نجيب محفوظ

أوراق من كراسات منسية: التصوف عند نجيب محفوظ

محمد شعير

مفاجآت نجيب محفوظ لا تنتهي، وعطاياه أيضا. كانت الكتابة حلمه الدائم..بل كان حلمه أن يواصل الكتابة من العالم الآخر..كما قال ذات مرة: «لو كنت أعلم علم اليقين بأنني سأمارس الكتابة فى العالم الآخر، وانجز ما لم أستطع إنجازه من أعمال، على الأقل سأرتاح نفسيا». ربما لهذا تعدنا رحلة البحث عنه دائما بمفاجآت غير متوقعة. كان محفوظ يحمل معه أجندات صغيرة، يضعها فى جيبه، يكتب ملاحظاته، وأفكاره، ومشروعات لأعمال قادمة، ومخططات لمقالات، وعبارات قد تبدو ملغزه، وصفا لأماكن وشخصيات، وكثيرا ما كان يستخدمها فيما بعد في رواياته أو فى سيناريوهات أفلامه..كتب ما اسماه منهج حياته فى الحياة والحب والكون والخالق والتصوف، كما كتب على مدى أكثر من أربعين عاما يومياته.

فى واحدة من هذه الكراسات ترك نجيب محفوظ أوراقا سجل فيها رؤيته للتصوف، مفهومه، ودرجاته. وقد ترك هذه الأوراق بشخبطات القلم الرصاص لابنته. ربما تلقي هذه الأوراق ضوءا جديدا على أعمال محفوظ التي تمتلىء بالمتصوفة والمجاذيب، كما تمتلىء بالفلاسفة الفاشلين. رحلة طويلة خاضها محفوظ عبر أقنعته الروائية من كمال عبدالجواد  إلى عبدربه التائهنتعرف عليها عبر قراءة هذه الأوراق.

التصوف في مذهبي:

لا عزلة ولا رهبنة، لكنها الحياة الحياة الحياة. أن تخوض غمار الحياة حاملا الله في قلبك، وجاعلا منه دليلا لكل فكر أو إحساس أو عمل.

أن تراعى الله في حياتك كفرد، حياتك كفرد في مجتمع، حياتك كإنسان. فهو الذي يدفعك إلى طلب العلم، وهو الذي يدفعك إلى عمل الخير، وهو الذي يدفعك إلى تذوق الجمال وانتاجه

عند أى موقف سل نفسك..ماذا يريد الله منك فيه؟ وعلى هذا الأساس هو الذى يحدد موقفك:

بين الكسل والعمل
بين الجهل والعرفان
بين القبح والجمال
بين الاستغلال والاشتراكية  إلخ

**

ليس التصوف كثقافة أن تقرأ التصوف
ولكن أن تقرأ كل شىء بروح المتصوف

**

درجات التصوف:

التوبة:
عن كل ما يبعد عن الله ومعانيه الأبدية.

المجاهدة:
أن تجاهد نوازع النفس التى تقعد بك عن العلم والفن والخير.

العزلة:
أن تعتزل الناس بالقدر اللازم لاستغلال قواك لخيرهم.

التقوى:
اتقاء ما يصد عن سبيل الله.

الورع:
ترك حتى الشبهة.

الزهد:
عدم الاستغلال المضر بالناس، ولكنه لا يمنع من الاستمتاع البريء بتراث الحضارة..وأن تستمتع بها، وأنت مقدر لما هو اسمي منها.

الصمت:
أن تكلم الله كثيرا.

الجوع:
لا تجعل من بطنك حملا ثقيلا على روحك.

الحرية:
أن تكون حرا من كل ما يعوقك عن الله، مثل الأنانية والرأسمالية.

التصوف:
أن يكون الله شغلك الشاغل ومحبوبك الدائم، فأنت تحصل الحقيقة والمعرفة لتعرف جانب الحق من ذاته، وأنت تحصل الرحمة والمحبة لتعرف جانب الخير من ذاته، وأنت تحصل الطبيعة والفن لتعرف جانب الجمال ذاته.

أو

هو تحصيل الحق والخير والجمال لوجه الله لا للأنانية

كيف كان نجيب محفوظ يفكر في التصوف؟

1

درس نجيب محفوظ الفلسفة، أثرت فى تكوينه وأفكاره، وامتلأت رواياته بالمتفلسفين، ولكنه رغم ذلك اعتبر نفسه «فيلسوفا فاشلا»  تماما مثل بطله كمال عبد الجواد الذى رأى أن «الفلسفات قصور جميلة هائلة لكنها لا تصلح أبدًا للسكنى». ولإيمانه بأن للفن حيله الخاصة، ظلت الفلسفة فى خلفية رواياته وقصصه، تنبع من الحياة والواقع، لا مجرد صياغة أفكار، وإن كان ذلك لا ينفي أن لكل عمل فني رؤيته الفلسفية التي ينطلق منها وتعبر دائما عن رؤية الأديب ذاته. 

ورغم نفي محفوظ الدائم الانتماء لأي من الرؤى الفلسفية المتعددة للعالم، إلا أنه لا يخفي تأثره بالكثير من الفلاسفة، ومحبته لبعضهم كما يقول فى حوار مع يوسف القعيد فى 2003: «أحببت البعض منهم حباً شديداً. مثل ديكارت وكانط وشوبنهور وسارتر وألبير كامو».

ولكن ما الذي يجمع هذه الأسماء التى احتفظت بها ذاكرة محفوظ حتى سنواته الأخيرة؟ 

بالتأكيد، لا يمكن قراءة أفكار نجيب محفوظ الفلسفية، كأفكار ثابتة استمرت معه منذ بداياته، لم يطلها التغيير والتبدل، إنما هى روئ خضعت بحكم التطور لمجموعة من التحولات، إذ كان محفوظ ينسخ كثيرا من أفكاره فى أعمال أخري بمزيد من الوعي، والمعرفة، والتعرف على أفكار جديدة، هو يقف دائما فى مقام القلق والحيرة، موقف المثقف الحائر، ذى الوعى المعذب، وسيعبر عن ذلك القلق- فنيا- فى الثلاثية، من خلال شخصية كمال عبد الجواد الذى يتنقل بين الفلاسفة والأفكار« بين أبى العلاء والخيام، أو بين التقشف واللذة»…وكان يجد فى الفلسفة العزاء لما يواجهه من وحدة وكآبة: «قد يلوذ من الوحشة بوحدة الوجود عند اسبينوزا أو يتعزى عن هوان شأنه بالمشاركة فى الانتصار على الرغبة مع شوبنهور أو يهون من إحساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز فى تفسير الشر، أو يروي قلبه المتعطش إلى الحب من شاعرية برجسون، بيد أن جهاده المتواصل لم يجد فى تقليم مخالب الحيرة التي تبلغ حد العذاب». في سنوات القلق تلك، لم يكن محفوظ قد تعرف بعد على سارتر الذي لم يكن وقتها معروفا، قدمه طه حسين فى مجلة «الكاتب المصري»  فى منتصف الأربعينيات، ولكن صعد نجمه فى الخمسينيات والستينيات بعد مواقفه فى دعم حركات التحرر الوطني في الجزائر والكونغو وفيتنام وكوبا، ودعمه لمصر ضد العدوان الثلاثى (1956)،  ورفضه تسلّم جائزة نوبل للآداب، فى تلك الفترة شكل سارتر لجيل بأكمله نموذج حياة، أو نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه المثقف، حتى اعتبره البعض«الاب الروحي للإنتلجنسيا العربية»: «لقد رسخ سارتر صورة جديدة عن الفلسفة، بحيث لم تعد فضاءاتها هى رحاب الجامعة، بل إنها لم تعد معه اختصاصا ووقفا على نخب. ولعله، من بين الفلاسفة الفرنسيين، أول من ردم الهوة التى ظلت لوقت غير قصير تفصل الفلسفة عن الأدب، وتحبس الأجناس الأدبية داخل أسوار منغلقة».( عبد السلام بن عبد العالي – سارتر والثقافة العربية- – مجلة نزوى العدد 45 يناير 2006)

حسب سارتر، الحرية هى أساس المعرفة والذات ليس لها وجود إلا عبر الأفعال التى تؤديها، كما أن الإنسان هو الصانع الوحيد لمصيره، والإرادة الحرّة تجعله مسؤولاً عن أفعاله، وتضعه أمام واجب تحمّل المسؤولية. كان سارتر يسعى من خلال وجوديته إلى «خلق الإنسان خلقا جديدا يقوم على الحرية والمسؤولية». ( نحن وسارتر-  سهيل إدريس – مجلة الآداب – ديسمبر 1964)

تابع محفوظ سارتر، ولم يخف إعجابه بالكثير من مواقفه، عندما سألته جريدة الجمهورية (نوفمبر1964)عن رأيه في رفض سارتر لجائزة نوبل أجاب: «لو كنت في منزلة سارتر ومستوى فكره وعبقريته وتأثيره الشامل فى العالم، فإنى كنت أرفض الجائزة بالطبع، لأنه لا يجوز أن يأخذها قبلي فى تلك الحال أدباء كشتاينبك وألبير كامو وونستون تشرشل».

ولم يكن الإعجاب على مستوى الموقف السياسي وحده، بل امتد إلى الأفكار التى جذبت محفوظ، عمقت لديه الأسئلة التى انشغل بها فى سنوات القلق الفكري، وتزامن ذلك مع  تغيرات سياسية واجتماعية داخل المجتمع جعلته فى حالة من الاغتراب، ومن هنا كانت أسئلة أبطاله بداية من «أولاد حارتنا»، مرورا بـ «اللص والكلاب»، و«الطريق».. وغيرها، أسئلة وجودية، حيث يتفتح وعي الأبطال -فجأة- على عالم عبثي وفارغ من المعنى، ومن هنا يبدأ في الشعور بلا جدوى الفعل، وبلا جدوى الحياة نفسها. وتأتي أزمة البطل من محاولته عقلنة العالم وإيجاد معنى لحياته.

كانت رحلة محفوظ الروائية، رحلة لفهم هذا الوجود، وبحثًا عن معنى لحياة أتينا لها دون اختيار، وتم سجننا فيها دون وعد بالتحرر.  فى «السكرية» كان كمال عبد الجواد يعتبر أنه من الخطأ أن نبحث فى هذه الدنيا عن معنى، بل إن مهمتنا أن نخلق هذا المعنى، وفى «الشحاذ» خاض البطل عمر الحمزاوي هذه الرحلة منغمسا فى الملذات حينا والتصوف حينا آخر، وفي «ثرثرة فوق النيل» يتبادل أصدقاء العوامة الأفكار، والنقاشات حول العبث ومعنى الحياة، وانهيار الإيمان بكل شىء، فترد عليهم الصحفية سمارة بهجت بأن «إرادة الحياة هي التي تجعلنا نتشبث بالحياة بالفعل ولو انتحرنا بعقولنا»، وتستمر هذه الرحلة التي كان فيها محفوظ أشبه بالمفكر الحائر الذي لا يملك سوى الأسئلة حتى أعماله الأخيرة. 

ولكن على الرغم من أن أسئلة الوجود تعتبر من أهم محاور روايات محفوظ إلا أنه لم يغفل الهم السياسي الاجتماعي. حتى أن الناقد إبراهيم فتحي يرى أن التشابه مع الموقف الوجودي لا يتعدى بعض النواحي العرضية  الشكلية، إذ أن الصراع الحقيقي داخل أعمال هذه المرحلة: «صراع اجتماعي فكري«.

لم ينف محفوظ ذلك بل اعتبر أن هناك علاقة بين «التوتر الإجتماعي والقلق الوجودي».. وأكد فى حوار له مع غالي شكري: 

«ما دامت الحياة تنتهي بالعجز والموت، فهي مأساة، بل إن تعريف المأساة لا ينطبق على شىء كما ينطبق على الحياة، وقد نرى هذه المأساة مبكية، وقد نراها مضحكة، وقد نراها مبكية- مضحكة، ولكنها على أى حال مأساة. (…..) أجل إن تفكيرنا فى الحياة كوجود يجردها من كل شىء إلا من الوجود والعدم، ولكن تفكيرنا فيها كمجتمع يرينا مآسي كثيرة مفتعلة من صنع الإنسان، كالجهل والفقر والاستعباد والعنف والوحشية إلى آخره. هذا يبرر تأكيدنا على مآسي المجتمع، إذ أنها مآسي يمكن معالجتها، ولأننا فى معالجتها نخلق الحضارة والتقدم….إذن فحل مأساة المجتمع قد يحل فى النهاية مأساة الوجود أو يخففها، وهى على أى حال تعطي للحياة معنى يستحق أن نعيش من أجله، أما التركيز على مأساة الوجود مع تجاهل مآسي المجتمع فلن يحل مأساة الوجود، من جهة، ويحول العالم إلى عبث وبكاء أو ضحك كالبكاء. غير أنى لم أغفل ابدا مأساة الوجود، ولعلى ازداد لها انتباها».


تتفاوت رؤية الوجود لدى الفلاسفة الخمسة الذين أحبهم محفوظ، وبقي تأثيرهم عليه حتى سنواته الأخيرة، لكن يجمع بينهم ذلك القلق الوجودي، سيبقى معه «شك» ديكارت، و«الواجب الأخلاقي» لدى كانط، ورؤية شوبنهاور للحياة كمعاناة يمكن الهروب منها بالتأمل الجمالي، والسلوك الجمالي، ثم الموت أخيرا.  وستبقى معه أيضا رؤية سارتر وكامو للوجود حيث الوعي بعبث الحياة والعدم واللامعقول واللامبالاة والرفض والتمرد واليأس والاغتراب، وهي الرؤية التي تهيمن بقوة على أعمال محفوظ.  

وبالتأكيد، لم يقدم محفوظ، إجابات نهائية وقاطعة على أسئلة الوجود داخل عمله الفني، إنما مجرد اقتراحات، أو طرق للبحث،  بالنسبة له «الأدب فى صميمه سؤال»، بل لا يمكن أن يكون جوابا لشىء، «ولو كان الجواب حاضرا لما كانت هناك حاجة إلى الأدب، فالمقال السياسي  والاجتماعي يكفي».

وكما لا يقنع محفوظ بالسكن أو الاطمئنان إلى أيّ من أفكاره، فينسخها، ينسخ أيضا شخصياته، سيصبح «عبد ربه التائه» فى «أصداء السيرة الذاتية» هو ذاته كمال عبد الجواد فى «الثلاثية». سيصبح الفيلسوف الفاشل..مجذوبا صوفيا. 

2

من بين كراسات كثيرة تركها نجيب محفوظ، كان يسجل في بعضها يومياته، وفى البعض الأفكار أفكاره، ترك كراسا يسجل فيه تأملاته فى معنى التصوف.  نص قصير بعنوان: «التصوف في مذهبي» تركه مزينا بشخبطات ابنته بالقلم الرصاص ولم يسعى إلى نشره.

فى الأوراق المكتشفة يكتب نجيب محفوظ عن مفهومه للتصوف «لا عزلة ولا رهبنة، لكنه الحياة الحياة الحياة، أن تخوض غمار الحياة حاملا الله فى قلبك، وجاعلا منه لكل فكر أو إحساس أو عمل».

الأوراق غير مؤرخة، ولكن يبدو انها تعود إلى بدايات الستينيات، حيث استخدم محفوظ الورق ذاته الذي كان يستخدمه أثناء كتابته لروايته «الشحاذ»، كما تتسرب عبر النص مصطلحات تربط التصوف بالاشتراكية، حيث يضع الاستغلال مقابلا للاشتراكية، كما يقدم تعريفا للحرية حسب منهجه الصوفي: «أن تكون حرا عن كل ما يعوقك عن الله مثل الأنانية والرأسمالية»

لم يكن محفوظ ماركسيا، فى أى وقت من الأوقات، هو ابن الليبرالية المصرية، لكن فى إطار الدعاية الرسمية للدولة الاشتراكية وصف روايته «أولاد حارتنا» بأنها تنتمي إلى نوع من «الاشتراكية الصوفية». ونفى في العدد الخاص الذي خصصته له مجلة الهلال (فبراير 1970) أن يكون ماركسيا، هو متعاطف مع الفكرة،  ينظر إليها نظرة فنية أكثر من كونها نظرية فلسفية. ماركسية محفوظ أو اشتراكيته هي أقرب إلى التصوف..حيث يحدد مفهومه لها بأنها الإيمان بتحرير الإنسان من الطبقية والاستغلال، أن يتحدد موقع الفرد بمؤهلاته الطبيعية، وأن يكون أجره على قدر حاجته، وأن يتمتع الفرد بحرية الفكر والعقيدة، وأخيرا تحقيق الديمقراطية بأشمل معانيها.

الاشارات الى الاشتراكية داخل نص محفوظ لا تمنع من أهمية رؤيته للتصوف باعتباره: «الحياة الحياة الحياة»..وهي الرؤية التي ظل مؤمنا بها وتبدت بوضوح فى أصداء السيرة الذاتية عبر شخصية عبد ربه التائه.

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

3

يختبر نجيب محفوظ عبر شخصية عبدربه التائه أفكاره المتأخرة، وينقل خبرته، بلا وصاية، بل يقدمها كمجذوب أو درويش. ظهر «التائه» فى منتصف نص «أصداء السيرة الذاتية» تقريبا. كان أول ظهور للشيخ وهو ينادي: «ولد تائه يا أولاد الحلال»، العبارة نفسها استخدمها محفوظ  فى روايته «أولاد حارتنا»، ولكنها كانت لامرأة عابرة يرتفع صوتها ليغطي على صوت الشاعر الذي يحكي حكاية أدهم فى حارة الوطاويط. 

يظهر عبدربه فى الحارة باحثا عن طفولته المفقودة، فقدها لأكثر من سبعين عاما، يلتقي مريديه فى كهف الصحراء، وقد أفصح لهم ذات مرة عن فلسفته الصوفية: «أسكت أنين الشكوى من الدنيا، لا تبحث عن حكمة وراء المحير من أفعالها، وفّر قواك لما ينفع، وارض بما قسم، وإذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحب والنغم». هو مطارد بالحب من المهد الى اللحد، ولولا الحب لجف الماء، وفسد الهواء، وتمطى الموت فى كل ركن، فالحب هو مفتاح من أسرار الوجود، ونسمة حب تهب ساعة تكفر عن سيئات رياح العمر كله، وحسن الختام هو الشوق، قد تغيب الحبيبة عن الوجود، أما الحب نفسه فلا يغيب، صراع الوجود هو الصراع بين الحب والموت، رآه الراوي يسير في جنازة، فسأله عن الراحل فأجابه: رجل نبيل رفض رغم طعونه فى العمر أن يقلع عن الحب حتى هلك.

هو الواعظ، لكنه ينصت لامرأة جميلة تعظه: لا تعرض عني، فتندم مدى العمر على ضياع النعمة الكبرى. حب الدنيا لديه آية من آيات الشكر، ودليل ولع بكل جميل، وعلامة من علامات الصبر، وإصلاحها رهين بإدراك أهلها أن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة، والمعنى كامن فى الحركة، أما مثله الأعلي فرجل طيب:«تجلت كراماته فى المداومة على خدمة الناس وذكر الله، وفي عيد ميلاده المائة سكر ورقص وغنى وتزوج من بكر فى العشرين. وفى ليلة الدخلة جاءت كوكبة من الملائكة فبخرته ببخور من جبل قاف»..وعندما سئل هل تحزن الحياة على أحد أجاب: نعم إذا كان من عشاقها المخلصين. رهانه الدائم العدل والرحمة للنجاة..ولا شيء آخر: «إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل».

تجسد شخصية «عبد ربه» المعني الذى كان يقصده إدوارد سعيد فى كتابه «الأسلوب المتأخر» بأن التقدم فى العمر لا يعني إكساب الفنانين والكتاب نوعًا من الحكمة أو الطمأنينة المتواضعة، بل يجعلهم ذلك «أكثر عنادا وتخريبا وشغبا وتمردا».

 لذا يبدو عبدربه متصوفا، ولكنه التصوف على طريقة محفوظ، حيث الحب العارم للحياة والنساء والشعر والطعام والمعرفة والغناء والشهوات ويعتبر كل ذلك «من فضل الملك الوهاب». 

4

استفاد محفوظ في رسم ملامح شخصية التائه من أفكاره النظرية التي تركها غير منشورة، لكنها أيضا كانت صدى لأفكار سعد الشيرازي وعمر الخيام الذي يعتبره الكثيرون فيلسوف اللذة وشاعر القلق الوجودي الذي سبق سارتر.

استعان محفوظ بأشعار الشيرازي فى روايته الحرافيش، وكان يعتبره شاعره الأقرب. كما كان الخيام أحد شاعرين أسهما فى صناعة عواصف الشك لدى كمال عبد الجواد (أحد أقنعة نجيب محفوظ الروائية)، كان الأول هو المعري. بعد فشل قصة حبه من عايدة شداد، يعاني كمال فترة من القلق والحيرة. فى لحظة يأس، فكر فى الانتحار:«لا دين ولا عايدة ولا أمل، فليكن الموت»..ولكن بينما هو جالس مع صديق له، كأنه استمع إلى صوت الخيام يناديه بلسان هذا الصديق فلبى محتفظا بمبادئه السامية، وقال لنفسه: «إن الإيمان بالحقيقة والجمال والإنسانية أسمى أنواع الخير، وإنه لذلك كان ابن سينا يختم يوم الفكر بالشراب والحسان، ومهما يكن من أمر فإنه لم يجد سوى هذه الحياة الواعدة منقذا من الموت».  لا يستمر تأثير المعري لدى كمال طويلا، ولكن يدوم الخيام معه، كما يدوم تأثيره على نجيب محفوظ ذاته، فيظهر فى كثير من رواياته.. يقول أنيس زكي فى إحدى لحظات التجلي فى «ثرثرة فوق النيل»: «إذا فقدت أنات عمر الخيام حرارتها فقل على الدنيا السلام». لم يكن قلق محفوظ الوجودي مقتصرا على سارتر وكامو، بل يبدو تأثير الخيام عليه حاضرا بقوة، إذ لم يكن سعي الخيام إلا محاولة للقضاء على الخوف من الموت ومواجهة نكبات الزمن. وهو الأمر ذاته الذي يفعله محفوظ وهو يكتب «أصداء السيرة الذاتية». كأن محفوظ يعود فى عمله المتأخر إلى أيامه الأولى، إلى سنوات القلق، وكأن رحلته فى الحياة تتقاطع مع رحلة الخيام ذاته..التي بدأت بالشك.. ولكن هل انتهت إلى يقين؟ 

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

5

كان مفهوم الكتابة واحدا من أهم الأفكار التي قاربها نجيب محفوظ فى «الأصداء» عبر قناعة الروائي عبد ربه التائه. 

ما الكتابة؟ 

كثيرا ما يطرح السؤال على المبدعين، ودائما ما تتعدد الإجابات دون أن يتوصل أحد إلى إجابة نهائية أو تعريف حاسم وقاطع، بل أحيانا تتنوع الاجابات عند الأديب الواحد. ومثل كثيرين، تعددت إجابات محفوظ علي السؤال، فالكتابة «حياة لا مهنة» أحيانا، أشبه بـ «الغريزة الجنسية» أحيانا أخرى. والمبدع أو الأديب كــ «الشحاذ.. إنه يرفع يديه للسماء ويقول يا رب» انتظارا لفكرة يكتبها.

لكن بعيدا عن حواراته الصحفية، فإن محفوظ يقارب السؤال فى أعماله الأدبية ليقدم إجابة مختلفة. مستخدما أقنعته الروائية المتعددة. 

الكتابة – بمعنى ما- هي نوع من الجذب الصوفي. والمبدع درويش مجذوب، من أهل البصيرة النافذة، ولي من أصحاب الكرامات، ومن أهل الخطوة، يرى من خلف الحُجب ما لا يراه الآخرون، ومن هنا يجب أن ينال حظوة الأولياء، فلا يناله بسببها عقاب. هذه هي الرؤية النهائية التي يقدمها محفوظ فى أعماله المتأخرة، وتمثلها شخصية « التائه». 

لم تكن المرة الأولى التي يستخدم فيها نجيب محفوظ تيمة المجذوب كقناع له فى أعماله المتأخرة، بل سبقتها روايته «حديث الصباح والمساء» (1987)، حيث يظهر المجذوب بصورة أخرى خلافا لروايات محفوظ السابقة. قبلها كانت رواياته قد امتلأت بالدراويش الهائمين، مثل الشيخ متولي عبد الصمد فى «الثلاثية»، أو الشيخ درويش في «زقاق المدق» ولكنها كانت شخصيات ضرورية لاستكمال صورة الحي الشعبي الذي تدور فيه الأحداث الواقعية، وأحيانا يمثلون النقيض لعالم الفتوات، حيث المعرفة في مواجهة القوة. 

يستخدم محفوظ فى حديث الصباح أسلوبا تجريبيا، حيث يكتب عن شجرة عائلة، ربما كانت عائلته، ويقدم تاريخا لكل شخصية من شخصياتها حسب تسلسل الحروف الأبجدية، لذا تبدو الرواية كأنها بلا مركز للأحداث، أو بطل تدور حوله. ولكن هذا ما يبدو للوهلة الأولي، إذ أن هناك شخصية مركزية تتوزع على كل شخصيات الرواية، بل يبدو أن كل هذه الشخصيات تعمل لصالح هذا البطل: قاسم عمرو عزيز.

تبدأ الرواية بالطفل «أحمد محمد إبراهيم» الذي يرحل صبيا، وهو ابن شقيقة قاسم الذى تنهمر على خياله حكايات جدته راضية، والده قاسم، حكايات عن كرامات الأولياء وعبث العفاريت، ويذوب الواقع فى دنيا الأحلام والخوارق والآيات الربانية، أحمد ليس فقط شريك قاسم فى حكايات الجدة/الأم، وإنما تمتد علاقاتهما أيضا الى رحلاتها حيث تمضى بهما من بيت لآخر ومن ضريح ولى إلى جامع حبيب من آل البيت. مات أحمد فجأة، وبموته لم تعد الدنيا كما كانت: «وكان قاسم كلما تذكره بكى وقيل إن حزنه عليه فاق حزن أمه نفسها. ولم يسل عن حزنه حتى خلق خلقا جديدا لم يجر لأحد على بال. وقد تركت هذه التجربة تأثيرها فى تكوينه النفسى والوجدانى». 

تعيدنا الحكاية إلى رواية سابقة لنجيب محفوظ «حكايات حارتنا» يستعيد فيها أيضا قصة موت رفيق الطفولة نفسها، لكن يتغير اسمه ليحمل هذه المرة اسم همام..الذى يصفه الراوي بأنه: «جميل، خفيف الروح، يلاعبني بلا ملل ويصدق أكاذيبي وأوهامي، وأجده ذات يوم راقدا صامتا أدعوه إلى اللعب ولكنه لا يستجيب»…يواصل محفوظ: «وألمح من بعيد صديقي مغطى فوق الفراش مثل وسادة لم يترك له متنفسا، عندئذ يتردد اسم الموت من قريب، وأفهم أنه فراق يطول فأبكي مع الباكين، ويتألم قلبي أكثر مما يجوز لسنه» .تحمل شخصية قاسم فى «حديث الصباح والمساء» العديد من السمات والملامح الواقعية لنجيب محفوظ نفسه،  قاسم هو آخر العنقود في ذرية عمرو عزير وراضية، ولد ونشأ فى بيت القاضى، كان سطح منزله، والميدان بأشجاره الفارعة ملعبه، وعاش بكل وجدانه فى أمطار الشتاء ورياح الخماسين، لم يتح له أن يتخذ من أحد من إخوته أو أخواته رفيقا فما كاد يشب حتى كانوا قد تفرقوا في بيوت الزوجية…كان أخلص المستمعين لأمه وأصدق التابعين لها فى أحلامها وجولاتها الروحية بين الجوامع والأضرحة. دخل الكتاب على رغمه وتلقى فيه المبادئ بقلب نفور وعقل متمرد ولم يستطع أبدا أن يفرق بين المدرسة وسجن قسم الجمالية الذي رأى الوجوه التعيسة تلوح وراء قضبان نافذته.

ثم يحدث لقاسم ما يسميه محفوظ «الخلق الجديد الذي لم يخطر لأحد على بال». بعد أن يرحل رفيق الطفولة «أحمد». مرض قاسم مرضا شديدا، وأخذ فى الهذيان، فظن أبوه أنه يهذي بسبب المرض، لكن الأم أخبرته أنه على اتصال بأهل الغيب، وانتشرت حوله الأساطير « فأخذ يقصده أصحاب الآمال المعذبة محملين بالهدايا ثم بالنقود».. وهى نفس الملامح التي يحملها التائه، ولكن فى مرحلة عمرية أخرى. كل مجاذيب محفوظ فى مرحلته الأخيرة يمثلون محفوظ/ الكاتب الذي يشبه مجذوبا آخر من مجاذيب الأصداء.. «كان يضرب بعصاه في جميع الجهات كأنما يقاتل كائنات غير منظورة، حتى خارت قواه، فجلس على الطوار، وراح يجفف عرقه. وطيلة الوقت لم يبال به أحد»…يسأله الشيخ التائه: ماذا كنت تفعل يا عبد الله؟

فيجيبه بحنق: «كنت أقاتل قوة جاءت تروم القضاء على الناس، ولكن لم يفهم عملي أحد ولم يعاونني أحد». المجذوب هنا أشبه بدونكيشوت عصري، مثله مثل التائه، وقاسم، ومحفوظ نفسه. مجذوب يهيم فى ملكوت الله، درويشا، وعرافا، عاشقا للحياة، قادر على الاستشراف ومد أفق البصيرة إلى ما وراء الواقع. أليس هذا ما يريده محفوظ من الكتابة؟

6

لم يكن نجيب محفوظ، فيلسوفا، ولا متصوفا..كان فقط روائيا..مارس السياسة والفلسفة والتصوف عبر الأدب الذي أخلص له إخلاصا تاما. تابع وقرأ كل المذاهب والفلسفات، لكنه طوعها وفق رؤيته المحفوظية بعيدا عن الاخلاص لجمود أى فكرة.