سأم مارادونا

عندما بحثنا عن أبطال في اللعب لا الحرب

وائل عبد الفتاح

لم يستطع أحد أو شيء أن ينقذ مارادونا من السأم.. وداعه في “كولياكان” عاصمة المخدرات المكسيكية، لم يكن مثل وداع نابولي.. تركهم فجأة في منتصف الطريق، قائلاً: فعلتُ كل شيء في الحياة! وعاد إلى بوينس إيرس..

قال طبيبه إنه بالتأكيد انتحر؛ أي استسلم قبل أن يكمل عامه الستين؛ توقف عن الدواء والطعام.. هكذا فسَّر الطبيب نهاية مارادونا، الذي منح البشرية منذ ظهوره نغزة تعيد تقليب الأوراق كلما استقرت في خدمة الأقوياء.. لمع مارادونا واللعبة تغادر المتعة إلى الصناعة، وكأنه روح قديمة عصية على الخضوع، وتحشر نفسها في ماكينة هادرة ومسيطرة.. لديه فائض أدرينالين يشتعل به ذاتيًّا كلما حاصرته طقوس الضبط والترويض.. ومع كل اشتعال صدمة وفضيحة.. ظل صعلوكًا على الدوام في زمن يتحول فيه اللاعبون إلى طبقات الأثرياء، والأرستقراطية المستمتعة بأكتاف البروليتاريا.. في نابولي خان المدينة التي جعلته قديسها؛ خيانة الوقح اللعوب الذي يمر بالمدن ولا يتركها كما هي. هكذا كان يفعل المحاربون في زمن ما قبل مارادونا.. محرر المدن بمعناه الأعمق.. حرب بلا قتل ولا جثث ولا دمار.. حرب من مرح طفولة لا حدود لها.. لم يكمل مارادونا دراسته في معاهد تصنيع الآلهة.. خرق القوانين.. وهرب بطفولة شرسة تلتهم جسده يومًا بعد يوم. قاد مارادونا نابولي مركز الجنوب الفقير في إيطاليا إلى الانتصار للمرة الأولى على الشمال المتعالي.. لكنه بعد قليل سيخطف الكأس الكبيرة من الإيطاليين (شمالاً وجنوبًا) ليمنحه لملايين الهائجين في بلاده (الأرجنتين). ليخرج وحيدًا من إيطاليا؛ كما يليق بمحطم القياسات.. القصير الذي يمر مثل قبضة ريح.. أو شبح تبتلع روحه جسده ولا تستطيع قوانين نيوتن أن تفسر وجوده..

1

لن نفهم أبدًا كيف تعشق الأطفال مارادونا الذي غاب عن الملاعب من ربع قرن على الأقل؟ لماذا يعشقونه عشق معاصريه؟

هي غالبًا علاقة بين روحه وجسده؛ تمثل إحدى تجليات الغموض الكوني.. كيف تعيش الروح المشتعلة في جسد يتآكل بسرعة؟ كيف يلتقط الرضيع ذبذبات الطفل الدائم في هذا الجسد المنتفخ بالكوكايين والكورتيزون ومنشطات الممنوعة والمسموحة؟ كيف عاشت سيقانه القصيرة ببراعة على الرغم من عيوبها القاتلة؟ لم يستسلم دييجو لمهارات القصار الماكرين.. وبدا جسده أكبر من حجمه.. عملاق يشغل حيزًا أكبر.. يسحب خيال خصمه إلى عالمه الفانتازي ليتلاعب به..

2

عندما وصل كوليكان عاصمة ولاية سينالوا في المكسيك؛ انتظر الجميع قصة السقوط الأخير.. مدمن كوكايين في مدينة احتلتها أكبر عصابات الكوكايين، أو كما قال أحد الواقعيين المخضرمين من أهل المدينة “سيعثر دييجو على كل ما كان يهرب منه ويبحث عنه في ذات الوقت”..

كانت مهمة مارادونا الصعود بفريق “دورادوس” إلى الدوري الممتاز، مهمة يرفضها أي عاقل؛ وليس فقط نجم نجوم كرة القدم.. كيف يذهب الأسطورة ليدرب فريق درجة ثانية، لا يملك سوى حفنة مشجعين يتعاملون بروح الفدائية المخلصة! لكن مارادونا لم يكن يريد التوقف عن اللعب. فشل مع منتخب الأرجنتين؛ فهو ليس مدربًا جيدًا، إنه اللاعب رقم 12.. يلعب من على مقاعد البدلاء.. ومطلوب منه المعجزة.. وصل منهكًا.. يجرجر جسده المنهك. وجمدت الآلام ركبتيه حتى بدا وكأنه يستعد لقفزة لا تتم؛ ويحتاج إلى دهان المفاصل.. كان عجوزًا في النَفَس الأخير من المقاومة.. عجوزًا يسحب معه أسطورة سحرت المتيمين به منذ الثمانينيات ويزدادون جيلاً بعد جيل..

ماذا سيفعل “الفاشل” (كما تهتف جماهير الفرق المنافسة) في مدينة ما تزال تتجول بها روح كارتيلا آل تشابو جوزمان.. بالتأكيد ليس أقل من أن يكون مارداونا هو تشابو جوزمان كرة القدم.. كما قال مشجع بليغ للفريق؛ مبشرًا بأن دييجو وصل وسينقذ المدينة كلها.. يستعد البادرينو (الأب الروحي بلغة أهل أمريكا اللاتينية) في الملاعب ليطرد البادرينو العصابات من الشوارع.. وهذا هو الإغراء الذي قاد مارادونا إلى مغامرته الأخيرة في المكسيك..

3

دييجو وصل.. وصل.. كانت هذه الأغنية التي يغنيها لاعبو الفريق الذين انتظروا يد مارادونا الإلهية لتنقذ فريقهم من قاع الدوري إلى منطقة التنافس.. وتنقذهم شخصيًّا من مصير صبيان في حرب الكارتيلات.. منح اللاعبون أجسادهم الخائفة من ذلك المصير، والمهنكة من الفقر.. ومنحهم مارادونا ميراثه من الاشتعال الذاتي.. وفي الملعب الكل يتغير.. سعيًا وراء أورجازم جماعي حين تسكن الكرة الشبكة.. مارادونا ينسى آلام المفاصل ويوقظ المشاغب.. واللاعبون تتلبسهم روح المحررين الأوائل.. والمشجعون يتحولون إلى مغامرين فرادى؛ يأتي بعضهم حاملاً لافتة “أنا هنا ولو وحدي.. وراء الفريق”، والبعض الآخر يبحثون عن المتعة البعيدة.. عن الفرح والحزن معًا.. عن تداول الهزيمة والنصر.. عن الاحتراق في كل مباراة وكأنها نهاية العالم.. لكن دائمًا كان هناك مباراة تالية..

هذا هو الفرق الكبير بين اللعب والحرب.. ينتظر الجمهور المباراة القادمة لاستعادة دورة المتعة والألم.. بينما في الحرب هناك عودة إلى الصفر.. إلى الخراب والدمار.. والأبطال الذي يبتلعون جماهيرهم، والجماهير اليائسة من عجزها؛ وتنتظر أبطالاً يحطمون الأعداء.. ففي اللعب كل شيء مؤقت ونسبي.. وهذا ما جعل دييجو يلمس يد الله في استعارة من استعارته التي صاغ بها مكانه في منطقة الشعور بالأمان.. فما دام مارادونا يلعب نحن نشعر بالطمأنينة.. ونصف سحر مارادونا نبع من هذه القدرة على الاستعارة..

4

هو إله الوقت.. يكسر الزمن الممتد، ويصنع لحظته، هذه اللحظة تربك الزمن نفسه.. كادت اللعبة أن تمنح نفسها لأسطورة بيليه؛ حتى طار دييجو في الهواء ليلمس يد الرب ويمنح لبلده نصرًا يغيِّر معاني القوة.. انتصرت بلاده بالقفزة الإلهية على بريطانيا التي احتاجت إلى كل آلات الحرب لتنتصر في حرب فوكلاند..

اللمسة لا تزال بعد مرور أكثر من 40 سنة يتصارع حولها الشك واليقين. الإيمان والغضب.. ومثل كل الاستعارات الوجودية بدت نوعًا من العدل يتحقق باللعب في مواجهة الحرب..

 

5

أنا آخر رومانسي في الوجود..

كان دييجو مارادونا يفترش أرض الملعب؛ ومساعدته الصحفية تسأله عن الحب وكيف يعبِّر عن الحرب.. اجتهد لتتسع عيناه وهو يقول هذه الاستعارة التي سبقت رحيله بعدة أشهر.. كأنها تلويحة وداع من آخر الرومانسيين.. وداع للرومانسية كما عاشها دييجو ٥٩ عامًا كاملة.. نغرق في حب كرة القدم.. فيها كل شيء؛ الفرح والحزن.. نطير وننكسر مثل القصور الرملية مع الهزيمة في مباراة.. لكننا نعرف أن هناك مباراة قادمة وننتظر.. هذه تقريبًا خلاصة ما قاله مشجع مخلص لفريق دوردوس المكسيكي..

6

ابن الحفل كان مارادونا.. لم يترك نفسه للمأساة.. وفي الحفل شرط الحضور للاعب والجمهور والميدان، وبالطبع للطقوس والزمن.. لم ينتقل دييجو بثرواته المهولة إلى طبقة أعلى.. لكنه ضمن عبر اتساع عالمه أن الحفل لن ينتهي سريعًا.. صار أكبر من الصناعة التي وضعته في مكان الآلهة.. ومن اللعبة ومن المؤسسات ومن الدول والنوادي.. صار ابن العالم كله. ابن الطفولة الدائمة.. والمراهقة التي يتعبد بها البشر في مواجهة شيخوختهم..

7

مارادونا يكسر فيتيش النقاء.. ليترك نغزة في وعي بشري وقع طويلاً في أسر الجموح، ويغادر بيليه بأسطورته الملائكية الطيبة المتصالحة، بينما تحوَّل مارادونا إلهًا يصلي له مجانينه كل أسبوع في كنيسة باسمه.. مجانين لم يراقبوا أخلاقه وعدم اندماجه في طقس الطاعة والامتثال الاجتماعي.. لم ترعبهم بدانته.. ولا هزهم فشله كمدرب.. ولا تطرفه في المنشطات.. ولا قصة هدفه الذي استعان فيه بيد الله.. كل هذا عجنته موهبة خارقة لا تفسير لاختراقها حاجز الوقت لتشرخ الزمن والواقع..

 

 

نشرت النسخة الورقية من النص ضمن عدد خاص عن مارادونا ؛ أصدرته مجلة"فنون"