وفقًا لويكيبديا”، لكنه عاش حياة متفجرة، وبوني نفسه، بعد حياة مزدحمة، لقي مصرعه في 13 نوفمبر 2019 وهو في الخمسين، في حادثة سيارة عبثية.
قبل 4 سنوات، قرر بوني أن يتخذ من برلين؛ وتحديدًا من نيوكولن، مدينته التي سيقضي فيها بقية عمره القصير جدًّا.. هاربًا من إنجليزيته التي طالما اعتقد أن التدمير الذاتي كان جزءًا منها، أبعدته تداعيات السياسات الخارجية البريطانية أخيرًا، بعد تفشي حمى البريكست وفحيح القوميين.. كان بوني في منفاه الاختياري يظهر دائمًا بمظهر غير إنجليزي، وكان الجميع يرونه “أوروبيًّا” أكثر منه إنجليزيًّا.
في 1992؛ أي في الثانية والثلاثين، أصدر بوني كتابه الشعري الأول “ماريجوانا في سلة الخبز”، تلاه “أستروفيل وستيلا” 1999، ثم “من كتاب الموت والحياة” 1999، و”هوامش على الهرطقة” 2002، و”السموم وترياقها”2003، و”مياه سوداء” 2006، و”بودلير بالإنجليزية” 2007، و”إلى رامبو” 2010، و”العامة”2011، و”سائل ضد السماء” 2015، و”كل هذه الأرض المحترقة” 2016، و”السرطان” وهو الكتاب الذي حوى قصائده إلى كاترينا جاجو، و”الأشباح” 2017، والكتاب الأخير “موتنا” 2019، وغيرها.. حياة قصيرة، وإنتاج غزير، في سنوات مكثفة من الجموح وقول ما لا يجرؤ الشعراء، أو غير الشعراء، على قوله..

اخترت مبدئيًّا أن أقدِّم بوني بهذا الحوار الذي أجراه معه الفنان والكاتب والموسيقي الأمريكي ﭼيفري جرانثانر قبل أشهر قليلة من وفاته، وقرأته على موقع BOMB، وثم أخذت في قراءة ما توفَّر من قصائد على الإنترنت، تمهيدًا لترجمتها ونشرها هنا على مدينة.. ومثلما وجد بوني الشاعرة كاترينا جاجو مصادفة على الإنترنت وجدته أنا، وهي مصادفة سعيدة وشائكة؛ فقد قضيت السنوات العشر الأخيرة، من بعد ثورة يناير، في إقناع نفسي بما أخبرني به محمد عبد الوهاب، نقلاً عن حسين أحمد شوقي بأنه “ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال” فعلاً، وليس ظريفًا أن يلغِّم أحد أساسات قناعاتي ويقلقلها وهو يجلس لاهيًا في قبره يدخن في هدوء.. قبل موته بشهر واحد كتب بوني على مدونته الشخصية “في هذه الأيام يكتب كل منا كتابه الأخير”، وهو ما يجعلنا نفكر ثانية فيما إذا كان حقًّا شاعرًا غاضبًا أم شاعرًا نبيًّا!

آلهتهم - حوار شون بوني مع ﭼيفري جرانثانر

التقيت شون بوني مرة واحدة فقط قبل وفاته..  التقينا هذا الخريف في حانة صغيرة في نيوكولن، في برلين. وبعد إجراء مقابلة معه حول كتابه الجديد العظيمموتنا” (إصدارات الكوميونة، 2019)، انتهى بنا المطاف بالشرب والتحدث لساعات. كان بوني يحاول إيجاد وسيلة للخروج من الأوساط الأكاديمية. ويتطلع إلى قضاء بعض الوقت في أثينا؛ حيث يمكنه العمل على ترجمة شعر كاترينا جاجو في مدينتها الأصلية. وكان من المقرر أيضًا أن يقوم بسلسلة من القراءات في الولايات المتحدة، حيث لم يمض وقتًا طويلًا حقًا.

تحدثنا عن ديان دي بريما Diane Di Prima حين كانت هائمة على وجهها قبل أن تقف على قدميها في مدينة نيويورك. وتحدثنا عن مقالات فريد موتن Fred Moten. وانتهى بنا الحديث في نهاية المطاف إلى موضوع المنشطات؛ وقد ذكر بوني أنه كان وصل ذات مرة إلى مرحلة عظمى من الهلوسة؛ ورأى خيالاً أسود عديم الشكل تحت تأثير عقار DMT. كان ألين جينسبرج، من بين آخرين، قد شهد التجربة نفسها وكتب عنها، وصرح أنه رأى الله.. لكن بوني قال إن الكيان العملاق الذي لا شكل له أخبرهلا تعتقد أنني الله“.. قد تساعد هذه الحكاية على صياغة المناقشة التالية حول دور الشعر في الصراعات الراديكالية، وكيف تدخل السيرة الذاتية في أعمال بوني، ومكانة التقاليد في النضال الشعري.. كان بوني متحررًا من الأوهام، دون أن يشعر بخيبة أمل..

ﭼيفري جرانثانر

شون بوني في برلين، 2016

شون بوني في برلين، 2016


ﭼيفري جرانثانر:
من المعلوم أنك تقيم في برلين منذ أربع سنوات؛ هل كتبتموتنابأكمله هنا؟

شون بوني:
بالدرجة الأولى.. كتبت الجزء المُعنونموتناامتدادًا للكتاب الذي كتبته من قبلرسائل ضد السماء، والذي كان عبارة عن مجموعة من الرسائل المفتوحة لمجتمع الشعر حول الوضع السياسي في بريطانيا في ذاك الوقت. كانت القصائد بالتأكيد لها الصوت نفسه، وهو ليس صوتي تمامًا، لقد كان نوعًا منيأنا، لكنه، وكما تعلم، كان ستارًا أدبيًّا ملائمًا. بسرعة كبيرة أصبح من الواضح أن المقاطع التي كنت أكتبها لم تعد حروفًا، كانت قصائد نثر كلاسيكية.. وكنت قد كتبت بعض المُسوَّدات في الصيف قبل أن أنتقل، لكن الكتاب إجمالاً كتب في برلين..

ﭺ ج:
وما الذي يجذبك إلى القصيدة التجريبية؟

ش ب:
هذا شيء حدث لي أخيرًا. وقد اكتشفت في النهاية أنه لم يكن بلا سابقة.. لقد حصل! على سبيل المثال مثل روايةهايبريون Hyperion” لهولدرين وغيرها.. لكنه بدا جديدًا بالنسبة لي. هل تذكر أحداث الشغب التي وقعت في عام 2011؟ كنت في الشارع حينها، وأستطيع أن أتذكر أنني في طريق العودة إلى المنزل كنت أفكر: هل يبدو من الصواب أن أذهب إلى المنزل الآن وأكتب قصيدة بعد الانخراط في شيء كهذا. لذلك كتبت خطابًا، وفي رأيي أنه كُتب ليوجه إلى واحد أو اثنين من الشعراء الذين أعرفهم؛ عن كيف لا يمكنني كتابة قصيدة!
هذا أمر غريب حقًا؛ لأنه الآن يقول، وبعد عشر سنوات من حدوثه، إن هذا الخطاب من بين قصائدي المختارة. وهو بالتأكيد قصيدة نثر. كم هو غريب تغير الشكل الأدبي.. إنه نوع من النمو. لقد أصبحت طريقة ممتعة حقًا للكتابة؛ إذ يمكنني القفز عليها وتجاوزها. ويمكنني أيضًا استخدام ذاتيتي. في الشعر الطليعي، لا يزال من غير اللائق، بل ومن السذاجة، استخدام ذاتيتك الخاصة. لكن فجأة استطعت أن أضع في سطور كانت مجرد تفاصيل تافهة عن سيرتي الذاتية، جنبًا إلى جنب مع بعض التكهنات حول نظرية التوافق عند فيثاغورس. لقد كان الأمر جيدًا بالنسبة لي لمدة خمس أو ست سنوات، وكانت هذه هي الطريقة الأساسية التي كتبت بها. ما زلت لا أعرف الكثير من الشعراء الآخرين الذين يستخدمون هذا النموذج.

ﭺ ج:
هل تصنف قصائدك من الشعر النضالي؟

ش ب:
نعم بالتأكيد.. لقد كنت ناشطًا سياسيًّا يساريًّا طول حياتي. ولفترة طويلة، كان هناك صراع بيني وبين ما إذا كان ينبغي عليَّ تكريس نفسي للنضال أو تكريس نفسي للشعر.. وفي وقت ما تمتزج الرغبتان معًا. ربما يكون ذلك لأنني أكبر سنًّا، لكنني هذه الأيام أفكر في كتابتي كمساهمة في ذلك.

ﭺ ج:
يبدو أن قناعاتك الخاصة المتشددة لا تتعارض وأشياء مثل السحر والتنجيم. الأشياء التي قد لا تقع بسهولة في إطار ماركسي تقليدي؟

ش ب:
لديك تقاليد فكرية مهتمة بخدمة السلطة، ولديك تقاليد فكرية مهتمة بتحرير الناس من تلك السلطة، وفي بعض الأحيان تتداخل هذه التقاليد، وفي بعض الأحيان يمكن أن تكون مفيدة في كلا الاتجاهين. ماركس شخص، وهيجل شخص آخر. الشعراء بالتأكيد ضمن ذلك. وأعتقد نفسي شاعرًا في إطار هذا التقليد، إنها محاولة للإسهام بطريقتي الصغيرة في تحرير الإنسان.. يعتبر ماركس واحدًا من الشخصيات الكبرى، لكن لديك أشخاص غريبون مثل فورييه Fourier، وهو أيضًا جزء من هذا التقليد، أو الدادائيون، أو الأشخاص الذين صنعوا البرنامج التليفزيوني الموجه للأطفال “The Magic Roundabout”.

ﭺ ج:
أحد الأشياء التي أدهشتني وأنا أقرأموتناهو أنه يبدووأنا أعني هذه الكلمة جيدًاأنك تتمثل أو تتخيل بعض الكتاب؛ على سبيل المثال رامبو أو بودلير.

ش ب:
حسنًا، كان كلاهما من الشعراء الذين كتبت كتبًا مستوحاة من مجازاتهم، أكثر من كونها كتبًا مترجمة تستوحي مجازاتهم.. فعلت ذلك مع بودلير Baudelaire في نحو عام 2008. وهو كتاب يحوي مجموعة من القصائد المتماسكة.. وجميع الترجمات على كتبتها على آلة كاتبة.. إنها قصائد بصرية إلى حد كبير.. يمكن قراءتها كقصائد إنجليزية، أو شيئًا من هذا القبيل..

ﭺ ج:
هل تشعر بأنك امتداد لصوت بودلير؟

ش ب:
سيكون هذا ادعاءً كبيرًا.. لكنه بالتأكيد شخص أقدره كثيرًا.. أتذكر ذاك الوقت؛ تغيرت حياتي كثيرًا؛ تركت علاقة طويلة.. كنت أعيش بمفردي، وكنت أفكر في إحدى تلك المراحل؛ حين تستعرض الكتب التي كنت تقرأها في مراهقًا، أو تستمع إلى التسجيلات التي كنت تستمع إليها عندما كنت مراهقًا، لتذكِّر نفسك لماذا دخلت إلى هذا الشيء في المقام الأول.. كنت أقرأ الكثير من بودلير، وكان لديَّ ما يكفي من اللغة الفرنسية لألاحظ أنه باللغة الإنجليزية كان، بالتأكيد، يخضع للرقابة. لذلك بدأت للتو اللعب على هذا النحو.. لكن لم يكن لدي أي مصلحة في صنع كتاب مترجم؛ فانتهى بي الأمر مع هذه القصائد المتماسكة، والتي كانت أيضًا قصائد حب لشخص التقيته للتو في ذلك الوقت.. لقد كان غباءً مني أن أكتب الكثير من القصائد عن الجنس والمخدرات؛ لأنها لبودلير.

ﭺ ج:
(ضاحكًا) بالطبع.. بكل تأكيد!

ش ب:
في وقت الاحتجاجات الطلابية وأعمال الشغب في المملكة المتحدة فعلت شيئًا مشابهًا مع رامبو Rimbaud لأن الكثير من مجازات رامبو وثيماته كانت مناسبة جدًا جدًا لما حدث هناك.. إنهما مجرد شخصين.. يمكنك إصدار كتاب ورقي.. إنها ليست ترجمات.. لكن لديك تقاليد.. لا حرج في استخدام هذا الأسلوب أحيانًا.. أنا جزء صغير من هذه التقاليد.. أنا من لوتريامون Lautréamont وأرتو Artaud وجميع هؤلاء الفرنسيين. تفهم ما أقصد؟ هذا هو تعريف الشعر الذي كنت مهتمًا به منذ أن عرفت ما الشعر..

ج:

لكن أرتو لا يُصنَّف كشاعر يساري.. ربما هو تحرري بمعنى كبير، لكنه ليس بالضرورة سياسيًّا.

ش ب:
إنه ليس ماركسيًّا.

ﭺ ج:
بلى..

ش ب:
هناك شعور غريب في الوقت الحالي مع صعود اليمين المتطرف، وأولئك الذين يحاولون أن يكونوا منفعلين.. لقد أصدر نيك لاند Nick Land ذاك الكتاب عن جورج باطاي Bataille. حسنًا، هذا سهل.. كان باطاي شيوعيًّا ومقاتل شوارع ومعادٍ للفاشية. ومع ذلك، كان هو نفسه ينتقد بشدة بعض الأشياء التي كتبها في الثلاثينيات.. لكن شخصية أرتو كانت أكثر غموضًا. أنا منخرط مع مجموعة من الفنانين المناهضين للفاشية في برلين في الوقت الحالي، وأبحث عن طرق تجعل من المستحيل على الفاشيين استخدام [الأدب].. أرتو واحد منهم. لا يمكن أن يكون فاشيًّا.

ﭺ ج:
أنا أفكر في واحدة من قصائدك الآن؛لماذا القنابل المسيلة للدموع“.. وأفترض أن هذا يرتبط بالاحتجاجات؟

ش ب:
نعم.. نعم.

ﭺ ج:
هل تعرضت للقنابل المسيلة للدموع؟

ش ب:
نعم.. تعرضت لكل ذلك..

ﭺ ج:
سأقرأ عليك مقطعك المدهش هذا:

تتوصل إلى فهم حقيقي جدًا لطبيعة الأشياء، المرئية وغير المرئية، حين يُسرق نظامك الحسي وينقلب عليك بجرعة ضخمة من الغازات المسيلة

شون بوني في برلين، 2016

شون بوني في برلين، 2016

للدموع. إنه الشيء المضاد لرامبو. التنظيم المطلق والإدارة الكلية لجميع الحواس. أعني.. جربه. في المرة التالية التي تندلع فيها الأحداث، ما عليك سوى الخروج إلى الشارع والركض مباشرة إلى داخل أكبر سحابة من الغازات المسيلة للدموع يمكنك العثور عليها.

ش ب:
أعني.. (يضيف ضاحكًا) كنت أضحك.. إنها فكرة رامبو الشهيرة: إن تضخم الحواس هو بالتحديد ما لا تفعله القنابل المسيلة للدموع.. إنها مؤلمة. وكريهة الرائحة..

ﭺ ج:
فيما يتعلق بموضوع الفكاهة والضحك، يبدو من المثير للاهتمام أن اليمين المتطرفعلى الأقل، القادم من الولايات المتحدةاحتكر حرية التعبير تقريبًا. يمكنهم أن يقولوا أشياء سخيفة ومثيرة للسخرية.. أما اليسار الراسخ فيرفع إصبعه ويذهب، لا، لا، لا، ليس من المفترض أن تقول ذلك..

ش ب:
هذا أمر خادع.. أنا عضو قديم في حركة أنتيفا Antifa [حركة يسارية متطرفة مضادة للفاشية] في إنجلترا، قبل حتى أن تُعرف المجموعة باسم أنتيفا.. لقد تأسست هنا في ألمانيا منذ الثلاثينيات.. إنها منظمة للدفاع عن النفس ضد عصابات الشوارع النازية، وظهرت نسختها البريطانية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات وكانت صغيرة إلى حد ما وتسمى الحركة المناهضة للفاشية. لقد اكتشفنا أين كان الفاشيون، الذين كانوا لا يزالون مجموعة صغيرة، يعقدون اجتماعاتهم، وسوف نجعل من المستحيل بالنسبة لهم عقد هذه الاجتماعات.

ﭺ ج:
بأي وسيلة كانت؟

ش ب:
بهذه السهولة.. لقد رأيتها تعمل جنبًا إلى جنب مع الحملات الأكثر ليبرالية.. كان يمكنهم الذهاب مع هذه الحملات، وإخبار الناس لماذا من الخطأ أن يكونوا عنصريين.. سنعمل بنشاط على منع العنصريين من التنظيم. إن مسألة حرية التعبير صعبة، لأن الإجابة الإشكالية هي: لديك الحق في قول أي شيء.. ولدي الحق في أن ألكمك في فمك عندما تقول ذلك.. (يضحك)..

ﭺ ج:
أعتقد أنه إذا كان للتعبير الحر أي قيمة حقيقية، فيجب أن يستخدم ضد الدولة، وضد القوة التي يمكن أن تُكره أو تقمع.

ش ب:
نعم تمامًا.  الأمر متعلق بقول الحقيقة في وجه السلطة.

ﭺ ج:
ولكن عندما يقتصر ذلك على أن يكون صوت النظام..

ش ب:
إنه أمر مثير للشفقة.. وعلى الرغم من أنني من اليسار، فإنني أحتقر حقًا النزاهة الذاتية اليسارية.. الحلول الثقافية وما إلى ذلك.. لا علاقة لذلك بأي يسار أعرفه.

ﭺ ج:
أتكلم عن كل هذا لأن شعرك يبدو أنه يتعارض مع الحلول الثقافية هذه.. إنه مليء بالعداء الذي صُفيَّ من خلال الكوميديا.

ش ب:
لقد قيل لي إنهشعريليس مفيدًا لليسار، لأنه بذيء.. أعني، أنا متأثر، على سبيل المثال، بأشخاص مثل مارك إ. سميث Mark E. Smith.. عندما كنت مراهقًا، كنت من المعجبين بفريق FALL .. حسنًا، وما أزال كذلك.. أتذكر رؤيته يعيش، وسلوكه المسرحي، والطريقة التي يكره بها كل شيء.. لقد أعجبت حقًا به كفنان أداء..

وأنا عمومًا أكره التيار السائد عند الفنانين اليساريين، ولا أعتبر عملي عملاً احتجاجيًّا؛ فأنا لا أحاول إقناع أي شخص بألا يحب الرأسمالية، وجمهوري المثالي يكره رجال الشرطة فعلاً.. لا أحاول إقناع أي شخص بأي شيء.. أحاول فقط الإسهام في مناقشة بشأن السؤاللماذا هم سيئون؟وأفضل الطرق للخروج من هذا الموقف.

ﭺ ج:
فإذا لم يكن الأمر احتجاجًا، وهو بالتأكيد ليس وسطيًّا، فما هو مكان أعمالك في ما يتعلق، على سبيل المثال، بالمنظمة الثورية، أوالمنظمة المناهضة للدولة، أو المنظمةا لمناهضة للشرطة؟

ش ب:
حسنًا، إنها لا تُنشر فقط في المجلات الشعرية.. وأنا لا أقرأ فقط في سلاسل قراءة الشعر.. من المهم جدًا بالنسبة لي أن أقوم بهذه الأشياءوأنا سعيد جدًا أنني أفعل ذلك، لأنني شاعر. وأريد أن يكون عملي موجودًا. وأريد أن يكون شعرًا جيدًا. لكنه ينشر أيضًا في الصحف الأناركية، وما شابه ذلك.
لقد دعيتُ إلى القراءة عند إطلاق أحد إصدارات صحيفة الهوامش Endnotes؛ وهي صحيفة تعاونية راقية للغاية. ولذلك حصلت على قدم في الحركة المناهضة للرأسمالية، وكذلك أعمالي. هكذا أحاول.. وأتفاوض.. هذا يعني الكثير بالنسبة لي؛ أن أخرج من عالم الشعر، لأن الكثير من الشعراء، قراؤهم مجرد شعراء آخرين.. الكثير من القراء هم شعراء آخرون.. ولكن هناك مجال آخر يمكن أن تصل إليه.

ﭺ ج:
في أثناء قراءة كتابكموتنا، لاحظت أنك تقوم بصناعة آلهة/ بانتيون، مثل كاترينا جاجو Katerina Gogou، وبازوليني Pasolini، وأرتو.. هل يمكن أن تخبرني عن أهمية هذا البانتيون والتقليد الذي أنت جزء منه؟

ش ب:
أعتقد على مستوى ما، أن لكل شاعر أو فنان آلهة خاصة به، إنها مجموعة من التأثيرات الخاصة بهم، يحاولون الاستمرار من خلالها، وهي، إلى حد ما، فريدة من نوعها.. بعض التأثيرات تسقط مع الوقت. وبعضها يبقى، ويصبح الآخرون أكثر أهمية..
بازوليني مهم للغاية.. وهو فنان شيوعي مثالي، ومخرج سينمائي كبير، وكاتب مقال كبير، وشاعر كبير، ومعارض كبير.. لأن أحد الأشياء العظيمة في كونك شاعرًا هو أنك لست مضطرًا إلى الالتزام بأي خط للحزب؛ يمكنك أن تقول ما تريد. التأثير الآخر عليَّ هو لرامبو وللسورياليين. كان الوضعيون مهمين بالنسبة لي لفترة طويلة جدًّا، ولا يزالون كذلك. [الوضعية، منظمة عالمية ثورية اجتماعية ظهرت في فرنسا في نهاية الخمسينيات من القرن العشرين].

ج:
من الغريب أن تتحدث عن الوضعيين الذين تبنوا في النهاية موقفًا متشددًا: لا جاليرهات.. لا إثارة للموضوعات.. لا شعر.

ش ب:
لم يكتب الوضعيون الشعر! يمكنك أن تجادل في أن كتابمجتمع الاستعراض” [لجاي ديبور] هو قصيدة.. إنه مُجمع من لوكاش Lukács وهيجل Hegel وماركس Marx، وهذا لا ينفي أو يقلل من قيمته ككتاب نظري أيضًا. أعتقد أن الشعر يمكن أن يكون مكانًا يمكن أن تدخل فيه الذاتية في الخطاب السياسي. سيكون الأمر مريعًا للغاية إذا كنت توزِّع منشورًا عن موضع معين، وتدور ثرثرة حول ما شعرت به في أثناء تناولك لرقائق الذرة.. ولكن إن فعلتها بشكل صحيح في قصيدة، يمكن أن تنجح.

ﭺ ج:
لذلك ربما هذا هو المكان المناسب الشعراء اليساريين، كي يستطيعوا الحفاظ على الذاتية؟

ش ب:
نعم.. هذا هو أحد الأماكن.

ﭺ ج:
هل يمكن أن نتحدث قليلاً عن كاترينا جاجو أحد آلهتك؟ إنها جديدة بالنسبة لي.. لقد تعرفت إليها من خلال كتابك فقط.

ش ب:
إنها شاعرة يونانية رائعة؛ عرفتها مصادفة على موقع Libcom.org. كنت أبحث عن صورة للشاعر السوريالي بنيامين بيريت Benjamin Péret. يبدو أنه توجد صورة له عندما كان في الميليشيا الأناركية، يجلس على منحدر في مكان ما، في حضنه قطة وفي يده بندقية.. كنت أريد تلك الصورة.. أردت أن أعلقها على حائطي.. وهكذا كتبت كلمةالشعرفي محرك البحث، ولم أعثر على الصورة، لكني عثرت على كاترينا جاجو.

ﭺ ج:
منذ متى كان هذا؟

ش ب:
كان هذا قبل أربع أو خمس سنوات. لقد كانت مقالة مثيرة للاهتمام عن حياتها، ولكنها تضمنت أيضًا ما وصفته كاتبة المقال بأنه كان ترجمات حرفية سيئة لقصائدها.. لذلك في ظهيرة ممطرة أخذت أقرأ قصائدها، في محاولة لتحويلها إلى ترجمات بلغة إنجليزية لائقة.. وانتهى بها الأمر لتكون بهذا التسلسل الذي هي عليه الآن.. هناك قصائد تستخدم ثيماتها، وهناك قصائد تخصني، لكنها تظل جزءًا من هذا التسلسل..

لقد تلقيت مديحًا هائلاً حين قرأت نسخة مبدئية من تلك القصائد في مركز اجتماعي أناركي في أثينا منذ نحو أربع سنوات.. وكنت قلقًا لأن جاجو أساسًا، لن أستخدم كلمةمقدسة، لأنهم أناركيون.. لكنك تعرف ماذا أقصد، كانت شخصية أيقونية عند كثير من الأناركيين اليونانيين، وقد أحبوها كثيرًا.. هناك امرأة كانت تعرف جاجو جاءت إليَّ وأخبرتني أنني عفقت الروح الصحيحة تمامًا للقصائد. وحدثت بعض المصادفات الأخرى التي جعلتني أعرف أنني كنت أفعل الشيء الصحيح..

ﭺ ج:
مثل التزامن؟

ش ب:
نعم نعم. إنها شخصية مهمة للغاية بالنسبة لي.. عملها ليس مجرد شيء تفكر فيه والكتاب في يدك ثم تذهب.. وتقول أووه.. يا لها من رائعة! وتضع الكتاب على الرف وتنساه. إنه يجعلك تفعل أشياءً، كأن تكتب قصائد أخرى. كان الهدف من كتابي أن أجعل جاجو حية إلى الآن.. إنها ما تزال حية، وهو عمل غير مكتمل، تمامًا مثلما كانت. كنت أحاول إضافة عمق تاريخي إلى كتابي، لأنني لا أريد أن يكون مجرد كتاب عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. أردت أن تكون أكثر من ذلك؛ لقد أردت أن يكون كتابًا يقول: لا، لدينا تقاليد فعلاً..

بالنسبة لمشروعي الجديد، أعمل على ترجمة صحيحة لجاجو بمشاركة بعض الشعراء اليونانيين. ونظرًا إلى أن هذا التسلسل كان ناجحًا جدًا من الناحية الشعرية، أشعر أنني يجب أن أحاول أن أعد شيئًا ما لأحضرها فعليًّا إلى العالم الناطق باللغة الإنجليزية. أعرف عددًا كافيًا من الناشرين وأثق في أن قصائدنا المختارة سوف تجد ناشرًا.

ﭺ ج:
هل تعتقد أن الشعر ينقل رسالة تحررية أكثر من الموسيقى.. أم أن هذا غير صحيح بالضرورة؟

ش ب:
لا أعتقد أنه يمكنك فصلهما.. معظم قراءات الشعر مملة.. في القراءات الذين أقوم بها وحدي، أو مع أصدقائي، نعمل مع موسيقيين وراقصات في أثناء قراءاتنا. هذا يحدث عادة. إنه شكل مختلف؛ فلسنا فرقة، لكننا لا نقدم قراءات شعرية منفردة كذلك.

كان توم راوورث Tom Raworth شاعرًا له تأثير كبير عليَّ عندما كنت صغيرًا؛ إنه بريطاني، لكنه قضى الكثير من الوقت في أمريكا. في حين أن معظم الشعراء البريطانيين التجريبيين كانوا يقرؤون بلا أي مؤثرات إضافية على الإطلاق، كان راوورث يقرأ تلك القصائد الطويلة الرشيقة، تقريبًا كلمة واحدة في السطر، وكان يقرأها بسرعة كبيرة؛ فتبدو الكلمات وكأنها تسقط على بعضها البعض. في المرة الأولى التي رأيته فيها، كان الأمر يشبه ما كنت أتخيله لمشاهدة ريمونز Ramones في نادي CBGB للموسيقى في نيويورك عام 75.. وفي طريقي إلى البيت كنت أتمنى أن أقول للجميع، اسمعوا، هذه هي الطريقة التي يجب أن تكون عليها القراءات.. كنت أود حقًا لو فعلت ذلك. لقد اشتهرت بتأدية انفعالات كثيرة بوجهي.. كما قلت، كانت قراءاتي الأولى في عروض أناركية في أواخر الثمانينات.. كان الهدف جعل مجموعة من الأناركيين؛ الذين كانوا هناك للاستماع إلى الفرق الموسيقية، يستمعون إلى شاب صغير نحيف يصرخ بكلام عن مارجريت تاتشر.. كان هذا هو المستوى الذي كانت عليه قصائدي، في ذلك الوقت (يضحك).. لكنني ما أزال أعتقد أن القراءات يجب أن تكون مثيرة.. الشعر هو أشياء كثيرة، لكنه أيضًا شكل من أشكال الترفيه.. لذلك عليك أن تقدمه بهذا الشكل..

ﭼيفري جرانثانر:
فنان وكاتب وموسيقي، يعمل حاليًا في برلين. له مقالات ومراجعات وقصائد ومقالات نشرت في دراج سيتي، وأمريكان آرت كاتالوج وبروكلين رايل وغيرها
. 

*نشر هذا الحوار في موقع  BOMB بتاريخ 11 ديسمبر 2019