إبراهيم فتحي: كوميديا الحكم الشمولي

مدينة

أقواس مدينة هذا السبت مختارة من كتاب ممتع وماكر لإبراهيم فتحي؛ كوميديا الحكم الشمولي، الذي صدرت طبعته الأولى، والوحيدة، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 1991.. وهو واحد من عدة كتب جعلت من إبراهيم فتحي (1930-2019) المتخرج في كلية الطب، ناقدًا وكاتبًا ومترجمًا مؤثرًا، لم يُقرأ جيدًّا حتى الآن.. ترك إبراهيم فتحي الطب لأجل الأدب، وإلى الأدب عاد كاتبًا ومترجمًا بعد أن خرج من المعتقل- اعتقل أكثر من مرة على خلفية انتمائه لحزب العمال الشيوعي- للمرة الأخيرة في أواخر الستينيات، ليشارك في تأسيس مجلة “جاليري 68” التي كانت صفحة مختلفة في الصحافة الثقافية المصرية.. وشارك في تأسيس جمعية “كتَّاب الغد.

إبراهيم فتحي

إبراهيم فتحي

خلَّف فتحي عناوين تنوعت بين السياسة والأدب، منها “الماركسية وأزمة المنهج”، دار الحضارة الجديدة 1992، و”الخطاب الروائي والخطاب النقدي في مصر”، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2004، و”نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية”، الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة في 2013؛ وهو نسخة منقحة ومزيدة لكتابه الأشهر “العالم الروائي عند نجيب محفوظ”، الصادر في 1978..

في كوميديا الحكم الشمولي يلقي إبراهيم فتحي ضوءًا على مسألة مهمة؛ وهي كيف سخر المصريون قديمًا وحديثًا من حكامهم الطغاة، الذين لم يعرفوا غيرهم تقريبًا؟
ما الطريقة المثلى لمواجهة الاستبداد؟ للمقاومة، للمسخرة؟ سوسيولجيا واجه المصريون المستبدين، وحاكموهم بالسخرية منهم.. بتحويلهم إلى مسوخ.. بتحويلهم إلى عرائس.. يضحكون منها.. يقتلونها بالتنكيت.. عوالم موازية كاملة بنيت من الهزل.. فنزعت عن الديكتاتور أسلحته المرعبة.. فيصير كاريكاتير مشوهًا.. فيصير أبو عمة مايلة.. وذا الأنف الكبير.. ويتحول وعاءً للأغنيات والنكات واللهو.. والهزء بالطاغية يمتص قوته.. ويختصر جزءًا كبيرًا من إرهابه.. اعتاد الشعب أن يفعل أي شيء ليتجاوز صورة القوة المهددة للحرية.. والحرية مهددة على الدوام.. والقمع قائم على الدوام.. الهزل إذن لازم على الدوام.. فالسخرية، مثلما رأى ألبير قصيري، تسقط الحكومات المستبدة..

القوس الأول: ينابيع الفكاهة الشعبية في مواجهة الاستبداد

للفكاهة الشعبية طابع خاص، طابع غير رسمي، يعلن العصيان على ما هو تامالصنع، مصقول، مغطى الطلاء، وتلك الفكاهة تستمد جذورها من التقليد الفولكلوريفي تطوره. الأشكال الفكاهية الشعبية تنتصب في مناهضة النبراتالجديةالمنتفخة،العابسة المتجهمة، لعالم الحكام الطغاة الأجانب في معظم الأحيان، وعالم عساكرهموجلاديهم، وعلمائهم الذين يحرفون الكلم عن موضعه، فالفكاهة الشعبية نمت خارجإطار الاستبداد الرسمي وتحاول أن تبني عالمًا ثانيًا وحياة ثانية في مواجهة عالمالتخويف والإرعاب.

وهذا العالم الذي يشترك فيهالجميعويتحررون داخله خلال فترة قصيرة، يمارسونفيها حياة مبتهجة طليقة يتحقق في الأعياد والاحتفالات والموالد العامة وطقوسهاالمرحة، وشخصياتها البعيدة عن الوقار من مهرجين وحواة ولاعبي الحظ.

ولا تقف هذه الفكاهة عند الكلمة والنكتة وبعض التأليفات اللفظية، بل تتعدى ذلك إلىالعروض والمشاهد وضروب الأداء الكوميدي المختلفة في الأسواق والتجمعات الشعبية.

وفي كل ذلك يرى الجميع طابع التمثيل واللهو واللعب واضحًا، وهذه العروض الاحتفاليةتقدم صورًا فنية أو ما يمكن أن يكون صورًا فنية، ولكنها بوجه عام تنتمي إلى الحدالفاصل الواصل بين الفن والحياة، إنهاكما يقول باختينالحياة نفسها بعد أنأعيد تشكيلها في بعض صيغ اللعب والتمثيل.

وهذه العروض الشعبيةوهي معروفة لجميع الأمم وتسمى عند بعضها الكرنفاللاتعرف أي تمييز بين الممثلين والمتفرجين، فهي ليست عروضًا يراها الناس، بل عروضًايحيونها ويمارسون تجربتها ويشتركون فيها جميعًا

وفي وقت هذه الاحتفالات الصاخبة، التي تكتسي بثياب العيد الملونة الجديدة، تخضعالحياة لقوانين الحياة، لا لقوانين الروتين الحديدي اليومي، ولا للأوامر والنواهي الخانقةالرسمية.

وقوانين الحياة هي قوانين حريتها قوانين تجددها وبعثها ومشاركة الجميع، ويشعرالمشاركون بهذا الجوهر على نحو مكثف شديد الحدة.

ولم تكن القوى الحاكمة في تظاهرها بالتقوى ترضى عن الانطلاق الجموح في هذهالأعياد، وتعتبر ما يجري في أثناءها فسوقًا ورجسًا من عمل الشيطان.

ولو راجعنا ما ذكره ابن إياس في بدائع الزهور عن عيد النوروز (أو النيروز)، أو عنعيد (الشهيد) لوجدناه يؤكد أن العيد الأول هو أول السنة القبطية، أي السنة الزراعيةويشترك فيه المسلمون والأقباط معًا، وهو يصف موكبًا يزعم أن أفراده من (أسافلالناس والعيّاق) وهم يقومون بقلب أوضاع العالم ويختارون واحدًا من هؤلاء السفلةأميرًا للنوروزوتستمر عملية قلب الأوضاع، فالأكابر والأعيان في أثناء هذه اللعبةيفقدون مراكزهم العالية ويخضعون لأمير الموكب فيفرض عليهم الإتاوات، ويبدأ القصفالصارخ والمرح فالعامة يتخذون أدوات معابثتهم من البيض وهو رمز لأجنة الحياةالكامنة التي سرعان ما تخرج من قشرتها متدفقة بالحركة والوفرة، ولكن ابن إياس يركزعلى أنهم، يتراجعون بالبيض النيئ في وجوههم“.

كما أن العامة في احتفال بداية سنة زراعية لابد أن يكونالماءورشه عندهم عنصرًافي لعبة إحياء الأرض، ولكن ابن إياس يصر على أنهم يتراشونبالماء المتنجس،وتفوت المؤرخ المنتسب إلى الطبقة الحاكمةطقوستوديع السنة الميتة وتشخيص ذلكوضربها بالنعال،وتصافع العامة بالأخفافورشها بالماء المتنجس، واستقبال السنةالزراعية الجديدة وبذور خصبها بالتراشق بالبيضالنيئ“. هذا الصخب في رأي ابنإياس يؤدي إلى قفل الحوانيت، وهذا ما حدا بالسلطان برقوق إلى إبطاله (عام 1385).

وقبل ذلك ألغى السلطان حسن (1358) عيد الشهيد وكان غسل صندوق أصبع الشهيد(المحفوظ في كنيسة بشبرا) يرفع في شهر بشنس منسوب الماء في النيل، وكان العامةمن كل أقاليم مصر، مسلمون وأقباط، يجتمعون وينصبون الخيام على شاطئ النيلويجتمعأرباب الملاعيبوربما مات بعض الناس لشدة الزحام، وتشتد حركة بيعالطعام والشراب، حتى تصل إلى أرقام ضخمة، ولا يرى المؤرخ إلا ما كان في هذاالعيد من سكر وعربدة، والا كثرة ما يقع فيهمن المعاصي والفسوق“.

وربما كان ارتباط هذه الكرنفالات بأعياد الكنيسة أو ارتباط تلك الموالد بمناسبات دينيةارتباطًا سطحيًّا خارجيًّا، وربما كانت هذه وتلك مواصلة للأعياد الزراعية القديمةالسابقة على المسيحية والإسلام.

ويؤكد باختين أن الأعياد ارتبطت خلال كل مراحل التطور التاريخي بلحظات الأزمة،بلحظات الانقطاع في دورة الطبيعة.

القوس الثاني: أحلام حلوة في لثة فارغة..

وفي مسرحيةالرجل الذي أكل وزةلجمال عبد المقصود نلتقي التقاءً شديد العمق والإمتاع بالفكاهة الشعبية ذات بهجة العيد واحتفاله موظفة في تصوير ظلمة المعتقل وبشاعة التعذيب والسخرية منهما والعيد هنا هوشم النسيمعيد الربيع.

السجان يعلن أنه بمناسبة شم النسيميا بجم” (والنداء موجه إلى المعتقلين) قررت الإدارة اللي عايز فسيخ تبعت تجيب له من بره“. كرم ما بعده كرم. ويتذكر عجوز قضى سنوات عمره معتقلاً: كنا نروح الجنينة في شم النسيم وناكل بطاطس وفسيخ، فسيخ ملون، فالذاكرة أسقطت البيض ولونت الفسيخ، وتنقل المسرحية الصحبة الجماعية إلى داخل المعتقل، فهناك فلان وابن عمه وخالته وكأنهم عملواركن للعائلات“. ويدخل هذا الفلان متلويًا من ألم التعذيب ليرد على تحية وافد جديد وهو يتأوه بأنهتمام أربعة وعشرين قيراط“. وكل شيء يبدو مقلوبًا، ويقول المعتقل الجديدده المكان اللي اجتمع فيه كل الأحبة. يعني الواحد كان هيشوفكم فين لو كان بره، ما كنتش هاشوف أصدقاء الطفولة والأمل والمستقبل الباسم، ويتحدث العجوز عن ذكريات أيام حلوة في المعتقل القديم، كان بِرح ونور ويشرح النفس، دلوقت السجن ما عدش يلذ، السجن زمان كان له شمخه، الأيام دي مش هترجع تاني، ويتحدث السجان مهنئًا المعتقلينبالعيديةفالوزارة رصدت آلاف الجنيهات تصرف للقائمين بالتعذيب مكافآت تشجيعية وحوافز إنتاج، فشغلة القائمين بالتعذيب كلها مزاج وفن واختراع، ويتغنى السجان في عيد الربيع بأزهار القمع، البيه المأمور وافق على اعتماد ألف جنيه زيادة شهرية في اعتماد الشوم بحيث يتم توريد 200 شومة يوميًّا، شومة ياباني معدل ضد المية والكسر، فُل أوتوماتيك تضرب لوحدها، خسارة فيكم التكنولوجيا يا بجم“.

ونتذكر هناموكب الحرفةفي رؤية هلال رمضان، وأصحابب كل حرفة يعرضون أروع منتجاتهم وهم يتغنون ويرقصون مرددينحسب ما أمر شيخ النجارينأو الحدادين أوفالسجان هنا في موكب حرفة التعذيب، والمأمور هو شيخ الحرفة وصبيه يتغنى بفنون الحرفة، ويدعو المعتقلين من حزب يميني إلى الفسحة والفسحة تعني تفننًا في التعذيب، ويأخذ معهم الوافد الجديد ثم يعود بهم ليأخذ المعتقلين من حزب يساري، ويأخذ الوافد الجديد مرة ثانية معهم، لأنه ليس محدد التهمة، وما دام واحدًا من العامة غير المشتغلين بالسياسة فهو من حيث الإمكان يصلح لأن يكون يمينيًّا أو يساريًّا ويستحق عذابًا مضاعفًا، وتجئ المفاجأةالكرنفاليةحينما يكتشف المعتقلون أن زميلهمالعجوزالذي تعدى السبعين ويحلم بالموت مخلصًا له من عذاب المعتقل في أحلام حلوة قد بدأت تنمو في لثته الفارغة أسنان وأنياب، الشتاء البارد الشاحب يتحول إلى ربيع تجري في عروقه الدماء، وينهض الجميع ويتحلقون حول العجوز مقيمين له حفلة السبوع أو مرور سبعة أيام على مولد الطفل، ويغنون برجالاتك برجالاتك.. حلق دهب في وداناتك. وداخل مسلسل المفارقات يدعو السجان حرامية الفراخ للفسحة الربيعية (التفنن في التعذيب) ويأخذ معهم الوافد الجديدما دام تهمتك لسه ما اتحددتش تبقى تتفسح مع الجميع، فالمواطن العادي مدان بكل الجرائم لا حتى تثبت براءته، بل حتى تثبت إدانته بجريمة محددة.

ويعلن السجان عن أن الفسيخ وأن مائدة شم النسيم جاهزة وينادي الأسماء، تتحرك الأرجوحة المميزة للفكاهة الشعبية ويأكل المعتقلون أو موكب عيد الربيع ضربًا مبرحًا بالعدل والقسطاس، فالسجان يعلناحنا مش بنشتغل جهجهون ما أديش اللي طالب تمن كيل زي اللي طالب ربع، أقول إيه لله سبحانه وتعالى يوم الموقف العظيم“.

ونحن لا نرى هنا السامر، بل محاكاة هزلية للاحتفال بعيد شم النسيم لإبراز الجو الخانق للشمولية، وسنعود لهذا الاحتفال بالعيد مرة ثانية لنكتشف أوجهًا أخرى له“.

القوس الثالث: التأليف اللفظي الكوميدي..

يلاحظ دارسو الفكاهة الشعبية أن المحاكاة الهزلية لأجناس الكلام والكتابة الرسمية الرفيعة، التقية النقية الورعة أو الجادة المختومة في قوالبها المحفوظة سمة رئيسية تميز الفكاهة الشعبية.

وبالإضافة إلى ذلك فإن اللغةالسوقيةالتي تعلق مؤقتًا المراتب الاجتماعية والحواجز وتنتهك المحظورات تنتشر في هذه الفكاهة، فالألفة الحميمة وإسقاط الكلفة واللغة الرسمية يفسحان الطريق لاستعمال كلمات السباب والشتائم كأنها كلمات صداقة حميمة، بل إن اللياقة اللفظية تتراخى قبضتها في الألفة الحرة وتخلق جوًا متحررًا وما يسميه باختين الطابع الثاني للعالم، الطابع التهريجي للعالم، وربما كان استخدام اللغة البعيدة عن التوقير عند الكلام عن بعض الحكام وشؤون الحكم الاستبدادي وخطب تجار الدين اسهامًا في كسر معايير المجتمع الرسمي الخانق، أو كأن اللغةالسوقيةقد أصبحت مستودعًا تراكمت فيه نماذج الكلام المستبعدة من التواصل الرسمي، ولم تعد دلالتها المنطقية المباشرة هي العامل الحاسم بل لقد اكتسبت نغمة مصاحبة هي نغمة الضحك المبتهج تتطاير شرارته لتجدد العالم، وتمزق البالي العتيق والمستبد المتحكم.

وينتج عن ذلك أن اللعب بالكلمات والثوريات المختلفة والدخول فيقافيةلها وظيفة فكرية بالإضافة إلى وظيفتها الفكاهية، أنها تطرح المفهومات السائدة والمعاني العتيقة المستقرة للمناقشة، وتقتلع الإطلاق واليقين الصخري“.

القوس الرابع: خصوصية صور الفكاهة الشعبية..

إن صور الجسم الإنساني بطعامه وشرابه وإفرازاته وحياته الجنسية تلعب دورًا رئيسيًّا في الفكاهة الشعبية، والجسم الإنساني هنا ليس جسم فرد واحد في حياته الخاصة، أناني أو مقطوع الصلة بدوائر الحياة الأخرى، بل هو جسم كلي شامل هو جسم الجماعة في ارتباطه بالأرض ونجوم السماء وسحبها والنهر، فلهذا الجسم طابع كوني شعبي شامل، وهو يختلف عن جسم الدابة الفسيولوجية الحديث، فلن نجده متضمنًاكما يقول باختينفي الفرد البيولوجي، أو الأنا البرجوازي، بل في الشعب الذي ينمو ويتجدد باستمرار على الرغم من موت أفراده، ومادية الجسم في هذا السياق لا تنتمي إلى الإنسان الاقتصادي المتفرد الأناني بل إلى لحم العشيرة السلفي الممتد في الفروع، لذلك فإن الطابع المرح، طابع بهجة العيد والمولد الاحتفالية لا كآبة واعتام الوجود اليومي هو المميز للفكاهة الشعبية: وفرة وخصبوخير للحزام أو للركب، مأدبة تنصبها الرغبة الجمعية المشتاقة.

ولكن أين المبدأ الفكاهي هنا؟ المبدأ الفكاهي هوإنزالكل ما هو سام جليل أو روحي مثالي إلى دائرة الجسد والأرض في وحدتهما التي لا تنفصل.

إن المهرج أو البهلوان يترجم كل ما هو مرتبط بالمكانة العالية ومظاهر النبل الرسمي والتحكم الرفيع المقام والعبارات الروحية والمشاعر الرقيقة إلى لغة الجسم والطعام والشراب والهضم ونتائجه والحياة الجنسية. وتبدو آلية الفكاهة أوالوصفةالتقليدية لتركيب نكتة لفظية أو عملية منحصرة في نقل كل إيماءة سامية طقسية، احتفالية توقيرية إلى دائرة الجسم والأرض، إلى أسفل.

السخرية من قواعد النحو في ألفية ابن مالك، تتم عن طريق الهبوط بالفاعل والمفعول إلى المستوى الجسدي الشبقي، أو التعامل المادي بالضرب، أو تحويل أخوات كان مثلاً إلى بنات متأهبات للعناق، أو المنادى وترخيمه إلى مغازلة سعاد من النافذة.

والمحاكاة الهزلية للحكم الجادة عند الحكماء تأخذ شكل سوق الحكمة بعدالهبوطبها إلى المستوى الجسدي، يقول الحكيم هل أدلكم على صفات أجمل بنات الأرض؟ فيردد السامعون ما أحب إلينا من ذلك يا مولانا.. فيقول ثلاث صفات: قنبرة (بروز الصدر) فخنصرة (نحول الخصر) فقنعرة (بروز الأرداف). أو نقل المثل عن عدم الاغترار بالمظاهر، فليس كل ما يلمع ذهبًا، إلى المجال الجسدي مع إيماء إلى أعضاء التناسل: ولا كل المطيول موز ولا كل المكبب جوز.

إلى أعلى أو إلى أسفل في التعظيم أو التحقير الفكاهيين لهما معنى مطلق. الأرض إلى أسفل والسماء إلى أعلى.

ولكن المسألة لا تقف عند هذا التجريد، أو التضاد الثنائي أن الأرض تلتهم وتبتلع (القبر/ الرحم) وفي الوقت نفسه هي عنصر ميلاد وإعادة ميلاد، في الجان الكوني، أما من الناحية الجسدية المحضة التي يحتضنها الكوني احتضانًا حارًا، فالجزء الأعلى هو الوجه والرأس، والجزء الأسفل أعضاء التناسل والأمعاء.

ويؤكد باختين أن التحقير الفكاهي معناه النزول إلى الأرض، والأجزاء السفلى من الجسم بالعناصر التي تنتمي إلى السماء والفكر وعلو المرتبة. ولكن هناك جانبًا عكسيًّا مضادًا في هذاالتحقير“. فهناك في النزول إلى الأرض معنى الدفن والموت ودفن البذرة من أجل نمو وخصوبة، وفي الهبوط إلى الجزء السفلي من الجسم.

حياة البطن وأعضاء التكاثر والحمل والميلاد، فهذاالتحقيرالفكاهي لا يتسم بالقيمة السلبية الهادمة فحسب فقد كانت له في الفولكلور الشعبيالعالميقيمة تجديدية توليدية أيضًا، فليس معناه قذف الشيء إلى خواء، أو عدم بل إنزاله إلى الجزء السفلي الخاص بالتكاثر، منطقة البذر والحمل والميلاد، ولكن ما بقى الآن في الأدب الساخر هو العكوف على جانب إنزال المرتبة في الصور الجسمية، وليس ذلك صحيحًا على إطلاقه، فهناك كوميديات مصرية ما تزال تعتبر الصور الجسمية ملتبسة بين التدمير والتجديد (الرجل الذي أكل وزة).

ولنأخذ الفكاهة الممتعة الرائقة في الفرافير الخاصة بهذا السياق، فالسيدة عالية المقام من عائلة الهايف، تتحدث عنحريتهافي اختيار الزوج، فالحرية وهي القيمة الرفيعة يتم الهبوط بها إلى أنكاكي قلقاس” (تحقير اسم الدلع بإنزاله إلى مستوى النباتات والإفراز)، اشترطت على جوزها أنها تأخذ البوي فرند بتاعها يقعد معاهم في شهر العسل، وتواصل حديثها الحر: أنا ما عنديش مانع نتجوز شهر تحت التجربة، ما نفعش نتطلق.. وحينما يسأل الفرفوروإذا كان حصل يعني في الشهر ده حاجة والا محتاجةمشيرًا إلى تحول حرية الاختيار إلى هبوط الجنين في النصف الأسفل، فترد السيدة المتحررةإيه يعني أعمل ابنديسيت (مصران أعور) أو عملية لوز.. احنا بنسمي الحاجة التانية (الإجهاض) في المستشفى لوز، والسيدة ذات سوابق في الحرية فهي تنشر في الجرائد أنها أجريت لها عملية المصران الأعور واللوز أكثر من مرة، ومرة ثانية تلعب على كلمةالأعورفتتحدث عنجوز عيونالمحبوب (أعلى) التي أعادتها إلى المستشفى لإجراء عملية الأعور مرة ثانية (أسفل) بعد أسبوع من المرة الأولى.

وننتقل إلى علي سالم في عفاريت مصر الجديدة عند استخدامه تقنيةالتحقير، وما أشهر العبارة الواردة على لسان عادل إمام في مدرسة المشاغبينالعلم لا يكيَّل بالباذنجان، أن أستاذ القانون الخارج من المعتقل قد مُسخ رأسًا على عقب، وهبط من رجل الفكر إلى رجل رقصة البطن، وبدلاً من تدريس القانون افتتح معهدًا للرقص الشرقي.

يقول الأستاذ مقلوبًاوحد في الدنيا يكره القانون؟ بس مش معنى أن الواحد يحب حاجة يبقى لازم يدرسها، ويخاطب زوجته قائلاًأنت مثلاً بتحبي المسقعة.. بتدريسها؟ أنا ما انفصلتش عن سلك التعليم.. كنت مدرس.. واترقيت وبقيت عميد معهد (معهد في هز البطن) إيه اللي خدته من الجامعة.. إيه يعني ستين جنيه في الشهر، الرقاصة الكويسة بتاخد ستين جنيه في النمرة الواحدة“.

ونرى آلية الفكاهة الشعبية تنزل منالقانونإلىالمسقعةومن الرأس إلى المناطق السفلى من الجسد، ويقول الباحث القانوني السابقلا بد من البحث عن خامة قماش جديدة.. مش التُل، ومش النايلون، ومش الدانتيل.. قماش تلبسه الراقصة بحيث الرقيب يشوفها متغطية قوي، والمتفرج يشوفها عريانة قوي.. عاوز خامة جديدة.. خامة تعمل انقلاب في مفهوم الرقص الشرقي.. ويتحدث عن مفهومات الاقتصاد القومي والفنون العظيمة المرتبطة بعظمة الشرق وسحره هل نترك هذا الفن العظيم يتدهور.. راقصات أجنبيات بتشتغل على أنهم شرقياتكام رقاصة كويسة في مصر.. ما يغطوش السوق المحلية، فما بالك بأسواق أوروبا وأفريقيا وأمريكا.. لا بد أن ننتج بالطرق العلمية على الأقل خمسين رقاصة على مستوى عالي جدًا“.

ومن الملاحظ أنه في الدائرة الفردية الخاصة للأفراد المنعزلين تقف صور المستوى الأسفل للجسم عند عنصر الرفض والتحقير وتفقد تدريجيًّا قوتها الإيجابية المجددة وتتحطم خطوة خطوة علاقتها بالحياة الكون ويضيق نطاقها متحولة إلى صور ذات نزعة طبيعية شبقية. ويؤكد الدارسون الدراما الخاصة بالمبدأ الجسمي المادي، دراما الصراع بين الجسد الكلي للعشيرة في ارتباطه بالأرض الخصبة الولود في تكاملة وبين الانفصال التدريجي للفرد عن جماعته العضوية الواسعة وتحول الجسم إلى كيان معزول منغلق على نفسه أصبحت حياته الخاصة تافهة بلا قيمة شاملة، بل أصبح النصف الأسفل من الجسم الخاص بالعمليات الحيوية والخصوبة موضوعًا للعُنة الأخلاقية.

لقد كان من صفات الفكاهة الشعبية في مأثوراتها أنها تجعل العالم دانيًا قريبًا من الإنسان، وتعطي كل كائناته حتى المنتمية إلى ما تحت الأرض من عفاريت وجان وما في الأعالي من كائنات روحية شكلاً جسميًّا وتقيم معه علاقة خلال الجسم والحياة الجسمية، وعرفت الثقافة الفولكلورية عنصر الرعب والخوف ممثلاً في مسوخ كوميدية يهزمها الضحك.

ولكن صور الحياة الجسديةكما أسلفنادب فيها منذ زمن بعيدالطعام الشراب المضاجعةطابع الابتذال وفقدان طبيعتها التوليدية الشاملة. وكما استولت الدولة على حياة الاحتفال والعيد وحولتها إلى استعراض رسمي، تسللت الأعياد إلى البيت وأصبحت جزءًا من الحياة العائلية الخاصة، وقد أدرك الشحوب والإعياء روح المولد والمهرجان والموكب تلك الروح المنطلقة المتحررة صاخبة المرح والنزعة الحسية، وتحول كل ذلك إلى الجو النفسي إلى عطلة، وكادت الاحتفالات التي تنتمي إلى الأعياد والمناسبات الجمعية أن تكف عن أن تكون الحياة الثانية للشعب، وعلى الرغم من كل ذلك فإن هذه الروح التي تضاءل نطاقها ما تزال تواصل الحياة باعتبارها تقليدًا أدبيًّا يثري أنواعًا كثيرة من الثقافة، في الرواية والدراما وعلى الأخص الكوميديا“.

القوس الخامس: تيمة القناع..

ومن أهم صور الثقافة الشعبية وأكثرها تعقيدًا صورة القناع، وهي لا تقتصر بطبيعة الحال على أن يرتدي الفرد على وجهه ستارًا يخفيه ويبدي مظهرًا آخر. وهي في التراث الشعبي لا تعني في المحل الأول كشف الخديعة الفردية أو الاجتماعية وفضح زيفها. بل ترتبط بفرحة التغير في النمو واكتساب الإهاب الجديد والنسبية المرحة والنفي الطروب للرتابة والتماثل. القناع يعني رفض الإنسان للإذعان والاستقرار داخل قالب جامد نهائي، رفضه لأن يظل مطابقًا تمامًا لنفسه ومطابقًا لذاته المفروضة عليه.

ويقول باختين إن القناع مرتبط بالأوضاع والحالات الانتقالية، بالانسلاخ وتحول الشكل الخارجي وخرق الحدود الطبيعية المألوفة.

لذلك نرىالقناعفي الفكاهة الشعبية في تبدلات الذات، في اتخاذ مظاهر كاذبة للاستهزاء بها، وفي نحت ألقاب وأسماء تطلق للتهكم أو التحبب، وفي وضع الشخص بأكمله داخل صيغة موحدة لصفة واحدة.

ويحوي القناع عنصر اللعب المازح الهازل في الحياة، ويقوم على علاقة متبادلة خاصة بين الواقع وصورته، وهي علاقة مميزة لأقدم الشعائر والعروض، ورمزية القناع رمزية متعددة الأشكال، ومن المعروف أن ظواهر مثل المحاكاة الهزلية والكاريكاتير ولوى قسمات الوجه بالعبوس أو اتخاذ أوضاع غريبة الأطوار أو القيام بإيماءات كوميدية مستمدة جميعًا من القناع.

وبعد أن فقد القناع غناء الأصلي اكتسب معاني أخرى التصقت به، أنه الآن يخفي شيئًا، يحجب سرًا يخدع، وراءه فراغ أو خواء بعد أن كان له طابع التجديد والبعث والحياة متعددة الأشكال والألوان التي تنزع غشاوة المألوف والجدية ضيقة الأفق للحقيقة الرسمية، وتقدم ألوان العيد وبهجته.

ويكشف القناع عن إمكان وجوه أخرى، وعالم آخر مختلف تمامًا، عن إمكان نظام جديد وطريقة جديدة للحياة وصيغ مختلفة للذات والشخصية، ويحطم الوحدة الزائفة المتحجرة بين الواقع والممكن، ويحاول أن يلتقط فعل الصيرورة والنمو نفسه أو على النقيض من ذلك كله عمليات التشويه وطمس الذات للسخرية منها.

إن جوالعيدوالاحتفال الشعبي تخرج فيه لنا البلد وعيشتنا تبقى نجف.. والنور هينمحي والظلام يشرق والديك يدن.

ونرى في العرض السابق تيمات الفكاهة الشعبية وصورها وقد قلبتها الدكتاتورية رأسًا على عقب، وتواصل المسرحية التعمق في صورالقناعوتبدلاتملامح الذات“. وتقدم المسرحية المساجين يرتدون ملابس مضحكة، فالنحيف يرتدي ملابس واسعة، والبدين ملابس ضيقة، والقصير ملابس طويلة، والطويل ملابس قصيرة، ويحكي أحدهم عن المخبر السري في زيه الرسمي، في قناعه: “عديت على الترب بالليل مفيش حاجة طلعت لي، حكمة ربنا اللي طلع لي طلع لي في عز الضهر الأحمر من وسط الناس، لابس اليونيفورم السري أصفر في أصفر. الكوفية والبالطو والعصا، قال لي تعالى معايا على الأوبرج (لقب المعتقل)”.. ولا يكاد البطل يتعرف على أحد زملاء طفولته داخل المعتقل ويظنه والد هذا الزميل، ويفقد الزميل اللعثمة ويكسبحاجات كثيرفقد كان أسمر فأصبح أبيض اللون! وكان أصلع فطلع له شعر، وكان قصيرًا ولكن بعد جمعة في المعتقل والمراجيح والشقلبة ازداد طولاً. فالمعتقلمصنععلى نار متقدة يعيد تشكيل الذوات داخل أقنعة عشوائية. فيه واحد هنا خلو رجليه الاثنين شمال. وحينما يأتي الاحتفال المقلوب بعد ذلك بشم النسيم تبدو التحولات في صور الذات ضاربة الجذور في تقاليد الفكاهة الشعبية.

وعلى الرغم من تصوير مملكة الرعب في هذه المسرحية وكذلك في عفاريت مصر الجديدة فإن الضحك فيهما يلغي الخوف، ونعود إلى الضحك في مسرحية جمال عبد المقصود، فإن له قدرة تقريب موضوع الرعب منا، وجذبه إلى منطقة الاتصال المباشر، ونرى أصابع النص تمسك بهذا الموضوع من جميع الجوانب وتقلبه على وجهه وظهره وتفكك أجزاءه، وتنزع ثيابه وتحطمالمسافةالتي تفرض الهيبة والتوقير“.