روكي دالتون

روكي دالتون: شعر الثورة جميل أيضاً

مدينة

أخيرًا، وبعد نحو 44 سنة على مقتله، صدرت أول ترجمة عربية لأشعار شاعر السلفادور المشاغب روكي دالتون، وهي مختارات ترجمها أحمد حسان. جمعت المختارات بين القصائد الحادة المؤدلجة والقصائد عديمة الأيديولجيا، المكتوبة ابتغاءً لوجه الشعر وحده.. وروكي دالتون واحد من أهم شعراء أمريكا اللاتينية؛ عاش حياةً مثيرة، وقتله أصدقاء الكفاح السابقون، وقضى عمره القصير جدًا -40 سنةهاربًا من البوليس، أو سجينًا، أو حاملاً لسلاح، والغريب فعلاً أن كل هذا لم يمنعه عن الشعر، عن الشعر الجميل.. والأغرب أن الشعر الجميل لم يمنعه عن كل هذا.. هل كان ينبغي له؟!

في الكتاب، الذي صدر عن المركز القومي للترجمة، رؤية متنوعة لنتاج دالتون الشعري؛ كيف رأى الحب، والقتال، والنضال، وحماقة البورجوازية، وميثولوجيا الآباء الغرائبية الرقيقة، وشكوكه الخاصة، والسجن المتكرر، واقتراب الموت، والحوار، والبلد المُستَلَب، والمتعة، والدموع، والأمل الحديدي..

الأقواس إختيار : أسماء يس*

غلاف كتاب مختارات من أشعار روكي دالتون

القوس الأول:مقدمة أحمد حسان

تبدو العودة إلى روكي دالتون الآن بمثابة استحضار لموتى لا يهدأون في قبورهم. فحياته وشعره وموته التراجيدي تنتمي جميعا لزمن يبدو نائيا: ذروة الحرب الباردة بين معسكرين متناحرين يقتسمان العالم، ذروة حركات التحرر الوطني والصراع الأيديولوجي والكفاح المسلح، والشعر والسياسة كوجهين لتغيير العالم ضمن نطاق آخر موجات الحشود الجماهيرية الضخمة للقرن العشرين..

لكن آمال البشر لا تموت بل تتجدد في قاع المحن. تتحقق، فيما يبدو، نبوءة دالتون أنالموتى يصبحون كل يوم أصعب مراسًا“. فما تزال أحلام العدل والحرية والحق في الحياة الكريمة تجتذب أعدادا متزايدة من البشر رغم تضاؤل سيطرتهم على مسار حياتهم. لن يريد الناس اليوم بالتأكيد العودةَ إلى أساليبِ أو مفاهيم ذلك العصر بعد أن تجاوزناه، لكن وجداننا يستعيدُ المشاعرَ والخلجات التي ينقلها شعره وتمنح الحياة ثراءً وازدهارًا استثنائيين.

روكي دالتون

روكي دالتون

ولد روكي دالتون في العاصمة سان سلفادور عام 1935 لأب ميسور ينحدر من سلالة أشقياء الغرب الأمريكي. هجر أمه ولم يعترف ببنوته حتى بلغ السابعة عشرة، على الرغم من أنه ظل يدفع مصاريف دراسته لرغبته في أن يتلقى الصبي تعليمًا كاثوليكيًّا. وبعد المدرسة اليسوعية في سان سلفادور، درس القانون والأنثروبولوجيا في تشيلي والمكسيك وعقد صداقات مع اليساريين، واندفع يافعًا للانضمام إلى الحزب الشيوعي للسلفادور، عام 1957، ليقاوم قمع حكمٍ عسكريٍ يكرس ملكية البلد بأسره لبضع عائلاتٍ محلية وبضع شركات أمريكية. سجن مرات عديدة ونُفي وكان بين من أنشأوا الجيش الثوري للشعب ERP لخوض غمار الكفاح المسلح. بعد أن أقام في كوبا وجاب المنافي، عاد إلى بلده سرًّا ليقاتل أواخر عام 1974 لكنه لقي مصرعه ولم يكمل الأربعين في العاشر من مايو 1975 على يد زملاء له في جبهة FMLN اتهموه، للتعمية، بالعمالة لكلٍ من المخابرات المركزية الأمريكية وكوبا في الوقت نفسه. واستغرق الأمر نحو عقدين لينتزع ابنه اعتراف المسئولين عن قتله بالحقيقة عام 1993. اعترف أحد أعضاء المحكمة الثورية التي أدانته لإبنه أن ذلك كان فعلاً من أفعال عدم النضج الشخصي، والعاطفي، والأيديولوجي. وأقر بأن دالتون كان ضحية للجهل، والتآمر، والدوجمائية.

هكذا كانت السياسة عنصرًا حاسمًا وباترًا في حياته. كانت الخيط الذي يربط حياته وشعره، وكذلك الجهل والدوجمائية اللذين يضعان نهاية للاثنين. وقد شدد هو ذاته على ارتباط حياته بالثورة والشعر في إهداء ديوانهالحانة وأماكن أخرى“: عزيزي خورخى: لقد وصلتُ إلى الثورة عن طريق الشعر. سيكون بإمكانك أن تصل (إذا شئت، إذا أحسست بالحاجة لذلك) إلى الشعر عن طريق الثورة، ولك بذلك ميزة. لكن تذكّر، أنك لو كنت قد وجدت ذات مرةٍ دافعًا خاصًا للابتهاج بصحبتي في النضال، فبعض الفضل في ذلك يعود أيضا إلى الشعر.
شكَّلت السياسة عصب رؤيته للعالم لكن ذلك لم يعن تبنيه للصيغة الرسمية الضيقة للإبداع التي سميت بالواقعية الاشتراكية، بل جمع بين معرفةٍ عميقة بتراث الشعر المكتوب بالإسبانية وبين إنجازات الشعر المضاد والسوريالية. كان يرى أن الثورة قصيدة حب، والشاعر سلوكٌ أخلاقي. كل إبداعٍ ثورةٌ، وكل ثورةٍ فعلُ إبداعٍ يسعى إلى الرقي بالحياة، والتكريس السياسي هو ببساطة تكريسٌ للحياة..

القوس الثاني: غَبَش العام

منتصف العمر

تنقضي سنواتُ الأسلوبِ المتوثِّب

تنقضي السنوات التي تُنطَقُ فيها

كلماتٌ معينةٌ باحتقار:

الصنوبرات، الهرب، السوداوية

تحملُ عطشكَ أمام المرآة

وتتساقطُ فوقَك الأشواك:

لليقين رائحةٌ عطِنة

أنتَ في النهاية السيدُ المهذَّبُ الوحيد

الذي خشِيتَ أن تكونَه، الذي أبعدتَهُ

من جانبِكَ ببعض التهكم

كَنَسيٌّ وصموتٌ، إذا شاءوا

أقلُ ميلاً إلى الدموع، أشدُّ صلابة

مثل خبزِ الربِ الطيب

بقدر ما يبتعدُ عن الفُرن

القوس الثالث: منازل الجحيم الصغيرة

حذار

من قبل كنا نضحكُ كثيرًا

والآن أودُّ أن أتركَ الكلمات تسقطُ

مثل مطرٍ من ارتفاعٍ ضخم

ربما كان البردُ يجعلنا أعداءً

لكنني أُقسمُ أن أنيابه تبحثُ عن آخرين

أعترفُ أيضًا بتشوشاتٍ معينة

لكنني واثقٌ أن من الأسوأ الهربَ

أوالصمت

لن تكون الكلمةُ وحدها

ما يجبُ أن يُنقِذنا

دعوني أحاول عزلَ الجمال

(رغم أن ذلك يبدو فظيعًا).

***

القوس الرابع: استراحة المُحارب

الموتى يُصبحون كلَّ يومٍ أصعبَ مِراسًا

من قبل كان أمرُهم سهلاً:

كنّا نمنحُهُم ياقةً مُنشّاةً أو زهرةً

نلهجُ بأسمائهم في قائمةٍ طويلة:

إنّ ساحاتِ الوطن

إن الظلالَ النبيلة

إنّ المرمرَ الوحشيّ

كانت الجُثَّةُ تُوقِّعُ في أعقابِ الذاكرة

وتمضي من جديدٍ إلى الطابور

لتسيرَ على إيقاعِ موسيقانا القديمةِ

لكن مهلاً

فالموتى قد تغيّروا منذ ذلك الحين

اليومَ يتهكّمون ويسألون.

يبدو لي أنهم يُدركون

أنهم، تدريجيًّا، يُصبحون الأغلبية!

***

روكي دالتون

القوس الخامس: روح الأمة

أيها الوطن المبعثر: تسقطُ

كقرصٍ من السمّ في ساعاتي

من أنتِ، أيتها البلادُ المأهولة بالأسياد

مثل الكلبة التي تهرُشُ بجوار نفسِ الأشجار

التي تبول عليها؟ من الذي تحمَّل رموزك

إيماءاتكِ التي لعذراءٍ برائحة الماهوجني

بينما تعرفين أنكِ قد أغرقكِ لعابُ الفِسق؟

منذا الذي لم يسأم ضآلتكِ؟

من لا زلتِ تقنعينه بالضريبة والحراسة؟

ما اسمكِ، نعم، أيتها المُمزَّقة

أأنتِ كلُّ الحظِّ المُعذَّبِ في البِركِ الموحلة؟

من أنتِ

سوىهذاالقردالمُسلَّحوالمُرقَّم

راعي المفاتيح والكراهية، الذي يُضيء وجهي؟

لقداكتفيتُمنكِ،ياأمي

الجميلة النائمة يامن تجعلين ليلَ السجونِ يفوحُ بالعطن:

الآن يأكلني صدأُ واجباتِ الحراسة

التيتجعلمنالابنالصالحفارًّا

من الطاووسِ المختال مؤرَّقًا بائسًا

من خبزِ الربِ مُهاجِمًا جائعًا

***

القوس السادس: قصائد السجن الأخير

السجن من جديد، فاكهةٌ سوداء.

في شوارع وغُرف البشر، سيشكو شخصٌ في هذه اللحظات من الحب، سيعزف موسيقى أو يقرأ أخبار معركةٍ تجري تحت ليل آسيا. وفي الأنهار، ستغني الأسماكُ عدمَ تصديقها بشأن البحر، الحلمِ المستحيلِ، الهناءةِ المفرطة. (أتحدث عن تلك الأسماك الزرقاء في الحقيقة المُسمّاة السوسنات ـ السوداء، التي يستخلصُ من أشواكها رجالٌ عنيفون وسريعون عطورًا تدوم طويلاً).
وفي أي مكانٍ، ستكون آخرُ الأشياء الغارقة أو المعلّقة سجينةً أقلَّ منى.

(واضحٌ، أن امتلاك قطعة قلم رصاصٍ وورقة ــ والشعر ــ يثبتُ أن مفهوما كونيًّا فخورًا، وُلِد ليُكتَب بحروفٍ كبيرة ــ الحقيقة، الرب، المجهول ــ قد غمرني منذ يومٍ سعيد، وأنني لم أسقُط ــ عند القيام به في هذا الجبِّ المظلم ــ سوى في أيدي الفرصة كي أبرهن عليه كما يجب أمام البشر.
ورغم ذلك، كنت أفضّلُ تمشيةً طيبة في الريف. ولو دون كلب).