حسني مبارك

مدينة ينام لصوصها سعداء

وائل عبد الفتاح

دخل المستشار على الرئيس ووجده حائراً.

فاستفسر المستشار وعرف سر الحيرة: الرئيس مشغول بالتفكير في كيف يشتري شقة لكل ولد من ولديه في مدينة 6 اكتوبر.

كان ذلك في عام 1986والمستشار حكى لنا الحكاية سنة 2007، عندما كنت أعمل نائباً لرئيس تحرير صحيفة الفجر“، والحكاية كانت ضمن حوار طويل عن  أزمات نظام مبارك، ومستقبل الحكم، وحلم اوراثة جمال الإبن الأصغر لكرسى أبيه، والمستشار أنهى حكايته بمقارنة في صيغة سؤال: كيف تغير الحال وأصبح نفس الولدين يستخدمان في تنقلهما طائرة خاصة…؟

يومها إلتقطنا من المفارقة المانشيت الرئيسي للصحيفة وهو ماقلب الدنيا علي المستشار ودفعه لإنكار ماقاله ولم يكن جديداً عليه فقد تكررت الأحداث والوقائع التي يقطع المستشار فيها المسافة بين الإندفاع و التراجع.

المستشار قادم من عالم الحقوق والقانون وأحزاب المعارضة اليسارية والقومية، تضفي لكنته الريفية، سمتاً من حكمة مستمدة من خبرات الفلاحين بالأرض و حكامها. وموقع المستشار الذي جعله يقترب من مبارك كان طموحه الأدنى، بعد أن ودع الحياة في عالم المعارضة، وإستقال لاهثاً إلي نادي المحظوظين الذي كان يسمى الحزب الوطني طمعاً في موقع كبير يجعله من الدائرة الصغرى للحكم، لكنه لم يجد إلا فرصة إقتراب بلا سلطة من الرئيس الذي كان في عامه السادس، و لم ينس بعد عالمه العسكرى، لكنه منذ أن أصبح بمفرده في قصر الحكم (بالرحيل الدموي لسلفه السادات) يتأرجح بين عوالم التقشف والفخفخة.

مارواه المستشار في لحظة إندفاع هو تقريباً قصتنا التي عشناها و نعيشها منذ قيام دولة الجنرالات في يوليو 1952، حيث يسكن الشيطان في تفاصيل تحول مبارك  من أب يبحث لأولاده وهم يكبرون شقة للمستقبل إلى ديكتاتور يسبح في ثرواته كما يقول منهج الديكتاتور السعيد.

والقصة لاتخص مجرد” فساد” رئيس وعائلته، لكنها بنية نظام تجعل الساكن في القصر العالي، يستمتع بهذه المسافة البعيدة عن المحاسبة، وينعزل تدريجيا خلف أسوار غير مرئية من التمييز و النفوذ، تتراكم معها مشاعر أنه “إستثناء” وليس مجرد “موظف علي رأس الجهاز التنفيذي في الدولة “، هذه المشاعر تحتاج وقت، وتربية نفسية، تجعله يملأ الفراغ الكبير  حوله تدريجيا ليصل إلى أنه”مانح الوجود” لهذه الدولة و”الإطمئنان” لهذا الشعب، وأنه بترويض الفراغ الكبير الذي يحتله منصب الرئاسة، يصبح أقرب إلى الآلهة، يملك ويحكم، يوزع الثروات، ويحي طبقات و يميت غيرها، ويستحق بعد كل المعاناة في الحكم الإستمتاع بما تمنحه شهوة السلطة من مزايا ولذات.

وهاهو مبارك بعد أن عاد إلى بيته، ينتظر عودة 425 مليون دولار ظلت مجمدة في سويسرا منذ إجباره على مغادرة قصر الحكم، ولم تجد أحداً في مصر يسأل من أين لرئيس معروف مرتبه كل هذه الثروة؟ سويسرا إضطرت بعد ست سنوات أن تعيد أموال مبارك و اللاعبين الكبار في نظامه (تصل مجموع الثروات المجمدة إلى أكثر من 6 مليار جنيه مصري)، بدون أن يفسر لها أحد كيف يتحول بلد فقير إلى جنة مالية لحكامه؟

مبارك وعائلته قبل التحول إلى راعي الجنات المالية؛ أول زيارة للصين بعد تعيينه نائبا للسادات؛علاء أقصي يمين الصف الثالث وجمال في منتصف الصف الثاني

1
جنات مغلقة

أين أوراق مبارك؟ ماذا وجدت جهات التحقيق في مكاتبه؟ أين أوراق حساباته الشخصية و العائلية؟

أسئلة حاولت ان اعثر على خيطها في رحلة إلى سويسرا (ديسمبر 2013):”..هل منحت سويسرا معلومات للسلطات المصرية عن حسابات مبارك..وعصابته؟

الإجابات دائما كانت تشير إلى السرية أو أن هذا يتم في مفاوضات لايصرح بإعلان تفاصيلها أو تداولها مما يضر بسير القضية ومصير الأموال.

الاشارة المهمة التي عثرت عليها بالاسئلة هي أن سويسرا في إطار محاولة صنع صورة جديدة لها أو لحماية اقتصادها المعتمد على البنوك لن تكون مرة اخرى جنة الديكتاتوريات المالية.

وحكى مسئول في الخارجية السويسرية عن حالة موبوتو التي أسفرت التحقيقات حول امواله ضرورة إعادتها إلى بلاده (الكونغو) لكن طول التحقيقات جعل الدائرة تدور ويقفز إبن موبوتو إلى الحكم، ويرفض رد الأموال (أموال أبيه) للدولة (كان يريدها أن تعود إلى عائلته) وهو مادفع سويسرا إلى إنشاء منظمة مساعدات لمواطني الكونغو بأموال موبوتو.

لكن مصر لن تتمتع ب حالة موبوتو و ستعود الأموال لتضاف إلى رصيد العائلة، ربما لتتخذها سنداً في رحلة جديدة إلى السلطة، يعوٍقها الآن الحكم النهائي في قضية القصور الرئاسية على مبارك و نجليه بالحبس٣ سنوات.

2
حساب العائلة

هذه الأموال العائدة ستعيد جزءاً من البريق إلى العائلة التي تعاملت في العشر سنوات الأخيرة على أنها سلالة ملكية أو سلالة حكم، وهي سلالة لا لون لهالاهي زرقاء (من أصول ملكية) و لا كاكي (تعبير عن العسكريتاريا الحاكمة منذ 1952)، مثل سلالة معلقة في سلم الهويات، بدون معمار دول تعتمد على حكم الوراثة العائلية أو العسكرية، هي سلالة هجين تحكم بتكوين عصابة حكم مركزية و نوادي محظوظين من الحبايب و المحاسيب توزع عليهم تصاريح تكوين الثروات، وتفتح زمامهم طرق الثروة و والنفوذ بملامحه المملوكية، هنا تنمحي المسافات بين المال العام و مال العائلة، مادام هناك المحترفون في تستيف الأوراق و حواة اللعب بالقانون. في السجن همس أحد نجلي مبارك لأخيه و هو يفتح خطاب حسابه البنكي: بابا ده عليه حاجات..كان الحساب يتضمن أرباحا من أسهم في شركة لايعرف عنها الإبن شيئاً، وإلتقط الموظف الكبير المتهم بإهدار المال العام همسات الإبن و ضحكوا جميعاً بإعتبارهم زملاء عنبر واحد في سجن مزرعة طرة .كلهم تمتعوا بتحول الفساد إلى ثقافة مقبولة“… يمكن من خلالها لعائلة مبارك أن تؤسس حضورها او سلالتهابها فقط إنتقل مبارك من ارتداء بدل انتاج مصانع المحلة إلى بدلة استورد قماشها المكتوب على كل نسيجه اسم مباركشعور بالعظمة غطى على معايير الفساد الذي قدم باعتبارهحماية للمصلحة العليا..”

هذه هي كلمة السر في ثقافةقبول الفسادأو جعلهطبيعياو الواقع مقارنة بتخيلات الناس عن النزاهة و المساواة و الشفافية…وهي أيضاً كلمة السر في تفسير عدم إعادة أموال مبارك إلى مستحقيها.

3
الطاغية حرامي

لماذا لم تهتم سلطات مابعد مبارك بقضية إعادة الأموال المنهوبة؟

اللحظات النادرة التى إهتمت بها السلطات المتعاقبة بعد إبعاد مبارك عن الحكم، كانت من قبيل الشو السياسي، بينما كان الاهتمام الأقصى في هذه المراحل بترسيخ وحماية السلطة، من المحاسبة أو المحاكمة، وإعادة المجتمع إلى مربع الرعايا الذي لا يفكر فيه فيه في مواطنة تمنحه آليات للحماية من عمليات النهب من أعلى.

إستعادة الأموال التي هربها مبارك وعصابته ليس هدفها الأكبر هوإستعادة الأموال بقدر ما هي منع تكرار النهب وتقوية المجتمع في مواجهة الطاغية الحرامي.

وفي لقاء مع مسئولة الملف في وزارة العدل السويسرية قالت أن حكومة سويسرا بادرت بتجميد 780 مليون فرنك سويسري وهو ما يتجاوز 6.5 مليار جنيه مصري (بسعر العملة المصرية قبل التعويم)، وهو تجميد سياسي أي انه يخضع لقرار اتخذته الحكومة إحتياطياً و يخص اموال 32 من رجال و نساء عصابة مبارك وبدأ من يومها التفاوض بين الجانب المصري و السويسري حول عدة محاور من بينها تدريب خبراء سويسريين لكوادر قضائية مصرية على كتابة أدلة الاتهام.

والأخطر في التفاوضات كانت محاولة تتبع مسار الأموال الهاربة وكيف يمكن غسلها وإلى أين وصلت؟

..ونعرف الآن نتيجة التفاوضات لكن لا نعرف لماذا فشلت.

4
مسار الأموال القذرة

الرحلة إلى سويسرا كشفت لنا عدة مؤشرات:

– الجهات القضائية في مصر غير مؤهلة ولا مدربة لتتبع مسار الثروات المنهوبة.

– تتبع.. مسار هذه الأموال عملية لها قواعد علمية في بناء ملف القضية ي كتابة التحقيقات و اعداد الوثائق المطلوبة بدقة..)

– تعدد جهات التحقيق مابين (النيابة العامة وجهاز الكسب غير المشروع و الرقابة الادارية..) يربك الطرف السويسري الذي لا يفهم لماذا تحقق جهتين في ملف واحد؟

و فتح ملف أموال مبارك لا يتعلق فقط بحجم الأموال الموجودة في سويسرا ولكنه يتعلق بتأسيس نظام قضائي يمكنه منع تكرار النهب، وكانت هذه بروفة:

– التعاون مع البنوك السويسرية سيغلق الأنفاق التي كانت تهرب عبرها الأموال

– (والأهم) تفكيك الشبكة التي استخدمها مبارك وعصابته لتتغير طبيعة الأموال أو لتدخل متاهة يصعب من خلالها الربط بين جريمة النهب والأموال المنهوبة وهي عمليات معقدة تتم عبر مغاسل الأموال القذرة من جهة أو إستخدام أشخاص، سماسرة لتغيير ملامح و طبيعة هذه الأموال ليصعب التعرف عليها.

بمعنى واضح…فانه عندما يسرق ديكتاتور مثل مبارك أو أحدا من العصابة الحاكمة المستفيدة من نفوذها و قوانينها فإنها تحتاج:

– نفوذ وقوة سياسية، وفساد برعاية أعلى رأس في السلطة تحمي جريمة النهب وربما تعمي الإبصار عنها أو تخرس جهات التحقيق حولها…

– بنوك تقبل بان تكون خزائن المال القذر او تكتفي بالاطمئنان إلى تستيف الأوراق لتخلي مسئوليته.

– شبكة تتحرك عبرها الأموال في مسارات لإخفاء الملامح.

العنصر الأول هنا في القاهرة. والثاني في سويسرا التي كانت في سنوات سابقة جنة الأموال السرية لكن الجنات الجديدة أدخلت العملية مستوي آخر….اما العنصر الثالث فهم شخصيات تعيش بين القاهرة و عواصم اخرى…ومهمتها تبييض المال الأسود.

وكان السير خلف أموال مبارك هو أول كسر هذه الحلقة….التي من أجلها تحتل الشعوب وتقهر..

5
الأيدي الرمادية

الموضوع يتعلق بحق المجتمع في عدم تكرار سرقته وهذا ما تفشل فيه القوانين الحالية وخبرات الجهات القضائية.

جريتا فينر مديرة المركز الدولي لإسترداد الأموال المنهوبة التابع لمعهد بازل قالت لنا ان مركزها درب حوالي 200 من اعضاء الهيئات القضائية والرقابية في الدولة للتدريب على التعامل مع تقنياتالمال الهارب.

واضافة إلى تعدد جهات التحقيق فإن المدربين السويسريين فوجئوا بصعوبة من نوع أخر في التدريب وهي الهيراركية..كل جهة تسأل: لماذ نتدرب مع هؤلاء؟

وهذا يعني ببساطة أن المؤسسات في مصر لا تعرقل الحصول على الأموال  فقط بسبب رفضها الافصاح عن معلومات أو تعاملها مع ملف محاسبة المسئولين عن الفساد بمنطقعفا الله عما سلف وهو ما يترجم عمليا في إطار الصفقات”.

لم يسأل أحد لماذا هناك حسابات في سويسرا بإسم رئيس جمهورية مصر وكل عائلته وعائلات حاشيته المقربة (وقائمة الاموال المجمدة تشمل كل هؤلاء ..؟)

في السؤال أول المنطق: سر هروب الأموال عن أعين الدولة. لماذا كل هذه الحسابات في الخارج(سويسرا وغيرها

هنا السر في الشفافية أو محاولة الحاكم وبطانته أو عصابتهالإبتعاد بأمواله عن اعين الجهات الرقابية، فهو فوق الرقابة ولايدخل تحت سيفها إلا من يغضب عليها، ساعتها تفتح المغاسل العمومية ويوضع الشخص المغضوب عليه لكي يستمر النظام/العصابة سمعتها نظيفة.

لم تتحرك مؤسسات الدولة في مصر لتغيير تلك القواعد المعتمة في الحكم ولا أعيد تكوينها لتحمي مال الشعب وهذا هو المخيف في ملف مال مبارك الذي ينقصه معلومات مهمة تخص:

1 مسار الأموالوكيف تمسك الخيط الرابط بين جريمة فساد و بين المال المخزون في بنوك سويسرا و غيرها.

2 الأيدي الرمادية: التي تحمل هذا المال القذر من مصر إلى حيث يرقد حاملا أماني الفاسدين في إستراحات طويلة على بحيرة الثروات المنهوبة.

وليس صعبا إكتشاف أن هناك “إرادة” مضادة لإزالة ستار العتمة على الرجال الكبار الذين يسرقون بالقانون ويحمون الثروات القذرة بالنفوذ و الأمر الواقع وجيش من الأيادي الرمادية المخترق لكل مؤسسات الدولة.

هذه الإرادة المضادة تقف ضد إعادة بناء الدولة، حفاظا على مساحات العتمة وتطلق غازاتها المسمومة لتغطي على هذه المنطقة بفرض اليأس: لن نستر المال …نت لسه فاكر/لماذا تنبش في القبور.

النبش في قضية مبارك ستكشف ان هناك من اخفي اوراقه واوراق عصابته ليمنع العثور على الرابط بين أمواله في سويسرا و غيرها وبين جرائم الفساد المالي و السياسي …وهذا مرة أخرى ليس إنتقاما ولكن بحثا عن ارضية شفافة لإقتصاد جديد لا يقوم على توزيع الحصص بحمايةالرأس الكبيرة“.

لماذا أصبح هناك من يدافع عن الفاسد و المستبد وطارد الثوري والمدافع عن الحقوق و الحريات؟

لماذا سويسرا وبريطانيا أكثر حرصا على إستعادة الأموال المنهوبة من بلاد الربيع العربي كما يسمون مصر و تونس و ليبيا وسوريا ..؟

سويسرا تغير قانونها و بريطانيا ارسلت مستشارا إقليميا إلى القاهرة معنيا بإسترار الأموال كما أنها تتبني مبادرة إنشاء المنتدى العربي لإستعادة الأموال المنهوبةالذي عقد إجتماعا خلال اكتوبر الماضي في المغرب.

ولاحظ ان هذه دول رأسمالية، أي انها ليست في صف تأميم الثروات الخاصة او التضييق على حرية المال لكنها دول تحترم الشفافية وتدرك انها أول قواعد النظام الرأسمالية وتعرف أن هناك فرق بين حرية الإقتصاد و حرية العصابات في سرقة الشعوب.

بينما مصر تدخل بثقل مؤسساتها وصراعاتها البيروقراطية وإستعراض قدراتها الفاشلة، إضافة إلى وقوعها في اسر مندوبي العصابة الذين يعطلون السير إلى اعادة بناء دولة لايسرق حاكمها الشعب وينام سعيدا في سريره وإذا طالب الشعب بمحاكمته واستراداد الثروة المنهوبة يشعر أنه ضحية ويبكي من غدر الشعوب.

*الصياغة الأولى : يناير 2014