كمال الشاذلي‎

البحث عن كمال

وائل عبد الفتاح

زارني حسني مبارك في المنام. هذه هي المرة الأولى غالبًافي الدقائق الأولى بعد اليقظة كانت تفاصيل المنام حاضرة. بعد قليل نسيتُ كل التفاصيل، ولم يبق سوى شكل مبارك الشاب بجسد رياضي يتمدد في بدلة أكثر أناقة من ملابسه في الأيام الأولى، وأقل استعراضية من بدلته الأخيرة. كان مشغولًا باستعراض مفاتنه الداخلية ويحكي عن عشقه لفتاة جديدة. وكان جسده مائلًا قليلًا. لم يكن في ترهل صوره الأخيرة ولا في حاجة إلى صبغة جديدة. كان مشحونًا جدًا إلى درجة أثقلت نومي وأيقظتني، كما لو كنت أشاهد فيلمًا من أفلام تطرح أسئلة عن الخيوط المتعددة بين الخير والشر.. أو بين المثالي والجريمة. كيف تسرب حسني مبارك إلى أحلامي القليلة أصلًا بهذه الافتتان النزق.
وهل يؤرقني افتتانهم، أم الإعجاب بهذا الافتتان؟ أم أن الواقع ثلاجة كبيرة لحفظ افتتان هذه السلالة بنفسها؟
المدهش فعلًا أننا لم نفكر جيدًا في حضور السلالة التي ورثت الحكم من الضباط الأوائل، وكيف استمروا أكثر من الآباء. بل وكيف استمر حضورهم حتى الآن على الرغم من موتهم السياسي؟ يحضرون دون سجال سياسي حولهم، يتكرر مع الناصريين أو الساداتيين، أسوة بالسجال حول الأب/الحاكم الذي تتوالد سلالته أمام عينيه؛ حاملة جينات وراثية يصعب تكرارها في غيابه.

لكن حسني مبارك أب من طراز مختلف. سلالته خرجت من الجيوب المهجورة لأسلافه، لكنها معه أصبحت كائنات جديدة تمامًا؛ أخذت وقتها لتطوير جيناتها إلى درجة عدم الاستغناء عنها في كل نظام يحلم بالأب والرعايا والعبيد والسادة، والمنقذ والملتاعين المنتظرين. هذه الأنظمة تحافظ على درجة بين الانقراض والفعالية الضارة باستثمارها في الركود، بقاء البِرَك العطنة عند درجة يمكن التعايش معها.

1

تخيَّل مثلًا ظهور فتحي سرور في الارتباك المرتجل لتعديل الدستور ليسمح بتمديد حكم المارشال سيسيظهورًا دراماتيكيًّا، كما لو كان طقسًا من طقوس الحفاظ على الوعد. أو ربما ظهر أن غياب جينات الكهنة ستهدم المعبد. كاهن مثل فتحي سرور غادر مجاله العلمي ليجمع بين وظيفتي الترزي الخصوصي ومروَّض الحيوانات في السيرك البرلماني، ومغادرة حلبة التميز لمجال يمكنك فيه أن تصطاد الفرص والثروات والسلطةفقد كان من الزمور الشائعة في عصر مبارك الذي حافظ فيه على الركود بغواية الصعود بالأقساط. لم يعد تسلُّق السلم الاجتماعي يحتاج سوى سداد أقساط لأرباب الثروة والسلطة.

وكما كان ظهور سرور دراماتيكيًّا، فإن غياب كمال الشاذلي كان المُفسِّر الوحيد لفضائح وكوارث وفواجع حدثت في طقوس التمديد.

2

تخيَّل أن هناك إحدى الغرف المغلقة من يفكر تفكيرًا يختلف عن كيفية تنفيذ الأوامر. كان لا بد أن يستحضر روح، أو يرسم الطريق، ليظهر شبح كمال الشاذلي. هذه ليست محاولة خرافية لسيناريو عودة. رجل ميت كان يصفونه بأنه ديك رومي منفوح. رغم تمعن كل تفصيله في ملامحه وعلاقته بجسده وحضوره الفيزيائي بين الناس، لن يخطأ هويته الفلاحية. أو مسيرة فلاح سلطوي خبير بالدروب التي تجعله ينتقل من موقعه الأثير في عداد ضحايا يتفاصحون لكتابة شكاواهم، إلى أن يكون هو نفسه الوسيط أو متلقي الشكاوى. وهو انتقال بنيوي كما تقول الأدبيات السياسية.

ربما هو وفتحي سرور وبصحبتهما صفوت الشريف بدرجة أقل، وهم مَن يمكن أن يقال إن خبراتهم تتجاوز عصر مبارك الطويل، إنهم عضم النظام ونخاعه الشوكي.
هو خادم المعبد الصاعد من أسفل ليحمل مفاتيحه كلها/لا يهتم بكون الدولة شمولية أو ديمقراطية اشتراكية/انفتاحية، المهم السيد في الأعالي يستقر ويسعد بتمكنه من الكرسي. يسير مع التيار وتتلون بدلاته حسب الموسم السياسيويقرأ قبل أن يخرج من بيته تفاصيل الطقس الرئاسيولهذا تفتقده المجموعة الحاكمة الآن وهو يرتدي بدلة فُصلت خصيصًا لبرلمان ما بعد الثورات
الشاذلي حلم الدولتيين؛ الشباب منهم بالذات يتحسَّرون على موته قبل أن يمنحهم فرصة ومكانًا في طبقة الحكميسمعون حكايات العواجيز أبناء الطبقة السياسية التي سقطت في 25 يناير وربما قبلهاويمصمصون الشفاه.
يسمعونهم وهم يرددون في حسرة: “لو كان موجودًالما قامت الثورة
يحكي المخضرم من طبقات ساقطة بخطاب جازم في جلسة أمام شباب يهزون رؤوسهم، فهم أبناء طبقات استعدوا للقفز إلى وراثة الأدوار في السلطة واحتكار الثرواتوقبل أن تمد سيقانهم في جسد الدولةحدث الزلزال في يناير وتفكَّك الجسد العجوز/الهزيل للطبقة القديمة وظلَّت سيقانهم مرفوعة في الهواءيبحثون عن عكازات يستعيدون بها التوازن.
العجوز الذي لا تنقصه فتنة الحكي/وما تزال تجذبه شهوة المتع التي حصل عليها بالقرب من السلطة يمنح حكمته لشباب مفتون بماضي الدولةولهذا يفتقد أثرياء الدولة نجمًا لامعًامثل كمال الشاذلي.
لم يصدق أحد أن كمال الشاذلي انتهى. له سبعة أرواح. كلما مات عاد. وبقوة أكبر.
هو خبرةنادرةلا يمكن تجهيز بديل لها بين يوم وليلة. والتصميم الأساسي للنظام يعتمد على الشاذلي بدرجة لا يمكن تخيلها. يحمي نفسه بملفات جاهزة للجميع. ويدير النواب بمنطق القطيع يشد ويرخي. وأخيرًا فهو يعرف خبايا ودهاليز كل موقع في مصر. لديه خريطة الأنصار ومناطق الضعف؛ صحيح أنها قديمة ولم تعد تصلح كما كانت، لكنها الوحيدة على العموم. وهذا سرُّ قوته التي لم يظن أحد أنها ستذهب هكذا فجأة.
على سبيل التذكرة؛ في إحدى محاولات إبعاده ذهب كمال الشاذلي إلى أشهر مخازن للسلطة: المجالس القومية المتخصصة. التي كانت مستقر وجراچ كل رئيس وزراء لا يجد نفسه في بنك تحت رعاية الدولة.
الدكتور عاطف صدقي رئيس الوزراء الأطول بقاءً في عهد حسني مبارك آخر أعضاء نادي الإقامة الأبدية في مستودع المجالس القومية.
بغيابه ظل الموقع ينتظر صاحبه الجديد الذي سيقود أهم عقول مصر كما تصف الصحف المجالس في محاولة لإظهار الكنز المدفون الذي لا تستفيد منه الحكومة بينما يستفيد عدوها التاريخي: الإخوان المسلمون.
المرشد مهدي عاكف قال في حوار صحفي إنهم يستفيدون من أبحاث المجالس المركونةمع أن هذه الأبحاث لم تفد أي حكومة من الحكومات المتعاقبة، بل كانت مثل مقاهي المعاشات يقضي فيها علماء مصر أوقات الفراغ.
اعتبرت الصحافة أن النظام أهان مصر عندما وضع كمال الشاذلي على رأس أهم تجمع للعلماء وهو الحاصل على مجرد الليسانسولم يعرف عنه الاهتمام بالنواحي العلمية، ويدير مواقعه السياسية بطريقة ارتجالية أقرب إلى تفكير العوام وخبرتهم في الحياة بل إنه كان مشهورًا بأنه يضبط إيقاع البرلمان بشخصية أقرب إلىالفتوةمنه إلى رجل السياسةكمال الشاذلي تلقى الضربة على طريقته.

3
هو المصنَّف في قائمة أقدم أعضاء البرلمان في العالم؛ فهو نائب منذ أكثر من 40 سنة.
وهو عابر للعصور. وفي خدمة السلطة مادامت سلطة. إنه الولاء على الطريقة الريفية. هو التابع لا السياسي. بارع في تكوين جيوش الموالين والمرتزقة وفقًا لعقيدة الإيمان برأس النظام وحكمتهوأنه القادر على تحقيق المصلحة.
وعندما أُبعد من الوزارة قال إن الرئيس رأى أنه يحتاج إليه في المجالس القومية المتخصصةوهذا يعنى أنه يريد أن يحدث بها تطويرًا، وهو الكلام الذي قاله من قبل صفوت الشريف عندما أُبعد عن وزارة الإعلام التي ظلَّ على رأسها 22 سنة.  “أنا تحت أمر الرئيسهكذا قال الشاذلي ليبرهن على أنه المنتمي بإخلاص لنظام يعتمد على ثقافة التبعية الريفية.
كمال الشاذلي رمز يمكن تحليله لمعرفة مسيرة نظام العسكرتارية الممتد من عبد الناصر إلى مبارك.

4

كتب كمال الشاذلي عن نفسه يوم 6 مارس 1964. وكان وقتها في أول أيامه بمجلس الأمةالاسم القديم لمجلس الشعب“. وفى استمارة تعريف تضعها صحيفةالأهرامفي صدر ملف يضم الأرشيف الصحفي الخاص بهاوهو تقليد يبدو أن المؤسسة العريقة لم تعد مهتمة به“… كتب كمال الشاذلي أنه مولود في 16 فبراير 1934 “هو إذن أصغر ديناصورات الحزب الحاكم: عمره فقط 72 سنة!”.

محل الميلاد: الباجورالمدينة التي أصبحت شهيرة به في المنوفية الموطن الأصلي للرئيسين السادات ومبارك وهو موضع سخرية الشعب المصري الذي يتندر على فكرة أن مصر تحت حكم المنايفة منذ 34 سنة“.

رقم تليفونه وقتها كان يحمل رقم 65.
ومع أنه متخرج فقط منذ 7 سنوات في كلية حقوق القاهرة، إلا أنه يشغل منصب مدير مكتب القوى العاملة في منوف، وقبلها كان مفتش أول عمل بمنوفبل إنه كان أيضا رئيس المكتب التنفيذي لنادى الباجور الرياضيالباجور الآن مدينة بها حمام سباحة على مساحة كبيرة، وتتميز بموقع خاص لقصر كمال الشاذلي الذي يستمتع بصوره بأحجام كبيرةولافتات تأييد له من جاليات الباجور في باريس وقطر والسعودية.
والنكتة أنه كان يهوى الكرة الطائرة.
وكان اللافت إجابة كمال الشاذلي عن سؤال: ما أهم المشروعات والقوانين التي ترى ضرورة المطالبة بها في مجلس الأمة؟!
وكان رده “… الارتقاء بالقرية الى المستوى الحضري من الناحية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية…” وتصنيع الريف لتشغيل الأيدي الزائدة عن حاجة الزراعة…” والحفاظ على مكاسبنا الثوريةوالأهمتطبيق مبادئ الميثاق الوطني الذي هو دستور العمل الثوري لنحقق أهداف الشعب في الاشتراكية والحرية والوحدة“.
بالطبع يتحدث كمال الشاذلي بالحماس نفسه الآن. وفى العصر الأمريكي. ومكاسب السوق. بل إنه غيَّر بدلة السفاري الشهيرة في أوساط أعضاء الاتحاد الاشتراكيوأصبح في بدلته الجديدة أقرب إلى أغنياء الانفتاح بالكروش المنفوخة وملامح الثروات المفاجئة.

5
كمال الشاذلي باختصارمثقف عضويلكن بكتالوج لم يعرفه جرامشىوهو المنتمي الذي يفقده نظام يصنع سيادته على الشارع بالترويض والتوريط.