كيف تغير شكل البيوت بعد أن تحرك الضباط من الثكنات؟

الثورة والعمارة الداخلية

هبة الصغير

في التاريخ دائمًا توجد نقطة يقرر فيها الإنسان تغيير ما حوله، يخرج من حالة التأمل الصامت إلى الفعل الظاهر. وقد تأمل الإنسان الأوروبي حال العمارة الداخلية والخارجية حوله ثم قرر الثورة عليها ومحاولة تغيير أشكالها مع منتصف القرن التاسع عشر. فقبل منتصف ذلك القرن كانت العمارة تميل إلى الزخرفة، وكلما زادت دقة وتعقد الزخرفة كلما اعتبر المبنى أو شكل أثاثه جميلاً وأنيقًا. لكن بعض الفنانين لم يعجبهم أن يتلخص الجمال في كثرة الزخارف والحلي والأشكال الضخمة والمباني العملاقة، لذا حاول من عرفوا بعد ذلك بـ “رواد الفن الحديث” تغيير مقاييس الجمال كي تصبح في الشكل الهندسي البسيط وقلة الزخارف ودمج التكنولوجيا بالفن واستخدام الألوان الأساسية.
في نفس الوقت الذي ظهرت فيه حركات الفن الحديث كان المجتمع الأوروبي قد بدأ يتأهب للتسامح مع ما هو جديد وغريب وغير مألوف؛ بحثًا عن الإثارة وخروجًا من كنف الملل. والأمر الثاني الذي أسهم في هذا القبول هو أن ذلك المجتمع بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى استفاق على كارثة انهيار وتدمير العديد من المباني والبيوت الجميلة التي كان الأوروبيون يحتفون بها، ومن هنا بدأت الحاجة إلى عمارة جديدة عمارة حديثة بأفكار بسيطة يمكن أن تبنى سريعًا بأعداد كبيرة. 

في ألمانيا على وجه التحديد كانت هناك حاجة إلى تلك المباني البسيطة سهلة التنفيذ والعملية من الداخل. سوف أركز في هذا الموضوع على العمارة الداخلية (الداخل الأنيق والعملي)، وسوف أجعل من نقطة ظهور مدرسة “الباوهاوس” الألمانية عام 1919، التي كان منبعها حركة فنية ظهرت بهولندا اسمها “الدي ستايل” de Stijl، أساسًا لشرح ماهية الذوق الحديث وارتباطه بالثورات.. الثورة على الملوك والطبقة الأرستقراطية. 

لقطة من فيلم (رد قلبي) توضح شكل بيت الراقصة كريمة


لقطة من فيلم (رد قلبي) توضح شكل بيت الأميرة إنجي

العمارة الحديثة والفكر الاشتراكي

وإذا لخصنا حركة الدي ستايل في لوحة فسوف تكون إحدى لوحات بيت موندريان؛ وهي عبارة عن مستطيلات ومربعات بالألوان الأساسية (الأحمر، الأزرق، الأصفر). ذلك المبدأ، وهو استخدام الشكل الهندسي البسيط والألوان الأساسية، جعلته مدرسة الباوهاوس أحد منطلقاتها. لكن ما يميز مدرسة الباوهاوس عن حركة الدي ستايل هو جمعها لشتى الفنون من الحرف اليدوية إلى المسرح كمواد تُدرس بمنهج وضعه أساتذة المدرسة. بالتأكيد لم يكن تقبل المجتمع الألماني لشكل البيت الجديد والأثاث الجديد الخالي من الزخارف تقبلاً سلسًا وسريعًا؛ فقد تلقى تلاميذ وأساتذة المدرسة نقدًا لاذعًا من الجمهور الألماني عام 1923 في أول معرض افتتحته المدرسة لعرض أعمال طلابها وأساتذتها. ومع طرد اليهود من ألمانيا وإغلاق المدرسة عام 1933 (إذ ضمت العديد من التلاميذ والأساتذة اليهود مثل موهلي ناجي وغيره) بدأ رواد المدرسة في الهجرة إلى بلدان أخرى حيث بدأت أفكارهم في الانتشار. ولكن ما دخل مصر بكل هذا؟
لم تكن مصر بمعزل عن حركات الفن العالمية، ليس فقط بمعرفتها بالحركات الفنية المختلفة، بل بممارسات الفنانين المصريين وانتمائهم لمدراس وحركات فنية عدة، ومن ذلك صلة بعض الفنانين المصريين ممن أسسوا الحركة السوريالية المصرية بالحركة السوريالية العالمية بقيادة الشاعر أندريه بروتون والمعارض التي أقاموها وسمحوا للخيال المصري بالتشابك مع فكرة عالمية تتبنى الخروج من حيز الثنائيات الضدية وتعطى حيزًا للعقل لسبر أغوار الخيال.
ومع حلول نهاية الثلاثينيات كانت بالفعل قد بدأت حركة نقد الطرز القديمة وتأييد العمارة الحديثة في مصر على يد المعماري سيد كريم. فقد درَّس سيد كرم العمارة لطلاب الهندسة المعمارية بجامعة القاهرة، كما أسس مجلة “العمارة” التي بدأ ينتقد من خلالها الطرز القديمة ويعرض أفكار العمارة الحديثة. وتستوقفني جملة كتبها سيد كريم في افتتاحية العدد الأول من المجلة عام 1939 حول “ما العمارة” إذ يكتب “لقد انتهت العمارة عن كونها رداءً خارجيًا مستعارًا لإظهار درجة ومكانة ساكنيها بصرف النظر عما يجب عليها توفيره من سبل الراحة كمسكن، كما هو الحال في ملابس العصور الوسطى للتمييز بين طبقات الأشراف والطبقات المتوسطة وعامة الشعب”.
ويمكن هنا بالطبع رؤية فكرة اشتراكية غير مباشرة، ونقد لقصور الملوك وبذخها “غير المفيد”.. بذخًا يجب أن يتحمله صاحبه حتى ولو كان غير عملي وغير مريح كي يعبر عن مكانته وعن ثرائه. تلك الاشتراكية هي ما تحدث عنها المعماري عبد الحليم إبراهيم الذي صمم مبنى الجامعة الأمريكية بالقاهرة الجديدة في حوار نادر له مع المفكر عبد الوهاب المسيري “المحدثون الأول كان لديهم وعود جيدة، لا أحد ينكر أهمية وجدوى الفكر الاشتراكي كطرح لأمل إنساني.. على سبيل المثال ما ندعو إليه اليوم نحن في إطار ما نؤمن به وهو ربط العمل الفكري أو العمل الذهني بالعمل اليدوي في إطار الثقافة المحلية كانوا بيقولوه.. بس كانوا بيقولوه ازاي؟ كانت الباوهاوس لما تيجي تخش أنت كطالب الباوهاوس يُطلب منك ان تصنع الأداة بنفسك كأول تمرين، وأن تتتلمذ على يد حرفي ومعظم أساتذة الباوهاوس حرفيين واحترام المهندس للحرفي كان شيء مقدس” ويضيف “أيضًا الباوهاوس تحدثت عن اشتراكية المسكن، وأن تحرر الأرض من المباني الكثيرة وتطلع بشكل رأسي في شكل عمائر سكنية…”.
لكن عبد الحليم إبراهيم يعود ويؤكد أن الخلل في هذه الرؤية الاشتراكية الحالمة حدث عندما عزل أساتذة العمارة الحديثة تلك العلاقة بين الحرفي والمهندس عن مجتمعها، مما أسهم مع الوقت في إجهاض العمارة المحلية وحبس الإنسان داخل المقاييس الثابتة دون مراعاة بيئته المحلية وظروفها الخاصة. وبغض النظر عن الجدال الذي بدأ في الظهور بحلول الثمانينيات حول مساوئ العمارة الحديثة وأشكالها ومفاهيمها فإن العمارة الحديثة في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وحتى السبعينيات قد شكلت ثورة على الطرز القديمة، وبخاصة الطرز الكلاسيكية المرتبطة بعصر النهضة بأوروبا والجلية في قصور الملوك المطعمة بالزخارف من الخارج والداخل.
أما الرؤية الاشتراكية للعمارة الحديثة التي ترجمت في بناء مسكن لا يتخذ من الزخرفة والحلي والأشكال الضخمة أساسًا له أو أساسًا للشكل الجميل، فقد ترجمت في العديد من أشكال البيوت التي ظهرت بالأفلام المصرية بعد ثورة يوليو 1952. 

لقطة من فليم (علموني الحب) توضح شكل بيت عزيز بيه وشكل السلم ووحدات الإضاءة على الطراز الحديث


لقطة من فيلم (علموني الحب) توضح شكل المستويات بالبيت

 الثورة وتصورات البيت الجميل

قبل الثورة واستتبابها بوضع مبادئ الاشتراكية كانت الأفلام تصور البيت الجميل على أنه البيت شاسع المساحة المطعم بالحلي والزخارف والأعمدة، ثم بعد الثورة أصبحنا نرى البيت الحديث الذي يستغل المساحة استغلالاً جيدًا -حتى ولو كانت مساحته ضيقة- عبر استخدام أثاث مدمج built in وأثاث متعدد الأغراض. كما أصبحنا نرى دمجًا للتكنولوجيا بالفن واستخدامًا لأفكار العمارة الداخلية الحديثة مثل انفتاح الداخل على الخارج من خلال نوافذ زجاجية بعرض الحائط وتطبيق مبدأ التجريد والبساطة.
ولا أنكر أن كان للسوق العالمية وانتشار الأثاث الحديث بها تأثير على رؤية مصممي المناظر السينمائية المصريين وكذا انتشار المجلات التي تتضمن كل ما هو حديث في عالم العمارة الداخلية والخارجية، إلا أن التوقيت والشكل الذي ظهرت به تلك العمارة الحديثة والتصاميم الداخلية الحديثة للبيوت في الأفلام يجعلني افترض تأثير الثورة على الشكل الذي ظهرت به البيوت ببعض الأفلام المصرية. وأؤيد تلك الملاحظة من خلال إعطاء مثال لشكل تكوين ثلاثة بيوت بفيلم “رد قلبي ” 1957 لثلاث طبقات اجتماعية مختلفة.
يحكي فيلم “رد قلبي” كما يعرف الكثيرون عن الضابط المصري ابن الجنايني البسيط الذي أحب ابنة الباشا في أثناء وجوده بالقصر حيث يعمل أبوه. وحين ييأس الضابط من الفوز بحبيبته، نتيجة للفرق الاجتماعي والطبقي الهائل بينهما، يرتمى في أحضان الراقصة كريمة (تلعب دورها هند رستم) التي تحبه بشدة وتتفانى في التفريق بينه وبين ابنة الباشا. في هذا الفيلم يصور مهندس المناظر أنطوان بوليزيوس ثلاثة بيوت، الأول هو بيت الباشا، والثاني هو بيت الجنايني، والثالث هو بيت الراقصة.
البيت الأول هو بيت مدجج بالطراز الكلاسيكي الأوروبي ضخم للغاية ومليء بالزخارف، البيت الثاني بيت بسيط لكنه يحتوي على رموز واضحة من الطراز الإسلامي بوجود بعض من الأشكال الهندسية الإسلامية ووجود أيقونات مثل (الله أكبر) على الحائط، وسجادة صلاة في إشارة للعودة إلى الأصول العربية الإسلامية. أما بيت الراقصة فهو بيت على الطراز الحديث وفيه إشارة إلى مواكبة العصر، فالراقصة لا تعيش حياة ثرية كالتي يعيشها الباشا فهي لا تنتمي لحياة القصور، وفى نفس الوقت لا تنتمي للعصر الفائت عصر الحضارة الإسلامية، هي فقط تواكب عصرها وتحلم بالترقي في السلم الاجتماعي الذي سوف يصبح ممكنًا بفعل الثورة. كذا بسبب الصدع الذي حدث بعد الثورة بين طبقة الملاك والباشوات والطبقة العاملة أصبح هناك نوع من الاختلاف الملموس في محاولة تصوير شخص من طبقة الملاك، لا ينتمي بالضرورة لأفكار الطبقة البرجوازية والأرستقراطية من ازدراء للطبقات الدنيا أو محاولة الانفصال عنهم مع ضرورة استغلالهم.
ويمكن التدليل على ذلك من خلال فيلم “علموني الحب” 1957. ففي بيت عبد العزيز بيه بالفيلم (يلعب دوره سراج منير) صاحب مصنع العطور الثري نلمس انفصالاً عن الشكل التقليدي لبيوت طبقة البهوات والباشوات. فلا نرى في ذاك البيت أعمدة ضخمة أو فازات عملاقة أو أثاثًا مطعمًا بالزخارف أو سلالم بسور حلزوني مطعم بالحلي أو نجفًا مليئًا بالكريستال. جاء بيت عبد العزيز بيه تمثلاً للذوق الحديث، حيث استخدام سور يحتوي على شكل هندسي وهو المثلث للسلم الداخلي للبيت والدائرة لبعض أشكال الكراسي. كما استخدم مصمم المناظر ماهر عبد النور لذاك البيت فكرة المستويات بدلاً من الأعمدة الضخمة للفصل بين أجزاء البيت.
وتأكيدًا لشكل الطبقة البرجوازية المؤيدة للاشتراكية في بيتها وتصرفاتها نرى زوجة عبد العزيز بيه في أحد المشاهد (تلعب دورها ميمي شكيب) تخرج من المطبخ (وهو بالمناسبة مطبخ ذو ذوق حديث مفتوح على الصالة وبه وحدة إضاءة من إنتاج مدرسة الباوهاوس) حاملة الأطباق بنفسها إلى المنضدة دون مساعدة خادمتها. ثم حين تصل ابنتها من المدرسة (تلعب دورها إيمان) وترى أمها تحضر السفرة بنفسها، فتهب لمساعدتها إلا أنها تطلب منها أن تغير ملابس المدرسة كي تلحق بالأكل ساخنًا. شكل تعاوني لأسرة مصرية عادية لا تنتظر الخادمة أن تصنع كل شيء حتى إن امتلكت واحدة. 

هذا التأثر بروح الثورة على كل ما هو قديم لم يكن في مصر فقط، بل حول العالم، ففي فترة الخمسينيات والستينيات قد أُفسح المجال بشكل عام لكل ما هو جديد، وقد كانت العمارة الحديثة متمثلة في شكل البيوت الداخلي والخارجي مثالاً مهمًا على شكل التحول التدريجي لأفكار المجتمعات حول أدوات قياس الشكل الجميل. الثورة على ما هو قديم بشكل عام، وثورة يوليو بشكل خاص أفسحت المجال لمصممي المناظر المصريين للابتكار ومحاولة خلق تصورات لبيوت مصرية بشكل معماري مختلف وأثاث حديث. كما دمج بعض المصممين المصريين التكنولوجيا بالفن كما رأينا بفيلم “صغيرة على الحب” في شكل السرير الذي يخرج من الحائط بالضغط على زر كهربي، والكنبة التي تنقلب بحركة يدوية وتعود إلى تجويف داخل الحائط كذلك.
ومع أن شكل البيت المصري بالأفلام لم يأت كله على الشكل الحديث فإن استشراف بعض الأفلام لتحول ذوق طبقات اجتماعية معينة لشكل البيت الحديث قد كان مؤشرًا مهمًا على تغير شكل وأفكار المجتمع نحو تعريف الجمال.