التاريخ السينمائي لماكبث: العرش والدم

عندما يقتل الحاكم عائلته

طه عبد المنعم

“ماكبث” أهم أعمال الكاتب المسرحي الإنجليزي الأشهر ويليام شكسبير التي نالت عدداً لا يحصى من المراجعات النقدية والأعمال التشكيلية والعروض المسرحية والأفلام السينمائية بل والأوبرا (فيردي 1847) والترجمات لكل لغات العالم. وفي ظني، هذا بالتحديد ما يصنع عظمتها وتفردها ما بين الآداب العالمية، لذا لن يكون فيلم جويل كوين، في أول إخراج له منفردًا عن أخيه إيثان كوين، للمسرحية الاسكتلندية، بفيلم “مأساة ماكبث” 2021، آخر عرض سينمائي للمسرحية الشكسبيرية؛ والنسخة الجديدة  بطولة دنزل واشنطن في دور ماكبث، وفرانسيس ماكدورماند في دور ليدي ماكبث (وهي المنتجة وزوجة المخرج جويل كوين).

‎⁨المخرج جويل كوين وكاثرين هنتر، فيلم مأساة ماكبث، ٢٠٢١⁩

ماكبث تاريخياً

يلزمنا قبل الدخول في التاريخ السينمائي لماكبث الرجوع إلى الأصول التاريخية للملك الاسكتلندي، فقد استقى شكسبير المادة الخام لمسرحية ماكبث (1606) The Tragedie Of Macbeth من حوليات هولينشيد Holinshed’s Chronicles (1587) التي تحكي عن الملك مالكوم الثاني ملك اسكتلندا الذي قتل عميد أسرة جروخ Gruoch زوجة ماكبث، وقتل أباها (قبل زواجها من ماكبث)، وعندما توفي الملك خلفه حفيده دانكن، الذي أعلن على الفور تنصيب ابنه وليًا للعهد وأميرًا لكمبرلاند Prince of Cumberland ليخلفه على عرش اسكتلندا، في تعدٍ على حق ماكبث في عرش اسكتلندا، فقد كان الأخير حفيد الملك الراحل مالكوم الثاني متزوجًا من ابنته دونادا  Donada وابن عم دانكن الملك الحالي، وهكذا لم يكن ماكبث وزوجته يضمران أي ود للملكين السابق أو الحالي.

شكسبير يبعد عن هولنشيد بنحو ثلاثين عامًا، في حين نقل هولنشيد نفسه تاريخ اسكتلندا عن كتاب تاريخي لاتيني وضع قبل مئتي عام. أما الحكاية التاريخية نفسها فتقع على بعد خمس قرون من شكسبير في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، وتحكي عن حكم ماكبث لاسكتلندا لما يزيد عن عشر سنوات في رخاء وسلام، حتى استعان ابن دانكن، مالكوم، المعروف بمالكوم كانمور، أو مالكوم الثالث، بجيش زوده به ملك الإنجليز كنوت العظيم Cnut The Great، وانتصر في معركة مشهورة تاريخيًّا وتولى المُلك من بعده.

ماكبث- بوستر تصميم كيسينيا لانينا

ماكبث شكسبير

كلنا نعرف القصة الشكسبيرية، التي ملخصها أن الساحرات الثلاث قابلن ماكبث وبانكو في رحلة عودتهما منتصرين من الحرب على النرويجيين، وقدما له ثلاث تحيات؛ الأولى: تحية للورد جلاميس Thane of Glamis (والتي حصل عليها كميراث بعد وفاة والده، الماضي) والثانية: تحية للورد كودور Thane of Cawdor (والتي سيحصل عليها في المشهد نفسه، الحاضر) والثالثة: تحية للملك (المستقبل). وحين سألهن بانكو عن طالعه أخبرنه أنه لن يصبح ملكًا، بل سيكون أبناؤه ملوكًا. وتحققت النبوءة الثانية (التي هي أقرب للبشارة) حين أنعم عليه الملك دانكن بمنصب لورد كودر مكافأة على انتصاره في الحرب، وإمعانًا في التكريم سيشرفه بالزيارة والمبيت في قصره. وهناك ستحرض ليدي ماكبث زوجها على قتل الملك في أثناء نومه في بيتهم لتحقيق النبوءة الثالثة، وبالفعل تقع الجريمة.

ويتوَّج ماكبث ملكًا، ولكنه لا يهدأ حتى يدبر لمقتل بانكو، ويشدد على القاتلين اللذين يستأجرهما على قتل ابنه فيليانس معه، ليحطم آمال بانكو بأن يكون من نسله ملوكًا، ينجح القاتلان في القضاء على بانكو ولكن فيليانس يفلت منهم. 

يزور شبح بانكو الملك ماكبث في وليمة ملكية بين أفراد الحاشية والنبلاء، فيذهب بعدها لاستشارة الساحرات الثلاث، فيخبرنه بثلاث نبوءات؛ أقرب إلى الوصايا، الأولى أن يحذر ماكدوف، والثانية أن أحدًا لن يؤذيه إلا ولد لم تلده أمه، والثالثة أنه لن يُهزم حتى تتحرك غابة بيرنام إلى قلعة دانسينان (وهو الموقع الذي انهزم فيه ماكبث تاريخيًّا)، فيصر على قتل ماكدوف، ولكن الأخير يهرب إلى إنجلترا، فيأمر ماكبث بقتل عائلته بأكملها. وعلى الجانب الآخر يتعاون ماكدوف مع مالكوم، ابن دانكن، في قيادة جيش لخلع ماكبث عن العرش، وفي ساحة المعركة، يلتقي ماكبث بماكدوف المنتقم (هو أيضًا مَن اكتشف مقتل الملك) الذي يعلن أنه “لم تلده أمه” بل “اقتُطع في غير أوانه” من رحم أمه (ما نسميه الآن الولادة القيصرية). وعلى الرغم من إدراكه أنه محكوم عليه بالفشل، يستمر ماكبث في القتال حتى يقطع ماكدوف رأسه، وتنتهي المسرحية بتتويج مالكوم، ملكًا لاسكتلندا.

عند هولنشيد توجد الساحرات الثلاث وبانكو وقتل الملك، ولكن ذلك لم يؤكد تاريخيًّا بالطبع، بل استوحى شكسبير عنصر الخرافة من كتاب علم الشياطين Daemonologie الذي وضعه الملك جيمس السادس حين كان ملكًا لاسكتلندا، وأعاد طبعة حين أصبح جيمس الأول ملك إنجلترا وأيرلندا عام 1903 خلفًا للملكة إليزابيث الأولى. وطالما اعتبر جيمس أن دراسة أساليب السحر جزء من علوم اللاهوت، بل واشترك شخصيًّا في محاكمات الساحرات، أو بالأدق النساء المتهمات بممارسة السحر، وتعذيبهن وإعدامهن، بعد اتهامهن بإثارة الرياح والعواصف في محاولة لإغراق سفينته في عرض البحر.
الخرافات لاحقت المسرحية نفسها، إلى درجة إن الفرق المسرحية وقتها تشاءمت من ذكر ماكبث على خشبة المسرح؛ فلم يكن هناك غير مسرحية واحدة صورت ظهور شياطين على خشبة المسرح وهى “فاوست” لمعاصره كريستوفر مارلو. وقد جرت العادة أنه إذا فشل عرض مسرحي، يتخذ مدير الفرقة قرارًا بعرض ماكبث لينقذ الإنتاج، فأصبح ذكر ماكبث يعني أن العرض القائم سيفشل، ومدير الفرقة في طريقة لاتخاذ قرار من شأنه إن يحيل نحو نصف أفراد الفرقة إلى عاطلين. وتفاديًّا لذكر الاسم المشؤوم أصبحت تسمى بالمسرحية الاسكتلندية، خصوصًا وأن عنصر السحر والتعاويذ كان عامل جذب جماهيري، لذلك أضيف مشهد هيكاتي جلبًا لمزيد من الجماهير.

‎⁨فيلم مأساة ماكبث ٢٠٢١⁩

ماكبث والساحرات – صورة من موقع توينكل twinkl

عصر ماكبث

عُرضت المسرحية للمرة الأولى ولم يمر ثلاث سنوات على حكم الملك جيمس، الذي يدعى أن أصوله ترجع إلى بانكو، رفيق ماكبث. ويدعي معظم النقاد أن المسرحية كتبت خصيصًا لتملق الملك الجديد، أو على الأقل للتودد إليه، لكني لا أميل إلى هذا الرأي، فعلى مدار المسرحية تبدو اسكتلندا مكانًا همجيًّا على عكس البلاط الإنجليزي، وهذا بطبيعة الحال ليس أسلوبًا جيدًا لاستمالة ملك اسكتلندي النشأة. دعونا لا ننسى أن الملكة الراحلة إليزابيث الأولى Elizabeth I (التي عاش شكسبير تحت رعايتها سنوات ازدهاره بتقديم تاريخ إنجلترا في سلسلة مسرحيات بالغة الأهمية) حاكمت والدة جيمس الملكة ماري Mary, Queen of Scots لاشتراكها في مؤامرة للإطاحة بها وأعدمتها. ولكني أتفهم هذا الرأي الذي يستند إلى رؤية ماكبث لموكب من ثمانية ملوك يقودهم شبح بانكو في الزيارة الثانية للساحرات؛ في المشهد الأول من الفصل الرابع.

الساحرات

على مستوى العالم اقتبست مئات التجارب السينمائية ماكبث، نصًّا أو حبكة، والمسرحية على قِصرِها، تحوي مئات التأويلات، والإرشادات المسرحية. وعلى هذا الأساس سأهتم بجانبين منها؛ جانب الساحرات وجانب مقتل بانكو، لأسباب ستتضح جليًّا في تأويلات المخرجين ممن تناولوا النص الشكسبيري لاحقًا.

أنقذ المسرحي الألماني بريشت Brecht شكسبير من الحنبلية الماركسية، على حد قول لويس عوض في كتاب البحث عن شكسبير، بأن حوَّل أنظارهم إلى أن العيب الأساسي في المسرحية أنه ما دام المؤلف قد أعدنا نفسيًّا لنبوءة الساحرات بأن أبناء بانكو سيتولون عرش اسكتلندا، فمن حقنا، كمتفرجين، أن ننتظر أن يختم شكسبير مسرحيته بارتقاء فيليانس عرش البلاد بعد مصرع ماكبث. لكن بريشت ينسى أن الجمهور وقتها كان يعرف أن أبناء بانكو ملوك بالفعل في شخص الملك جيمس الجالس على عرش البلاد.

عمومًا لاحظ الكثيرون أن شكسبير خالف البناء المعتاد لمسرحية من هذا النوع، بأن وضع حادثة مقتل بانكو في وسط المسرحية، إذ نقل حادثة مقتل الملك، التي لا نراها على خشبة المسرح، من المكان المعهود لها في منتصف المسرحية إلى موقع ذي أهمية ثانوية في بدايتها. والواقع إن مقتل بانكو هو الحدث الأهم، ففيه يقرر ماكبث ويدبر منفردًا لمقتله، على عكس ما حدث مع الملك، فقد حرضته ليدي ماكبث على قتل الملك النائم وحفزته على الجريمة بعدما كان مترددًا واشتركت معه، بل إنها تعترف أنها لولا أنه يشبه أباها لقتله. بالإضافة إلى أن شعور ماكبث بالذنب يدفعه إلى رؤية شبح بانكو في مشهد المائدة، ومن ثم يقوم بزيارة ثانية للأخوات الغريبات (الساحرات).

نلتقي الساحرات الثلاث في المشهد الأول، ونعرف منهن أنهن ينتظرن ماكبث، والمشهد على قِصره، دفع بالمخرجين المسرحيين والنقاد إلى تجاهله لفترة طويلة حتى بدايات العصر الفيكتوري، نهضة الإنتاجات المسرحية، أو يُلحقونه بالمشهد الثالث؛ عودة ماكبث وبانكو من الحرب. لكن في ظني أن أهمية المشهد تكمن في أنه بديل للحرب الفعلية التي يخوضها ماكبث، ويشير إليها، فينتهي المشهد بقولهن “الجميل هو القبيح، والقبيح هو الجميل” Fair is foul, and foul is fair وهو ما يطابق وصف ماكبث ليوم الحرب So foul and fair a day I have not seen وهي الجملة الأولى التي يلفظها ماكبث في المسرحية “لم أشهد يومًا جمع القبح والجمال كمثل هذا اليوم”.

في مسرح بدايات القرن العشرين، جاء التغيير الجذري لتناول المسرحية، فقد تمركزت أفكار ستانسلافسكي Stanislavski وبريشت بشأن تحويل ماكبث إلى مسرحية عن صعود ديكتاتور، وهو بالطبع ما يمنع التعاطف مع ماكبث ومأساته خصوصًا إذا كان أداء الممثل يذكرهم بهتلر أو ستالين. 

ساحرات ماكبث

فودو ماكبث

وفي عام 1936 جاءت الفرصة لمخرج شاب في العشرين ليقدم المسرحية، ولكن الشروط كانت غير معهودة على الإطلاق، بطاقم إدارة وممثلين من السود في حي هارلم، ففي عز الكساد الاقتصادي في الولايات الأمريكية المتحدة، قدم المخرج أورسون ويلز Orson Welles رؤية جذرية للمسرحية، فاستبدل السحر الاسكتلندي التقليدي Scottish witchcraft بسحر فودو Haitian vodou؛ وتدور أحداث المسرحية في مملكة بجزيرة تاهيتي في القرن التاسع عشر، وهو العرض الذي عُرف بـ”فودو ماكبث” The Voodoo Macbeth (يوجد فيلم بالعنوان نفسه من إنتاج 2021 يحكي عن تلك التجربة).

بعد النجاح الكبير للمسرحية (عشرة أسابيع وشباك التذاكر كامل العدد) قدم أورسون مسرحية فاوست للمؤلف المسرحي مارلو المعاصر لشكسبير، ولكنه هذه المرة، بجانب الإخراج، أدى دور البطولة بشخصية فاوست على مسرح حي هارلم، في أول أداء تمثيلي له. وفي عام 1948، أراد أن يقدم عطيل للسينما لكنه لم يستطع توفير الأموال اللازمة (لاحقًا نجح وقدمها في عام 1951، واستغرق تصويرها ثلاث سنوات، وفاز الفيلم بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان)، فاقترحت عليه زوجته، المنتجة المنفذة لمسرحية فودو ماكبث، أن يعيد تقديمها للسينما بعد مرور 12 عامًا، وهنا جاءت الفرصة للمخرج الشاب أن يلعب دور ماكبث بجانب الإخراج، فرجع بإعدادات المسرحية للأصل الشكسبيري، وبالطبع تسلل الكثير من إعدادات مسرحية فودو ماكبث للعرض السينمائي، مثل نهاية الفيلم التي جاءت كنهاية العرض المسرحي بظهور الساحرات الثلاثة يلفظن جملة ” Peace, the charm’s wound up” وهي جملة قالها في المشهد الثالث من الفصل الأول، وتعني أن التعويذة اكتملت، استعدادًا للقاء ماكبث وبانكو عائدين من الحرب.

قدم أورسون الكثير من التغييرات (بالحذف والإضافة) سواء في المسرحية أو الفيلم، وهي تعديلات مهدت الطريق أمام المخرجين اللاحقين لتجديد وإنعاش ماكبث. ويوجد الكثير مما يقال عن رؤية أورسون لماكبث، من ضمنها أنه للمرة الأولى يقدم مشهد انتحار ليدي ماكبث، الذي جرت العادة في النص الشكسبيري على أن يكون خارج خشبة المسرح. ويقال إن المخرج الشاب كان يريد أن تؤدي فيفيان لي الدور لكنه أحجم خشية رفض زوجها لورانس أوليفيه، أو حسب ظني: خوفًا من تدخل لورانس في رؤية أورسون، الذي اشتهر وتمكَّن من تقديم مسرحيات شكسبير سواء في السينما أو المسرح.

في عام 1955 بعد نجاح فيلم ريتشارد الثالث Richard III أراد لورانس إنتاج ماكبث للسينما، ووفقًا لصحيفة الجارديان The Guardian لم يكن لورانس وفيفيان يلعبان دوري ماكبث وليدي ماكبث فقط، بل أيضًا دوري ساحرتين من بين الثلاث ساحرات. لكن رؤية لورانس لم يقدر لها الظهور على شاشة السينما، بسبب عجز التمويل على الأغلب، وأعتقد أننا خسرنا كثيرًا بعدم تنفيذ تلك الرؤية.

‎⁨لورنس أوليفييه وفيفيان لي في نسخة أورسون ويلز ⁩

ماكبث الدموي

المحطة التالية، للمخرج البولندي رومان بولانسكي Roman Polanski الذي كان غارقًا في تبعات حادثة مقتل زوجته الحامل الممثلة شارون تيت Sharon Tate على يد عصابة مانسون Manson Family في أغسطس 1969 في بيفرلي هيلز Beverly Hills؛ الحادثة التي هزت الأوساط السينمائية الهوليودية، وأغرقت الزوج في حالة اكتئاب عميقة. لكن صديقة الناقد المسرحي البريطاني كينيث تينان Kenneth Tynan ذكره بحلمه القديم بتقديم ماكبث للسينما منذ مراهقته في بولندا، وفي محاولة للخروج من الاكتئاب شرع المخرج البولندي مع الخبير الموسوعي البريطاني الشكسبيري في كتابة النص السينمائي وتقديم إضافات غيرت في رؤيتنا للنص الشكسبيري نفسه. ولا يعرف الكثيرون أن المخرج البولندي حصل على التمويل الضخم، الذي مكنه من تصوير المناظر في قلاع اسكتلندا، من شركة إنتاج بلاي بوي Playboy Productions التي أتاحت له تقديم رؤية وحشية مليئة بالدماء والعري لم يسبق لها مثيل في عالم ماكبث، وهو ما لم تكن لترضى عنه أي شركة إنتاج في هوليوود، مع أنها وضعت ماكبث على أرضية جديدة.

تميزت رؤية رومان بتقديم شخصية القاتل الثالث في مقتل بانكو، وقد ظلت تلك الشخصية أحد الألغاز في عالم ماكبث. ففي الفصل الثالث المشهد الثالث، تنضم تلك الشخصية للقاتلين الذي أرسلهما الملك لقتل بانكو، ولم تُعرف هوية هذا القاتل إلى حد أن كثيرين تجاهلوه، كما فعل أورسون في فيلمه. وهو ما دفع أحد النقاد للادعاء بأنه ماكبث شخصيًّا متنكرًا ليشارك القاتليْن فعل القتل، وقدم أدلة منها أن ماكبث يحضر مشهد المائدة، وهو المشهد التالي، متأخرًا. ولكن نظرية أخرى تفوقت عليها بالادعاء بأن روس، ابن عم ليدي ماكدوف، هو القاتل الثالث، وهي وجهة النظر التي تبناها رومان في فيلمه.

روس هو Thane of Ross (مقاطعة في اسكتلندا مثل جلاميس وكودور) يظهر في المشهد الثاني من الفصل الأول حين يوكل إليه الملك بشارة ماكبث بأنه أصبح لورد كودور، بعد اختفاء الساحرات مباشرة ليخبر ماكبث عن عطية الملك. وعلى هذا الأساس مُنحت الشخصية مساحة أكبر. يشترك روس في تنصيب ماكبث ملكًا، ويسجن القاتلين بعد تنفيذهما جريمة قتل بانكو -مع أنه شاركهم الجريمة- ويترك باب قلعة فايف مفتوحًا ليدخل قتلة زوجة ماكدوف وأبنائه، لكنه يُحبط عندما ينعم ماكبث الملك بلقب لورد كودور على أحد النبلاء الآخرين، لذا يسارع بالالتحاق بماكدوف ومالكوم في إنجلترا، وفي النهاية يرفع التاج لمالكوم ويحيه باعتباره ملكًا لاسكتلندا.

روس ليس الإضافة الوحيدة للمخرج البولندي، بل التوسع في مشهد زيارة الساحرات الثانية، والرؤى التي يخوض غمارها ماكبث، والإضافة الأهم في رأيي، هي ختام الفيلم، إذ يذهب الابن الأصغر للملك الراحل دانكن؛ دونالبين Donalbain، الذي فر بعد مقتل والده، إلى الساحرات في أيرلندا؛ في إشارة إلى أن دائرة الوحشية والقتل ستستمر، على عكس رؤية أورسون، التي ختمت عهد إرهاب الطاغية بانتهاء التعويذة والسحر.

ماكبث، إخراج رومان بولنسكي، ١٩٧١

ماكبث التليفزيوني

وهنا يحضرنا أنه في سلسلة من الإنتاجات قامت بها بي بي سي BBC لمسرحيات شكسبير للتليفزيون، قدم المخرج جاك جولد Jack Gold عام 1983 هوية جديدة للقاتل الثالث، على أنه سيتون Seyton؛ الضابط في معية ماكبث. وفي عام 2010 قدم المخرج روبرت جولد Rupert Goold الممثل السير باتريك ستيوارد Sir Patrick Stewart في دور ماكبث والممثلة كيت فليتوود Kate Fleetwood في دور ليدي ماكبث في فيلم تليفزيوني عن مسرحية أخرجها سابقًا في عام 2007، وأذاعتها قناة بي بي إس PBS في سلسلة Great Performances وكذلك قناة بي بي سي فور BBC Four.

أعاد العرض التلفزيوني ماكبث للرؤية القديمة؛ ليتوازى مع الطاغية شاوشيسكو Nicolae Ceaușescu في أجواء الحرب العالمية الثانية. وأكثر ما يميز تلك الرؤية بجانب الأداء العظيم للسير باتريك هم الساحرات الثلاثة، اللائي ظهرن كثلاث ممرضات، ليس فقط أمام ماكبث، بل في المستشفى الحربي مع قتلى الحرب الذين يخبرون ماكبث بالنبوءات الثلاثة في الزيارة الثانية.

وهنا تجب الإشارة إلى الأداء العظيم للسير إيان ماكيلين Sir Ian McKellen وجودى دينش Judi Dench في المسرحية التي تحولت إلى فيلم تليفزيوني عام 1979. خصوصًا وأن معظم الأفلام التليفزيونية هي معالجات لعروض مسرحية أكثر إخلاصًا للنص الشكسبيري بطبيعة الحال، لكن تظل السينما وحدها تمنح مساحة لتقدم شيئًا جديدًا ومختلفًا.

ماكبث الياباني

من نسخة أكيرو كوروساوا من ماكبث ؛ فيلم عرش الدم ١٩٥٧

 

 

 

المحطة التالية، وهي محطة مختلفة تمامًا، جاءت على يد المخرج الياباني أكيرا كوروساوا Akira Kurosawa عام 1957. فهو لم يقدم شكسبير لليابان في معالجته لماكبث في فيلم “عرش الدماء” Throne of Blood فقط، بل قدم معالجة للملك لير في فيلم “ران” Ran، وقدم الكثير من هاملت في فيلم “الأوغاد ينامون بسلام” The Bad Sleep Well. وقد حملت النسخة اليابانية للفيلم عنوان “شباك العنكبوت” وهو اسم القلعة التي تمثل أرض اسكتلندا وقلعة دانسينان وكذلك اسم الغابة المحيطة بالقلعة المناظرة لغابة برينام.

هناك الكثير مما يقال في صناعة تلك التحفة اليابانية، لكننا سنشير إلى عدة نقاط: أولاً والأهم، أن ليدي ماكبث/ السيدة آساجي تحرض زوجها ماكبث/ واشيزو على قتل الملك/ السيد العظيم لقلعة شباك العنكبوت وبانكو/ ميكي معًا، وحين يتردد في قتل ميكي تخبره بأنها تنتظر مولودًا (يولد ميتًا بعد قتل ميكي).
ثانيًا: نحن لا نرى مقتل السيد العظيم وميكي، ولا حتى انتحار آساجى، على شاشة السينما.
ثالثًا: الساحرات الثلاثة يظهرن في شخص روح شريرة واحدة في غابة شباك العنكبوت. وينتهي الفيلم بمقتل واشيوز على أيدي جنوده قبل تحرك الغابة شباك العنكبوت على القلعة، وحين يخبرهم، وسهامهم تنزل عليه كالمطر، إن قتل السيد العظيم خيانة، يردون: ومَن قتل سيدنا العظيم السابق؟

قد تظن إن تلك التغيرات أبعدتنا عن ماكبث، ولكنها أفادت بشكل غير مسبوق في تعميق مأساة ماكبث/ واشيزو، فهو ساموراي مخلص ليس له طموح سياسي، وحين يغمره الطموح الشرير والزائد وغير المستحق يؤدي به إلى الهلاك، كأي بطل تراجيدي يساق إلى مصيره المحتوم. وقد ذكر معظم النقاد أن المناظر الطبيعية الفريدة هي التي ملأت فراغًا خلفه التخلص من حوار شكسبير الشعري.

أدى دور واشيزو الممثل المفضل عند المخرج الياباني توشيرو ميفوني Toshirô Mifune، الذي عمل معه سابقًا ولاحقًا في الكثير من أفلامه. ومرة ثانية وجبت الإشارة إلى تأثير الإنتاج والتمويل، فلولا ثقة شركة توهو Toho Co., Ltd في أكيرا ما خاضت معه صناعة فيلم “على جبل فوجي” Mount Fuji.  فقد صنع معها الكثير من الأفلام الناجحة تجاريًّا ونقديًّا، كما حقق هذا الفيلم أرباحًا غير مسبوقة لشركة الإنتاج.

ماكبث الوحشي

وفي عام 2015، مع المخرج الاسترالي جستن كورزل Justin Kurzel، في ثاني تجاربه السينمائية، أدى مايكل فاسبندر Michael Fassbender دور ماكبث، وأدت ماريون كوتيار Marion Cotillard دور ليدي ماكبث. وقد استفاد فريق عمل الفيلم من ملحوظتين نوقشتا نقديًّا طويلاً؛ الأولى: أن نص الحوار الشكسبيري لا يصف “النسوة الذابلات غريبات الزي” على حد قول بانكو حين شاهدهن، إلا بالأخوات الغريبات Weïrd Sisters، ولا يوصفن بالساحرات إلا في إرشادات المسرحية، والسبب في هذا اللبس المشهد الخامس من الفصل الثالث، مشهد هيكاتي، ربة السحر، وهو مشهد يُجمع النقاد والشُرَّاح على أنه دخيل على المسرحية لا من كتابة شكسبير، لذلك تم تجاهله في جميع المعالجات. أما الفيلم، فيصورهن ثلاث فلاحات، معهن فتاة صغيرة، تساعد فيليانس، ابن بانكو، على الهروب بعد مقتل والده. والملحوظة الثانية أنه توجد جمل حوارية شكسبيرية عديدة تشير إلى ابن لماكبث؛ وتاريخيًّا ليدي ماكبث لديها ابن من زواجها الأول، وهو من يتولى العرش بعد مقتله في موقعة دانسينان، حتى يقضي مالكوم الثالث عليهم نهائيًّا.

في المشهد الأول بالفيلم نرى طفلاً رضيعًا ميتًا، ونكتشف أن ماكبث وزوجته يقومان بمراسم الحرق، والفلاحات يشاهدن من بعيد مراسم دفن ابن ماكبث، كما يشاهدن المعركة التي ينتصر فيها، وهذه إضافة لم يعهدها عالم ماكبث، فلم نر تلك المعركة قط، بل نعرف مجرياتها من المشهد الثاني من

الفصل الأول، حين نرى في خضم المعركة ماكبث يقتل رجلاً من الأعداء دون قتال. ماكبث إذن منذ البداية رجل وحشي عنيف، وهو ما يؤدي إلى وقوعه في هاوية الجنون بأداء متميز لمايكل فاسبندر، يجعل ليدي ماكبث نفسها تخاف منه حين يصبح ملكًا، وتتخيل ابنها الصغير في نوبات جنونها.

‎⁨ماريون كوتيار ومايكل فاسندر في فيلم ماكبث.⁩٢٠١٥

ماكبث التراجيدي

كل ما سبق يقودنا إلى محطتنا الأخيرة؛ فيلم “تراجيديا ماكبث”، فالمخرج الأمريكي جويل كوين يعطينا نكهة فريدة تجمع بين السينما والمسرح، باستخدام بالغ الذكاء للأبيض والأسود، وسلاسة غير عادية للحوار الشكسبيري على لساني واشنطن ومكدورماند، وأداء يفوق الوصف للممثلة كاثرين هنتر Kathryn Hunter في دور الساحرة. وكذلك مساحة أكبر لشخصية روس ترفعه من مجرد القاتل الثالث إلى متآمر ومتواطئ مع الساحرة/ الرجل العجوز. وقد قسَّم السرد السنيمائي إلى WHEN وتعني “الحين” أو “الآن” أو “الحاضر” (لو أخرجناها من سياق السؤال الذي تطرحه الساحرة في بداية المسرحية) ويستمر لثلثي الفيلم، والقسم الثاني TOMORROW “غدًا” أو “المستقبل”، وهو الثلث الأخير الذي يبدأ بلقاء ماكبث الثاني مع الساحرات.

يبدأ الفيلم بثلاثة غربان تحوم حول مشهد الأخبار التي تصل الملك دانكن عن شجاعة قتال ماكبث، ثم لقاء ماكبث بالساحرة التي نرى انعكاسها في بركة ماء بشخصيتين تتحولان إلى ثلاث، ثم إلى الغربان الثلاثة. وحين يبشر روس ماكبث بمنصب لورد كودور، يعرض عليه إعدام اللورد السابق، حسب أوامر الملك، ولكن ماكبث يرفض، وينفذ روس الإعدام. كما يعثر روس على فيليانس، مباشرة بعد مقتل بانكو، ولا يفر إلى إنجلترا للانضمام إلى قوات مالكوم، لكنه لاحقًا يقوم بتلك الزيارة سرًّا لإخبار ماكدوف بمصرع أسرته فيزيد النار اشتعالاً، وتكون القشة التي تحركه لقيادة الجيش لمهاجمة قلعة دانسينان. كما يشير السرد السينمائي إلى تورط روس في انتحار ليدي ماكبث. والممثلة التي أدت دور الساحرة هي التي أدت دور الرجل العجوز الذي يسلم روس الصبي فيليانس في نهاية الفيلم.هل ستقدم رؤى أخرى لتراجيديا ماكبث؟ لا نعرف، فقد عاش النص لأكثر من 400 عام، ولا يزال الإبداع يقدمه في رؤى طازجة قد لا تنتهي!

تراجيديا ماكبث ٢٠٢١