الكحلاوي

عن جاهلية الكحلاوي.. وهروبه منها



شريف حسن

جميعنا يعرف أغنية لجل النبي، وعليك سلام الله، وخصوصًا الأخيرة التي صُورت في جامع عمرو بن العاص ويذيعها التليفزيون المصري بشكل دائم.. الكحلاوي مطرب ديني معروف لنا بهاتين الأغنيتين، على الأقل لجيلي أنا، مع أن تجربته الفنية أكبر بكثير من معرفة جيلي، وأهم من حصرها في أغنية، أو في تجربة دينية، حتى لو كانت تلك رغبته.

ذات مرة بالمصادفة سمعت شفيق جلال يحكي عن موال الصبر، وكيف غنَّاه بعد الكحلاوي، وعن قدرة الكحلاوي في غناء المواويل وتمكنه منها، وبعد سماعي لموال الصبر بصوت الكحلاوي؛ كان الأمر يستحق البحث والتنقيب وراءه.. ماذا حدث، وكيف وصل الأمر لذلك، وكيف لصوت بهذه الخصوصية والجمال ينحصر تاريخه في أغاني دينية فقط، على الرغم من تقديمه لأغلب قوالب الغناء بشكل جميل وعذب، سنحاول كشف ذلك، البحث داخل جاهلية الكحلاوي كما سماها بنفسه.

الحديث الدائم أن الكحلاوي كان سببًا مهم في تطوير الأغنية الدينية، وأنه أسهم بشكل كبير في خروج الأغنية الدينية من شكل الإنشاد الديني وجعل لها نوتة موسيقية ولحنًا، أعتقد أن الأمر فيه مبالغة، فالجميع أسهموا في تطور الأغنية الدينية؛ رياض السنباطي قدم أغاني دينية كثيرة مع أم كلثوم وبعيدًا عن أم كلثوم، لم يأتِ الكحلاوي بجديد، إلا إنه قدم الكثير من الأغاني الدينية، وربما ذلك أعطاه فضل أن ينسب له الإسهام الأكبر، لكنه بالتأكيد غير صحيح وغير منطقي.

علينا الاعتراف أننا نعاني قصورًا واضحًا في تصوراتنا عن تاريخنا الفني، إذ لا يوجد تأريخ حقيقي دون تنقيح ورقابة، رقابة أخلاقية ومجتمعية وسياسية وعائلية، الجميع يبحث على المشهد بصورة مثالية، والمثالية هنا حسب ما يجتمع عليه الأغلبية والإعلام ويوافق هوى الشارع المصري.
في سيرة الكحلاوي؛ الذي كان الابن المنشد أحمد أهم المساهمين في سردها، يجب أن تخرج القصة في شكل مثالي، وفيها اعتراف ضمني بما سبق دون الخوض في تفاصيل إلا لو كانت تفاصيل تساعد في ترسيخ الفكرة الرئيسية، الكحلاوي منشد ديني، اختار الإنشاد الديني، حياته ملتزمة، دون الخوض في حقائق ووقائع حدثت، لكنها يمكن أن تضع علامات استفهام حول الصورة المنشودة.

وصف الكحلاوي أيامه قبل التدين بأنها أيام جاهلية، وتعامل معها باعتبارها غفلة في ملذات الحياة، هجر بيته في الزمالك وسكن في استراحة مسجد بناه في البساتين، تحدث بأن الوسط الفني يبحث عن المادة لا القيمة، تحدث عن الوسط الغنائي وكأنه ليس منهم.. هرب الكحلاوي من ماضيه، هروب الصياد من فريسته، يحج كل عام، حتى تخلد أسطورة إنه حج 40 مرة، لكن بعيدًا عن الأسباب الدينية، لماذا حدث كل هذا، على الرغم من غنائه أغاني دينية وقت غنائه للألوان الأخرى، لماذا هرب وتخلى عما قدمه؟

هو ابن المدينة؛ القاهرة، حي باب الشعرية، على الرغم من مولده في منيا القمح، الشرقية عام 1912، وبوفاة والدته ثم والده وهو صغير، انتقل إلى الحياة مع خال الوالد، المطرب في ذلك الوقت، واضح إنه لم يكن مشهورًا بالشكل الكافي، فلم تصل إلينا أي تسجيلات أو معلومات عنه خارج حكايات سيرة محمد الكحلاوي، وقد أخذ الكحلاوي ذلك الاسم من خاله فهو اسمه الحقيقي؛ محمد مرسي عبد اللطيف.. عاش طفولة منطلقة على الرغم من تزمت الكحلاوي الكبير، بدأت تشد سواعده، وانطلق في ممارسة كرة القدم والغناء، وعمل في مصلحة السكك الحديدية لفترة قبل أن يتركها ويتفرغ للفن

من النقاط المبهمة في مسيرته، الحديث عن إنه كان فتوة في بداياته، لما يتمتع به من بنيان جسدي قوي، لا يوجد تأكيد لهذه المعلومة إلا معلومات أخرى يمكن أن توضح الصورة ولو بشكل بسيط؛ يحكي الكحلاوي في برنامج أسماء وذكريات عن صديق له وفي وسط الحديث أشار إلى أنه كان مريضًا وقتها، ثم أضاف بعد ذلك إنه كانمضروب بالرصاص، يبدو أن ذلك كان في بدايته وقت عمله في السكة الحديد، ثم قصة أخرى، وهي وجود اسم الكحلاوي بجانب اسم الفتوة الأشهر في مصر وبولاق أبو العلاإبراهيم كروم، عندما رقصا معًا بالعصيان في الأربعينيات، ربما لم يكن فتوة كما نعرف، ولكن واضح إن الكحلاوي كان شابًا جامحًا منطلقًا في القاهرة، يكتشفها ويكتشف نفسه.

كان العمل في الغناء إنقاذًا لحياة الكحلاوي، ومتعة له ولموهبته التي يمتلكها، صوت قادم من الريف المصري دون أن تغيره المدينة، به بحة وبصمة واضحة، عذب وطبيعي دون افتعال التطريب أو مبالغة في الأداء، في ظل وجود فطاحل الغناء من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفتحية أحمد وعبد الغني السيد وغيرهم، لكن الكحلاوي اتخذ طريقًا ونهجًا مختلفًا إلى جانب غنائه للمواويل، فبدأ في تقديم الأغنية البدوية، وربما كان سفره إلى لبنان والعمل هناك لعدة سنوات، سببًا في رؤية الغناء الجبلي وإعجابه به ومحاولة تقديمه بشكل مصري.. هل كان السفر إلى لبنان للعمل، أم كانت محاولة للخروج من القاهرة ومشكلاتها؟

شكَّل بصحبة بيرم التونسي ثنائيًّا، وقدما العديد من الأعمال البدوية، مثل أفراح البداية، وفضلك يا سايح المطر، خلو السيف يقول، وهي من ألحان زكريا أحمد. وأسس شركة إنتاج سينمائي تحت اسمأفلام القبيلة، قدمت عدة أفلام مثلأحكام العربويوم في العاليوأسير العيونوبنت البادية“. بدأ الكحلاوي العمل في السينما منذ بدايتها، مثل ما بدأ مع الإذاعة المصرية منذ بدايتها

يتضح لنا من مشوار الكحلاوي أنه يجسد المثل القائلسبع صنايع والبخت ضايع؛ فقد كان يجرب كل شيء ويستمر فيه حتى وإن لم ينجح؛ استمر في تقديم الأغنية البدوية على الرغم من عدم تقبل الناس لهذا الشكل بهذه الكثافة؛ يمكن أن نراه في سكتش ضمن فيلم، أغنية واحدة كل فترة، لكن أن يكون تركيزك وعملك منصبًا على هذا الشكل مع أنك تمتلك مساحة مصرية أصيلة ريفية يمكن العودة لها، وتقديمها، لكنه فضَّل الشكل البدوي، وغضب فيما بعد، عندما قدم مطربون آخرون هذا الشكل ضمن أفلامهم.. وإلى جانب شركة الإنتاج التي خسرت بالطبع، وحتى عمله هو في السينما كممثل، لم يكن ناجحًا، لا توجد أفلام للكحلاوي استطاعت الصمود.. جيلي لا يعرف أي من تلك الأفلام، أغلبها أفلام ضعيفة سينمائيًّا. لكنه لم يكتف بكل ذلك، فاقتحم مجال التأليف السينمائي وكتابة السيناريو والحوار، كان الكحلاوي يبحث عن لحظة يشعر بها بالتقدير الذاتي، مع أنه بمقاييس السوق والتجارة كان ناجحًا وقتها، ويجني الكثير من الأموال من كل الاتجاهات

يقول محمد قابيل في كتابه موسوعة الغناء المصري عن الكحلاوي، إنه كان يصر على أن يتقاضى أجرًا لا يقل عن الأجر الذي تتقاضاه ليلى مراد عن الفيلم؛ وهو خمسة عشر ألف جنيهًا، وذلك يعكس مكانته لدى الناس على الرغم من السمات التي وصفناه بها، والسمات ليست أنه الوسيم أو الجذاب أو الممثل الموهوب، لكن الناس كانت تحب صوته، الكحلاوي وجد كنزه في صوته، واستمر في جني المال من خلال السينما والغناء والتمثيل والإنتاج والكتابة، لك أن تتخيل أنك تحب مطرب وتستمع إلى كل أغانيه، لكنك لا تعرف شكله، فإذا أتيحت لك الفرصة أن تشاهده على شاشة السينما وهو يغني، فستذهب متسرعًا متلهفًا لرؤية مطربك المفضل.. كان الكحلاوي تميمة النجاح والحظ لأفلام كثيرة في تلك الفترة، مما ساهم في نجاحه هو بشكل كبير، وتحقيق مكاسب مادية كبيرة، بجانب قصة سفره إلى لبنان في بداياته وعمله هناك لفترة طويلة، وجمع مبلغ كبير في تلك الرحلة، والتي ساعدته بكل تأكيد في دخول عالم الإنتاج السينمائي.

الأمر الأكثر غرابة كان التلحين، الذي ربما يكون سببًا مهمًا في اختفاء أغاني الكحلاوي وآثارها، تصميم الكحلاوي على تلحين كل أعماله باستثناء أعمال قليلة جدًا، لم أجد إلا عملين منهم؛ واحد لحن زكريا أحمد، والآخر أغنية بسكلتة لحن محمد عبد الوهاب في أحد أفلامه. وكان الكحلاوي ملحنًا روتينيًّا، يقدم الشكل اللحني نفسه في أغلب أعماله، معتمدًا على صوته، وتقديمه الموال في منتصف الأغاني، واستخدام الإيقاع بشكل مكثف، والميلودي الريفية التراثية، ولم يترك بصمة واضحة له في عالم التلحين، حتى أن أحدًا لم يتعامل معه باعتباره ملحنًا؛ لم يتعامل أحد مع الكحلاوي إلا باعتباره مطربًا دينيًّا، ربما ذلك يوضح انتمائه لهذا العالم وتركه وهروبه من كل التجارب الأخرى، هنا فقط حصل الكحلاوي على اعتراف حقيقي من الناس، وشعر للمرة الأولى بنشوة داخلية تنبئه بالخلود

جمال الليل بيرم التونسي 

في النصف الثاني من الأربعينيات وبداية الخمسينيات، قدَّم الكحلاوي العديد من الأفلام البسيطة والغنائية بنت وقتها، مع إسماعيل يس وشكوكو وشادية وهاجر حمدي وسعاد مكاوي، وكانت تلك الأفلام بها العديد من الأغاني الخفيفة الفكاهية، أو التي تندرج تحت أغنية موقف مثل التليفون أو سيدي يا سيدي، أو مش قادرة يا حسن مع سعاد مكاوي، او نجاح سلام في حبيت يا بوي، أو مع شادية مثل يا طارحين الشبك، وغنى أيضًا مع حورية حسن وغيرها من المطربات.

يا مصطفى يا مصطفى، أحد أشهر الألحان التي قدمها محمد فوزي وغناها بوب عزام في الستينيات، ويقال إن الكحلاوي قاضى محمد فوزي لأنه سرق اللحن من أغنيتهفضلك يا سايق المطر، ويقال أيضًا إنه انتصر فيها ودخل شريكًا في شركة محمد فوزي، مع أن اللحنين مختلفان من وجه نظري، واللحن ليس للكحلاوي، فهو لحن لأغنية من التراث اليمني.. أعتقد أن القصة بها الكثير من الغموض، ربما كانت قصة أخرى لتأكيد أهمية الكحلاوي جماهيريًّا، وهي النقطة التي عانى منها دائمًا، مع أنه كان يمتلك صوتًا جميلاً وقادرًا على تقديم أغنيات جميلة مثلما قدم بالفعل، لكن التصميم على القيام بكل الأدوار أضعف كل الأدوار، حتى إنه انتخب نقيبًا للموسيقيين عام 1945، ثم تنازل عنه لمحمد عبد الوهاب.

استمر الكحلاوي في غناء الأغاني العاطفية والخفيفة حتى منتصف الستينيات أو ما بعدها، وربما كثف جهوده في المرحلة الأخيرة للأغنية الدينية، لكنه قدم الأغاني الوطنية أيضًا، والسياسية في ثورة يوليو والوحدة وحرب فلسطين، كأي مطرب.. “لن أمدح أحدًا بعد النبيالجملة التي تنسب له، بعد ما طلب منه الغناء لعبد الناصر، وهذه الواقعة تدل على كل ما تحدثنا عنه في البداية، التأريخ الحقيقي للأحداث، جملة مثل تلك جميلة من شخص ترك الحياة واتجه إلى الله والتصوف والغناء الديني، جملة درامية تخلق لنا البطل الذي وقف أمام جمال عبد الناصر ولم يهابه مثل باقي المطربين.. فكرة درامية، لكنها لا تمت للواقع بصلة، الكحلاوي مدح جمال عبد الناصر بل إنه غنى بعدها لجل النبي، وقالانصر ريسنا لجل النبي“.

مدح جمال عبد الناصر 

مع نهاية الستينيات، كان هناك جيل جديد يظهر، ويرسخ لشكل جديد للأغنية المصرية وللسينما، ومن ذلك المنطلق وقف الكحلاوي أمام شبح الاعتزال، أو الاختفاء تدريجيًّا من الساحة، أو تجديد مشواره، واختيار طريق جديد إلى جانب كل طرقه السابقة، فكان الغناء الديني طريقًا جيدًا، كان الكحلاوي من الأوائل الذين نفذوا فكرة اعتزال الفن لأسباب دينية. اعتزل الكثير قبله؛ اعتزلت ليلى مراد قبله واختفت عن الساحة الفنية وهي التي كان يراها الكحلاوي مقياسًا لنجاحه وأجره المادي في السينما.
كان الغناء الديني هو الطريق للاستمرار بعد الاعتزال لأن ما يفعله كان حرامًا، كانت جاهلية، تلك هي النقطة الشائكة، فهو يرى حياته السابقة خاطئة، بعد ما حقق منها كل شيء، وأعطته كل شيء.. هرب الكحلاوي من الجاهلية، لكن أعماله ظلت باقية ومؤكدة على أنه لم يستغل الموهبة بشكل صحيح، ولم يستطع مجاراة الأحداث والتطور في الأغنية، على الرغم من الكثير من الأعمال الجميلة والجيدة والتي نسيت بسبب الإهمال والتركيز على الجزء الديني من حياته.. وفي النهاية لا نملك إلا أن نستمع إلى تلك الأعمال، ونقول: عليك سلام الله يا كحلاوي!