كسارة البندق

في رأس السنة …الساحر وحده يعرف

الكشف عن كسارة البندق

عمرو ماهر

ارتبطت أجواء عيد الميلاد واحتفالات رأس السنة بأشياء ثابتة كل عام.. منها شجرة عيد الميلاد.. سانتا كلوز.. مجسمات مغارة الميلاد.. ألوان عديدة من الحلوى والهدايا.. أشياء صارت في الوجدان الجمعي والاحتفالات الفلكلورية عالميًا دون تمييز لديانة.. 

في الصورة إعلان عن عطر. يرجع تاريخ الإعلان إلى ديسمبر 1971.. استخدم المصمم فكرة ملوك المجوس الحكماء الذين اهتدوا بنجمة الميلاد، حتى وصلوا بيت لحم عند الطفل الموعود، الذي تحدثت عنه الكتب والنبوءات، فركعوا بين يديه وقدموا له الهدايا تعظيمًا وإجلالًا..

ومن هذه الأشياء الثابتة، تستعاد كل عام حكاية كسَّارة البندق على جميع مسارح العالم، وعلى شاشات التليفزيون.. ولكن ما هي قصة كسَّارة البندق؟ هذه القصة البسيطة المليئة بالحلاوة والحلوى حرفيًا، هي في الحقيقة قصة عن الحب، وقسوة القلب، والجحود، وتنكر الملوك للمعروف ولا مبالاتهم إلا بأنفسهم كما سنرى..



إرنست هوفمان 1816

في عام 1816 أصدر الكاتب الألماني إرنست هوفمان حكايته القصيرةكسَّارة البندق وملك الفئران Nussknacker und Mausekönig” في برلين.. بنى هوفمان الشاعر حكاية خيالية عذبة حول دمية كسَّارة البندق والتي كانت تقليدًا فلكلوريًا ألمانيًا، تُستخدم في سهرات الميلاد الدافئة..

تبدأ الحكاية ليلة عيد الميلاد، عشيّة الرابع والعشرين من ديسمبر، في منزل الطبيب شتولباوم وطفليه فريدريك وماري ذات السبع سنوات.. ينتظر الطفلان العيد بفارغ الصبر لأنهما يعرفانمثل كل عيدسيحضر الأب الروحي لهما العم دروسيلماير.. كان المستشار دروسيلماير صديقًا مقربًا للعائلة، وهو رجل نحيل عجوز، مخيف الشكل قليلًا.. أسمر الوجه جاف البشرة، وأصلع الرأس تمامًا يضع على رأسه جُمّة بيضاء.. وكانت له عين واحدة سليمة، أما الأخرى فقد وضع فوقها عصابة سوداء..

كان العم دروسلماير هو فرح الأولاد لِما يجلبه لهم من ألعاب وهدايا عجيبة.. كان الرجل بارعًا في الميكانيكا، لذلك كان يصنع لهم تحفًا دقيقة متحركة ليس لها مثيل.. كما كان قادرًا على إصلاح أي عطب أو خلل يصيب أحد أجهزة البيت أو ساعاته الكثيرة..

ليلة عيد الميلاد يحضر الأب الروحي دروسيلماير وتتجمع العائلة ويفُضّ الأطفال الهدايا المُغلّفة.. تعجب ماري بدمية تبدو قبيحة؛ هي تمثال كسَّارة البندق ذو الرأس الكبير والفم العريض الذي يستخدم لكسر الجوز، وجسم رفيع نحيل غير متناسق مع ضخامة الرأس.. كان كسَّارة البندق رغم قبحه يرتدى ثياب أنيقة كثياب أمير فارس مما أشعر ماري بنبله.. أثناء الاحتفال يحاول أخوها الكبير فريدريك أن ينتزع منها تلك الدمية القبيحة في محاولة لاستفزازها ويبدأ في تحريكها برعونة ويحشر داخل الفم العديد من الجوز فينكسر الفم..

انتهى الحفل وانصرف الجميع، وخلد البيت للنوم وأطفئت الأنوار، لكن ماري لم تستطع النوم، وفي الليل أرادت أن تذهب مرة أخرى لحجرة الألعاب وشجرة الزينة لتطمئن على كسَّارة البندق الجريح الذي وضعته في بيت الدمى الخاص بها.. في الحجرة توجد ساعة جدارية تعلوها رأس بومة ذات عينين متسعتين.. ما ان دخلت ماري حتى تشكّلت رأس البومة إلى وجه المستشار دروسيلماير والعصابة السوداء على عينه العوراء.. بدأت عقارب الساعة تدور في جنون وتدق بدوي فظيع، ومع التكات بدا دروسيلماير وكأنه ينادي بأغنية سحرية خاصة تستحضر ملك الفئران.. ومع الدق دبَّت الحياة في الدمى الموجودة في الحجرة أسفل الشجرة وفي الخزانة المخصصة للدمى.. وظهر فجأة في الحائط البعيد شق خرج منه فأر ضخم بشع له سبعة رؤوس يلبس تاجًا على كل رأس، وخلفه جيش من الفئران.. دعا ملك الفئران كسَّارة البندق للنزال، وبدأت معركة بين الفئران وبين كسَّارة البندق الذي هب للدفاع ومعه باقي الدمى من ألعاب فريدريك الذكورية من جنود وخيّالة ومدافع..

وقفت ماري المذعورة في ركن الغرفة، تشاهد المعركة الدائرة على الأرض وكأنها تحلم.. كان قلبها معلقًا بكسَّارة البندق وأحست بنبله رغم غرابة وجهه الظاهرة.. استطاع جيش الفئران دحر جميع الدمى التي لم تكن في مثل ضراوتها، ورغم استبسال الجنود الدمى بقيادة كسَّارة البندق، تمكن ملك الفئران من المعركة وكاد يجهز على كسَّارة البندق، لولا أن صرخت ماري بلا وعي وألقت بفردة خُفّها تلقائيًا تجاه ملك الفئران البغيض، ثم اختل توازن ماري وسقطت على لوح زجاج من أرفف الخزانة فتحطم اللوح بصوتٍ عالٍ وانجرح ذراعها، وقبل أن تعرف مصير المعركة فقدت الوعي..

أفاقت ماري صباحًا لتجد نفسها في حجرتها وذراعها مضمدة ووالديها حولها.. وجدتها أمها فاقدة الوعي بعد أن وقعت وجرحت ذراعها ونزفت.. كانت ماري في أثناء غيبوبتها تغمغم بكلام عن كسَّارة البندق وجيش الفئران البشعة، وحين أفاقت لم تجد شيئًا من ذلك، وحين حاولت أن تخبر الجميع عن المعركة التي شهدتها، ابتسم لها الجميع باعتبارها كانت تحلم.. زارها الأب الروحي دروسلماير وحاولت أن تستفسر منه عن تواجده فوق الساعة، لكنه ابتسم في غموض وكأنها تهذي.. ثم أخرج لها كسَّارة البندق وقد أصلحها من جديد بعد أن كُسِرت وقت الحفل.. وأراد أن يسليها في أثناء رقادها في السرير، فقرر أن يحكي لها حكاية كسَّارة البندق وصانع الساعات الماهر..

في مدينة نومبرج الألمانية كان هناك ملك عظيم يحب الأكل، وذات يوم قرر أن يدعو كل معارفه وأنسباءه وخلصاءه إلى مأدبة عظيمة، وأمر زوجته الملكة أن تعد له أشهى وجبة يحبها وهي السجق أو المقانق بالمرق (لا تنسَ أن كاتب الرواية ألماني الجنسية، والمقانق وجبة أساسية عند للألمان).. كانت الملكة ماهرة في عمل ذلك الصنف، وكان المرق أعظم شيء بالنسبة للملك الشره.. في أثناء الدعوة أجادت الملكة في الطهي بصورة استثنائية، وتصاعدت رائحة المرق الشهي من المطبخ إلى أرجاء القصر.. وفي المطبخ خرجت ملكة الفئران من مكمنها تحت الأرض إثر الرائحة الشهية، وظهرت للملكة التي فزعت لمرآها وجزعت.. طالبت ملكة الفئران بنصيبها من الوليمة باعتبارها ملكة هي الأخرى، وقبل أن تنتظر ردًا هجمت مع أولادها السبعة وأقربائها وذويها على المرق فأتوا عليه جميعًا..

طال مكوث الملك الجالس مع المدعوين على المائدة في انتظار وجبته الشهية التي تأخرت فجأة.. وإذا بالملكة تقتحم المكان في جزع وتخبره بما حدث من ملكة الفئران وأولادها الذين التهموا وليمة الملك.. ثار الملك وقرر إنزال العقاب بملكة الفئران ونسلها، ولكن كيف السبيل للوصول إليها لمعاقبتها.. أمر الملك مستشاره الحكيم دروسلماير (كريستيان إلياس دروسلماير) أن يجد طريقة لذلك.. كان دروسيلماير مخترعًا وحكيمًا متبحرًا في شتى العلوم، ففكر في صنع مئات المصايد الميكانيكة التي تنغلق تلقائيًا على الفئران.. ونجحت الفكرة وتم القبض على مئات الفئران من نسل الملكة وقتلهم.. إزاء ذلك ظهرت ملكة الفئران للملكة وتوعّدت بالانتقام لأولادها بأنها ستلعن ابنة الملك الوليدةبيرليباتالتي وضعتها الملكة حديثًا.. وقد كانت الطفلة جميلة جدًا لدرجة أن الملك رقص على قدم واحدة من الابتهاج عندما شاهدها فور مولدها، ومعه رقصت الحاشية كلها على قدم واحدة..

خافت الملكة على طفلتها، وأحاطت مهدها بالعديد والعديد من المربيات لحراستها ليلًا ونهارًا، وكانت كل مربية تضع على حجرها قطة جاهزة لافتراس أي فأر يظهر في المكان.. لكن الإنسان لا يستطيع أن يكون حريصًا أكثر من اللازم، وفي ساعة من ساعات الليل ومع الهدوء وصوت قرير القطط التي تملأ الغرفة، داعب النوم عيون جميع المربيات وهن يمسدن ظهور القطط اللاتي على حجرهن، وفي غفلة تسللت ملكة الفئران حتى وصلت للمهد وعضت الطفلة وهربت في أقل من دقيقة، واستيقظ الجميع على صوت بكاء الطفلة المحموم، وحين تطلعوا للمهد شاهدوا الأميرة الجميلة وقد شاهت خلقتها ومُسخت.. كبر حجم رأسها بالنسبة لجسدها الضئيل واتسعت عيناها وأصبحت محدقة على الدوام وكبر فمها الدقيق واتسع من الأذن للأذن.. صارت كدمية كسَّارة البندق..

اللوحة للرسام أرتوس شاينر

حزنت الأم وطالبت الملك أن يجد حلًا لهذه اللعنة، فصب الملك غضبه على المستشار دروسلماير وتوعده إن لم يجد حلًا خلال أربعة أسابيع فسوف يقتله.. حاول دروسلماير أن يجد حلًا وفحص الطفلة علّه يجد شيئًا يمكن علاجه، لكنه وجد أنها ستزداد قبحًا كلما نمت مع الأيام.. وكان المُلاحَظ على الطفلة بعد اللعنة أنه أصبح لديها شهية عجيبة لأكل الجوز وتكسيره بأسنانها القوية، وكانت تبكي على الدوام ولا تسكت إلا بعد أن يحضروا لها الجوز وتكسره بأسنانها وتأكله..

شعر دروسلماير الحكيم أن حل اللعنة مرتبط بالجوز، وفي اليوم الأخير من المهلة التي أعطاها له الملك، رأى دروسلماير أن يستطلع النجوم والفلك علّه يجد إجابة عن مصير الأميرة وطريقة كسر اللعنة.. وعرف أن حل اللعنة يكمن في ثمرة جوز نادرة ذات قشرة صلبة لا مثيل لها اسمهاكراكاتوكلا تقدر على كسرها ثمانية وأربعون مطرقة وإن اجتمعت جميعًا.. تنكسر اللعنة عندما تأكل الأميرة الجوزة بعد أن يكسرها بأسنانه شاب لم يرتدِ حذاء برقبة طيلة حياته ولم يحلق شعره، وبعد أن يكسرها يكون عليه أن يسير سبع خطوات للوراء وهو مغمض العينين دون أن ينظر خلفه ودون أن يتعثر، عندها فقط تنكسر اللعنة وتعود الأميرة لجمالها ثانيةً..

ذهب دروسلماير للملك بهذه الأخبار، وظن الملك أن ترتيب مثل هذه الشروط أمر سهل، وطلب من دروسلماير إحضار الجوزة والشاب على الفور، لكن دروسلماير أفهمه بلين أنه تمكن من معرفة طريقة كسر اللعنة أما التنفيذ فأمر آخر، لأنه ما يزال عليهم إيجاد الجوزة النادرة أولًا.. اهتاج الملك الذي كان يفتقد لأي حلم أو عقل، وهدد دروسلماير بالقتل ثانية، لولا تدخل زوجته.. 

ارتحل دروسلماير الحكيم في بلاد الله لمدة 15 عامًا، وطاف بالأرض شرقًا وغربًا، وفي أثناء ترحاله الشاق وبحثه المحموم الذي لا يكل ولا يمل خوفًا من بطش الملك المجنون، لوّحت الشمس بشرته وجعلته أكثر اسمرارًا وأشد نحولًا وجفافًا، وتساقط شعره بالكامل، كما فقد إحدى عينيه.. وبعد سنوات البحث المضني الذي لم يسفر عن شيء تملك اليأس من روح دروسلماير وامتلأ قلبه بالشوق والحنين لبلده، وقرر أن يعود وليكن ما يكون..

عاد دروسلماير ودخل المدينة خفية، وذهب تحت جنح الليل إلى بيت أخيه كريستوفر، والذي كان صانع ألعاب خشبية.. قص عليه دروسلماير حكاية بحثه المضني طيلة هذه السنوات عن جوزة كراكاتوك النادرة.. وما أن سمع أخوه عن مواصفات تلك الجوزة حتى تملكته الدهشة والعجب والفرح في آن واحد، وأخبر دروسلماير أن الجوزة النادرة التي يبحث عنها ربما كانت موجودة هنا والآن في هذا المحل.. وأمام عيني دروسلماير المندهش أخرج أخوه صندوقًا صغيرًا وعرض ما بداخله عليه.. كان بداخله جوزة ذات قشرة مذهبة صلبة لا تشبه أي جوزة أخرى..

وبدأ الأخ يقص على أخيه حكاية تلك الجوزة العجيبة وكيف وصلت إليه.. ذلك أنه منذ سنوات في ليلة عيد الميلاد مر بائع غريب فقير يحمل كيسًا مليئًا بالجوز، للبيع بسعر زهيد.. تشاجر مع البائع الغريب بائع جوز آخر من أهل البلدة، وفي أثناء الشجار وقع كيس الجوز من البائع الغريب ومرّت عربة تجرها الخيول مسرعة فوق الجوز فهشمته جميعًا إلا واحدة.. حدث ذلك الشجار أمام محل الأخ الذي شاهد كل شيء من البداية.. بعد انتهاء الشجار عرض البائع الغريب عليه أن يشتري الجوزة السليمة مقابل جنيه ذهبي.. لم يدر كريستوفر لماذا أراد فعل ذلك، لكنه لدهشته وجد في جيبه الجنيه الذهبي وأعطاه للغريب وأخذ الجوزة العجيبة التي لم تنكسر تحت أقدام الخيل القوية أو العربة الثقيلة..

تفحص دروسلماير الجوزة ووجد محفورًا على قشرتها بخط دقيق بالحروف الصينية اسمكراكاتوكلم تقف المصادفات عند هذا الحد، فعندما أخبر دروسلماير أخاه بمواصفات الشاب الذي يجب عليه كسر الجوزة، أخبره أخوه أن هذه المواصفات تنطبق على ابنه الشاب الذي لم يحلق شعره قط ولم يرتدِ حذاءً ذا رقبة منذ مولده.. وأخيرًا أيقن الأخوان أن الله كافأ صبرهما وأن الثروة والمجد مقبلان عليهما..

فكّر دروسلماير وأخبر أخيه أنهم سيحضرون الجوزة للملك فقط، ولن يخبروه أنهم وجدوا الشاب أيضًا.. وذلك لأن دروسلماير قرأ في النجوم أن الملك بعد أن ييأس من إيجاد أحد يستطيع كسر الجوزة، سيعلن عن تقديم ابنته ومُلكه مكافأة لمن يستطيع كسر الجوزة واللعنة.. وبالفعل حدث ما رآه دروسلماير، وتقدم العديد من الأمراء والفرسان للمحاولة أمام عرش الملك والملكة، والأميرة التي ازداد قبحها مع مرور السنوات، فانكسرت أسنانهم، ولم تتأثر الجوزة..

وعندما أعلن الملك عن تزويج ابنته لمن يفك اللعنة، تقدم الشاب سليل أسرة دروسلماير وحيّا الملك والملكة والأميرة بأناقة وأدب، وتناول الجوزة أمام عينيّ عمه الحكيم الذكي.. وفي الحال كسر الشاب الجوزة بأسنانه القوية، وقدّمها للأميرة التي تناولتها على الفور، وفي لمح البصر ارتدت الأميرة إلى جمالها مرة أخرى.. ارتبكت الحاشية كلها امام هذا الجمال، وفقدت الملكة وعيها وبدأت الوصيفات يرششن عليها الماء، ونهض الملك يرقص على قدم واحدة ومعه كل من في البلاط تمامًا مثل يوم مولد الأميرة.. وسط كل هذا الصخب والهرج ما يزال على الشاب أن يغمض عينيه ويتراجع بظهره سبع خطوات بلا تخبط لتنكسر اللعنة نهائيًا.. بدأ الشاب الواثق من نفسه التحرك للخلف كما علمه عمه دروسلماير، ومع الخطوة السابعة ظهرت من تحت الأرض ملكة الفئران ووضعت جسدها حائلًا بين قدم الشاب وخطوته الأخيرة، فداس عليها واختل توازنه وسقط.. وما أن سقط الشاب حتى انقلبت عليه اللعنة وتحول من فوره إلى كسَّارة بندق قبيحة كبيرة الرأس تمامًا كما كانت الأميرة منذ قليل.. 

هدأ البلاط إزاء ما يحدث، وما أن رأت الأميرة كسَّارة البندق القبيحة حتى أشاحت بوجهها وأمرت الحراس بإلقائه بعيدًا، أما الملك فقد غضب مجددًا وتنصّل من وعده بتزويج ابنته من الذي يكسر اللعنة، وألقى باللائمة كلها على دروسلماير المسكين، وأمر بنفيه من المملكة.. أما ملكة الفئران فقد أُصيبت إصابة بليغة بعد أن داس عليها الشاب، وبينما هي تلفظ أنفاسها الأخيرة توعّدت كسَّارة البندق أن يعود ابنها ذو السبعة رؤوس لينتقم لها..

اللوحة للرسام أرتوس شاينر

تألم دروسلماير لما آلت إليه الأحداث بعد كل هذا العناء، ونظر مرة أخرى إلى طالع ابن أخيه في الكواكب ووجد أنه مقدر له أن يكون أميرًا ويعود إلى هيئته، فقط عندما يهزم ابن ملكة الفئران وتقع في حبه فتاة شابة دون النظر إلى وجهه المضحك وهيئته المتنافرة البشعة.. ومن ذلك اليوم وكسَّارة البندق معروض في الواجهة الزجاجية لمتجر أبيه صانع الدمى في كل عيد ميلاد، علّه يجد الفتاة التي تأخذه وتكسر اللعنة..

انتهى الأب الروحي دروسلماير من حكاية كسَّارة البندق تاركًا ماري الصغيرة غارقة في الحيرة والدهشة.. من هو دروسلماير؟ هل هو نفسه مستشار الملك؟ وهل كسَّارة البندق التي أهداها إياها في عيد الميلاد هي نفسها ابن اخيه الشاب المسحور؟

في الأيام التالية تحسّنت صحة ماري واستطاعت النهوض من السرير والنزول لتلعب من جديد.. كانت ترمق كسَّارة البندق في الخزانة الزجاجية بإعجاب وقد أيقنت في نفسها أن القصة التي رواها الأب دروسلماير حقيقية وأن كسَّارة البندق ما هو إلا الشاب الصغير سليل أسرة دروسلماير.. وذات ليلة من الليالي التالية، وفي جنح الليل ظهر ملك الفئران الشرير من تحت الأرض، وصعد إلى حجرة ماري، وأيقظها في وحشية، وأخبرها إن كانت تريد أن تحمي كسَّارة البندق منه فيجب عليها أن تحضر له غدًا في الموعد نفسه كل الحلوى التي لديها.. فعلت ماري ما طلبه منها، وفي اليوم التالي، طلب منها أن تحضر غدًا كل الفطائر التي لديها، ففعلت ماري مرغمة لحماية أميرها الحبيب، وفي الموعد المحدد ظهر لها مرة أخرى وطلب منها أن تحضر غدًا فستانها الجديد الجميل الخاص بعيد الميلاد.. في تلك الليلة بكت ماري ولم تدر ماذا تفعل، هل تطيع ملك الفئران لتحمي كسَّارة البندق المسكين، وإلى أي مدى سيظل يطلب منها ذلك البغيض كل يوم طلبًا جديدًا.. هنا تحرك كسَّارة البندق وطلب منها أن تحضر له سيفًا بدلًا من السيف الذي فقده أثناء المعركة الأولى، ولا تخشى شيئًا، وفي الليلة التالية سيكون حاضرًا وجاهزًا للقضاء على ملك الفئران.. فعلت ماري كما طلب منها، وأحضرت له سيفًا من سيوف فرسان ألعاب أخيها فريدريك.. وفي الليلة التالية حين حضر ملك الفئران وجد كسَّارة البندق في انتظاره شاهرًا سيفه.. ودار نزال عنيف بين الاثنين انتهى بهزيمة ملك الفئران ومقتله..

 قدم كسَّارة البندق تيجان ملك الفئران السبعة هدية لماري، ثم عرض عليها أن تذهب معه في رحلة ليريها مملكة الدمى التي يحكمها.. وبالسحر تقلص حجم ماريا حتى صار مثل حجم كسَّارة البندق كالدمية.. ثم من خلال بوابة سحرية مخفية داخل دولاب الأنتيكات انتقلا إلى مملكة الدُّمَى والحلوى..

خلال تلك الرحلة الغريبة شاهدت ماري العديد من العجائب.. أنهار ومروج من الحلوى والشيكولاتة المختلفة.. بجع أنيق يجر مراكب تتهادى، وخدم قرود في ثياب مزركشة يعزفون الموسيقى، وروائح عطرية وشهية تضوّع بالمكان، وفواكه ذهبية وفضية تتدلّى من الأغصان.. قرية كعك الزنجبيل Gingerbreadville ثم مدينة البونبون Bonbon Town وأخيرًا العاصمة الكبيرة بلد المُلَبَّس Confectionville.. كانت العاصمة أبهر وأعظم من كل شيء وقعت عليه عينا ماري.. البيوت في أزهى ألوان وجميعها مصنوعة من السكر ومخفوق الأيس كريم.. ثم توجّها إلى قلعة المارشبان (نوع من الحلوى أيضًا) وهناك أٌستُقبل الأمير وماري بالترحاب الأعظم، وأعلن كسَّارة البندق أمام مملكته من الدمى أنه مدين بحياته لماري، التي قذفت بحذائها في الوقت المناسب على ملك الفئران، وضحّت بكل غالي لديها من أجل الحفاظ على حياته، وسلّحته بالسيف الذي قضى به على ملك الفئران الشرير، وأنها أكثر طيبةً وجمالًا وعطفًا من الأميرة التافهة بريليبات.. بعدها أقيم حفل راقص كبير احتفالًا بهما في القلعة، ومع كثرة الكلام والطعام والشراب والرقص والموسيقى، دار رأس ماري وغابت في النوم..

استيقظت ماري صباحًا في سريرها، ووجدت أمها أمامها مندهشة من استغراقها في النوم لوقت متأخر حتى كاد أن يفوتها الإفطار.. بدأت ماري تقص على أمها العجائب التي رأتها مع الأمير دروسلماير الصغير، ولكن أمها أكدت لها أن كل هذه مجرد أحلام بدليل أن دمية كسَّارة البندق ما تزال كما هي في الخزانة الزجاجية بالحجرة.. ولكن ماريّا أصرت على كلامها، ولتثبت لوالديها حقيقة ما حدث عرضت عليهم التيجان السبعة التي أعطاها إياها كسَّارة البندق.. تفحّص والدها التيجان ودقة صنعها ومعدنها الغريب وأدرك أن هذه التيجان لا تقدر على صنعها يد بشرية، لكن منطق العقل كان يتعارض مع ما تقوله ماري الصغيرة، فرفض الجميع تصديقها..

وقفت ماري بيأس أمام الخزانة الزجاجية الموجود بها كسَّارة البندق، وتنهّدت بحسرة وتمنّت لو كان الأمير حيًا فهي تؤمن بنبله وأنه في الأصل شاب وسيم، وأنها ما كانت لتتصرف مثل الأميرة بريليبات التي قللت من شأنه وتنكّرت له.. في هذه اللحظة بالذات وصل العجوز دروسلماير وصاح بفرح، ولوهلة انزلقت ماري إلى غيبوبة عجيبة، وحين أفاقت وجدت الجميع حولها في دهشة من إغماءتها، ثم قدموا لها الشاب ابن أخ دروسلماير الذي وصل لتوه من نومبرج.. تقدّم الشاب الوسيم ومعه العديد من هدايا الحلوى والألعاب لماري تمامًا كالتي أخذها منها ملك الفئران، وسيف جميل هدية لفريدريك.. وفي النهاية جلس الجميع للمسامرة وبدأ دروسلماير الشاب في تكسير الجوز لهم، وحتى أقسى الجوزات لم تستعصِ على أسنانه القوية.. وحين انفرد الشاب بماري ركع أمامها وأعلن لها عن حقيقته وكيف خلصته بحبها وعطفها من اللعنة ثم أخذها لتشاركه حياته والحكم في مملكة الدمى..

ألكسندر دوما الأب 1844

ظلت حكايةكسَّارة البندق وملك الفئرانحبيسة اللغة الألمانية حتى عام 1844، حين نقل الكاتب الفرنسي الكبير ألكسندر دوما الأبصاحب الفرسان الثلاثة والكونت دي مونت كريستورواية هوفمان إلى الفرنسية.. لم يترجم ألكسندر دوما الرواية بل صاغها من جديد بلغته الفرنسية وبأسلوبه.. بدأ ألكسندر دوما الحكاية بجلوسه مع ابنته الحقيقية الصغيرة ماري، والتي يتصادف اسمها مثل اسم بطلة القصة.. وضعها والدها على حجره وأخبرها أنه سيقص عليها حكاية كتبها العم هوفمان الألماني.. ثم بدأ يسرد الحكاية بأسلوبه دون اختلاف كبير عن الأصل..

من بعد ألكسندر دوما انفتحت أبواب المجد للحكاية الخيالية المحليةكسَّارة البندقوعن النقل الفرنسي لا الأصل الألماني انتقلت الرواية إلى العديد من اللغات، حتى أخذها تشايكوفسكي وكتب موسيقى الباليه المشهور المقتبس عن حكاية ألكسندر دوما الأب.. 

تشايكوفسكي 1892

في عام 1892 تحولت الحكاية القصيرةكسَّارة البندقإلى باليه من فصلين على يد الموسيقار الروسي تشايكوفسكي.. وهو الباليه الثالثة والأخيرة التي يضعها تشايكوفسكي من بعدبحيرة البجعوالجمال النائم“.. تغير اسم البطلة في الباليه من ماري إلى كلارا، وكلارا في قصة هوفمان الأصلية هو اسم دمية جميلة من دمى ماري ساعدت كسَّارة البندق في معركته الأولى مع ملك الفئران..

يبدأ تشايكوفسكي الباليه بمقدمة قصيرة سريعة أو مُنَمنَمة Miniatur Overture، تحفّز المشاهد للقصة الطريفة والأحداث العجيبة التي سيشهدها، مع استحضار أجراس الميلاد عن طريق آلة التريانتو أو المثلث.. بعد المقدمة تبدأ حفلة عيد الميلاد في منزل الدكتور شتولباوم، ويدخل الضيوف على موسيقىإنارة شجرة الميلاد“.. ونرى بطلة العمل كلارا الرقيقة وفي المقابل نرى أخاها فريتز الشقي، وأصدقاءه الصبيان يلوحون بسيوفهم الخشبية بقوة مع موسيقىالمارشالشهير..

يصل الجد دروسلماير، أشبه بساحر عجوز عجيب ويبدأ في تقديم هداياه العجيبة وممارسة ألعابه السحرية بعصاه أمام الحضور، ومعه العديد من الدمى الميكانيكية التي تتحرك وترقص بالزنبرك.. وكما في القصة تنكسر لعبة كسَّارة البندق على يد فريتز السخيف وتحزن كلارا.. وبعد انصراف المدعوين تنطفئ الأنوار وتبقى كلارا مع لعبتها.. ثم يظهر الجد دروسلماير وهو يقوم بحركات البومة المرعبة ويبدأ في استدعاء ملك الفئران وجيشه، وتصطف الألعاب في المواجهة بقيادة كسَّارة البندق، وكلارا تشاهد في رعب.. وكما في رواية هوفمان تُنهي كلارا المعركة بقذف حذائها في وجه ملك الفئران فيتمكن كسَّارة البندق من طعنه..

يختصر تشايكوفسكي القصة فيتحول كسَّارة البندق على الفور إلى الأمير الجميل بعد هزيمة ملك الفئران، وتتحول كلارا الصغيرة إلى فتاة شابة جميلة.. بعدها تتضخم شجرة الميلاد لتصبح وكأنها غابة كاملة من أشجار الصنوبر يجتاز عبرها الأمير مع كلارا إلى مملكة الدمى أو أرض الحلوى كما يشير إليها الباليه.. ويظل دروسلماير حاضرًا في خلفية المشاهد وكأنه يتأكد من دوام السحر..

عبر غابة الصنوبر وتحت ندف الثلج المتساقط (Waltz of the Snowflakes) يأخذ الأمير كسَّارة البندق معه كلارا إلى أرض الدمى والحلوى.. وهناك يبدأ الاحتفال بمن أنقذت الأمير وترقص أمامها أنواع الحلوى المختلفة.. ترقص لها الشوكولاتة رقصة إسبانية مع الكستانيت.. ثم القهوة تقدم رقصة عربية، حاول فيها تشايكوفسكي أن يصور صمت الصحاري المترامية، وصبر وأناة قوافل الجمال السيّارة بموسيقى بطيئة متمهلة تبدأ منخفضة بمجموعة تشيللوهات غليظة عميقة النغمة، كمشايخ بعمائم كبيرة يدخنون الغليون في كسل، يتخللها صوت صليل أفاعي الصحراء عن طريق صاجات التامبورين..

ثم يرقص الشاي رقصة صينية.. بعدها المصّاصات برقصة التريباك من الفولكلور الروسي.. ثم حلوى ألمانية ترقص على أنغام مزامير الرعاة الألمان.. وأخيرًا ختام الاحتفال ترقص الزهور أمام كلارا Waltz of the Flowers.. بعدها يصل بنا تشايكوفسكي إلى درة ألحان هذه الباليه.. رقصة لاثنين (Pas de Deux) بين الأمير كسَّارة البندق وكلارا.. لا بد أن تسمعها لتستشعر اللوعة والحب بين البطلين وجمال الحلم الذي يعيشان فيه، والذي سيُنتزعان منه بعد قليل.. تبدأ الموسيقى كما قصتنا ناعمة كالحلم، وتتصاعد الوتريات ثم تتدخل آلات النفخ؛ ولن تصدق مدى الرقة والعذوبة ما لم تسمعها..

بعد الرقصة بين البطلين تحيي جميع الحلوى والدمى والزهور كلارا وتلوّح لها وداعًا في الفالس الختامي، وفجأة يختفي الجميع ومعهم الأمير كسَّارة البندق، وتجد كلارا نفسها في منزلها تحلم..

ديزني 1940-2018

في عام 1940 وظّف والت ديزني مقطوعات موسيقية من باليه كسَّارة البندق في فيلمفانتازياالشهير، الذي يتكون من مجموعة سكتشات مختلفة لا يجمعها سوى فكرة واحدة هي الموسيقى فقط.. استخدم ديزني ورساميه موسيقى تشايكوفسكي خارج إطار حكاية كسَّارة البندق، في لوحات جديدة من وحيهم وخيالهم.. وكانت في ذلك الوقتعام 1940- ما يزال باليه كسَّارة البندق لم يحظ بأي شهرة أو شعبية، ومع ذلك اشتهر منه بعض المقطوعات التي قرر ديزني استخدامها، وهي مقطوعات رقصات الحلوى وفالس الزهور..

في عام 2018 استلهمت شركة ديزني تحفة تشايكوفسكي مرة ثانية، وقدمت فيلم (The Nutcracker and the Four Realms) الذي أطلقته قبيل أعيد الميلاد.. الفيلم مبني بكثير من الحرية في الكتابة على قصة الباليه والتي هي أصلا مبنية بأريحية عن ترجمة الفرنسي ألكسندر دوما الأب وليست القصة الأصلية لهوفمان الألماني، فجاء الفيلم بعيدًا كل البعد عن القصة المعروفة.. واختار صناع الفيلم اسمكسَّارة البندق والعوالم الأربعةوهي جملة أضافها ألكسندر دوما من عنده، ولم تكن موجودة في الرواية الأصلية، إذ وصف بحث الحكيم دروسلماير عن الجوزة النادرة كراكاتوك بأنه جاب جهات العالم واستكشف العوالم الأربعة، أي القارات الأربع..

تدور أحداث الفيلم في زمن تالٍ لزمن القصة، حيث تعود ابنة كلارا إلى مملكة الدمى لتجد أن جنية الحلوى Sugar Plum Fairy قد استولت على الحكم وأبعدت الأم كعك الزنجبيل Mother Ginger.. وكان تشايكوفسكي قد وضع في سيناريو الباليه، أن كسَّارة البندق قد ترك جنية الحلوى لتحل محله في أثناء حربه مع ملك الفئران، وعندما عاد مع كلارا رقصت لهما الجنية قبيل نهاية الباليه رقصتها على الموسيقى الغرائبية المشهورة، والتي استخدم فيها تشايكوفسكي خصيصًا آلة فرنسية تشبه البيانو، كانت جديدة في ذلك الوقت اسمها سيليستا Celesta لتعطيه صوت الأجراس الأثيري غير الأرضي لرقصته المسحورة..

منذ عام 1892، لم تصبح باليه كسَّارة البندق بتلك الشعبية إلا في خمسينيات القرن العشرين بعد أن قُدِّمت في الولايات المتحدة، وبعد أن اشتهرت حكاية كسَّارة البندق مع الجنود العائدين من ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.. وصار عرض باليه كسَّارة البندق تقليدًا ثابتًا في موعد عيد الميلاد كل عام على مسارح العالم.. الثابت الوحيد من الباليه هو موسيقى تشايكوفسكي، أما سيناريو القصة والرقصات فهي عرضة طول الوقت للتغيير تبعًا لرؤية المخرج ومصمم الرقصات..

في مشهد النهاية في الباليه الأصلي كما وضعه تشايكوفسكي، يختفي الجميع من حول كلارا بعد أن يودعوها ومعهم الأمير كسَّارة البندق، ومن اللامكان يظهر الساحر دروسلماير للمرة الأخيرة ناشرًا عباءته.. تدخل كلارا الشابة في العباءة من جهة، وتخرج في لمحة واحدة من الجهة الأخرى وقد عادت مرة أخرى طفلة بثياب النوم الأولى وهي تحمل دمية كسَّارة البندق، وما تزال في حجرة منزلها وشجرة الميلاد خلفها.. ونتركها وتتركنا دون أن نعرف إن كان ما رأته حلمًا أم حقيقة.. وحده دروسلماير الساحر يعرف كل شيء في غموض!