مناورات كافكا

كيف كان يصنع الفردوس والجحيم معًا؟!

إسلام السيد

حين يرد ذكر فرانز كافكا ستفكر على الفور في توصيفات كثيرة، تنتمي إلى شخصه وأدبه، من بينها حشرة/ حقارة/ نبذ/ اغتراب/ بؤس.. وتمتد القائمة، من خلال تعريفات كافكا لنفسه في رسائله ويومياته، ومن خلال أدبه، الذي يبدأ عادة من شيء شخصي، معنيّ بحدث من حياته، أو من تأملاته، وينتهي إلى أفكار كونية، قادرة على الاشتباك مع اللحظة الراهنة. وقد أنتجت تعددية كافكا ككاتب اتجاهًا أدبيًّا يُعرف بالكافكاوية، وهو ما قد يشير إلى منتج أدبي ذي جودة “شديد التعقيد، غريب وغير منطقي!”.. غير أن كافكا كان يبحث من خلال تلاشي المنطق، عن تفسير للصراع الداخلي الذي كان يعيشه، وينظر إلى العالم من خلاله. وبالتحرك في الاتجاه المضاد، أي إلى كونديرا، الذي رأى أن كافكا، يُقرأ من خلال أدبه فقط، وأن البحث الدؤوب وراء شخصه، ينتج كافكا ممسوخًا. ويشير ريكاردو بيجليا في “القارئ الأخير” أن كل ما كتبه كافكا يعتبر حلقة في أدبه، وأن فعل قراءة أي شيء كتبه، سواء كان قصة أو رواية، يوميات أو رسالة، يشغل حيز الفضاء بين الواقع والحلم، ذلك الفضاء المشغول هو ما ينتج جزء من الحقيقة”.

كان كل شيء عند كافكا مادة للأدب، كل رسالة هي مشروع في كتابة قصة لاحقة، وكل اعتراف دارج مع الأصدقاء مادة مستقبلية لإنتاج أدب ما. حتى طفولته، في استدعائها الحزين، المبطن بالأسئلة والإجابات المفخخة بأسئلة أخرى، هي فرصة أيضًا للتفكير حول عمل جديد.. كيف إذن كيف يعمل الميكانيزم الكافكاوي على إنتاج الأدب، بعشوائية خلاقة، من خلال أي علاقة تنشأ، أو حادثة دارجة تقتحم فراغ جلسات كافكا، التي عادة، ما كان يعبِّر عن اغترابه عنها؟

تخلق احتمالات الإجابة مثلها من التشابكات، يجمعها شيء واحد. يشير بيجليا إلى ذلك في قراءته رسائل كافكا مع فيليس، إحدى حبيباته، حين يعرّف هذه العلاقة بأنها” مناورة صغيرة في استراتيجية طويلة ومعقدة من مناورات كافكا، نوع من حرب الأوضاع النمطية المعتاد في حياته وأدبه”. وفي البحث عن طبيعة هذه المناورات، ثمّة حلقات مركزية، يمكن الاقتراب من خلالها، إلى كافكا في غرفة الكتابة؛ غرفة رأسه، والغرفة الهادئة المنزوية التي تمثِّل فرصة كتابة أبدية، أحد تعريفات فراديسه القليلة. وتمثل إحدى هذه الحلقات أن الأدب عند كافكا يصوغ التجربة، يشكلها ويستبقها.. يكتب لفيليس في إحدى رسائله “ليس لديَّ اهتمام أدبي، أنا مصنوع من أدب، لست شيئا آخر ولا أستطيع ان أكون شيئا آخر“. ونحن نتساءل بشأن ميكانيزم خلق مواد الكتابة الذي يقوم على المناورة، والتحول من قطب إلى آخر، خلال رسالة أو فقرة واحدة في اليوميات: كيف كان يستبق كافكا التجارب بالأدب، وما حيثيات مناوراته؟

‎⁨كافكا وصديقه الكاتب ماكس برود⁩

ضربة على الطاولة..

في 13 أغسطس 1912، ذهب كافكا إلى منزل صديقه ماكس برود، ليقدم له، ولأصدقاء آخرين، إحدى مسودات كتابه الأول، وهناك التقي بيفيلس، قريبة بعيدة لبرود التي جاءت لزيارته. وقد ظهر انطباع كافكا المبدئي في رسالة لبرود “أمس، حين كنت أرتب النصوص الموجزة، وجدت نفسي تحت تأثير الآنسة، ومن المحتمل جدًا، أن أكون قد انزلقت في ارتكاب حماقة ما بسببها”.. صدَّق كافكا على “الحماقة” كرد فعل مبدئي تجاه فيليس، لأنه بعد ذلك، وفي رسالة 27 أكتوبر إليها، يذكر تفاصيل المكان يوم لقائهما الأول في منزل برود، ويورد كيف كانت تجلس، وكيف كان الأصدقاء جالسين، هل كانت الشرفة مغلقة أم مفتوحة، وأن ثمة لفتة مميزة في الغرفة المجاورة! –عند كافكا، هناك شيء مركزي وفارق يحدث في الغرفة المجاورة، يشكّل عالم بذاته، هل تتذكر ما حدث في غرفة المسخ/ التحول؟- أو إيماءة لافتة من أحدهم خلال نقاش ما، حتى إنه يذكر ليفيلس أنه لاحظ ارتداءها صندل السيدة برود، وتوقع، أن حذائها كان يحتاج إلى تجفيف!
لو توقفنا هنا، عند الاهتمام القائم على استدعاء التفاصيل، واستنطاق ما تنطوي عليه عشوائية المكان من سردية أدبية محتملة، سيكون منطقيًّا أن نستقر على كافكا كحبيب أحمق، وقع لشوشته ولم يجد من يسمِّ عليه. لكن ذلك الاهتمام المركزي بفيليس، صاحبه، في نفس سياقه، رؤية دونية لها. يكتب كافكا في يومياته، عن انطباعه الأول عن فيليس أنها بدت مثل خادمة، لم يشعر بأي فضول تجاهها “وجهها طويل ونحيف، يكشف فراغها، رقبتها عارية، بلوزتها غير مهندمة. كان يبدو أنها ترتدي ملابس البيت رغم أنها لم تكن كذلك”.
تضاد واضح، بين كافكا المهتم بفيليس، المتوقع الوقوع في حماقة أمامها، وبين كافكا الذي ينظر إلى امرأة بنمطية ساذجة، والمساحة بين الضدين يحددها حدث واحد سريع. وقعت فيليس داخل كافكا في إطارين، الأول ينتمي إلى وضعها في سياق مقارب للآخر في أدب كافكا. في كتابه عن كافكا، يشير كلاوس فاكنباخ إلى أن المرأة انحصرت في دور الخادمة، في كل حالاتها، على امتداد أدب كافكا، ولم تكن ولا في مرة، مادة يرتكز عليها لكتابة قصة أو رواية، بل انزوت في إطار الحبكة، التي لم يكن لها اعتبار كبير في أي من كتابات كافكا. على سبيل المثال في قصة “الوقّاد”، تظهر المرأة/ الخادمة، من حيّز بعيد، مبدئي، سريع التلاشي، حينما يرسل أبوا كارل ولدهما إلى أمريكا، لأن خادمة أغوته وانجبت منه ولدًا. توجد وظيفة سريعة، محددة ودينامية إذن للمرأة في أدب كافكا. 

تحضر صورة فيليس الأخرى، التي أثارت اهتمام كافكا، لأنها خرجت عن إطار الشخصية الثانوية/ الخادمة، محتملة الوجود في قصة من قصصه المستقبلية. أصبحت فيليس مشروع لخلق أدب ما، وقود، نزعة دافعة، تُحرِّك كافكا من مساحة التساؤل الممتد، إلى الإنتاج الطويل، المؤرق، عملية الكتابة التي يمكنها احتمال أطول وقت ممكن.
في ليلة تعارفه بفيليس، ضرب كافكا بيده على الطاولة، فجأة، و باندفاع، حينما سمعها تبدي حماس بأخذ مسودات من ماكس برود، لتنقلها على الآلة الكاتبة. الضربة على الطاولة، مثل وقوف، ينهي فيليس الخادمة، ويبدأ مشروعية جديدة، مناورة كافكاوية، تبحث، عن امرأة تشعل الرغبة في الكتابة، التحامل على هاجس الانقطاع عند كافكا. ليست فيليس القارئة فقط، بل فيليس الناسخة، الفاعلة في عملية إنتاج الأدب.
عقب تلاشي فيليس/ الخادمة، وحضورها الفاعل في شخص كافكا، أصبح الأخير محمومًا بالتواصل معها، لإنتاج حكاية ذات فاعل حقيقي هو كافكا، وفاعل وهمي هو فيليس، التي تقع تحت سلطة الكاتب. كتب كافكا إلى فيليس خلال سنة تعارفهما الأولى نحو ألف رسالة، بمتوسط ثلاثة رسائل يوميًّا. وفي الرسائل بذور لإنتاج حكاية، تنطلق من مراسلة بين شخصين، أحدهما يكتب، والآخر/القارئة، تمثِّل الجوهر، بينما الحكاية تتشكل من فعل القراءة الدائم.. وخلال السنة الأولى من التراسل المكثّف، وبعد ثلاثة أشهر تحديدًا، عمل كافكا على خلق مرجعية مرئية لهذه العلاقة، حتى يمكن لحكاية المراسلة أن تحتوي على مساحات أكثر امتدادًا من عناصر الكتابة؛ فأرسل قصيدة صينية –ذكرها ريكاردو بيجليا في كتاب القارئ الأخير وترجمها أحمد عبد اللطيف- بدت له ساحرة، ومشهديتها نموذجية بالنسبة له. الشكل الأمثل، الفردوسي، الذي يمكن أن تصبح عنده الحياة أبدية:

في الليلة العميقة،

في الليلة الباردة

وبعد أن انصهرت في قراءة كتابي،

نسيت ساعة النوم

عطر مرتبتي المطرزة بالذهب تبدد

والنار انطفأت

صديقتي الجميلة، التي احتوت غضبها بالكاد حينها

سحبت المصباح

وسألتني أتعرف كم الساعة؟
كانت هذه القصيدة، ومناورة كافكا من خلالها لمركزة حميمية التعاطي بينه وبين فيليس، أولى محاولاته الفعلية لوضع معطيات التحول من الأدب\المجاز، إلى الحقيقة. إلى امكانية أن يكون هو وفيليس معًا، وعند هذه النقطة تحديدًا، عادة يبدأ كافكا في مناورة هروبية مضادة. وتشير يوميات كافكا ورسائله مع فيليس إلى انتقاله الحاد من حيّز إلى آخر مضاد تمامًا، فعندما يشعر بالحب، فإنه في الوقت نفسه يحتقر ذاته، وكذلك الشخص الآخر، ويبدأ في إنتاج جوانب “جحيمية” في وجوده مع الآخر، ومن ثم يبدأ في التعبير عن ذلك بوضوح، وخوف، وحماس مبطن بالذعر، وبنفس الكثافة والاندفاع الذي تحرك به ليبدأ هذه العلاقة. وأولى استراتيجيات كافكا الهروبية، تبدأ من خلال المجاز؛ نفس المصدر الذي بناه كافكا لإحالة علاقته بفيليس من أدب إلى حقيقة، في 14 يناير 1913، كتب إلى فيليس رسالة يخبرها أن شكل الكتابة المثالي بالنسبة له، أن يُحبس في كهف، ومعه مصباح، ولا يحتاج لشيء إلا للكتابة.. لم تعد هناك صديقة جميلة تحتوي غضبها وتسأل عن الساعة.

‎⁨كافكا وخطيبته فيليس⁩

انقطاع…

لاحقًا يخبر كافكا صديقته فيليس، في رسالة تالية بتاريخ 23 يناير 1913، أنه يعيد رؤيته حول القصيدة التي أرسلها منذ فترة، ويشير إلى أنها “ليست قصيدة سيئة” بعدما كانت نموذج للحياة والكتابة. احتمالات “السوء” بالنسبة لكافكا حول القصيدة تتمثل في فكرة “جحيمية” مثلما يسائل نفسه وفيليس “ماذا لو لم تكن القصيدة ليلة واحدة؟ ماذا لو أصبحت كل ليلة؟”.. الأبدية ذاتها، التي مثّلت سابقًا فردوس ما عند كافكا، أصبحت أحد تعريفات الجحيم.. كان كافكا يحب الديمومة، المسار الممتد، لكنه كان ينتمي أكثر إلى الانقطاع، ثيمته الكبرى. الانحراف، والتوقف المفاجئ، التأجيل، والتشويش الذي يمنع إتمام المصير. ليس ثمّة شيء في حياة كافكا يخرج عن أدبه، بل الأدب ما يستبق الحياة عنده ويصيغ التجارب، يشكلها، ومن ثم يشكله.. لقد وضع كافكا المصير البديل لعلاقته بفيليس، وهو الانقطاع، منذ أول شيء كتبه عنها، قبل حتى أن يكتب لها. في 20 أغسطس 1912 كتب في يومياته “عندما كنت جالسًا، نظرتُ إليها للمرة الأولى بتركيز كبير، عندما كنت جالسًا، كوّنت حكمًا لا يتزعزع. كأن..” يتوقف عند كأن، ويترك مخيلته، وكذلك مخيلاتنا بصورة غير مباشرة، لإتمام البداية التي وضعها وتُركت في فضاءات الاحتمال.
يتجلى ذعر كافكا وخوفه من الانقطاع، والحفاوة بجلسات الكتابة الطويلة، حينما أتم قصة “الحكم”، فقد اعتاد أن يقرأ مسوداته الأولى على أصدقائه بصوت عال، منفعل، وحاد، ربما لأن علاقته باللغة كانت مرتبكة، ومن ثم يتيح له فعل القراءة، أن يشغل حيّز الفراغ بين تعقيد الجملة المكونة، وبين حضورها الذهني. غير أن كافكا كان يجعل من كل نشاط حول الكتابة، وحول حياته بنفس الدرجة، عملية كتابة أخرى.
وتمثل أشكال الكتابة المختلفة لكافكا، عملية انقطاع عن شيء لأجل آخر، لأن العمل المؤجل في وقت معين، لا يمكن أن ينتهي إلا في ذلك الوقت، ومن ثَم فاستمرار تأجيل شيء عن وقته يدفعه بعيدًا عن ذاته، إلا أن كافكا كان، من خلال تعددية أشكال الكتابة، التي تقاطع بعضها، لديه القدرة على استعادة ذاته مرة أخرى من خلال التداخل. كتب قصة الحكم خلال ذروة مراسلاته مع فيليس، كُتبت في اليوميات، مرة واحدة، وخلال ليلة طويلة، وعندما انتهى منها، أتم يومياته “أصبحت ساقاي متصلبتين من الجلوس لدرجة أنني بالكاد استطعت إخراجهما من أسفل المكتب. التوتر والبهجة الرهيبة. كلما تطورت القصة أمامي، فتحت طريقًا في الماء”. وفي اليوم التالي، يجتمع كافكا بأصدقائه، يقرأ عليهم القصة بصوت عالٍ، وبانفعال شديد عند النهاية، يداه تتحركان عشوائيًا أمام وجهه، وفيه عينيه دموع.

مزاحمة…

ظلت العلاقة بين كافكا وفيليس متأرجحة، تعتمد على مدى فاعلية أدوات كافكا الهروبية، لكنها انتهت فعليًّا –رغم انقطاعها وعودتهما عدة مرات بعد ذلك- حينما خرجت ميلينا عن حيز الفاعلة الناسخة المشاركة في تشكيل ميكانيزم كافكا في الكتابة. وفي مطلع نوفمبر 1912، خلال ذروة المراسلة بينهما يقحم كافكا صديقته في كتابته فجأة، ويخبرها أنه لا بد أن يكمل رواية “أمريكا” وأن ذلك لن يتم إلا برغبتها في أن ينهيها، وأنها ستساعده على ذلك، ولن تتركه في وحدته المفزعة.
بالنسبة لكافكا، تركته فيليس في وحدته المفزعة، وأصبح عرضة للرفض والخديعة، حين بدأت في الخروج عن مركزها المحدد مسبقًا. خرجت فيليس عن حيزها الأدبي في حياة كافكا، في مطلع 1915، حينما ذهب إليها بعدة مخطوطات لتنسخها، لكنها رفضت، ولاحقًا حين قرأ بعض قصصه عليها، لم تبد اهتمامًا، ولم يصدر عنها أي رد فعل، أو رأي أدبي، وعندها أصبحت العلاقة منتهية.. ثم عادا مرة أخرى في 1917، وتمت خطبتهما، ثم تراجع كافكا سريعًا، وبشكل مباشر أخبرهالا يمكنك العيش معي يومين، أنت فتاة ترغبين رجلاً لا دودة أرض رخوة”.

لم تعد أدوات كافكا الهروبية ذات تأثير، وكذلك لم يعد في علاقته بفيليس شيء مثير للاهتمام، لأنه كان يبحث عن شيء ينتمي إلى التسامي الروحي، المجاز، والتداخل مع الأدب، أي كان يبحث عن علاقة مستحيلة، يمكنه أن يلعب خلالها، ويجرّب، دون خوف من تبعات هذه الأشياء. لذلك انتهى كافكا من فيليس برأي واضح، معتمدًا على هواجسه الأبدية، التوقف والتشويش والانقطاع “إن روح المخدع الزوجي في البيت والشراشف التي اتسخت وقمصان النوم المبسوطة بعناية تثير قرفا فيَّ يصل الى حد الغثيان”.. وعلى ذكر التسامي الروحي والعلاقات المستحيلة والمناورات، توجد مناورة أخرى..

‎⁨كافكا طفلا في براغ⁩

 التحول إلى مقروء ..

في سياق مماثل لحيثيات تعرفه على فيليس. تعرف كافكا في مطلع 1920 على ميلينا في بيت ماكس برود، كان وقتها يعرض على صديقه قصة الجديدة “الوقاد- the stoker” وجد ميلينا متحمسة لترجمة قصته إلى اللغة التشيكية؛ وبعد عدة مراسلات حول ترجمة القصة، زاد كافكا من رسائله إلى فيليس، والتي بلغت 126 رسالة خلال فترة تواصلهما بين أبريل وديسمبر في 1920. حيثيات واحتمالات العلاقة بين كافكا وميلينا بدت في البداية نموذجية؛ ميلينا امرأة في زواج فاشل، لذلك يمكن أن ترتبط بآخر، من خلال مفردات مفاهيمية، تعتمد على مثالية التسامي الروحي، بعيدًا عن حميمية الجسد التي يعاني كافكا منها، ربما لذلك لم تكن لكافكا أي أدوات هروبية في هذه العلاقة، لأنه أدرك، مبكرًا، أنها علاقة مؤقتة من خلال حيثياتها الذاتية دون الحاجة لأي تدخل، لذلك اندفع، بكل طاقته، ليصبح جزءًا من مناورة الكتابة ذاتها، ويتحول إلى مادة مقروءة.
كان كافكا يكبر ميلينا باثني عشر عامًا، تعرف عليها وهي في الثالثة والعشرين، امرأة مربوط بشبابها طفولة مربكة، أودعها والدها في مصحة نفسية خلال مراهقتها، وتبرأ منها عندما تزوجت من ناقد أدبي. كان كافكا، بسبب مرضه، في هذه المرحلة، يعاني من تداعي الوحدة والبؤس، والانفصال الذاتي، بينما ميلينا كانت مفعمة بالحيوية، امرأة تنافسية، ترى أن الأدب مادة للحركة والاشتباك. عودة إلى فيليس، لم يُذكر عنها في علاقتها مع كافكا، سوى بعد الوقوع في شرك سلطته الكتابية، ومحاولة خلق تشابكات للعمل، ولتحويل علاقاته العاطفية إلى احتمالات كتابة ترضيه، بينما ميلينا، كانت على النقيض من فيليس، وخلال مراسلته لها، انغمس في ذاته، في العذابات الذاتية والجسدية التي يعاني منها “أنا معاق عقليًا، ومرض الرئة ليس سوى فيضانًا من المرض العقلي”.  وخلال علاقته القصيرة بميلينا، زارها كافكا لمرتين، الأولى في فيينا، بعدما رفض دعوتها أكثر من مرة، والثانية في مدينة واقعة بين التشيك والنمسا. كان كافكا متخوفًا من الحراك السريع لهذه العلاقة، والذي رأى أنه ينتمي إلى “الأشياء الموجود/ الظاهرة”، باعتبار أنه ينتمي إلى “الغياب/التلاشي”، واعتبر كافكا، أن التقنيات المعاصرة تنتمي إلى قسمين، الأول ينتهي إلى الغياب، ويمثله التلغراف واللاسلكي، بينما المنتمي إلى الوجود والظهور يمثله الطائرات والقطارات والسيارات.. كان كافكا ابن التلاشي، الانقطاع، لكن في علاقته مع ميلينا انزلقت قدماه، وغرق في التخوفات، لأنه بدأ في التحرك تجاه تقنية الظهور.
ومنذ تحركه إلى فيينا بالقطار، شعر بخوف شديد من انفصال جسده عنه، كأن أفكار الحديث والمراسلات المستقبلية، وكافكا نفسه، أصبح يسبقه، بينما هو، بشكل ما، ربما جالس في مكانه متردد من الذهاب إلى ميلينا. الخوف الآخر، الأكبر، والذي كاد أن “يأكل” كافكا كانت الإحالات النفسية بين الجنس والقطارات. خلال هذه المرحلة، كانت تحليلات فرويد (ثلاثة مقالات في النظرية الجنسية) توازي ما بين الحركة الجنسية وبين السكك الحديدية. الحركة المستمرة، وصوت القطار المفعم بالصراخ، حُمّية الاتجاه إلى الأمام، وسرعة اقتحام الأفق. والجنس، الذي كان عند كافكا ليس أقل من “عذابات” أصبح هاجس الزيارة المخيف، لأنه في حالة حدوث ذلك، يصبح كافكا مغمورًا، بالكامل، في عذاباته الشخصية، ومنفصلاً تمامًا عن نفسه. لم يتطور التواصل الجسدي مع ميلينا عن لمسة يد، والتي وصفها كافكا في النهاية بأنها “مفاوضات غير مريحة”، وحتى يغلق كافكا هذه الاحتمالات المؤرقة، أخبر ميلينا بعد ذلك “لا أجرؤ على أن أقدم لك يدي، يدي القذرة، الوخز، المخلب، الممل، غير المستقرة، الساخنة الباردة”. وبعد عدة أشهر قطع كافكا علاقته بميلينا، لأنها فجأة، بدت له “بلا جدوى” مع أن لا جدواها كانت واضحة منذ بدئها. الأرجح، أنها انتهت، لأن كافكا انكشف فيها أمام ذاته، وواجه عذاباته الجنسية بوضوح، دون أي حيز بديل للهروب، ومن ناحية أخرى، انغمس في خطاباته مع ميلينا، ممحورًا ذاته –وهو غير واعٍ- كمادة لإنتاج حكاية الكتابة هذه. ومع علاقات كافكا العديدة، ومراسلته التي لم تنتهِ، كانت رسائله مع ميلينا، هي الوحيدة التي فهم من خلالها، أن المراسلة الكثيفة بين عاشقين قادرة على التطور، والاستقلال عن طرفيها، حتى أنها يمكن أن تعارض كاتبها..

لماذا إذن كان كافكا خائفًا من الوقوع في”عذابات” الجنس مع ميلينا؟ لم يكن الجنس في حياة كافكا فعلاً قابلاً للترويض، نشأ كافكا على فهم العذابات الناتجة عن الجنس، قبل أن يتعاطى جسديًّا، أو يتأمل، حالة الجنس ذاتها. اعتاد زيارة بيوت المومسات، وكانت له علاقات جنسية سريعة، لكن في حالة ميلينا كان الجنس مادة للعبور إلى الناحية الأخرى، إلى مساءلة ذاته، بدلاً من مسائلة الطرف الآخر في المراسلة/ الكتابة.
وبعد سؤال كافكا لماكس برود “هل يمكن أن يربط المرء فتاة بالكتابة؟” خلال علاقته مع ميلينا، توجد رسالة أخرى إلى برود، يشبّه فيها علاقته بالجنس مثل واحد غير قادر على العوم، وفي قلب الماء، يهرع خائفًا، لا يفكر في أي شيء سوى العودة إلى الشاطئ، التحرك ناحية مسار واحد للنجاة، الهروب. ويظل السؤال الكافكاوي، حول ربط الفتاة/ المرأة بالكتابة، أحد عوامل تشكيل الأدب منذ مطلع القرن العشرين.

في كتابه “الحرب والسلام” قامت صوفيا تولستوي بنسخ الرواية، خلال تطور المسودات، نحو سبع مرات، وحدث بينها وبين تولستوي شجار كبير، لأنها رأت أن هذه الرواية تنتمي لها مثلما تنتمي له. دوستويفسكي، المثقل بالديون، كان يكتب روايتي “المقامر” و”الجريمة والعقاب” في نفس الوقت، واستأجر آنا جريجوري ليملي عليها الروايتين، ثم تزوجها بعد ذلك. وكانت فيرا، زوجة فلاديمير نابوكوف، تسير إلى جواره وتحرسه بمسدس في حقيبتها، وتكتب خطاباته نيابة عنه، وتنسخ وراءه، أولاً بأول، الملاحظات والأفكار العشوائية التي كان يكتبها لأجل رواية جديدة. كل هذه النماذج تشتبك مع سؤال كافكا. ويظل هناك اختلاف جوهري بين كل السيدات الناسخات/الفاعلات في أدب أزواجهن وعشاقهن، وبين الموجودات في علاقات كافكا، الذي كان يبحث، من خلال الأدب، عن قدرة إنتاجه بصورة مرضية، لذلك بدا كل شيء عرضة لتجربة الكتابة، الأدوات بداخلها، عشيقاته المحتملات، هواجسه الشخصية، خوفه الكبير من نفسه ومن العالم.