ماذا يقرأ الديكتاتور قبل النوم؟

تاريخ القراءة والسلطة

وائل عبد الفتاح

هذه واحدة من المرات النادرة التى أكتب فيها عنوان المقال قبل الانتهاء منه. لكن السؤال خطر على بالى وأنا أقرأ:
«إن النظم الشمولية ليست الوحيدة التى تخشى القراءة».
هذه الجملة محشورة فى كتاب ممتع من الصفحة الأولى عنوانه «تاريخ القراءة». والمؤلف ألبرتو مانجويل يكملها بجمل أقوى: «.. حتى فى ساحات المدارس، وفى خزائن الملابس، وفى دوائر الدولة والسجون تجري مراقبة جمهرة القراء بعين الارتياب، نظرًا إلى لما يشعر المرء به من سلطان القراءة وقوتها الكامنة، وعلى الرغم من الاعتراف بأن العلاقة بين الكتاب والقارئ علاقة مفيدة ومثمرة، فإنها علاقة تعتبر مترفعة ورافضة، ربما لأن مشهد قارئ وقد انزوى فى أحد الأركان ونسى العالم المحيط به يشير إلى جو شخصى غير قابل للاقتحام وإلى نظرة منطوية على الذات وتصرف أناني..»!
هكذا كانت أم ألبرتو مانجويل تقول له عندما تراه يقرأ:«اذهب إلى الخارج وعش حياتك».. وكأن «انشغالى الصامت هذا كان يتعارض مع تصوراتها عن الحياة»، يقول ألبرتو، وهو يتأمل ذلك الخوف المستشري مما قد يفعله القارئ بكتابه، الذى يشبه الخوف الأزلي الذى يبديه الرجال مما قد تفعله النساء بالأجزاء المخفية من أجسادهن، ومما قد تمارسه الساحرات ويزاوله الكيميائيون فى السر وراء الأبواب الموصدة لمطابخ سمومهم!

لوحة فرانز فالكنهاوس: مكتب الضبط…. لم استطع الهروب منها عندما فكرت في علاقة الديكتاتور بالقراءة

1

ألبرتو يصحبك من الصفحات الأولى في رحلة مع قراء يتتبع كل إيحاءاتهم وقدراتهم ومسراتهم ومسؤولياتهم والطاقات التي تقدمها لهم القراءة. وهو تاريخ مثير؛ ليس لأنه فقط يروي سيرة التحرر الذي يبديه كل قارئ للحظات وهو يمسك الكتاب. ولا لأنه يعتبر أن «القراءة ضرورية مثل التنفس». ولا حتى لأنه يحكي تاريخ القراء العاديين بجوار روايته لتاريخ التطور الذي انتقلت به القراءة من فعل يعلن به الفرد الانتماء إلى الجماعة المغلقة. إلى طريقة لاكتشاف الذات وخصوصيتها المطمورة تحت ركام المعرفة العمومية المستبدة.
طريقته هي التي أعجبتني بالأساس. بدأ ألبرتو مانجويل من هاجس شخصي لرواية حكايته مع القراءة التي أعطته عذرًا مقبولاً لعزلته «بل ربما أعطت مغزى لتلك العزلة المفروضة على. فبعد رجوعي إلى الأرجنتين (بلده الأصلي وكان والده كثير السفر لأنه يعمل في السلك الدبلوماسي) عام 1955 قضيت معظم أيام طفولتي بعيدًا عن أفراد عائلتي، محاطًا برعاية مربيتي، حيث كنا نسكن في أحد الأقسام المعزولة عن المنزل الذي كانت تقيم فيه عائلتي. كان مكان القراءة المفضل لدي هو أرضية غرفتي الصغيرة، حيث كنت أستلقى على بطني وقد ركزت قدمي الصغيرتين في أحد الكراسي. ثم سرعان ما أصبح السرير أأمن الأماكن لمغامراتي الليلية خلال الفترة الضبابية التي كنت أتأرجح خلالها بين اليقظة والخضوع لسلطان النوم. لا أستطيع أن أتذكر قط أنني كنت وحيدًا في لحظة من اللحظات. على العكس تمامًا، فإن ألعاب وأحاديث الأطفال الذين ما كنت ألقاهم إلا نادرًا، وجدتها أقل إثارة بكثير من المغامرات والأحاديث التي كنت أعيشها في كتبي».
«إنني لست وحيدًا»: هذا هو الاكتشاف الشخصي الذي دفعه لتتبع مئات الحكايات واقتفاء آثار النصوص المكتوبة والمقروءة والمطبوعة عبر مختلف العصور وفى الكثير من مكتبات العالم. ليعرف سر القرابة العنيفة بين المتيمين بقراءة الكتب وكأنهم يعيشون حياة سرية متراكمة عبر أزمنة تاريخية. تتناقل الأسرار من شخص إلى آخر. ومن مجتمع إلى آخر.. بين «أولئك الذين أظهروا على مر العصور شغفهم بهذه الكتب أو بتلك، الذين اهتدوا بأحكام الأكبر منهم سنًا، أولئك الذين انتشلوا الكتب من طي النسيان، أو أولئك الذين جمعوا على رفوف كتبهم درر الأدب المعاصر». وهذا هو ألبرتو مانجويل يكتب «تاريخ انتصاراتهم الصغيرة وآلامهم المحجوبة عن الأنظار».
في كل مرة كان ألبرتو يجد حكاية تقوده إلى تفاصيل وحكايات أخرى. يبحث عنها في النصوص. ويبحث عنها في داخله. في ذاكرته التي تبدو دائمًا مثل الكورس في مسرحيات شكسبير. يمنح مفتاح فهم العالم.
هذه الطريقة هي الممتعة. لم يعتمد فيها على تسلسل زمني أو تطور تاريخي. فالحكاية هي التي ترسم طريق اكتشاف طريقها. ترك ألبرتو نفسه تقريبا مثل عاشق في الظلام ينسى معرفته بجسد العشيقة لينفتح أمامه في كل مرة عالم جديد. إنه يلهث وراء تاريخ لم ينته بعد. يبدأ مع كل قارئ. وتدمره كل قراءة جديدة.. وهذا سر الكتاب الذي ينتمي إلى نوعية الكتب التي لا تنتهي قراءتها. أو التي يمكن أن تعود إليها لتطمئن إلى نفسك.
كانت أمه تخاف عليه من التناقض بين القراءة والحياة. وها هو يرد عليها بمقطع من رواية «الحصان الأبيض» للتركي أورهان باموك: «..لا يستطيع المرء أن يبدأ الحياة، هذه الرحلة الوحيدة، بعد أن تكون قد انقضت.. إلا أنك عندما تمسك كتابًا بيدك، مهما كان هذا الكتاب معقدًا أو صعبًا على الفهم، فإنك تستطيع بعد الانتهاء منه، العودة إلى البداية إن أردت، وأن تقرأه من جديد، كي تفهم ما هو صعب، وبالتالي فهم الحياة أيضًا». وهذا هو التناقض بين القراءة والحياة!

2

القراءة تكسر الحياة الرتيبة. تدمر العلاقة بها في لحظة خاطفة. وترتب العالم من جديد. الكاتب التشيكي فرانز كافكا كتب عام 1904 إلي صديقه أوسكار بولاك: «..على المرء ألا يقرأ أبدًا إلا تلك الكتب التي تعضه وتوخزه. إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأ الكتاب إذن؟! كي يجعلنا سعداء كما كتبت؟! يا إلهي، كنا سنصبح سعداء حتى لو لم تكن عندنا كتب، والكتب التي تجعلنا سعداء يمكن عند الحاجة أن نكتبها. إننا نحتاج إلى الكتب التي تنزل علينا كالبلية التي تؤلمنا. كموت من نحبه أكثر مما نحب أنفسنا، التي تجعلنا نشعر وكأننا طردنا إلى غابات بعيدًا عن الناس، مثل الانتحار. علي الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا. هذا ما أظنه».
كافكا طلب من صديق آخر أن يحرق مؤلفاته بعد موته. لكن صديقه لم يحقق له هذه الرغبة. وتم تفسير تلك الأمنية علي أنها لعبة نفسية يصرخ فيها المؤلف: «..أنا غير جدير بالاستحقاق..» وهو ينتظر من الأجيال القادمة أن تصرخ: «.. كلا إنك جدير بالاستحقاق».
لكن هناك تفسيرًا آخر، كما يقول ألبرتو مانجويل، وهو أن كافكا كان يريد لأعماله ذلك الخلود الذي منحته أجيال القراء للكتب المحروقة في مكتبة الإسكندرية، وللمسرحيات الثلاث والثمانين لإسخيلوس، ولكتب لجيوس المفقودة. وللنسخة الأولى من كتاب الثورة الفرنسية لكارلايل التي كانت خادمة أحد الأصدقاء قد رمتها خطأ في النار، وللمجلد الثاني من الروح الميتة لجوجول الذي أمر أحد البابوات المتشددين بحرقه. كافكا ممن يرون أن حياة الكتاب تكتمل لدى القارئ. كل قارئ. وربما لهذا لم ينه أغلب رواياته. إنه يبحث عن حياة أخري لكتابه عبر تلك القراءة المتوحشة التي تقوده كل مرة إلى عالم جديد.
هذا النوع من القراءة مرعب لكل نظام مستقر. مرتب. تبدو المعرفة فيه قادمة من أعلى في اتجاه واحد فقط. اقتربت مرة من تنظيم سياسي من النوع القومي الراديكالي. لم أكن عضوًا بل كنت في مرحلة التصور الساذج الذي يدفعني إلى أن أذوب في أحدها كتعبير عن أهمية أو كهروب من فردية محرمة أو حتى من أجل شيء كبير غامض. توقفت أكثر من مرة عند قائمة ممنوعات كانت تسرب في الخفاء إلى وعي الأعضاء. لا تقرأوا أدونيس. إنه شعوبي. عدو للقومية العربية. لم أقترب أكثر لأعرف بقية القائمة لكنني فوجئت يومًا بزعيم التنظيم يتحدث بسعادة كبيرة عن سهرته الممتعة مع كتاب يجمع بعض الإفيهات الساخرة لكاتب صحافي مشهور. سر دهشتي أنني كنت أضع مراتب ودرجات للقراءة تضع الكتابة الساخرة في مرتبة أدنى من أن تحقق متعة لزعيم سياسي. مثقف. لكن دهشتي بعد ذلك كانت أكبر لأنني وبعد أن أزلت المراتب والفوارق الهرمية بين أنواع الكتب. وبعد أن أصبح ترتيبها يخضع لأفكار مختلفة تمامًا عن تلك الرومانتيكية. وأدركت أن التقييم لا يمكن أن يكون مطلقًا.. المهم كان اكتشافي المدهش أن الزعيم لا يقرأ، وأن هذا الكتاب هو آخر حدود علاقته بالكتب التي قد تتباهى بامتلاك دواوين شعر لمحمود درويش أو سميح القاسم علي سبيل الوجاهة الثقافية ذات الطابع السياسي. لكنها لا أكثر فالعالم مرتب. ولا يمكن الاقتراب من ترتيبه «المقدس». فالمعرفة انتهت. وكل قراءة هي من أجل تأكيدها. وليس الخروج عنها. تلك هي وظيفة القراءة والتثقيف السياسي المنظم: أن تؤمن بما سبق أن عرفه الأولون!

3

«المخاطر المرعبة للقراءة» عنوان مقال ساخر كتبه فولتير مؤكدًا على الفكرة السابقة، فالكتب «تشتت الجهل، هذا الحارس الأمين والضامن الحريص للدول ذات الأنظمة البوليسية». ألبرتو مانجويل تشجع اعتمادًا على مقولة فولتير وقال حكمه التالي: «.. كان الحكام الدكتاتوريون على مر العصور والأزمان، وما زالوا، يعرفون أن الجماهير الأمية سهلة الانقياد، ونظرًا إلى عدم التمكن من إبطال مفعول القراءة بعد تعلمها، يلجأون إلى الحل الثاني الذي يفضلونه ألا وهو منع تعلم القراءة.. إن الحكام الدكتاتوريين يخافون الكتب أكثر من أى اختراع بشرى آخر على الإطلاق. ولذا نرى القوة المطلقة لا تسمح إلا بنوع واحد من القراء فقط، هو النوع الرسمى. وبدل المكتبات الكاملة المملوءة بالآراء المتنازعة لا يراد الإبقاء إلا على كلمة الحاكم بأمره».
كانت دهشة القديس أوغسطينوس عندما دخل على القديس الأكبر منه عمرًا وخبرة أمبروسيوس وجده يقرأ بطريقة عجيبة:«.. كانت عيناه تغطيان الصفحة، وكان يستقبل المعاني بقلبه، وكان صوته يصمت، ويبقى لسانه دون حراك. وكان بمقدور كل واحد أن يقترب منه بمطلق الحرية. ونظرًا إلى أن الضيوف لم يكونوا يعلنون مسبقًا عن قدومهم، كان يحدث عندما نزوره أن نراه يقرأ بصمت مطبق لأنه لم يكن يقرأ بصوت عال قط».
كانت القراءة بصمت فعلاً مدهشًا فى تلك الأزمنة ( القرون الأولى بعد الميلاد ).
القراءة كانت تدرك بالسمع. وهى جزء من أفعال مقدسة يشترك فيها الجسم كله. كان على الجسم أن ينصهر في المعاني التى تجعله ينتمي إلى الجماعة المؤمنة. القراءة الصامتة كانت خطرًا لأنها كانت تعني فعلاً من أفعال الناسك المعتزل. والقارئ الصامت يكسب وقتًا للتمعن بالكلمات والتلذذ بها، والإنصات إلى إيقاعاتها فى داخله، كما يقول ألبرتو عن النص المحروس من أعين الدخلاء المتطفلين. ومع تطور تغليف الكتاب وتحويله إلى مخطوطة بغلافين. أصبح ملك يد القارئ كنز معلوماته السرى، وهذا ما كان يزعج بعض العقائديين وقتها. راقبوا التطور الجديد بشيء من الحذر والريبة. إذ أن القراءة الصامتة حسب اعتقادهم تشجع على أحلام اليقظة وكانت مكمنًا لخطر الانزلاق فى الشهوات الحسية. والقراءة المستقلة. الفردية كانت ـ ولا زالت ـ خطرًا. فهى تسمح بالاتصال البعيد عن الأعين بين الكتاب والقارئ على نحو لم يكن يتحمله حراس العقيدة المغلقة. وهنا يولد «الإنعاش الفريد للعقل..» كما قال القديس أوغسطينوس صاحب الاعترافات الشهيرة.

4

ابن خالتي الكبير كان زهوة العائلة. أطلقوا عليه «طه حسين الصغير» لأنه كان يقرأ الصحف الرسمية الثلاث وهو فى الابتدائى. يتجمع حوله المهتمون من أهل الحى ليسمعوا تفاصيل ما يحدث فى العالم. هذا فى نهاية الستينيات. وقتها كانت الناس حتى فى ذلك الميدان الحيوي فى مدينة مثل المحلة الكبرى يحرصون على متابعة الحدث السياسي. وعبقرية الطفل فى فك طلاسم الحروف المكتوبة وليست فى نقل الأخبار التي قد يسمعونها فى الإذاعة أو التليفزيون. لكنها سلطة الحرف المطبوع تعطى لقارئ الصحيفة ميزة لفتت انتباهي بشكل مبهم وأنا فى سنوات الدراسة الأولى. وقتها منحت رتبة أقل وأطلقوا على اسم ابن خالتي مع إضافة وصف «الصغير» على أساس أنني سأرث العبقرية ما دمت أحرص على التقاط الصحيفة من زوج خالتي الذى كان يؤجر الصحف من البائع الشهير فى المحطة.
ظلت القراءة هي الميزة الوحيدة التى أنفرد بها. لكنها تحولت من سبب لمكانة متوقعة إلى عنصر مطاردة. فقد بدأ أهلي يعاقبونني على الهروب من كتب المدرسة إلى كتب أشتريها بعيدًا عن أعينهم. بدأت أعي وقتها خطر القراءة ومتعتها الخفية. حين عثرت وأنا فى الخامسة عشرة على كتاب ملقى فى الشارع دون غلاف وصفحاته الأولى ضائعة. ظل هذا كتابي السري؛ أكثر من عام أخبئه فى أبعد مكان عن رقابة العائلة وأطلع عليه الأصدقاء المراهقين الباحثين عن منفذ لبركان الرغبات الحسية المحاط بالسيطرة والمنع. بدأت أربط بشكل مبهم بين الحكايات الخرافية في الكتاب وحمى المشاعر والرغبات الغامضة. قبل أن أكتشف بعد سنوات أن هذا الكتاب لم يكن سوى نسخة من ألف ليلة وليلة. بالتحديد من طبعاتها غير المهذبة، لكن ذاكرتي كانت قد سجلت العلاقة بين القراءة ولذة الخروج عن النص الرسمي.

5

 

اللافت هنا أن عملية القراءة فى الثقافة العربية ما تزال عملية معقدة. تتشابك فيها طبائع الاستبداد في الأنظمة السياسية مع خريطة الفقر والثراء فى المجتمعات العربية، إلى جانب علاقات أخرى بين الدولة والمثقفين، وبين المثقفين والمجتمع، وأخيرًا هناك الصدى المرعب للتقدم التكنولوجي الذى يخلق في المجتمعات المتخلفة طبقة من «العارفين الجهلاء» يعرفون استخدام الوسائل المتطورة لكنهم عاجزون عن اكتشاف المعرفة أو إبداعها من خلال هذه الوسائل. وربما تكون رحلة الكتاب فى العالم مرت بمراحل تقنية من الحفر على ألواح الحجر ثم الصلصال إلى أوراق البردي فى مصر القديمة وحتى عجينة الورق الحديثة وصولاً إلى الكتاب الإلكتروني الذى يهدد بالعودة إلى الثقافة الشفهية بعد قرون من اكتشاف الكتابة. إلا أن الكتاب العربي لا يزال أسير رحلة أخرى. تبدأ مصاعبها مع فيروس الأمية المنتشر في بعض البلاد العربية مثل الوباء. ولا تنتهي عند علاقة العرب المتوترة بفكرة الكتابة والكتب. توتر له أصول دينية. فالإسلام يعتبر أن الكتاب هو القرآن. كتاب الله الموحى به من السماء. وهذا يعني أن الكتاب بعقد الألف واللام هو صناعة إلهية. وفى المقابل أى محاولة بشرية إما أن تأتى على هامشه. تفسير. شرح. فالعلم هو الدين والعلماء هم شارحو الدين ومفسرو نصه الكبير. وإما ستكون موضع شك وغرابة. والمرتبطون بكتابة خارج الهامش الديني غرباء يستمدون مرجعيات غربية.
هذه العلاقة المتوترة ربما خفت حدتها الظاهرة. ولم يبق منها إلا فورات ضد كتب تمثل الثقافة الحديثة خاصة حال اقترابها من حدود الدين. وهو ما حدث مع طه حسين في «الشعر الجاهلي» وعلي عبد الرازق فى «الإسلام وأصول الحكم» ومع نصر أبو زيد فى «مفهوم النص». لكن هذه العلاقة لم تجعل الكتب عنصرًا أساسيا فى الثقافة الشعبية. والإنسان العادي لا يلجأ إلى الكتاب إلا فى سنوات التعليم. وخارج هذا ليس هناك غير كتب التفاسير والأحاديث النبوية. ومؤخرًا بعض الكتب السريعة حول قضايا ساخنة. ولا تنتشر عادة القراءة والاهتمام بالكتب إلا فى لحظات تحول المجتمع. أو فى محطة من محطات التحديث المتعثر أساسًا.
هذه الرحلة الصعبة أسفرت عن وضع أقرب إلى التراجيديا. فالكتاب العربي لا يطبع منه الآن أكثر من ألف نسخة (توجد الآن دور نشر تطبع من الأعمال الأدبية خمسمائة نسخة فقط ). ونجيب محفوظ الأوسع انتشارًا بين الروائيين، بسبب السينما ونوبل، طبعته لا تزيد على ثلاثة آلاف. أما نزار قبانى الشاعر الأشهر فيبدو أنه لا يصل إلى رقم العشرة آلاف إلا فى حالات نادرة رغم أن أغانيه روجت لكتبه، ورغم أنه تعدى فكرة الشعر وأصبح من علامات المراهقة وبدايات المعرفة. غير هذا ليس هناك الآن إلا الكتاب السريع الذي يستثمر بهارات القضايا الصحافية المثيرة. توزيع هذه الكتب يعتمد على ضربة الحظ وعلى حساسية خاصة بالسوق ويعتمد أيضًا على «الموضة».. ضربة الحظ قد تصل بأحد هذه الكتب إلى رقم 45 ألف نسخة كما حدث مع كتاب أشار عنوانه إلى اسم الراقصة المشهورة فيفى عبده، واعتمد مؤلفه على نجاح كتبه السـابقة حول اعترافات الفنانات التائبات والبنات المنحرفات.. لم يصنع قنبلته التي نقلتـه فى عام واحد إلى نادي المليونيرات!

 

6

طه حسين ابن هذه المفارقات. هو مارق فى نظر القراءة السائدة. لكنه مشهور ورمز ويمكن اعتباره مثلاً أعلى لفكرة القراءة. ربما يتم هذا بمفهوم اجتماعى يعلي من فكرة التغلب على الظروف الصعبة. وربما أيضًا لأنه بنفسه هو الذي طلب الحجر على كتبه وعاد مرة أخرى للعب بذكاء مع القراءة المسيطرة. لكنه يبقى الأعمى الذي رأى ما عجز عنه مبصرون ملتزمون بالتعليمات. لأنه أصيب بهوى القراءة!
ألبرتو مانجويل كان أحد قراء كاتب أعمى آخر هو خورخى لويس بورخيس، وكانت القراءة على الرجل المكفوف المسن تجربة غريبة بالنسبة له؛ لأن بورخيس كان، كمستمع، سيد النص، كنت مثل قائد سيارة، يقول ألبرتو، أما المكان الذى كان يمتد أمامنا فكان ملك يديه كما يفعل راكب السيارة العادى، الذى ما كان عليه إلا استلهام الطبيعة التى كان يشاهدها. بورخيس كان يختار الكتاب، وبورخيس كان يمنحنى الدعم اللازم، أو كان يطرى الاسترسال فى القراءة، وبورخيس كان يقاطعنى للادلاء بتعليق، وبورخيس كان يترك الكلمات تتوجه صوبه، أما أنا فكنت غير منظور.
لكنه تعلم معه كيف يكون القارئ مخربًا.
تعلم أن القراءة فعل تراكمى يحدث بصورة هندسية.
فى إحدى الجلسات حكى له بورخيس حكاية المظاهرات الشعبوية التي نظمتها حكومة بيرون عام 1950 ضد المثقفين المناوئين للحكم التى كان المتظاهرون يهتفون خلالها: «أحذية نعم، كتب لا»!
أما الهتاف المقابل: «أحذية نعم، كتب أيضًا» فلم يقنع أحدًا. وهكذا فإن الواقع، الواقع القاسى العقلانى كان بالنسبة للجماهير لا يتوافق مع عالم الأحلام الخيالي للكتب. بموجب هذه الذريعة يقوم الحكام بنجاح بتأجيج نار التناقضات الاصطناعية بين القراءة والحياة. والحكومات الشعبوية ـ يقول ألبرتو ـ تطالبنا بأن ننسى، لذا فإنها تدمغ الكتب بأنها بهرجة لا حاجة إليها. أما الحكومات الشمولية فتطالبنا بالتوقف عن التفكير، لذا فإنها تمنع العقل وتلاحقه وتخضعه لمقص الرقيب. إن النظامين يريدان جعلنا أغبياء وإخضاعنا، مما يجعلهما يشجعان على استهلاك القمامات التليفزيونية.

طه حسين وزوجته سوزان بيرسو

7

 

كأنهم قادمون من رحلة جبلية صعبة. وجوههم مرهقة. ورغم سنهم الصغيرو فإن جلستهم علي المقهى تبدو استراحة لإزاحة اثقال كبيرة. يتزايدون يومًا بعد يوم ليرون لنا حكايات خروجهم من جماعة الإخوان المسلمين. تتشابه الحكايات أحيانًا ، وتحول الانتماء إلى الجماعة  لجزء من رابطة العائلة، والمكانة في القرى البعيدة عن القاهرة غالبا، رحلات الخروج تبدأ بالكتب، والإقامة منذ الصغر في مدارات الجماعة وعوالمها يحتاج إلى طاقة هائلة نراهم الآن وهم في مرحل تجميعها. ينطلقون بحثًا عن مدينة غابت عنهم، في مقرات إقامة التنظيم التي تصوروا أنها مدينتهم الافتراضية.. يندهشون حتى الآن كلما وجدوا كلامًا خارج التضاد بين الدين والحياة، يتعجبون من المتيمين بقرءات القران ومقاماته، والابتهال وفنونه المبحرة إلى جمال لا يهتم بمحمولاته.

مرهقون يحبون الذهاب الي المقهي ، يأتون الي جلستنا في زاوية الشارع الصغير..حيث التكعيبة مقهاي المفضل ، عالم كامل تنتقل اليه عندما تصل الي الناصية المحفورة في جسد شارع “شامبليون ” المثقل بورش تصليح السيارات و محلات اطعمة شعبية ، ومقرات اقامة بلطجية وسط البلد المنتظرين عند التقاطعات او بجوار الاكشاك لاوامر السيطرة علي قلب المدينة.

 

8

 

قراءة الكتب كانت محظورة علي العبيد في أمريكا. السادة البيض حكموا بالتعذيب على أي عبد أسود يضبط ومعه كتاب. لهذا فالكتاب عدو الديكتاتور، و القراءة رحلة ممنوعة في كل تنظيم أو جامعة أو دولة تقوم على الوصاية والتسلط. المنع يقوم علي فكرة “أن هذه كتب تفسد العقل”، والمعنى الحقيقي للجملة الخالدة: “… إنها تجعل صاحب العقل غير قابل للسيطرة”، ولهذا تجد في تنظيمات الآيديولوجيا المغلقة قائمة بالكتب الممنوعة قبل تشجيع فكرة القراءة نفسها، كما أنها كانت، وحسب شهادات شخصية سبب الانشقاق الشاب عن الإخوان، لأن تربيتهم تقوم على فرض كتب معينة (عمومًا رسائل حسن البنا، وفي الزواج تحفة العروس…) وفي المقابل منع أي كتاب غير موثق (أي لا تتم الموافقة عليه أو على المؤلف).
الهدف هنا غسيل الدماغ بصنع تقديس حول أفكار عادية (وربما تافهة لشيخ نشيط حركيًّا مثل البنا)… كتاب الرسائل هي تعليمات أو بروجرام، وليست أفكارًا ( يمكن الاختلاف عليها أو البناء عليها) والقراءة بعيدًا عنه ومن وجهة نظر التنظيم لا بد أن تكون لإثبات وتأكيد صحة فكرة التنظيم وعقيدته التي لا تجعل القاريء شاردًا عن القطيع. حكايات الخروج عن “السمع و الطاعة” (أتحدث عن الخروج أو التحرر وليس الانشقاق الذي يعتبر إخوانيًّا اكثر من الإخوان…) تبدأ بالقراءة.
الكتب تحرر العبيد؛ تحرضهم علي رفض الظلم والفساد والتحكم بالريموت كنترول في الحياة الشخصية للرجل أو المرأة. والسادة يخافون من الحرية والمعرفة. يريد الديكتاتور شعبًا من الأغبياء. الأغبياء أسهل في الحكم. لهذا هناك كتب محرمة باوامر الرؤساء والملوك ورجال الدين، والحكام الصغار في البيت والحزب. هناك دائما سلطة تقول لك: ماذا تقرأ؟ وقائمة كتب مباحة. ومسموح بها. مهذبة. وصالحة للاستخدام العلني. وهناك كتب مهربة إلى مكان سري لا تعلن أبدًا انك تحبه. رغم أنه الأكثر أهمية بالنسبة لك. هذه القراءة السرية.. ممتعة ومدمرة. ليس للشخص، بل لمجتمع يفخر بالغباء ويتخيل أنه دليل على تميز خاص. دائمًا كانت هناك سلطة تصادر كتبًا. السلطة تنتهي. والكتاب يعيش.لأن القراءة هي حياة أخرى. واكتشاف جديد. هذا إذا كانت قراءة. وليست مثل هز الرأس في حضرة الذكر.

9

 

الرقيب غبي . سعيد و فخور بمهمة منقرضة انقراض استخدام بيض التماسيح في تقوية عضلات التلاميذ. ولهذا يخرج من أقبية أجهزة الوصاية  كل العجب والعبث. مثل الحكايات الأخيرة من جهاز عجيب اسمه الرقابة على المطبوعات من مواريث الدولة الشمولية التي تريد أن تعرف ماذا يقرأ شعبها كي لا تفسده الأفكار الموجودة في الكتب والمجلات، ورغم أن هذه الدولة هزمت في حرب عسكرية وقامت علي أنقاضها دولة انفتاح “سداح مداح” فإن الجهاز استمر في مهمة محابس الأفكار وفلاتر ما لا ترضى عنه السلطة من أفكار. ومع أنها سلطة عادة ما تفتقد العلاقة بالثقافة والأفكار والعقل بالنسبة لها انحصرت مهارته في صنع حيل الوصول إلى “حظيرة الحكام”، فإن الموظفين الذين يقومون بمهمة المحبس يتمتعون بامتلاك نسخ آلية من هذه العقول الفارغة، وحتى لو كان هناك موظف ألقاه حظه السيء في إدارات من هذا النوع فلا بد أن يتدرب على استدعاء “الرقيب الآلي” الذي عادة ما يمرر كل رديء و سخيف ومتطرف وتافه ويتوقف عند ما لا يفهمه، ويتخيل أن ما يعرفه هو الحد الأقصى للمعرفة، فيصاب بالتوتر والقلق وتتحرك غريزته الرقابية ليمنع ويراقب ويتشكك، وهذا على سبيل المثال ما حدث من كتاب صدر في أول التسعينيات لنصر أبو زيد وسيزا قاسم عن علم الدلالات الذي يسمى “السيميوطيقا”، وهو علم انزوى تأثيره بعد ظهور تطورات أخرى وعلوم جديدة، إلا أن الرقيب المقيم في قبوه ذي الرائحة العفنة انزعج، وأرغى وأزبد وأوقف دخوله لمصر مع أن طبعته السابقة لا تزال في المكتبات ومن إصدار دور نشر مصرية. المشكلة أن هذه الكائنات اللزجة الخارجة من بير السلم تلعب دورها في إعلان السلطة التي تطلب منها أداء هذه المهمة… أي أن هذا الجهاز هو الرائحة التي تقول إن خلفها سلطة لا بد أن يوضع حسابها عند التأليف والنشر والتفكير. ومثل الروائح النتنة فإن موظفي الجهاز يثيرون الرثاء والسخرية فهم يؤدون مهام لا تتم؛ فالكتاب الممنوع لا يمنع أصلاً لكن السلطة التي تمنعه تواصل برنامجها الترويضي لشعوبها، لأنها ترسخ الرقابة كضرورة أو قدر لتريح الخائفين من الحرية. هؤلاء يخافون من أنفسهم وقدراتهم العقلية والنفسية والعاطفية على مواجهة العالم بتصورات يمكن الدفاع عنها، وتجد الرقابة مكانا لأنيابها في عقول هؤلاء الذين يرضون أن يكونوا عبيدًا أو جزءًا من قطيع يشعر بالقوة كلما أعلن المروض عن وجوده وألغى اختياراته. هكذا يصفق قطيع الخوف من الحرية للطاغية، يصفق بحماسة بينما يشعر بالريبة لمن يفكر او يقرأ.
مدينة يعادي حكامها الثقافة ويعتبرون المثقفين أراذل، ويبيعون أوهامهم في “سوق الفضيلة” و”مقاولات الأخلاق” التي تتعارض مع “الفكر الذي تأتي به الكتب، والفكر يعني شعبيًّا: الهم الزائد.
الأمية أحد أدوات الديكتاتورية السهلة، وهذا ما يجعل النسبة تعلو وتنخفض لتدور حول نسبة الـ30٪ الذين لم يدخلوا المدارس او المعسكرات الوهمية لمحو الأمية، وتحتل أغلب النسبة الباقية موقع “الأمية المتعلمة”، بينما شرائح البحث عن بيست سيلرز تنشر إحساسًا متخيلاً باتساع القراءة، أو توزيع الكتاب، ويبقى للقراءة زواياها القليلة كقبائل الرحل القلقة التي لا تستقر في كابينة البضائع لأي نظام، أو التي لا تبحث عن دور الجسر الذي يوهمها دائمًا بموقع التميز، وتدفع في مقابله فاتورة قيادة الشعب إلى حيث يستعرض طغاته مواهبهم في الترويض. وفي المدارس لا يتعلم الطلاب القراءة، يتعلمون فك الخط. وهذا مختلف تمامًا، خاصة عندما تنضم لجماعات تملأ فراغ عقلك ببروجرام كامل، من أفكار تحشو الدماغ، وتصبح ضد التفكير، أفكار ضد التفكير، وحياة لا لذة فيها لأنها مثل الإقامة في عشة فراخ لا تعرف فيها إلا ما يجعلك باقيًا على قيد الحياة. والقراءة هنا ليست ترفا أو تسلية عابرة مع احترامي للترف ومحبتي للتسلية، بل القراءة هي الخروج من سجن اللحظة إلى حيث تبدو البشرية في رحلة تحررها من الأوهام. وعدو القراءة  صديق المستبد و حبيبه، عاشق الأوهام، فخور بالجهل يخترع نظريًّا تسويقه باعتباره حقيقة لا شك فيها.

 * النسخة الأولى غير المكتملة نشرت في شهرية “وجهات نظر”.