هل تخدعنا لويز جليك؟

لا مكان لك في هذه الحديقة

أسماء يس

أبريل؛ أقسى الشهور وفقًا لإليوت، وفي الثاني والعشرين منه وُلدت لويز إليزابيث جليك؛ أحدث صاحبات نوبل للآداب، في نيويورك، 1943. أبريل أيضًا عنوان إحدى قصائدها التي تبدأها هكذا “يأسي لا مثيل له.. لا مكان لك في هذه الحديقة..”. هل هي شاعرة كئيبة؟!

حين انتقلت لويز للعيش في فيرمونت، بعد أن نشرت كتابها الثاني، اقترحت عليها صديقة مقربة أن تلتقي عرَّافة شهيرة في المدينة، فاستجابت والتقتها، وكما تفعل العرَّافات في كل مكان، أمسكت كفَّها وتفحصتها، سألتها لويز عن حياتها العاطفية، فنصحتها العرَّافة “ابتعدي عن ذاك الرجل”، وحين سألت عن مستقبلها ككاتبة، قالت “ستنجحين نجاحًا باهرًا.. وستكتبين خمسة كتب”. وقتها رأت لويز في تلك النبوءة خيرًا كثيرًا؛ فسيستغرق كل كتاب عشر سنوات، ومن ثَم تموت.. لكن الحياة كان لها رأي آخر.

لويز جليك الآن واحدة من بين ثلاث شاعرات- وست عشرة امرأة فقط- فُزن بنوبل للآداب؛ الأولى كانت الشاعرة التشيلية جابريللا ميسترال (1888-1957)  التي فازت بنوبل في 1945، وبعدها بما يزيد عن خمسين عامًا؛ في 1996، ذهبت الجائزة إلى الشاعرة البولندية فيسوافا شمبورسكا (1932-2012).

لجنة نوبل ذكرت في حيثياتها بشأن لويز، أنها منحتها الجائزة “لصوتها الشعري المميز، ذي الجمال المجرد الذي يجعل الوجود الفردي كونيًّا”.. ليس غريبًا بالطبع أن يجعل بعض الشعر قرَّاءه سكانًا في المدينة نفسها؛ يشعرون أن قصيدة ما بعينها كُتبت لهم خصيصًا، أو أنهم- أو بعضهم- كتبوها ولو في خيالاتهم.. أنا الشاعر وأنا القارئ.. أحيانًا يقول قارئ لنفسه: أنا صاحب هذه القصيدة التي لم أكتبها.. التي لم أتمكَّن من كتابتها بعد..

*

تستقلين قطارًا، تختفين،
تكتبين اسمك على النافذة، تختفين،
ثمة أماكن كهذه في كل مكان،
تدخلينها صبية صغيرة،
ولا تعودين منها أبدًا

(ترجمة: سامح سمير)

 

الفائزة بنوبل للآداب لويز جليك أمام باب بيتها بعد قليل من إعلان فوزها بالجائزة-صورة من وكالات الأنباء

كل عام تقريبًا صار الناس يتفاجؤون عند إعلان الجائزة الأرفع في العالم، في فرع الآداب تحديدًا، ربما لأنه لا مكان في هذه المنطقة لفائزين محتملين في فروع أخرى، كالعلوم والطب.. كان فوز الشعراء دومًا مثار جدل حاد وصاخب.. وهو صخب يظل نسبيًّا ومحدودًا، ولا يمكن الشعور بآثاره خارج نطاق الفيسبوك والصفحات الثقافية في الصحف والمواقع الإلكترونية التي ترجم أغلبها حيثيات فوز لويز هذا العام على هذا النحو “لصوتها الشعري الذي لا لبس فيه والذي يجعل الوجود الفردي عالميًا بجمالها الصارم”، وحتى الآن لا أستطيع تفسير ولا معرفة ما هو “الجمال الصارم” وما آلية عمله في الحياة وفي الشعر!
في أكتوبر ٢٠١١ فاز الشاعر السويدي توماس ترانسترومر 1931-2015 بجائزة نوبل. وقتها تراوحت ردود الفعل بين الجهل بالرجل تمامًا؛ إذ لم ينشر له بالعربية قبل نوبل سوى كتابين؛ أحدهما من السويدية مباشرة، والآخر من الإنجليزية، وقد صدرا عن داري نشر سوريتين. وبين اتهامه بأنه لا يستحق الجائزة، لأنه ببساطة شاعر باهت وممل، وهما تهمتان قد يضطر المدافع معهما إلى بذل الجهد كي ينفيهما عنه؛ ترانسترومر، ابن ستوكهلم، الذي يعتبر وجهًا بارزًا من وجوه الثقافة السويدية المعاصرة، مثَّل دومًا صورة نمطية للغاية تتسق إلى حد كبير مع كونه مواطنًا من شمال أوروبا؛ عمل أخصائيًّا في علم النفس ومترجمًا، وعزف البيانو على سبيل الهواية الطاغية؛ وفقًا لويكيبيديا، استمر توماس بالعزف والكتابة بيده اليسرى حتى بعد إصابته بسكتة سببت له شللاً؛ هو إذن مواطن اسكندنافي مثابر؛ لا يرضي الباحثين عن صورة الشاعر الذهنية الكلاسيكية التي تنتظر شاعرًا ثائرًا له صفات شكلية مختلفة؛ رامبو تاجر العبيد على سبيل المثال.
ومع ذلك لم يكن استقبال جمهور الأدب في عام 2016 لفوز بوب ديلان (1941-….) هادئًا؛ للمرة الأولى تمنح الأكاديمية جائزتها لموسيقي، شعر الجميع بالصدمة؛ ديلان شاعر ومغن ورسام وعازف جيتار شهير، اسم مؤثر في عالم موسيقى الروك، يعرفه العالم كله، صاحب مواقف حادة، متناقضة أحيانًا؛ بعضها مبدئي وإنساني، وبعضها لا يمت للإنسانية بصلة. تجاهل ديلان فوزه بنوبل ولم يعلِّق على النبأ لفترة طويلة، موقف غير معتاد، قرأه البعض باعتباره تعاليًا مستحقًا على الأكاديمية غير المنصفة. وطبعًا لم تخلُ التعليقات على فوزه من الإشارة إلى موقفه المؤيد لإسرائيل، ودعمه المعلن للصهيونية، وإقامته حفلاً في تل أبيب. ولم تخلُ كذلك من تساؤلات مندهشة: كيف يفوز ديلان بنوبل وبورخيس لا؟ كيف يفوز ديلان بنوبل وميلان كونديرا حي يرزق ويكتب؟!

*

الظلام يغطي البركة

تحت القمر المستدير أرى وجهك يسبح بين الأسماك والنجوم الصغيرة

في نسيم الليل يمسي سطح البركة معدنيًّا

عيناك مفتوحتان، أتعرف فيهما على ذاكرتك

وكأننا نشأنا معًا

كانت المهور ترعى في التلال 

رمادية مرقطة بالأبيض

الآن ترعى مع الموتى
الذين ينتظرون مثل الأطفال في دروعهم الجرانيت

رائقين.. عاجزين

والتلال بعيدة

صارت أغمق مما كانت في الطفولة

ما رأيك في الاستلقاء بهدوء قرب الماء؟

أريد أن ألمسك، لكن لا تفعل،
لأننا في حياتنا السابقة كنا من دم واحد.

(ترجمتي)

لويز جليك؛صورة قديمة لفريد ماكدارا – مجلة النيويوركر

ربما يعود جزء كبير من التلقي المرتبك الحذر لفوز لويز جليك بنوبل إلى الجهل بها؛ فلم يسمع بها سوى نفرٌ قليلٌ من قرَّاء الشعر المخلصين، ولم تُترجم لها إلى العربية، وقد نشرت، حتى الآن، اثنتي عشرة مجموعة شعرية، إلا القليل من القصائد المتفرقة، وكتاب واحد حوى مختارات من قصائدها، اختار لها سامر أبو هواش عنوان “عجلة مشتعلة تمر فوقنا”، وهي ترجمة لم تسلم، في رأيي، مما يفعله أبو هواش بكل ما ترجمه من الشعر الأمريكي تقريبًا؛ يمنح كل الشعراء صوتًا واحدًا متماثلاً؛ فلا نكاد نفرِّق بين بين صوت روبرت بلاي الشعري، وصوت لويز جليك، وصوت تشارلز سيميك.
لكن حتى لويز نفسها، التي سبق وأن فازت تقريبًا بكل الجوائز الأدبية في أمريكا، حصلت على جائزة بوليتزر في ١٩٩٢، وقبلها حصلت على دائرة النقاد للكتاب الوطني، استقبلت نبأ الجائزة بشيء من الارتباك والتشكك والصدمة؛ وفي مكالمة هاتفية مع آدم سميث، من الأكاديمية، بعد أن عرفت بفوزها بساعات، كانت لا تزال مرتبكة، أعلمته أنها تشرب قهوتها، وأن لديها دقيقتين فقط. حاول سميث استغلال هاتين الدقيقتين، وسألها السؤال الأكثر تقليدية في هذه المواقف “ماذا تعني لكِ جائزة نوبل؟” فردت على الفور “ليست لديَّ أي فكرة! أول ما فكرت به أنه لن يكون لديَّ أصدقاء، لأن أغلب أصدقائي كُتَّاب.. ثم قلتُ لا.. لن يحدث هذا..” ثم أكملت “لقد حدث الأمر للتو.. وحقًّا لا أدري ماذا يعني..”. في المكالمة القصيرة نصحت لويز القرَّاء بأن يتجاهلوا كتابها الشعري الأول First Born، ورشحت كتابها الأخير Averno.

لما كانت قيمة الجائزة نحو مليون دولار أمريكي، وكأي شخص تأتيه دفعة كبيرة مفاجئة من الأموال، صرَّحت بأنها ربما تشتري بيتًا جديدًا.

هذه ردة فعل، وإن كانت متفاجئة، إلا أنها أكثر توازنًا من ردة فعل بوب ديلان المتجاهلة، ومن ردة فعل الروائية البريطانية دوريس ليسنج 1919-2013، التي فوجئت بأنها فازت بنوبل وهي في الثامنة والثمانين، حين نزلت من تاكسي أمام بيتها عائدة من جولة تسوقت فيها بعض البقالة للبيت، وفي صحبتها زوجها الشيخ الذي يحمل ثمرة خرشوف وحزمة من البصل، وكان ردها كلمة واحدة “أوكيه!”. ولما سُئلت السؤال نفسه “ماذا يعني لكِ الفوز بنوبل؟”، أجابت “سأفكر في الأمر”. لكن المراسل ألح عليها لتقول شيئًا، فردت بحدة “قل لي ماذا ينبغي أن أقول وأنا أقوله”!
وببساطة طاب للصحافة الثقافية وقتها أن تطلق على الروائية التي حازت معظم الجوائز الأدبية في أوروبا، وصاحبة التجربة الضخمة والمهمة والمواقف المبدئية لقب “كاتبة الخرشوف”.

بعد الجائزة بيوم واحد، في حوارها مع ألكسندرا أولتر، من صحيفة نيويورك تايمز، قالت لويز “لا أظن أنني كنت مستعدة لهذا..”. ولا أعتقد أن كاتبًا ما كان مستعدًا لنوبل، أو انتظرها فحصل عليها. سبق وحدث أن انتظرها كثيرون، ولم يحصلوا عليها، مثل الانتظار الأزلي الذي ينسب لأدونيس وعشاقه، وكذلك ليس سرًّا ما فعله يوسف إدريس بعد فوز نجيب محفوظ بنوبل، ١٩٨٨؛ لقد غضب وثار، وذهب بعض الرواة أنه توجه إلى مكتب محفوظ في الأهرام ليضربه.. لكن محمد سلماوي يقول في هذا الشأن إن الخلاف بينهما انتهى أمامه في الأهرام حين التقيا؛ محفوظ وإدريس، وقال إدريس “لم أهاجمك كما نقل البعض عني”، فرد محفوظ “وأنا لم أسمع شيئًا”.. كان إدريس يرى نفسه أجدر من محفوظ بالجائزة، فالرواية عند محفوظ “بلزاكية تقليدية في العمق.. ليست رواية فنية ولا حديثة”! وأنه حُرِم الجائزة التي كان مرشحًا لها بالفعل بسبب مواقفه الرافضة لإسرائيل ولكامب ديفيد..

*

ليس عليك سوى أن تنتظر، ولسوف يجدونك
الإوز الذي يطير واطئًا فوق المستنقع،
الإوز اللامع في المياه السوداء،
سوف يعثر عليك

(ترجمة: صبحي حديدي)

من جملة التلقي المرتبك الأرعن للشاعرة التي تكتب الشعر منذ نحو خمسين عامًا، وقبل أن يصرِّح أحد بأي تعليق نقدي على تجربتها الطويلة المميزة، انقسمت التعليقات بشأن اسمها ذاته، هل تٌنطق لويز جليك أم لويز جلوك؟ غليك/غلوك، كما يكتبها غير المصريين، أما المتطرفون فكتبوها هكذا “غلويك”. وGluck اسم مجري؛ حيث تعود أصول لويز.. ولد أبوها، دانيال جليك، الذي كان كاتبًا هاويًا، ومنه أحبت الشعر، في الولايات المتحدة. هي نفسها تنطق اسمها جليك، والأمريكيون كذلك، وهذا يكفي.

أحد المواقع المصرية ذات الأداء الموظفيني، نشرت مقالاً عن جليك، بعض فقراته نُقلت نصًّا من مواقع عربية، وفيه كُتب اسم جليك مرات بالياء ومرات بالواو، تحت عنوان “مريضة نفسيًّا لم تكمل دراستها”.. يا له من عنوان! موقع حكومي آخر لا يُستبعد أن العاملين فيه يربطون أجهزة اللابتوب بالدوبارة، أعلن أن أكاديمية نوبل فاجأته هذا العام بمنح الجائزة لجليك. آخرون سرعان ما عبَّروا عن دهشتهم وتساؤلاتهم عن تلك الشاعرة النكرة التي لم يقرؤوا لها شيئًا، وأن ثوب الجائزة واسع عليها.. إلخ، والحقيقة أن من بين الأشياء الجيدة التي تفعلها جائزة كبرى كنوبل وغيرها، عدا عن أنها تمنح الفائز فرصة ليشتري بيتًا جديدًا مثلما ستفعل لويز، أو ليتبرع للأطفال الفقراء في بلده مثلما فعلت جابريللا ميستيرال، أنها تفتح طاقة سحرية للاستكشاف، للذهاب إلى منطقة جديدة تمامًا من التلقي، من سيقاوم فضول الاستماع إلى صوت أدبي طازج غير مألوف، وحساسية نادرة، حتى وإن كانت لشاعرة في السابعة والسبعين.. 

*

أمر مُحزن حقًّا،
تميزت طول حياتي بذكائي وسطوة لغتي،
وفي النهاية، ضاعت كلها هباءً

(ترجمة: ضي رحمي)

للوهلة الأولى، قد تترك قصائد لويز جليك انطباعًا خادعًا بالبساطة، وانطباعًا آخر بالحزن. في إحدى القراءات ضحك الجمهور حين أنهت قراءة قصيدة، فعلقت “اضحكوا.. فالفقرة المقبلة كئيبة”.. لكن هذين الانطباعين قد ينمحيا تدريجيًّا لصالح العمق مع قراءة المزيد من قصائدها، فهي بالفعل شاعرة لا تمنح نفسها للمتلقي من المرة الأولى. وقد يحدث أن يزول هذان الانطباعان مع الاستماع إليها وهي تلقي قصائدها بهدوء شديد أقرب إلى الكلاسيكية.
 حتى في اللقاءات المُصوَّرة، تتحدث لويز بهدوء رائق، لا يعود إلى كبر السن؛ ففي لقاء تليفزيوني قديم ربما منذ ثلاثين عامًا، كان لها النبرة نفسها، التي تؤكد أن صاحبتها تميل إلى الانعزال، ولا ترحب بالجلوس في مرمى الأضواء، وهو ما أكده انزعاجها الشديد من هجوم الصحفيين على بيتها فور الإعلان عن الجائزة، وما جعلها أيضًا تصرِّح في نبرة تكاد تكون دفاعية أن لجنة نوبل اختارت “شاعرة غنائية وبيضاء..”، بالإضافة إلى أنها أمريكية، وهذه تحديدًا نقطة لا يمكن إطلاقًا تجاهل مدى تعقيدها؛ إذ لا يخفى موقف نوبل المتحفظ تجاه الأدب الأمريكي، وطبعًا هنا، في الشرق، لأسباب تتعلق ببروباجندا سياسية مزمنة تروِّج لكراهية كل ما هو أمريكي، وتروِّج لاستحقاق تنتظره آداب العالم في كل مكان بخلاف القوة الأحادية المسيطرة، ينظر معظم المهتمين بالأدب إلى الشعر الأمريكي المعاصر نظرة بالغة الإجحاف، متجاهلين تجارب بالغة الروعة والاستثنائية.

*

أقول للأرض
كوني لطيفة تجاه أمي،
الآن، وفيما بعد،
احفظي ببرودتك،

الجمال الذي حسدناه جميعًا

(ترجمة: محمد الحموي)

يمكنني ببساطة أن أحب لويز جليك من أجل هذه الأبيات فقط!