نخنوخ: مدير العالم السفلي

وائل عبد الفتاح

أنا رئيس جمهورية

قالها صبري نخنوخ في التحقيقات، وكان يعنيها. هو ابن عصر تقسيم الدولة إلى جمهوريات أو إقطاعيات. كل جمهورية يديرها كبير موثوق به.. تترك له السلطة والثروة والسلاح ليسيطر على جمهوريته ويضمن الولاء للريس الكبير…بالتأكيد كان نخنوخ سيصبح وزيرًا للداخلية أو للاستثمار؛ إذا ما عاد مبارك أو عائلته أو المافيا المولودة برعايته. فهو أمير، كما سمته الصحافة، لكنها أخطأت حينما استسهلت وحصرت إمارته في البلطجة.

لا يفصل وعي نخنوخ بين المافيا والدولة؛ كلاهما بالنسبة له كيان واحد يحقق الاستقرار للبلد، الكيان يتماهى مع مصر أرض النعم وفرصة تضخيم الثروة واقتناء القصور وملاعب المتع الفاخرة، وبناء سلطة معنوية على البشر، لا تشبه بالضبط سلطة الفتوات، وليس فيها مسحة من عالم روبن هوود الرومانتيكي الذي تم تمصيره في أكثر من نسخة أشهرها علي الزيبق وأدهم الشرقاوي.

المعلم صبري لا يسرق من الأغنياء ليوزع على الفقراء، لكنه يضع نفسه وسط الأقوياء بما ليس لديهم، ويسميه هو الجدعنة وتسميه الصحافة والنميمة والسلطة حين تغضب البلطجة، وهي من زاوية ما يمكن توصيفها بأنها محاولة لفرض قانون غير مكتوب، أو تحويل الحماية إلى سلعة سرية تضرب فكرة احتكار العنف الذي يميز الدولة الحديثة.

هذه السلعة في وعي نخنوخ تباع من أجل؛ تثبيت الوضع القائم ما دام قائمًا، وهذا ما يحوله إلىقوة ضاربة في يد من يسمون الكبار وهم طائفة لا يجب أن تظهر لها أياد ولا أصابع، ويحتاجون إلى مستثمر في هذا النوع من الخدمات دون مقابل مالي. قال نخنوخ في حوار تليفزيوني بعد القبض عليهاحنا موش بلطجيه.. البلطجي بيتأجر.. واحنا مبنتأجرش احنا بنقف مع الحق.

1
الحارس الأمين

لا أعرف بالضبط ما الذي يجذبني في الكلام عن صبري نخنوخ. أعود إلى حكايته على فترات لأتأملها، على الرغم من أنه أكثر أبطال الحكايات قابلية للاختصار، فالإعلام جعله رمزًا للبلطجة في مصر، وبعدما تحول من صائد خفي للحكومة إلى صيد ثمين طبقت عليه الأدبيات الحكومية قواعدها نفسها، فنسجت أساطير وعالمًا خرافيًّا، سيصعب معه مهما كنت محترفًا في الغطس اكتشاف الحقيقي من الخرافي.

قبل العفو الرئاسي الذي أنقذه من مصير ربع قرن في الزنازين، قال أحد الأصدقاء في جلستنا اليومية المشهد ينقصه نخنوخ.

ربما كان الصديق يقولها على سبيل السخرية أو استدعاء حكايات مثيرة في ظل الملل الذي سيطر على انتخابات رئاسة 2018 بعد هدم السيرك بإبعاد الفريق شفيق والفريق عنان، لكن صباح اليوم التالي انتصبت كما الوحوش الخرافية لافتة ضخمة في أحد الميادين الكبيرة تؤيد، طبعًا، الرئيس السيسي، وفي ذيل اللافتة تحيات سعيد وصبري نخنوخ

المعلم صبري يرسل التحيات والتماسي ويشارك في الحدث الكبير للجمهورية التي تركها وحيدة، ويشارك فيالمشوار اللي مشيناه وها نكمله معاه.

حتى في السجن، لم تفارق نخنوح نفسية ووعي الحارس الأمين لاستقرار الأوضاع على ما يعتبره الطبيعي ويعتبره الناس إبتلاء من الله. ويلتقى نخنوخ (الحارس) والناس غالبًا في أن هذا الوضع القدري لا بد من التعامل معه لا مقاومته، والتعامل يعني توزيع الحصص والغنائم بما تراه السلطة عدلاً.
نخنوخ يحمي البنية التحتية للسلطة. ستراه وتحتاجه فيموضوع شخصي وتشعر به وربما يقتلك من أجل مصلحة مصر إذا خرجت عن شفرة الحكم المسجلة في صناديق سوداء محفوظة في غرف وسراديب معتمة.

كان اعتقال صبري نخنوخ إحدى علامات سقوط أو اهتزاز قبضة نظام مبارك، وانتصار الإخوان المسلمين، ولهذا فإن اسم صبري نخنوخ لم يكن غريبًا في قائمة العفو الرئاسي (مايو2018). بل ربما العكس أقرب إلى الواقعية، وتم إعداد القائمة كلها كي لا يصدر العفو لشخص واحد فقط.

2
``وزير داخليتنا``

نخنوخ ليس مجرد شخص، وليس مجرد واحد عابر يمكن استبداله بشخص آخر يقوم بالمهمة. إنه الذراع القوية التي تتحرك في الخفاء بخفة بعيدًا عن تعقيدات القانون لتحسم الخلافات وتفرض حضور القادر على دفع تكاليفها. والتكاليف ليست مالاً فالأوراق المالية هي أشياء تافهة مهمتها استعراض السيطرة، الذي يتم في مسارح متعددة أهمها الفرح الشعبي.

وفي أحد هذه الأفراح كان سعد الصغير منتشيًّا، وصوته قوي يهتز من حنجرته الضعيف أصلاً، فرحًا بوجود المعلم صبري نخنوخ، وكان الآلاف في سرادق الفرح يتطلعون لما يحدث على الخشبة التي تعلو عن الأرض بضعة مترات، وتتسع للمطرب وفرقته التي تضم، إلى جانب الكورس ومجموعات العازفين، عشرات مهمتهم جمع الأوراق النقدية التي يتسلمها سعد الصغير إما باليد أو يلتقطها في حزم ضخمة مرددًا أسماء أصحاب التحايا والتماسي، مشفوعًا بأوصاف تفخيمية مثل برنس عابدين، وكينج إسكندرية، وكان بين كل اسم لا بد من تحيات للمعلم صبري نخنوخ، وإلى من لم يعرف من هو صبري نخنوخ، شرح سعد؛ وكنا قبل ثورة يناير 2011 وزير داخلية مصر اسمه حبيب العادلي، احنا بقى وزير داخليتنا..صبري باشا نخنوخ

من المقصودين باحنا؟

لم يسهب سعد الصغير في الشرح، لكنه كان مفهومًا بالإشارة والشفرة أنه يقصد العالم السفلي أو الخلفي، أو غيرها من تسميات للعالم الذي لا ترصده الرادرات الرسمية، ولا يخضع لبروتوكولات الكهنة الرسميين، ولا تحكمه أخلاق طبقات الأفندية الحاكمة بشقيها العسكري والمدني.

نخنوع من سلالة عصامية تجد لها مكانًا في غابة السوق؛ يختلف الناس حول أصله، تسمع في وصلات غزل المحبين والمتيمين عن عائلته المأصلة ذات الأصول في النسب والثروة، والأعداء يتبارون في الحط من هذه الأصول. كتبت بعض المواقع أنه كان يعمل صبي ميكانيكي وقال صحفي متحمسأبوه وإخوته كانوا يبيعون زلع العسل الأسود في السبتية وربما كانت السبتية هي المعلومة الوحيدة المؤكدة، في ظل حكايات يتبارى الجميع في نسجها بمن فيهم صبري نخنوخ نفسه، الذي يبدو في اللقاءات التليفزيونية بعد الاعتقال أسيرحكاية ما عن ذاته تضمن له البراءة .

الحكاية عن شخص مثل نخنوخ ليست سهلة، فهي مثار دهشة تشبه الدهشة أمام العجائب، خصوصًا أمام رجل مولود في سنة 1963، أي كانت بدايته في النزول إلى ملاعب الحياة بعد سنوات من تفتت صورة الدولة عن نفسها باعتبارها الأب الحامي، صاحب المركز الذي تتجمع عنه ومنه الحياة عبر حزب واحد وقطاع عام، يتساقط فيه رواد الفساد على هيئة موظفين كبار وصغار، لكن الانفتاح مع السادات فتت المركز، وأطلق عصابات الموظفين لتوسع نشاطها وتضيف إلى عالمها الخلفي شرائح كانت تعيش فسادها المتواضع قبل أن تفتح دنيا الفساد الباب على مصراعيه ليشارك الشطار من خارج عالم الوظيفة بانسجامه الرصين، وللسادات واقعة شهيرة كشف فيها عن هذه الشراكة؛ عندما وقف في زيارة رسمية وأشار إلى رشاد عثمان أشهر تجار الأخشاب وقتها والذي دخل من أبواب جنة السبعينيات إلى الدنيا الواسعة، وأصبح عضوًا في الحزب الحاكم، السادات يومها قال له الإسكندرية أمانة في رقبتك يارشاد. وهو ما أثار حفيظة الرومانسيين الطيبيين الذين استنكروا كيف يترك الرئيس العاصمة الثانية في حماية تاجر مخدرات؟.

كان السادات يوسع العمل السياسي أمام طبقة جديدة تدين بالولاء له في صنع ثروات تتقافز بالتوازي مع نفوذ سياسي، حتى إن رشاد عثمان وصل في لحظة من اللحظات إلى أنه  كان في اللحظة نفسها عضوًا بمجلس الشعب، والمكتب السياسي للحزب الوطني، ورئيسًا للجنة التنمية الشعبية، ورئيسًا للجنة الأمن الغذائي. ثم أتى مبارك وبحث عن تحالف جديد.

لم يعد البحث عن شخص يأتمنه رئيس الجمهورية على مدينة أو بلد أو منطقة استثناءً، كما حدث مع الحاج رشاد (لقبه المحبب قبل اتهامه في قضية مخدرات وبعدها)، أصبح هناك عصابات بالمعنى الكامل للعصابة، زعماء هذه العصابات في عهد مبارك وما بعده شركاء في السلطة وتروسها العضوية.

ليس نخنوخ إذًا هو الفصيح الأول الذي يحمل وعيًا ويرضى بدور منفذ الأوامر؛ كان عزت حنفي رئيس جمهورية آخر في الدخيلة (في الصعيد) وقد كان فيلسوفًا (بمعني ما) وشاعرًا؛ يحمل بين كلماته أيديولوجية للحكم والسلطة.

صبري نخنوخ أمير أو زعيم أو باشا من باشوات لم يحصلوا على ألقاب رسمية موقع من الديوان الملكي، لكنهم باشوات بقوة الأمر الواقع. كما أنهم ليسوا بطلجية بالمعنى التقليدي، ولا مجرمين، إنهم شركاء في سلطة، يعاد توزيع الحصص بين الشركاء فيها، وها هي جماعة نخنوخ عادت لتشارك وتطالب بالحصص.

ليس هذا فقط بل إن 6 سنوات من الحبس والتشريد والبهدلة أضفت على نخنوخ روح الضحية المنتصرة والمظلوم الذي تحفظه محبة الناس.

3
حُكم المعلم

ليس أمامك إلا مدير العالم السفلي

كانت النصيحة غامضة بالنسبة للأب الذي كان حزينًا على حال ابنته مع زوجها. كان زوجها أحد السائقين الذين يرأسهم الأب في شركة متعددة الجنسيات، وبعد الزواج بسنوات أصبح مطرب كباريهات معروف، ووقع في غرام راقصة حملت منه جنينًا.

فهم الأب فهم النصيحة بعد الشرح الحل في يد المعلم صبري نخنوخ. الحكاية هنا تقال على سبيل الأساطير المتناثرة، ويختلط فيها الواقع بالبهارات التي تضاف لكي تبلع الحكاية، أو تدخل في المجال العام، ولهذا فالأب الذي وقف عاجزًا أمام أزمة ابنته مع المطرب لم يجد حلاً سوى الاتصال بالمعلم نخنوخ.

وهنا دخل الأب عالم الأسطورة. طلب المعلم معلومات تفصيلية (سيكلف فريق التحريات والبحث بالتقصي عنها) قبل أن يحدد موعدًا للمقابلة.

كانت المقابلة خارج وعي الأب؛ قال له المعلم: تعرف إسكندرية؟

رد الأب: طبعًا
خلاص تعال هناك وروح لأي كبارية وقلهم إنك تبع المعلم صبري.

قال الرجل لنفسه: خلينا نشوف..

وسافر إلى الإسكندرية وذهب إلى أحد الكباريهات وقال كلمة السر أنا تبع المعلم صبري استقبله الحراس (البودي جاردات) بالترحاب وأجلسوه في مكتب، وبعد قليل اتصل المعلم وقال لهم: هايجيبوك عندي.

عنده يعني في قصر كنج مريوط الذي أمعن الأب في وصفه شيء لم أره من قبل؛ قصر كبير جدًا في الصحراء، ترسانة مسلحة، وأعداد كبيرة من الحراس والعاملين، وأسود وكلاب وتماسيح.. ثم يظهر المعلم بكل طيبته وشهامته.

سمع نخنوخ القصة التي ختمها الأب باستدعاء خاصية حامي الأخلاق“: يرضيك يامعلم؟

أمسك نخنوخ تليفونه وتكلم مع المطرب كلمات قليلة: ده ميرضيش ربنا.. وأضاف في حسم، الواد ينزل وترجع لبيتك. ويبدو أن الطرف الآخر كان يحاول الاعتراض، فارتفعت نبرة الحسم في صوت المعلم: انتهت يا….. الواد ينزل..

و تم ما حكم به المعلم.

4
حديقة الغاوي

ربما تكون الحكايات خرافية/مبالغ فيها، لكن نخنوخ هي خلطة الخرافة الكاشفة لسنوات عمرنا من الستينيات حتى الآن.

وهناك مشهد آخر، قوته في أنه عادي؛ المطرب الشهير يمسك رزمة أوراق مالية بيد واحدة وبأصبع واحد يسقطها، لتبدو وهي تتساقط كأنها مطر يعاد به توزيع الجفاف والرطوبة على البشر، بينما عشرة رجال أو أكثر يجمعون هذا المال ويعيدون توزيعه في رزم أخرى تذهب من المعلمين إلى حيث يتم توزيعها بقانون معروف ومحدد.

المشهد عادي، وورود اسم صبري نخنوخ بتواتر مسيطر، له معنى في تأكيد أنه مدير العالم الموازي أو (السفلي) كما يتخيله أصحاب نظرية تقسيم العالم إلى علوي وسفلي أو إلى رفيع ووضيع.

عند نخنوخ يتلاقى العالمان كما لو لا يمكن فصلهما، لأنه لا يتحرك من منطقة الإجرام البسيط، بل من منطقة البقاء للأقوى، والقوة هنا ليست في الشر وإنما في ضمان السيطرة، والتعامل مع ما تصفه مدونات الدولة (قوانين ودستور) على أنها أداة إخضاع وليست تحقيق العدل أو المساواة أو الحرية.

نخنوخ حامي للنعم التي تبدأ في قاموسه من مصر ولا تنتهي بامتلاك كل عناصر التميز  والخيلاء؛ بداية من أقوى ماركات السيارات وحتى أرقام التليفونات المميزة. التفاخر هنا بالقوة لا بالمال، وهذا سر حديقة الحيوانات المصغرة التي شاهدناها بعدما سمحت أجهزة الأمن بتصوير قصر كنج مريوط، وتابعنا فيها أقفاص الأسود والكلاب التي وصفت بأنها متوحشة، وهو وصف غير دقيق، لكنه يصلح لاستكمال الأسطورة من أنواع مثل الجيرمان شيبرد والسان برنار وغيرهما من كلاب بطبيعتها مساعدة الإنسان في علاقته بالطبيعة، طبعًا إلى جانب الحماية المعتادة. في الحديقة أيضًا نعامة وحيوان لاما نادر، لتؤكد على فكرة الغيًّة أو الغواية التي فسر بها نخنوخ تعلقه بالحيوانات.

كانت هذه الغواية محور اهتمام الإعلام أكثر ربما من سبب القبض عليه. الغواية تصنع صورة مثيرة عن الشخص يسهل بها تقبل التهم التي تنتظره.

4
أمير اللا وعي

ركز ضابط البوليس الذي حكى عن ليلة اقتحام قصر نخنوخ على أنهم نجحوا لأن الكلاب كانت في الأقفاص.

كان ذلك في 23 أغسطس 2012 بتهمة حيازة أسلحة متنوعة وحيوانات مفترسة. كان نخنوخ نائمًا حين وصلت مدرعات البوليس أمام باب قصره المكون من ثلاثة أجنحة، وقد أبدى دهشته بعدها ليه يبعتوا كل القوة دي، وأتاخد بالشكل ده، وكان ممكن لو اتصلوا بيا أروحلهم برجلي؟!”

ولأنه يفهم الإشارات والعلامات فقد كان تفسيره هم عاوزين يجاملوا بيا وواصل دهشته ليه وأنا دايمًا مع الشرطة وواقف معاهم؟!”.

كان الهجوم على قصر نخنوخ رسالة فهمها تمامًا، فهو يعرف أن القانون ينفذ حينما تريد السلطة، عقابًا أو مجاملة، وقد سمع تحريض الدكتور محمد البلتاجي القيادي الإخواني قبلها يسأل اللواء أحمد جمال الدين وزير الداخلية وقتها ليه سايبين نخنوخ؟.

كان الموضوع غالبًا أكبر من المجاملة، فقد وصل إلى الرئاسة، وعبر رئيس ديوان محمد مرسي عندما كان رئيسًا، ملف ضخم يرسم صورة لنخنوخ باعتبارهالقوة الضاربة للفلول، وهذا ما رواه الصحفي صابر شوكت في حوارات تليفزيونية، تناول فيها إعداده لملف كامل عن زعيم التنظيم الخفي والمافيا عالمية الملامح صبري نخنوخ وقد رفضت كل الصحف بما فيها أخبار اليوم؛ التي يعمل مديرًا لتحريرها، نشر الملف فأنشأ صحيفة سماها الأسرار اليوم ونشر فيها الملف الذي يتهم نخنوخ بارتكاب مجموعة من الجرائم الغامضة؛ بداية من تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية (رأس سنة 2010) وحتى مذبحة ماسبيرو التي قدم فيها الصحفي تصورًا متكاملاً للمذبحة؛ قام فيه 22 مركبا نيليًّا تتبع نخنوخ بإطلاق النار لتوريط الجيش في قتل المتظاهرين.

قال الصحفي إنه عرض معلوماته على الفريق السيسي عندما كان رئيسًا للمخابرات الحربية، قبل أن يوصله عبر السفير الطهطاوي إلى مرسي عندما كان رئيسًا، مع إشارة إلي أن نخنوخ الذي غاب عن مصر 10 أشهر كاملة اشتري فيها سلاحًا سيستخدم يوم 24  أغسطس 2012 الذي أعلنت فيه عناصر من فلول نظام مبارك موعدًا للثورة على نظام الإخوان.

كما أدلى الصحفي بشهادة أمام محاكمة نخنوخ، مستفيضًا في دوره خلال موقعة الجمل ومذبحة استاد بورسعيد، وغيرها من الجرائم التي ما تزال غامضة حتى الآن؛ واصفًا كل هذا بأنها مؤامرة من مافيا تديرها مخابرات عالمية.

كانت المسافة غائمة بين الواقع والخيال الغارق في سيناريوهات المؤامرة، ونخنوخ يواصل دهشته معتمدًا على روايته كنت خارج مصر متنقلاً بين بيروت وتايلاند من أجل أعمالي التجارية، ومن أجل الإعداد لخطبتي على فتاة لبنانية، وعدت من أجل الاحتفال بالعيد الكبير وتوزيع لحوم الذبائح على الغلابة...

هذه إذًا صورته كصديق الغلابة، في مواجهة صورته كابن للمافيا الدولية، وشريك حبيب العادلي في تنظيم حكم مصر، وكما قيل فقد  بدأ في انتخابات البرلمان 2000 و2005، حين كان رجاله يحرسون الصناديق ويسوِّدون البطاقات، ويحسمون الفوز الكبير في مواجهة صعود الإخوان من أسفل.

بين الصورتين يتعمق غموض الأسطورة التي تجعله ظل الحاكم بمعنى من المعاني، فهو مدافع عن مصلحة البلد كما رآها الريس، يقصد الرئيس محمد حسني مبارك، وهو كذلك صادق حين يقول إنه كان يخدم البلد ويراعي مصالح المسؤولين الكبار الذين كانوا يحركون الدولة كما يشاءون، كما أنه ذراع السلطة، وكان من الممكن أن يتحول إلى عقلها إذا دارت الدائرة وأراد مركز (الجمهوريات/ الإقطاعيات) مكافأة رجاله المخلصين أو تغيير مسمياتهم، ساعتها لن يكون نخنوخ أميرًا للبلطجة فقط، بل بطلاً شعبيًّا ذا بطولات في حماية البلاد من العناصر المندسة والعملاء؛ بداية من السيطرة على الانتخابات وحتى السيطرة على استقلال الجمهورية /الإقطاعية في مواجهة الخطر القادم.

وهذا ما جعل نخنوخ يعتبر أن له ثأرًا مع الإخوان، وأن القبض عليه مؤامرة إخوانية، بينما كان يؤدي مهمته للحفاظ على أركان الدولة حتى يعود أصحابها.
وعي نخنوخ ليس عابرًا، ولا خرافيًّا، فهو الوعي السري الذي حكمت به مصر منذ تأسيس دولتها الحديثة على يد محمد علي، لكن النسخة الحالية هي نسخة الضباط الأحرار التي تطورت مع كل حاكم، لكن الأساس فيها هو اختيار أهل الثقة من نوعية نخنوخ كي يلعبوا دور السيطرة على الأرض بعيدًا عن ما يسمى في الأدبيات السياسية: المؤسسات الرمزية.

نخنوخ هو رأس مجموعة حكام تنفيذيين يحققون السيادة والسيطرة، بعيدًا عن القانون وصداع الحقوق ومستلزمات الدولة الحديثة. وهو لا وعي الدولة حين يقابل وعيها في لحظة انسجام.

5
المحارب السري

يقف نخنوخ بتيشيرت مرسوم عليه التاج الملكي المصري؛ رمز آخر من رموز التماهي مع الفخامة والتميز. فعلى الرغم من الانتماء إلى الجمهورية، إلا أن قلبه يذهب للملكية؛ حيث الملك واحد، فهو عاشق للمزاج والمتع والملذات الباهظة، ولهذا يقف متفاخرًا أمام الأحراز من زجاجات ويسكي شيفاز وأسلحة وفرش الحشيش، كما أنه يحب الصداقات مع النجوم، والقدرات الواصلة لحل أي مشكلة والوقوف أمام سلطات بيروقراطية تطبق قوانينها على المواطنين لكنها أمام رئيس جمهورية تتحول إلى خدم وحراس.

وقف نخنوخ أمام أحراز القضية فخورًا مبتسمًا،كمحارب في استراحة عابرة، يتوعد روي تفاصيل سيطرته على جمهوريته، وهدد باعترافات مصورة تورط كل من يتصدر المشهد الآن (منهم قيادات إخوانية).

يتجاوز نخنوخ إحساس المتهم إلى المقاوم لسلطة تجلس الآن على مقاعد سلطة كان يعمل في حماها ومن أجل استقرارها. إنه ابن نظام بنى شبكات من سلطة موازية؛ أقرب إلى عصابات سرية تعبِّر عن وجود قوى موازية لسلطة الدولة. قوى ميالة وعائلية وربما طائفية وسياسية، تحاول حسم الحروب الصغيرة، وقطع الطريق على من يهدد مصالحها عبر تجنيد عناصر مدربة في عصابات محترفة.

كان الشعور بوجود هذه العصابات أحيانًا أخطر من وجودها فعلاً. ربما لأنها تكون في لحظة من اللحظات عنصرًا حاسمًا في حسم معركة سياسية أو قضائية، يتعطل فيها القانون وينتصر فيها الأقوى أو الأكثر قدرة على الإيحاء بأنه الأقوى.

لم تهزم هذه السلطة الموازية عندما سقط مبارك كما انهار حزبه، لكنها استمرت وشكلت الحرس الأخير للنظام. ونخنوخ مميز بين شخصيات ظهرت وكشفت عن مساحة الاعتماد على هذه السلطة السرية/المعلنة.. إنه تصريح غير معلن بوكالة إدارة منطقة من المناطق صاحب التصريح يمكن أن يكون شخصًا عاديًّا، لكنه فجأة يتحوّل إلى زعيم مافيا يحكم ويتحكم ويدير عصابات ويؤدي أدوارًا في السيطرة على منطقته. هذا الدور يقال إنه بتكليف من الأجهزة الأمنية. ولا رد من الأجهزة سوى تصريحات بالنفي لا يصدقها الناس غالبًا. البربري لم يصل إلى مستوى عزت حنفي أو نوفل سعد، لكنه تصرّف مثلهم، أو كان في طريقه لفرض سيطرته على المنطقة. وهذا لا يكون إلا مكافأة. والسؤال هو على ماذا؟ على تأمين المنطقة أو على إرشاد المباحث عن أسلحة ومخدرات. أخطر الأدوار تكون عادة في تقفيل الانتخابات وسرقة الصناديق أو تخويف الخصوم وأداء دور سري في حسم الانتخابات.

كانت هذه الشبكات موجودة وعملت بشكل متوتر في أثناء المرحلة الانتقالية الأولى، ومثلت حصن المقاومة الفعال في وجه الثورة. ليس معروفًا بدقة حجم هذه الشبكة أو مدى تأثيرها لكنها ما تزال مؤثرة ويمكن تفعيلها من قبل أي سلطة، لأنها ببساطة تعمل بقانون الولاء للراكب على السلطة.

نخنوخ  الفخور بقوة الدهاء، والقدرة على السيطرة على آلاف الرجال، وحسم معارك انتخابية من الرئاسة إلى البرلمان، كان بين قومه رئيسًا يرعى ويوجه ويوظف إمكانات أهل جمهوريته لصالح ما يراه في مصلحة البلد. لكنهالآن فقد نصف قوته بالظهور خارج حدود العالم السفلي، فهل يمكن إستخدامه بعد أن فقد خاصية المحارب السري؟

*الصياغة الأولى : أغسطس 2012