إبراهيم نافع

سر البكاء على إبراهيم نافع

وائل عبد الفتاح

الحكاية ليست حكاية إبراهيم نافع.

الحكاية حكاية زمن كامل سقط، لكنه مازال مستمراً بحكم بشاعة وركاكة ورثته، أو بفضل سمات العقل المحافظ في عبادة العصور البائدة، فهناك من بكى على الإقطاعي الذي كان يمتلك الأرض و مّن عليها. وعشاق العصر الملكي ينشدون تراتيل النوستالجيا على السعادة الضائعة، وإمتداداً للإحتفاء بالبائد، هناك إستعادة لكهنة مبارك، أحياء (تسلم مكرم محمد أحمد مفاتيح معابد التليفزيون والصحافة، بعدما إعتاد من فترة طويلة علي إرتداء “بدلة التقاعد ” المزركشة)، وأمواتاً كما حدث من تكريم إبراهيم نافع بعد موته في دبي، رغم أنه كان هارباً من محاكمة “هدايا الأهرام” التي مازالت منظورة أمام المحاكم.

ربما كان إبراهيم نافع ضحية. ليس الآن فقط، ولكن عندما  ألقت به سلطة مبارك في 2006 لإلهاء الجماهير التعيسة بدوام الحال..وإستقرار الفاسدين على مقاعد السلطة ..وإلتقطها أعداء الفساد لينتقموا من ظلم وطغيان كانت أياديه ممتدة في كل مكان من أبواب الرزق في المصانع..إلى منصات الرأي في الصحف. في هذه الأثناء وبعد “الخروج من معبد الأهرام” فوجيء مَّن يلقبونه اليوم ب “الهرم الرابع” برفع الحصانة و إحالته للتحقيق أمام النائب العام.

1

إبراهيم نافع واحد من بارونات الصحافة. والبارون كما هو معروف تاريخيا، رتبة في النظام الإقطاعي، وإسمه مشتق من مزيج فرنسي (كلمة تعني المحارب) و إنجليزي (كلمة تعني النبيل)، ورتبة البارون في مجلس اللوردات البريطاني هي الأدنى.

بمعنى آخر إبراهيم نافع البارون المهم، لعب دورآ “نبيلاً”  في حراسة حكم مبارك، وكسب في مقابله تلك الرتبة العظيمة في نظر “جماهير” مهنته، وذات المستوى المتدني بالنسبة “لنخبة الحكم..”

في 25 عاما وصل إلى قمة الأهرام..أو صحيفة الرئاسة ..وصل في عصر صحافة عرجاء ..تسير في زفة السلطة…وتجهز فرق مداحين..وتفرش الأرض بالسجاجيد والورود أمام أنصاف المواهب أو أرباعها او شطار القفز في أي عروة جاكتة لكبير في السلطة أو حتى مخبر صغير يجد حظوة في مقرات أمن الدولة.

هو بارون من هذا الزمن غير السعيد الذي لايريد أن يرحل، بل تريد معابده بكل أوضاعها المأساوية أن تدافع عن كهنتها، ويتبجح الفاجر منهم، فتخرج زوجة وزير الداخلية الأقوى و الأشرس في السنوات الأخيرة لمبارك، لتوبخ بعز صوتها الصلف مذيعاً لأنه وصف زوجها بالهارب وطالبته عندما يذكر إسمه أن يكون متبوعاً بلقب البيه، ف”حبيب بيه” رمز من رموز البلد. وللمفارقة الزوجة صحفية في “الأهرام” حيث كانت بين معابد السلطة جسور.

2

صحافة البارونات طوال 30 سنة..كانت الضلع الثالث في دولة الفساد التي تحكم مصر.

رؤساء التحرير تحولوا إلى مراكز قوى..وأصحاب نفوذ لا مشاغبين في مهنة البحث عن المتاعب والتفتيش على الحقيقة كما تعلمنا الصحافة في الكتب والأفلام والحكايات القادمة من أوروبا وأمريكا.

تحولت مؤسسات الصحافة التابعة للنظام أو للحكومة أو للحزب الوطني إلى مخازن لمدفعية ثقيلة في مواجهة مَّن يتصدى لقضايا الفساد أو يخرج عن التواطؤ بالصمت عن عملية نهب مصر بالتقسيط المريح.

كان من المفروض أن تقوم الصحافة بدورها الطبيعي في كشف الفساد وملاحقته لكن المؤسسات الكبيرة في الصحافة نامت في العسل وعاشت سنوات غيبوبة لم تتصد فيها إلى قضية فساد واحدة.

كان صمت الصحافة هو العامل المساعد في إرساء دعائم دولة الفساد. وكان إفساد الصحفيين هو الضربة القاصمة للصحافة ..لم يعد هناك فرق بين الصحفي ومندوب الإعلانات ..وإنفتحت الأبواب أمام مرتزقة الصفحات المتخصصة ..والمحظوظين من صحفيين موهوبين في النفاق وكتابة التقارير وفنون الوشاية …ولم يعد أمام الصحفي ليكون صحفيا إلا السفر خارج مصر أو الحياة في نعيم البلاهة الإجبارية.

3

لم يخرج إسم واحد كبير من مؤسسات البارونات الثلاثة. وكان الأهرام في عهد إبراهيم نافع مؤسسة صحفية كبيرة ..بلا صحافة. هناك إستثناءات لكنها تعد على الأصابع.

ولهذا يفخر إبراهيم نافع في حواراته بأنه رفع ميزانية الأهرام ..وأن أرباح الإعلانات تضاعفت في عهده. لم يذكر إنجازا صحفيا واحدا. ولم أشعر في مونولوجات الرد المقتضب والمسهب أنه صحفي..أو يشعر بان الصحافة هي التي تمنحه القوة. هو مثل أي رجل أعمال يدافع عن نفسه يريد أن يثبت سلامة الأوراق. وهدد أثناء التحقيق معه في ٢٠٠٦ بفتح الملفات التي بحوزته إذا لم يسكت الذين هاجموه…واتهموه بإتهامات تتعلق بإستغلال النفوذ. بل إنه إلى الحدود القصوى ويعتبر أن ملفاته المفتوحة في نيابة الأموال العامة هي مؤامرة من أطراف خارجية ..تهدف إلى ضرب مؤسسات الصحافة القومية (هكذا مازال يسميها بإسمها القديم المنسي)..والتي تعتبر ركنا من أركان النظام.

وقتها أعجبت إبراهيم نافع صورة الضحية. ملامح وجهه للوهلة الأولى توحي بأنه خلق لهذه الصورة لاغيرها. وهو ومن حكايات أصدقاء أهراميين مختلف عن بارونات الصحافة في عصر مبارك..غيرهم فهو دمث..ولطيف وطيب.. يرفض أن يصعد وحده في أسانسير المؤسسة كما يفعل أشباه بارونات وحالمون بالمقعد الذي جلس عليه هيكل.

قالوا أيضا أنه مهذب في الحديث..يتكلم بفخامة عارف بالأمور واثقاً من موقعه في خريطة الكبار بالبلد ..وحتى لو اضطر لخوض معارك ذبح للخصوم ..خصومه داخل المؤسسة أو خصوم الرئيس من حكام أخرين أو من معارضة خرجت عن الصف..كان يذبح بشوكة وسكينة..ذبح ناعم لا ردح فيه كما كان يفعل سمير رجب ..أو قتل بالهراوات كما كان يفعل إبراهيم سعدة.

هؤلاء هم البارونات الثلاثة الذين أنهوا الصحافة في مؤسسات اممتها الثورة لتكون صحافة كل الشعب وانتهى بها الحال لتكون ميكرفون دعاية للرئيس وأحيانا للحاشية القريبة.

رحلة صعود إبراهيم نافع من محرر في الصفحة الإقتصادية إلى الصحفي الأقرب إلى الرئيس.رغم أنه لم يكن فلتة في الكتابة الصحفية ولم تظهر له كرامات في التحليل الصحفي ..ويفتقد اسلوبه إلى رشاقة أو سخونة..يمكنها أن تمرر الوجبة الثقيلة من مدائح الرئيس.

صحيح أن  مبارك أعلن عن إعجابه بسمير رجب..وهو إعجاب يكشف عن ذوق خاص في الكتابة الصحفية.لكن الأهم أنه كان يثق أكثر في إبراهيم نافع..سمح له بالتقدم إلى منصب النقيب 6 مرات.

والسبب لم يكن نجوميته في الصحافة بل في مهارته كمدير شاطر في السيطرة على جموع الصحفيين الصغار برشاوي صغيرة (بدل التكنولوجيا في النقابة..وسيارات التقسيط في الأهرام..)..يشعر معها الصحفي بأن هناك رعاية ما ..ولايدرك أن هناك غنائم اخرى تقسم على مقاسات اخري.

وفي الحقيقة إبراهيم نافع ناظر مدرسة في الإدارة بهذه الطريقة..بل أن الطريقة نفسها يمكن ان تسجل بإسمه في موسوعة السيطرة الناعمة على الجماعات المحرومة من أصغر حقوقها.وهذه ميزة إبراهيم نافع في صحافة البارونات.

وكان غريباً أن يلجأ إبراهيم نافع بع دكل هذه الثقة إلي أسلوب  تسخين للنظام لكي لايمنع عنه المساندة ويرفع يده ويقرأ فاتحته.إنه يستحث النظام ويذكره بأنه واحد من جنوده.وهي في الحقيقة فكرة غريبة.

والأغرب منها حكاية الملفات التي يهدد بفتحها، وكأن غريزة الصحافة التي يتحدثون عنها، وعن توريثها لكل من مرّ يوماً أمام باب هيكل عمدة هذه الصحافة التي تحرس الرئيس، بغريزة القدرة على ملو الرؤوس المتطلعة إلى أعلى، حيث قصر الحكم.

إبراهيم نافع كان حارساً لرئيس لا تشغله الرؤوس ولا الروايات التي في داخلها. تشغله أكثر تمكين القطعان وسيطة الموهبة (الميديوكر)، لباحثة عن مقرات وظيفية في معابد السلطة، وليس مهماً تحويل المعابد إلى “أوكار نشطاء الميديوكر” المهم :” تستيف الأوراق”.

4

كل كبير في السلطة يُمسك بملفات على الأخرين. المنافسين أو مشاريع المنافسين. هذه لعبة ورثها كبار حاشية مبارك..ومنهم إبراهيم نافع الذي لم يحاسب على التستر على جرائم في ملفات سرية إعترف بأنها عنده ولايريد الإعلان عنها ويهدد بها فقط.

لماذا لم يفتح إبراهيم نافع الملفات ..فعلا..ويعلن عنها..؟! (في نفس التوقيت تقريباً قال عبد الرحمن حافظ رئيس مدينة الإنتاج الإعلامي   نفس الكلام أثناء المحاكمة..)

ثقافة الملفات تنتشر من زمن فؤاد سراج الدين (عندما كان وزيراً للداخلية) لكنها أصبحت من أيام مبارك مؤشراً علي وجود ملفات فساد سرية للإستخدام في حروب التصفية الشخصية.

إعتراف كامل الأوصاف بأن الفساد يستخدم عند اللزوم.

وهذا ما يجعل الناس تصدق الحكايات الخرافية عن إبراهيم نافع ..تصدقها بدون مستندات.

5

حكايات ولا ألف ليلة.

وقيل عن إبراهيم نافع القادم من السويس، والراحل في دبي، مالم يقل عن صحفي (كانت أكبر شائعة عن هيكل أطلقها السادات وقال أنه طلب في السجن صندوق مياه معدنية ماركة إيفيان الفرنسية).

لكن أن يتردد بأن رئيس تحرير يتقاضى شهريا 3 ملايين جنيه..وهو رقم خرافي من الصعب تصديقه. والمدهش  أن إبراهيم نافع في الدفاع عن نفسه قال أنه يتقاضى 2 مليون و700 ألف جنيه في السنة..وحسبها ووجدها 200 ألف في الشهر. وقال أن هذا مبلغ قليل على من قضى 25 سنة في المهنة. قال هذا وهو الذي دخل الأهرام في 1962. وأسرته في السويس لم تكن غنية لكي تضعه في قوائم المليونيرات ..أو المليارديرات..كما لم تكن هناك علامة على أنه سيصبح نجما صحفيا تتهافت الصحف على مقالاته ..ويكسب من قلمه لا من شطارته في البيزنس.

لم يكن من الممكن أن يظهر إبراهيم نافع في عصر غير الذي ظهر فيه ولمع ..عصر حساب القيمة بالبيع والشراء..ويستطيع محرر إقتصادي قديم أن يمتلك أنصبة في شركات ويبني قصورا خرافية في مستعمرات الأثرياء الجدد. قصور تسمع عن فخامتها وهيبتها..وكشك الحراسة المقيم على ناصيتها.وتسمع عن صحفي يتاجر أكثر مما يكتب. ويحصل على عمولات أكثر مما يحصل على ما يثير من قضايا ويفتح ملفات مغلقة.

صحفي يهدد:«..سأتكلم..سأفتح الملفات..»

وكأن الصحافة ليست مهنة كلام..ولا صناعة الملفات المحظورة.

6

إبراهيم نافع كان نجماً وكاهناً في عصر تحول فيه البلد إلى شركة مساهمة ..لايملك أسهما فيها إلا المقربون من قصر الرئاسة. من يمتلك خط تليفون أحمر يسمع منه توجيهات الرئيس..وينفذ تعليماته..ويطمئن من نبرة صوته بالحصول على نصيب وافر من الحماية.

ولأنه ليس شرطا من الشروط  إمتلاك حواس صحفية (كما كانت في أجيال اقدم من صحافة الرئيس بداية من هيكل مرورا بأحمد بهاء الدين وحتى موسى صبري ..كلهم تمتعوا بمذاق صحفي لم يكن من هدايا الحظ والصدف لصحافة  مبارك).

فإن الحكايات الخرافية عن إبراهيم نافع وسمير رجب وإبراهيم سعدة إرتبطت بطرائف مثل جاكوزي سمير رجب وكشك مرور الذي وضع أمام قصر إبراهيم نافع وقصر سويسرا لإبراهيم سعدة.

كلها حكايات ليست صحفية.

وإبراهيم نافع تجاوز فكرة الصعود العادي لصحفي مجتهد وحجز مكانه في نادي المليونيرات (المليارديرات حسب الحكايات ….حتى أن جاري في المقهى أطلق شهقة كبيرة حين سمع أن مايتردد عن حجم ثروة إبراهيم نافع يصل إلى 3 مليارات..وأن الحكومة تريد منه في ٢٠٠٦ أن يرجع مليارا..حكاية غريبة عن تفاوض غريب لا يخترعه او يصدقه سوى خيال مدهش يحاول أن يقفز الأسوار ويرى ماذا يفعل صحفي بأبهة إبراهيم نافع يكتب إسمه ببنط أكبر من إسم الجريدة..عندما ينتقل من صف الناس كما يجب ان يكون الصحفي إلى صفوف نخبة الربع بالمئة كما تريد السلطة من صحفي خريج مدرسة السمع والطاعة).

وأنظر إلى أسماء ترددت مثلا في حكايات إبراهيم نافع ..سترى الشيخ الفاسي (الذي منع إبراهيم نافع مقالات أحمد بهاء الدين بسبب إعلاناته) إلى الأمير بندر..والسلطان قابوس.إبراهيم نافع صديق ملوك وأمراء .لكنه ليس على طريقة هيكل ..شاهد عيان في الصحافة وشريك في السياسة.

شريك في البيزنس وبيع وشراء الأملاك والعقارات. وجيرانه في أبو تلات وشرم الشيخ والمنصورية كلهم من  أبناء الزمن الذي يمكن أن يعتبر صحفي في مؤسسة حكومية أن مرتبه عادي 200 ألف جنيه بينما هناك من لا يحصل في نفس المؤسسة سوى على أقل من ألف جنيه..وإذا كان من المقربين أو ذوي الحظوة يحصل على بدلات وحوافز ..وربما قروض حسنة.

هل هذه هي الملفات؟ هل هي ملفات تفضح السلطة وطريقتها في إدارة شعب يكمل العشاء بالنوم؟! ملفات إبراهيم نافع كانت ستفضح من..؟ وأين ذهبت؟ كبار..؟! أم خصوم؟!

غالبا فكرة الملفات ضربة وقائية من إبراهيم إبن هذا العصر الخبير بأساليب الصراع مع الوحوش المفترسة في السلطة ..خاصة أنه نال الحماية والحصانة هدية من النظام بالتعيين في مجلس الشورى..ونالها أكثر بإشاعة الحظوة عند مبارك.

7

البكاء على إبراهيم نافع، وتكريمه بخروج جثمانه من الأهرام، مثل صرخات زوجة حبيب العادلي، محاولة من محاولاتالعودة المستحيلةلكهنة و محاربي عصر بائد، فما يحدث هو محاولة محو أثر السنين العجاف على السلطة، لإتاحة الفرصة لسلالة جديدة وزمن جديد، لكن هذا لن يتم إلا بمساعدةخبرة العهد البائدالتي تريد أن تنتقم و هي تملأ الفراغ الذي فشلت في شغله سلالة الحكم الجديد.