علامات مترو القاهرة

ناصر كامل

قراءة العلامات

في إطار سعيك للبحث عن مفاتيح المدينة؛ هل سيكون من المفيد البحث في علامات المترو، ودلالاتهاماذا قد تخبرك علامات المترو؟ هل ستكشف شيئًا لا يختبئ إلا فيها وحدها؟ بدت محاولة قراءة علامات مترو القاهرة ميسورة، لكن بعض المفارقات والمشابهات عطلت، أو للدقة أجَّلت قليلاً، البدء بالبحث عن العلامات؛ الظاهرة منها والخفية، في خطوطالمتروالثلاثة؛ وبالأخص عند النقاط الثلاث التي يتقاطع فيها خطان ليتشكل هذا المثلث كثيف الدلالة: التحرير، والعتبة، ورمسيس، الذي يٌصطلح على تسمية ما يضمه، ويتماس معه مباشرة: قلب القاهرة، أو وسط البلد.

في رمسيس كان التأجيل يبدو إجباريًّا، ليس، فقط، لأن الميدان نُزع منه علامته المميزة (التمثال)، ولا لأنباب الحديدفقد معناه، ولا لأن عنوان ما تحت الأرض ربما يكون العلامة الفارقة الوحيدة الصارخة على الانتصار (المعنوي/ الرمزي) على الاستبداد، بل لأن الهبوط، أو النزول، إلى عالم العلامات هذا كان يستوجب ترتيب الرحلة، والبقاء قليلاً فوق السطح، برفقة أوراق وأدوات مساعدة، لنزع العبءالتاريخيعن الحواس.

من رمسيس، إذن، تبدأ محاولة تحرير الحواس من العبء التاريخي ومساءلته. وهي عودة إجبارية تدفع تجاهها عدة مفارقات ومشابهات تاريخية، منها ما هو اقتصادي وسياسي وثقافي واجتماعي في النهاية. والرابط بين المترو والسكك الحديد مفهوم، فالأول تفريع متأخر، وإن كان هائلاً، من الثاني، وكلاهما يندرج ضمن إطارالنقل بالسكك الحديد، ويعرف بأنهإحدى وسائل النقل تشمل النقل بقطار السكك الحديد ومترو الأنفاق والمترو الخفيف والترامواي“.

سكة حديد مصر (س. ح. م)؛ تغيَّر مسماها مرات عدة، تبعًا لتغيير النظم السياسية، وربما كان لبعضنا ذكريات بصرية من مرحلة: س. ح. ج. م. ع، التي ظلت محفورة في كل مكان من هذا الجسم الهائل. ما أزال أذكر قطعة الزجاج السميكة بالحروف الخمسة تلك وهي تتنقل معنا بين الجيزة ودمنهور والفيوم، لتغطي مائدة صغيرة تتوسط الصالون المتواضع. الحروف الخمسة علامة تبدو مبهمة الآن، لكنها فارقة للغاية في تاريخنا المعاصر، فبين عام 1958 وحتى 1971 كان المصريون يطالعونها في انتقالهم بالقطار داخل مصر، وبقيت لسنوات محفورة في ملايين الأماكن في هذا الجسد؛ ذكرى للجمهورية العربية المتحدة وسكك حديدها، ربما بوقع أخف من ذلك الذي يرافق مطالعة ملايين الوثائق الرسمية الشخصية التي تنطبع الكلمات الثلاث عليها.

سكك حديد مصر تاريخ عريق وإنجازات متلاحقة؛ عنوان مقال على الصفحة الرسمية على الشبكة الدولية للمعلومات لإحدى الهيئات الحكومية المسؤولة عن توجيه الرأي العام، وتشكيل صورة الدولة في الإعلام الدولي. وفيه نقرأتعتبر مصر ثاني دولة في العالم بعد إنجلترا التي أدخلت السكك الحديدية إلى أرضها، وتعد خطوط السكك الحديدية المصرية أول خطوط يتم إنشاؤها في أفريقيا والشرق الأوسط“. وهمثانيذاك، وهمتاريخيكبير، وغير صحيح بالطبع؛ فبين البلدين، إنجلترا ومصر عشرون بلدًا على الأقل في سجل السبق، لكن السابقة صحيحة فيما يتعلق بالبلدان العربية والأفريقية والشرقية؛ مفهوم الشرق الأوسط مفهوم سياسي وجيوسياسي حديث، وعلى أفضل تقدير يرجع للسنوات الأولى من القرن العشرين، ودلالةالشرقيةهذه ستتبين لاحقًا.

في كل الأحوال تحتل سكك حديد مصر موقعًا متقدمًا للغاية في سجل البدايات، بينما تأخرت في السجل نفسه فيما يتعلق بالمترو تأخرًامبهرًا، وهذه أولى المفارقات التي عطلتالهبوطمباشرًا والشروع في البحث، كما أن وضع سجل البدايات إزاء يوميات الواقع فيما يتعلق بالسكك الحديدية سيبدو صادمًا ومحفزًا لمئات الأسئلة.

المقارنة بينباب الحديدومحطة المترو في رمسيس، وبين المحطتين المثيلتين في الجيزة توضح لنا معنى تأخر مد السكك الحديدية إلى الصعيد، والبقاء طويلاً أسرى خدمة التجارة العالمية بالأساس، مصر من ذلك المنظور كانت مجرد فضاء جغرافى تشكله إرادة القوى.

كان باب الحديد التعبير الشعبي عن ذلكالوحش، وذلك القلق من الحديد الذي يمشى، ثم الحديد الذي ينطق (الجرامفون والمذياع) ويطير (الطائرة). وظل الاسم قادرًا على التعبير عن دلالات مختلفة. حين وصلا المترو إلى باب الحديد تقاطعت عدة أزمنة في الوقت الذي كان الميدان فيه قد جرب كل المحاولات للبقاء على قيد الحياة؛ جسور متداخلة للمركبات وللمشاة، وتحويلات مرورية، وتعقيدات رمزية في تداخل المسميات: باب الحديد، رمسيس، على السطح، ثم يضاف إليهما مبارك في الأسفل، ثم بعد ذلك تصبح التسميات رباعية بإضافة الشهداء.

يمدنا جانب من ذاكرةمترو القاهرةالمُخزن تحت عنوانالأخبار والصحافةببعض المعلومات الكاشفة لأهميتهالمطلقةفي تلك الأيام الفارقة من سنة 2011، ونقرأ هذا العنوانالمجلس العسكري يوافق على استثناءحفار المترومن قرار حظر التجول، نحن في 2 مارس، وهناك شعور بأن صفحةمباركقد طويت، والجميع يستعد للقادمالمجهول، ومن تفاصيل الخبروافق المجلس الأعلى للقوات المسلحة على استثناء حفار الخط الثالث لمترو الأنفاق من قرار حظر التجوال، وبذلك يستمر العمل في المشروع 24 ساعة لتعويض فترة التوقف. وفي هذا الصدد أكد المهندس عاطف عبد الحميد، وزير النقل، في تصريحات صحفية، الأربعاء، أنه تقرر استئناف العمل في المرحلة الثانية للخط الثالث لمترو الأنفاق (العباسيةمصر الجديدة) والتي يبلغ طولها 6.2 كيلو متر بعد توقف استمر قرابة الشهر، نتيجة سفر الخبراء الفرنسيين واليابانيين خارج البلاد أثناء الثورة، ثم تتوالى العناوين؛ وأغلبها بمفردها، ودون الحاجة إلى التفاصيل، كافية لرسم مسارمحوريةالمترو ضمن تجاذبات تلك الأيام: كفانا فوضى (26 مارس)، بناء مصر يبدأ بتنظيم المترو (18 أبريل)، الشهداء تمحو مبارك من مترو الأنفاق (2 مايو)، زلط التحرير في معرض صور على رصيف المترو (25 مايو)، عصفوران بحجر واحد: الداخلية تصور جزءًا من حملة (اطمن) في محطة الشهداء (اليوم نفسه)، فرقة المسرح الشبابية (ثورة فجر) تقدم عروضها داخل أروقة المترو (1 يونيو)، وفى اليوم نفسه يُنشر أول حوار لرئيس مترو الأنفاق منذ توليه منصبه في مارس 2009، وهذا يستحق بعض التوقف، في العنوان يقول محمد شيميخط المترو الثالث سيكون أحسن من مترو دبي“…
حين افتتح الرئيس حسنى مبارك، وبرفقته رئيس الوزراء الفرنسي جاك شيراك، المرحلة الأولى من مترو القاهرة كان ذلك تسجيلا لثلاثة مؤشراتتاريخيةمهمة؛ أولاً أن مصر، ومع أنها، في ذروة أزمة الديون، وفى السنة التى وصفها جلال أمين بأنهايوم الحساب، ما زالت تبني مرافق أساسية اعتمادًا على الاستدانة، والحضور الفرنسى يتستعيد ذاكرة ذلك التنافس الفرنسيالإنجليزي الذي رافق دخول القطار، وأخيرًا أن مصر ما زال لها السبق في المنطقة؛ وخصوصًا قياسًا للدول العربية. لكن تصريح المهندس الشيمي في صيف 2011، يلقي على كل ذلك ضوءًا كاشفًا، فيبدو أن المسؤولين المصريين؛ العقلية التكنوقراطية، والبيروقراطية للدقة، هجرواأحلامجعل مصر قطعة من أوروبا، تلك الأحلام التي كانت تبدو قريبة المنال في بعض أيام دولة محمد علي، كما هجروا أحلام دولة يوليو فيقيادةالأمة العربية، واتجهت الأحلام إلى نموذج دبي، وربما الدوحة.

لا يوجد في بابالأخبار والصحافةضمن ذاكرةمترو القاهرةما يفيدنا في سياقنا هذا، سوى عنوان واحد، وعلينا أن نطالع كلمة رئيس مجلس الإدارة الموجهة إلىالسادة / السيدات زوار الموقع الإلكتروني للشركة المصرية لإدارة وتشغيل المترو“. العنوان؛ المؤرخ في 20 أبريل الماضي، هوالتعديلات الدستورية 2019″ رئيس المترو: المشاركة واجب على كل مصري غيور، وفي التفاصيل نقرأيذكر أن، الشركة المصرية لإدارة وتشغيل مترو الأنفاق قد نظمت مؤتمرًا حاشدًا بقاعة مؤتمرات واجتماعات محطة الخلفاوي بالتعاون مع اللجنة النقابية للعاملين بشركة مترو الأنفاق لحث العاملين بالشركة على المشاركة الإيجابية في التعديلات الدستورية “.

أما كلمة رئيس مجلس الإدارة فتكتسب إشارته إلىأن مترو الأنفاق هو المرفق الوحيد الذي استمر في العمل في ظل الفترات السابقة التي توقفت فيها جميع وسائل النقل وجميع أجهزة الدولةأهمية إذ يتبعها بهذه الفقرةوقد أشادت جريدة النيويورك تايمز الامريكية بعددها رقم (55761) الصادر في 4 مايو 2012 بأن مترو الأنفاق هو الشيء الوحيد المنتظم ويعمل بسلاسة وكفاءة في مصر ويعتبر معجزة العاصمة، وأنه يمثل كل ما هو مفقود خارج قطارات المترو (التي) ما زالت جديرة بالاعتماد عليها؛ إذ لم يحدث بها أي تغيير“.

اللوجو

الآن يمكن النزول إلىمعجزة العاصمة“…
العلامة الأولى، وقد تكون الأهم، هي شعار المترو نفسه، التى يمثل شخصيته، وتعبيره المباشر عن تصور القائمين على تصميمه وتنفيذه، وهي بالضرورة ستكون محلاً للمقارنة إزاء الشعارات المثيلة في مختلف مدن العالم.

الشعار أولاً، ثقيل، متخم، مزدوج اللغة، ودلالات الشكل ملتبسة. دائرة حمراء اللون، بداخلها شكل مثمن، مربعين متداخلين، وهو شكل هندسي دار بين حضارات، وثقافات، وديانات عدة، وهناك مزاعم كثيرة بامتلاكأصوله، لكنه أيضًا ذو اتصال ما بالدولة العباسية. هذا الشكل الهندسى الملتبس، يتوسطه حرف M، ثم في الأعلى كلمة مترو بالعربية بخطوط جامدة، هندسية حادة. هناك صرامة وجمود في الشكل، والحروف والكلمة، تضاف لكل هذا الألوان: الأسود والأحمر والأبيض. حرف M، مأخوذة من الكلمة الفرنسية، وهو في الغالبية العظمى من الشعارات في العالم، الإنجليز فقط يستخدمونأندر جراوندوعلامة مباشرة وبسيطة ومركزة.

المقارنة مع الشعاراتاللوجوهاتالأخرى يكشف عن مدىالغلظةوالصرامة، في مقابل نعومة، ورقة، وانشغال فني في العديد من الشعارات، شعار مترو طوكيو مثلاً تنويع على تصميم مترو باريس، لكن بليونة لافتة.

قد يكون بعض المصريين محقيين حين يكررونمترو القاهرة أفضل، وأنظف، وأكثر أمنا، من مترو باريس وروما، لكن لوجو مترو باريس فني للغاية، مع بساطته.

العلامات

العلامات السياسية (الوطنية) قد تأتي في مقدمة الانشغالات بالبحث عن معنى ما، معنى وراء الحضور والغياب، فمحو اسم مبارك واستبداله بالشهداء علامة، لكنها تفقد دلالاتها إذ إن هؤلاء مجهلون، أي شهداء؟ لماذا لم يتبع الاسم مثلاً بـ“25 يناير، أو يناير فقط؟
العلامات السياسية تشغل قلب القاهرة، فبالإضافة إلى حضور محو مبارك واستبداله بالشهداء هناك محطات أحمد عرابي، وجمال عبد الناصر، والسادات، ومحمد نجيب، وسعد زغلول؛ التي بمفردها، وبسبب العلاقة الوثيقة (المعمارية والفنية) بين الفضاء فوق سطح الأرض والمحطة في الأسفل، تمثل اتساقًا تامًا نموذجيًّا، فالمحطة تقع مباشرة أسفل بيت الأمة؛ حيث أقامالزعيم، وحيث ضريحه الذي دفن فيه مع زوجته.

المفارقات والأسئلة كثر، ليس من بينها مثلاً: هل هناك قصد من وضع جمال عبد الناصر في الإسعاف؟ أو لماذا لم تسم إحدى المحطات باسم مصطفى كامل، أو مصطفى النحاس؟ لننظر إلى محمد نجيب، يدرك كل شخص يمر على السطح أن المنطقة اسمها عابدين، وأن الميدان اسمه محمد فريد، فهناك تمثال له يتوسط الميدان، وكل نازل إلى المترو لا بد أن يراه، لكن المحطة سميت باسم نجيب، وليس أحمد عرابي مثلاً الذي علاقته بعابدين وسراياها أوثق، في الأسفل سيرى الراكب لوحات مصممة على هيئة زخارفإسلامية، وكلمةما شاء الله، لا صورة للرجل (محمد نجيب) ولا تنويه عنه، في التعليل ذكر أن المخطط الأساسي كان أن تسمى المحطةالأوقاف، لأنها تقع على بعد عشرات الأمتار من مبنى وزارة الأوقاف، ثم عُدل عن ذلك، فأصبح المحطة تسمى من قبل الركاب: عابدين، محمد نجيب، محمد فريد، ما شاء الله.

مصمم اللوحات والنقوش في خطي المترو؛ الأول والثاني، الفنان سامي رافع محمد، غيبه الموت قبل نحو شهر، عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، كانت لديهشروط وتصوراتوضعها المسؤولون عن المترو فصاغ رؤيته الفنية وفقها: قيل له هذه أسماء المحطات، فوضع تصورًا وأشرف على تنفيذه، لكن عمله ظل في عدد معتبر من المحطات في حالة غربة عن الركاب.

الراكب لا شك سيستشعر الاغتراب عن أشكال الأنف والأذن والفم المرسومة على جدران محطة مسرة، راكب يواصل النظر إلى هذه الأشكال في ذهابه وعودته، هل يسأل نفسه، أو الراكب الجالس، أو الواقف، بجواره؟ هل تشغله الأشكال بالأساس؟ من المفروض أنها وضعت كعلامة، كتكريم، وأنها قد تحملرسالة، أو على الأقل معنى. قد يكون هناك من الركاب، ومن قاطني شارع مسرة من يعرف أن الشارع والمحطة سميتا على اسم طبيب أنف وأذن وحنجرة كان مشهورًا في الحي، ألم يكن من الأنسب أن يوضع في مكان ظاهر لوحة للتعريف به، وربما صورة أو تمثال له.

فى البحث عنمسرةالطبيب، قد يجد الباحث ما يجذبه ناحية التحليل الاجتماعي والثقافي، منها مثلاً أن أغلب المقاطع المصورة (الفيديوهات) التي تطالعك عند البحث في جوجل تتعلق بحوادث في مسرة، عدد معتبر منها له بعد طائفي، لكن بعضها طريف، منها مثلاً هذا العنوانلسَّه مستنيكى في محطة مسرة“.

فى المحطة التالية (روض الفرج) سيكون سهلاً فهم الرسومات والأشكال؛ إنها مراكب شراعية، فهذا هو دوران روض الفرج، والنيل على بعد بضعة كيلومترات، الحاذقون قد يفهمون أن المقصود المراكب التى كانت تنقل الغلال وبالضائع، وربما مراكب النزهةالفلايك، على الأقل واضحة دلالة تلك الأشرعة والمراكب. لكن فيسانت تريزاسيكون القلبان المتداخلان، لغزًا، وسيصعب على ذلك الحاذق أن يفكر في أن ذلك المنتظر في محطة مسرة وجد من ينتظرها في سانت تريزا وتعانقا حتى تناغمت دقات قلبيهما وتداخلت. لا هذه رومانسية مهجورة، القصد أبسط؛ القلبان هما قلب المسلم والمسيحيالقبطيوقد تعانقا في حب الوطن، هنا بالذات وليس في محطة الأوقاف مثلاً، فمثل هذا الحب لا يجب أن يسمح به إلا هنا.

 

لن يجد الراكب صعوبة في فهم أشكال محطة الأوبرا فهي صريحة بصورة واضحة، هكذا يمكن أن يصف أحد الركاب الفتاة المرسومة على الحائط وهي تعزف على القيثارة وطرف ثوبها مزاح عن فخذها. لكن سيفكر طويلاً في الوجه العابس والوجه الضاحك في العتبة، كم من الركاب يذهب إلى المسارح الثلاثة في الأعلى: القومي، والطليعة، والعرائس. يعرف كل من يذهب هناك أن هذه المسارح تعاني الأمرين من الباعة الجائلين الذي لا يتركون سنتيمتر واحدًا غير مشغول أمام الداخل إلى قاعاتهم.
فوضى العتبة غير المسيطر عليها أحد التعبيرات عن وجود قوة دفع ما، وخفية بالطبع، تعمل على تشويه ذلك المكان، إنه المكان الذي اعتبره الخديو إسماعيل أساس تصوره العمراني للقاهرة؛ الأزبكية، الحدائق والأوبرا، المركز الثقافي الفني الذي صيغ ليكون قطب المغناطيس الذي سيشكل ما بينه وبين القطب الآخر في عابدين قلب القاهرة بالاتصال مع محطة القطار وشاطئ النيل.

شعور الاغتراب بين الراكب وعلامات مترو جامعة القاهرة سيكون أخف وطأة من شعوره في محطة فيصل، فقد لا يشغله كثيرًا مصباح المعرفة وكتب كثيرة على شكل فراشات تتجه ناحية الضوء المنبعث منه، لكنه سيسأل عن دلالة ومعنى وسبب وجود فلاحين وإوز وعروسة مولد على جدران محطة فيصل. هناك تضاد تام بين هذه الرسومات وبين الفضاء المحيط بخارج المحطة، ربما كان في ذهن الفنان الراحل أن فيصل كان قبل أكثر من نصف قرن منطقة زراعية يشتغل بعض سكانها بالفلاحة وتربية الطيور، لكنها وقت أن افتتح المترو كانت تخلو من شجرة مثمرة واحدة، لذلك فالرسومات تحيل إلى ماضٍ منبت الصلة بالواقع، مثله تمامًا مثل مراكب روض الفرج، وهما في الواقع رسومات وأشكال ليست فقط تسبب الاغتراب للراكب الذي لا يلتقط جماليات الأشكال والألوان، ولا الدلالات المرجوة، لكنه إن إدرك فربما سيشعر بالأسى.

والشعور بالأسى ربما يكون أهون من الشعور الذي ينتاب سكان بولاق الدكرور، وهم يدركون جيدًا كم تكرههم الدولة، كراهية بالغة، والدلائل أكثر وأوضح من أن يجهلها أحدهملقد رفضت الدولة أن تدخل المترو عندنا، وأبقت المحطة هناك تحت الأرض، وخلف شريط القطار، عند مقار، في أول شارع التحرير، ثم جعلته يعبر الشريط من تحت الأرض، ثم يصعد إلى السطح بعد أن عبرنا، في المحطة التالية لنا يجد سكانأبو قتادةالمترو أمامهم، وطلاب الجامعة يعبرون جسرًا إلى كلياتهم، هكذا الأمر في أول فيصل، ثم ما يليه إلى المنيب. نحن فقط في الخط مظلومون، ومهانون. صحيح أن المحطات في السطح أسوأ من تلك التى تحت الأرض؛ فهى أضيق، وأقبح، لكن الشعور بأن الدولة لم تعمل لنا خاطر وتدخل المترو إلى ما بعد القطار عند الكوبري الخشب، أتظن الدولة أن الكوبري ما زال خشبًا؟ كان الأوفق أن تسمى المحطة بولاق الدكرور، لا داعي للكوبري الخشب، لماذا سُميَّت فيصلا، والجيزة، وساقية مكي، أحسن مننا في إيه ساقية مكي؟“.