عندما بحثوا للقاهرة عن سمراء

مدينة

بدايتها كانت مع صالحة أفلاطون.. ورغبة ما بعد خروج الاستعمار في البحث عن “سمراء” لتكون رمزاً للقاهرة الجديدة.. كانت رغبة من الحكام الجدد بعد 6 سنوات من “ثورتهم”، هي البحث عن ملامح “سمراء” لمدينة صممها الأوروبيون.

نجاة علي حسن الجداوي كانت تجلس بين جمهور حديقة الأندلس، لكن لجنة الاختيار اختارتها.. كما اختارها عبد الناصر لترتدي علم مصر في طابور عارضات الأزياء لأسبوع ثقافي تقدم به مصر وجهها الجديد في عاصمة أوروبية.

سمراء القاهرة وجدت طريقها إذن، وأصبحت ملكة جمال القطن في 1959 حين كان نشاط المجتمع يرتبط حتى وقتها بدورات الطبيعة في البلاد.. وقتها كانت ما تزال “نجاة” واختارها مصمم أزياء يوناني (من بواقي كوزموبوليتانية المستعمرات) لتكون عارضة أزياء.. وهنا تسلمتها صالحة أفلاطون مصممة الأزياء القادمة من هجين ثقافات وأفكار وطبقات، التي اختارت حياتها المستقلة وغادرت البيت الأرستقراطي .. بيت حسن (باشا) أفلاطون، مؤسس علم الحشرات وعميد كلية علوم جامعة القاهرة،و19 سنة و إبنتها إنجي (الفنانة التشكيلية والمناضلة اليسارية فيما بعد ) عمرها لا يتجاوز سنة واحدة لتبدأ صالحة حفر مستقبلها المهني في تصميم الأزياء.. وتفتح طريقاً لم يكن في حسبان التي أصبحت فيما بعد (رجاء) طليعة عارضات مصريات بعد مغادرة العارضات الأجنبيات.

رجاء ابنة مزيج رهيب صنع لهذا الجيل حضور العابر للزمن..جيل الخطوات الأولى…والخروج من المسارات القديمة…المزيج بين التعلم والعمل.. صاحب رجاء الجداوي طوال حياتها؛هي البنت القادمة من الإسماعيلية.. تعلمت في مدارس الفرنسيسكان.. وظلت تتعلم مع كل نقلة في حياتها (لغات و فنون جديدة وتقنيات تتطور كل يوم…ومجتمع يعيش نقلات وصدمات من الأمام إلى الخلف و بالعكس…لم تفقد الذكاء الإجتماعي…ولم تهرب إلي الإنزواء..)…فهي خرجت للعمل في أثناء الدراسة (عملت مترجمة في شركة إعلانات) وحتى غادرت عالمنا بسبب فيروس الكورونا وعمرها 82 سنة ؛ أصيبت في تصوير مسلسل رمضاني.. تاركة أثرًا في كل مكان عملت فيه، من عروض الأزياء إلى التمثيل (كانت عارضة الأزياء الوحيدة التي استمرت في التمثيل..) وفي النجومية لأكثر من 60 سنة، وكذلك في التمثيل الصوتي والتقديم التليفزيوني….وارتبطت في كل رحلتها بما منحته لها لحظة البداية ، حتى كانت النهاية في مستشفى العزل الحكومي بالإسماعيلية.

في بعض مشاهد مسرحية “الواد سيد الشغال” تقف رجاء الجداوي وقد فارقتها رشاقتها القديمة، وإلى جوارها ممثلات جميلات رشيقات وأكثر شبابًا، لكنني لن ألاحظ شيئًا عدا أنها الأكثر أناقة وحضورًا وجمالاً منهن جميعًا..

عاشت رجاء في غرفة خاصة جدًا من قصر النجومية المعقد.. الجميع يحبونها، ويعلقون على جمالها وأناقتها ولطفها البالغ، ودأبها، وصمودها بمرحها وخفة ظلها في وجه الشيخوخة التي لا ترحم أحدًا.. هذه الغرفة تحوي نجمات من نوع خاص، لا يشبهن أحدًا، ولا يشبههن أحد، مع الأخذ في الاعتبار، فارق الموهبة والتمكن، لم يكن من الممكن أن يحصلن على سقف نجومية يتجاوز ما وصلن إليه، مع توفر كل المقومات، على سبيل المثال تهاني راشد، أو سوسن بدر، أو ماجدة الخطيب..

رجاء ليست ممثلة من طراز رفيع، لكنها نجمة من طراز رفيع، هي عارضة أزياء، في مجتمع لا ينتج الكثير من عارضات الأزياء، ولا ينتج الأزياء أصلاً، ومن عروض الأزياء إلى التمثيل، دون تدخل، كما كررت كثيرًا، من خالتها الأسطورية تحية كاريوكا.. ولكن لماذا لا يعترف المصريون بأن هناك أكثر من شكل من أشكال النجومية، نجومية التفرد.. حين يقدم الشخص ما لا يقدمه غيره.. الخليط المحبب والغريب، السيدة القادمة من بيت بسيط جدًا.. وتتكلم الفرنسية بطلاقة.. وحين تؤدي دور سيدة من الطبقة العليا لن يكذبها أحد..